الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين 2001

مقدمة:

تعرض هذه الورقة لكتاب “الأرجنتين منذ أزمة 2001 الاقتصادية: التعافي من الماضي والبحث عن المستقبل”[1] الذي حَرَّرَه كلٌّ من كارا ليفي ودانيال أزارو وكريستوفر وايلد. ويناقش الكتاب الأزمة الاقتصادية التي عانتْها الأرجنتين في 2001 وتبعاتها، وهي أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث، وقد أدَّت إلى مقْتل 38 شخصًا واستقالة وهروب خمسة رؤساء في خلال أسبوعين، حيث أدَّت السياسات الاقتصادية في التسعينيَّات، ومنها الاستدانة إلى زيادة معدَّلات الديون الخارجية إلى 146.2 مليار دولار في العام 2000، وهو ما يوازي 56٪ من الناتج القومي الإجمالي للأرجنتين في العام نفسه، واستهلكت خدمة هذه الديون نحو 75.7٪ من إجمالي حصيلة الصادرات الأرجنتينيَّة من السلع والخدمات؛ ممَّا أجْبر الأرجنتين على الاستدانة مجدَّدًا لتمويل وارداتها من السلع والخدمات. ومن جانب آخر، معدَّل صرف الدولار مقابل بيزو غير الواقعي حيث كان البيزو يساوي الدولار رسميًّا، والاستهلاك المتزايد من قبل الطبقات الوسطى والعليا دون وجود تنمية اقتصادية حقيقية نتيجة لسياسات الحكومة، ومع وصول حال الاقتصاد إلى حالة حرجة وفي محاولة من الحكومة للسيطرة على الانهيار الاقتصادي فقد عمدت إلى فرض حصار على الودائع في البنوك، ممَّا أدَّى إلى انخفاض كبير في قيمة البيزو مقابل الدولار الأمريكي، وتبخَّرت أموالُ المودعين في البنوك في ليلة وضُحاها، وسقط 40٪ من المواطنين تحت خط الفقر في لمح البصر، ثم دخلت البلاد في موجات احتجاج ومظاهرات ورفْض للانهيار الاقتصادي للبلاد، وأعلنت الأرجنتين إفلاسَها وعجزَها عن سداد الديون التي غرقت فيها[2].

  • منهجية الكتاب:

يحاول الكتاب تجاوز ثنائية الجديد والقديم وفصل الأسباب للحوادث المعاصرة عن التاريخ، فلا يمكن إرجاع الأزمة إلى أسبابها المالية وحدها، أو إلى السياسات الاقتصادية قبيل حدوث الأزمة، فلا توجد أزمات تنشأ دون تداخل السياسي والاقتصادي والاجتماعي معًا على مدار مراحل مختلفة عاشتْها الأرجنتين بعد انتهاء الحكم العسكري وأثناءه، ويهدف الكتاب إلى الكشف عن هذا التداخل بين الماضي والحاضر والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في مناقشة أسباب الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين على أعتاب الألفية الثالثة، بالإضافة إلى أن الكتاب يعرض لتجلِّيات الأزمة في عددٍ من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ويقترب الكتاب من الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين 2001 من خلال اقتراب الاقتصاد السياسي الدولي، والتي حسب رؤية الكتاب يشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال في حالة الأرجنتين (وأمريكا اللاتينية على نطاق أوسع) ومع تطبيقها نموذج الليبرالية الجديدة في الثمانينيات والتسعينيات، اختلفت كافة السياسات العامة داخل البلاد، فالكتاب لا يدرس السياسات الاقتصادية فقط ولكن يدرس أيضًا طبيعة العقد الاجتماعي، والاختلال الثقافي، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي.

فتلك الأزمة الاقتصادية تمثِّل حَدًّا فاصلًا في تاريخ الأرجنتين الوطني بل وتاريخ الإقليم، من حيث آثار حجم الانهيار الاقتصادي، إلى جانب أزمة الشرعية السياسية، وصعود مطالب بتغيير النخب السياسية تحت شعار (ليرحلوا جميعًا) الشعار الذي استخدمه المتظاهرون خلال أحداث العنف في 19 و20 ديسمبر 2001، فسادت المطالبُ الراغبةُ في استبدال كافَّة صياغات المؤسَّسات السياسية والقانونية والاقتصادية وكذلك النموذج النيوليبرالي كله وتأثيراته على الحياة في الأرجنتين.

وعليه، يحاول الكتاب توفير عدسات مختلفة للنظر إلى الأزمة وما قبلها وأثناءها وما بعدها، فالمشاهد الثلاثة أنتجوا الأرجنتين الحديثة، وأدُّوا إلى استمرارية الأزمة بشكل أو بآخر، من خلال التشابك والتعقُّد بين الجوانب المختلفة للأزمة والتعامل معها وتداعياتها، وقد أدَّى ذلك إلى ازدواجية بين التغيير ومطالبه والاستمراريَّة ودوافعها، فتكرَّرت أزمةٌ اقتصاديةٌ وإن كان تأثيرها أقل في 2018، وتعيش الأرجنتين مع الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية أزمتَها الاقتصادية الخاصة.

  • مضمون الكتاب:

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يدور حول الاقتصاد السياسي لما بعد الأزمة في الأرجنتين، والجزء الثاني يتناول الحركات الاجتماعية والحشد الجماعي قبل وأثناء وبعد مظاهرات (ليرحلوا جميعًا)، أما الجزء الثالث فيعتني بردود الأفعال الثقافية والإعلامية على أزمة 2001. وينقسم كل جزء بالتبعية إلى عدَّة فصول تناقش الموضوع من جوانب مختلفة، وفيما يلي شيء من التفصيل:

أولًا- الاقتصاد السياسي للأرجنتين (ما بعد) الأزمة: ينقسم الجزء الأول إلى ثلاثة فصول فرعية كالتالي:

  • الاستمرارية والتغيير في تفسير الاضطرابات: إعادة النظر في الأزمة الأرجنتينية 2001-2002:

يحاول هذا الفصل تحديد السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية في الأرجنتين في 2001-2002، وعلى الرغم من أن الفصل يؤكد على تعدُّد الأسباب والتفسيرات وتداخلها لإنتاج تلك الأزمة، فإنه يري أن سياسة سعر الصرف تُعَدُّ حجرَ الزاوية في تلك الأزمة، وتمثَّلت تلك السياسةُ في أن البيزو يساوي الدولار الأمريكي وهي السياسة التي انتهجتْها الحكومة الأرجنتينيَّة منذ 1991 وحتى 2002 وتلك السياسة كانت محاولة للقضاء على التضخم وتحفيز الاقتصاد إلا أن نتائجها كانت على عكس أهدافها.

نتج عن سياسة سعر الصرف تلك تصوُّرات خاطئة لدى السياسيِّين في تقدير مستويات الدخل والادِّخار في المستقبل، وفهْم القدرة التنافسيَّة التصديريَّة للأرجنتين بسبب دور الصدمات الخارجية في معدَّل العائد على الموارد، وبالتالي تمَّ تشجيع الشركات والأفراد على تبنِّي عادات استثمارية وادِّخارية ضعيفة؛ وقد نتج عن ذلك صعود مستويات الديون الكبيرة (العامة والخاصة) نظرًا لفشل الاقتصاد في النمو، ولم يُؤَدِّ هذا إلى انهيار الثقة في القطاع المصرفي وحسْب -ممَّا أدَّى إلى إفلاس البنوك- ولكنه أدَّى أيضًا إلى أكبر تخلُّفٍ عن سداد الديون الخارجية في التاريخ الحديث.

ساهم في زيادة أزمة سعر الصرف في الأرجنتين الضعفُ المؤسَّسيُّ لكلٍّ من جهاز الدولة نتيجة عقود من الديكتاتورية والإصلاحات النيوليبرالية في التسعينيَّات، ممَّا أدْخل البلاد في دوامة لا يمكن السيطرة على تأثيراتها الاجتماعية، فالضمانات المؤسَّسية وشبكات الأمان الاجتماعي التي كان ينبغي أن توفر الحماية لملايين المواطنين المستضعفين كانت غائبة على وجه التحديد في الوقت الذي انزلقت فيه البلاد إلى الفقر، اجتمعت كلُّ هذه العوامل لإنتاج أحداث الاضطرابات التي وقعت خلال ديسمبر 2001 ويناير 2002، وعواقبها المأساوية على شعب الأرجنتين.

  • قابلية النمو ما بعد التحويل في الأرجنتين: الديناميكيات طويلة الأجل وحدودها 1960-2008:

يحاول هذا الفصل تحديد السبب الذي أدَّى إلى أزمة 2001-2002 في الأرجنتين؛ فيعود في دراسة سياسات الادِّخار والركود منذ 1960-2008، يرى الكاتب أن سياسات الادِّخار كان لها دورٌ أساسيٌّ في تحقيق التراكم والنمو الاقتصادي، ففي الفترة 1960-1980 كانت نسب الادخار ثابتة ولها دور في تحقيق النمو وذلك لأن الرأسماليِّين كانت لهم النسبة الأكبر في ذلك الادِّخار، حتى العمال وأجورهم الثابتة كان لهم دور أيضًا في تحقيق نسب ثابتة وتراكميَّة في الادِّخار والاستثمار ومن ثم تحقيق النمو.

ومع بداية فترة الديكتاتورية وأثرها على الأوضاع السياسية في البلاد نجد أن نسب الادِّخار تراجعت بشكل ملحوظ في تلك الفترة لعدم الإقبال على الاستثمار أو ثبات الأجور، فكل الأوضاع متغيِّرة، وحجم التغيير فيها كبير ممَّا ينعكس على النموِّ الاقتصادي الذي ينمو في ظلِّ استقرار نسبي سياسي واجتماعي، وأن عدم الثبات في الاستثمار أو الادِّخار ساهمَ بشكلٍ أو بآخر في حدَّة أزمة 2001 وحدَّة أثرها على الشعب الأرجنتيني حتى الآن.

  • حوكمة الاقتصاد الكلي في الأرجنتين ما بعد الليبرالية الجديدة وقوة الشركات متعدِّدة الجنسيات: حالة مجمع فول الصويا

يطرح هذا الفصل رؤية تقييميَّة لسياسات الحكومات المتعاقبة بعد أزمة 2001، ونجد أنه منذ 2003 ومع صعود نستور كيرشنر للرئاسة تمَّ انتهاج سياسات مضادَّة للنيوليبرالية السائدة في الأرجنتين منذ 1976، حيث أسَّست حكومةُ كيرشنر مجموعة من السياسات سُمِّيَتْ “الكيرشنرية” تعتمد على النمو الصناعي، وخفض الديون، والفوائض التجارية، وتراكم الاحتياطيات الدولية، ونهاية السلطة التأديبية لصندوق النقد الدولي، والنفقات الاجتماعية المتزايدة، إلا أنه وفي ظلِّ أهمية العملات الأجنبية وعائدات الضرائب على استدامة سياسات كيرشنر، فقد ظلَّ الثقل الاقتصادي الذي كانت تمتلكه الشركات متعدِّدة الجنسيات بعد أزمة 2001 كبيرًا على الاقتصاد الكلي ومؤثِّرًا.

وأصبحت الشركات المتعدِّدة الجنسيات خاصة ما يسمَّى بمجمع فول الصويا أحد القيود الخارجية على سياسات كيرشنر، خاصة فيما يتعلَّق بعوائد النقد الأجنبي والتصدير، حيث سيطرَ ما يقْرب من ستِّ شركات متعدِّدة الجنسيات المصدِّرة لفول الصويا على ما يقرب من 21,3٪ من إجمالي الصادرات الوطنية حتى عام 2010، وفي عام 2010 ساهمت هذه الشركات بـ 14 مليار دولار من النقد الأجنبي للاقتصاد و 4.8 مليار دولار في عائدات ضرائب الصادرات.

وعلى الرغم من أن سياسات كيرشنر كانت تهدف للتخلُّص من القيود الخارجية المتمثِّلة في صندوق النقد الدولي والسياسات النيوليبراليةـ ودعا لتدخُّل الدولة في الاقتصاد من أجل تحقيق التوازن، فإنَّ الواقع يُظهر صورةً مغايرةً لتلك الأهداف، فبدلًا من صندوق النقد الدولي نجد أن الشركات متعدِّدة الجنسيَّات أصبحت هي المتحكِّمة في المشهد الاقتصادي في الأرجنتين.

ثانيًا- الحركات الاجتماعية والحشد الجماعي قبل وأثناء وبعد حركة “ليرحلوا جميعًا”، وينقسم هذا الجزء أيضًا إلى أربعة فصول:

  1. دور الأزمة السياسية في التعبئة الجماهيرية: حالة الأرجنتين عام 2001

في 19 ديسمبر 2001 نزل مئات الآلاف من المواطنين “العاديِّين” إلى شوارع المراكز الحضرية في الأرجنتين خاصة في مدينة بوينس آيرس، وذلك بعد أشهر من الإضرابات النقابية والعمالية المنسَّقة، واحتجاجات الطلبة، وأعمال النهب والسطْو، وقد سعى هذا الفصل إلى تحديد ما الذي دفع هؤلاء الأرجنتينيِّين “العاديِّين” أخيرًا إلى التدفُّق إلى الشوارع والانضمام إلى الاحتجاجات بشكل جماعي؟

يوفِّر السياق الأرجنتيني في 2001 الإجابةَ على هذا السؤال دون مواربة، فكانت الأزمة الاقتصادية وضعف الحكومة وعزلتها، وقوة المعارضة، والتحوُّل في ديناميكيَّة السلطة وعدم قدرة الحكومة في السيطرة إلا من خلال العنف، بالإضافة إلى فقْد جزءٍ كبيرٍ من المواطنين “العاديِّين” الثقةَ في المؤسسات السياسية والاقتصادية، كل تلك الأسباب كانت الدافع وراء ظهور حركة احتجاجية كبيرة في البلاد تحت شعار (ليرحلوا جميعًا) والمقصود بالرحيل القادة السياسيُّون والاقتصاديُّون، حيث اجتمع سكَّان الأرجنتين مرةً أخرى حول هدف واحد ومطالب جماعية تمسُّ كافَّة أطياف الشعب دون تفرقة بين طبقات ودون اختلاف حول أهداف، مثلما حدث في الماضي القريب عندما اجتمعوا رفضًا للحكم العسكري والديكتاتوريَّة.

  1. الخلاف والأمل: القواعد الكامنة في الانتعاش السياسي في الأرجنتين ما بعد الأزمة

يركِّز هذا الفصل على ردِّ فعل المجتمع الأرجنتيني للأزمة، وليس المقصود هنا الرد الاحتجاجي الذي ركَّزت عليه الفصول الأخرى، ولكن الرد التكافلي وظهور منظمات المجتمع المدني التي تهدف لتحسين الحالة المعيشيَّة للملايين الذين سقطوا في براثن الفقر فجْأة ودون أيِّ غطاء من الدولة.

منذ فترة ما بعد الأزمة في الأرجنتين بدأت العديد من منظمات المجتمع المدني تعمل في الأحياء الأكثر فقرًا والتي شهدت مواجهات مع الشرطة لإعادة إحياء الأمل وتخفيف حدَّة الخلاف بين المواطنين وممثِّلي السلطة، وذلك من خلال العديد من الآليَّات التعاونيَّة والتضامُنية مثل مطابخ الأحياء (مطابخ تقدم الطعام المجاني للمحتاجين)، مع التأكيد على أن تلك المنظمات لم تركِّز على تخفيف حِدَّة الفقر فحسْب، بل كانت منطلقًا للعديد من النقاشات حول الوضع السياسي والاقتصادي ونقد السياسات الرأسمالية وطرح بدائل للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية، ومن ثم كانت المنطلقَ للعديد من التنظيمات السياسية فيما بعد.

  1. الأرجنتين منذ عام 2001: من الانتفاضة العفوية إلى “الانتقال”

يركِّز هذا الفصل على النضال العمالي والطلابي بعد اندلاع الأزمة، وذلك في خضم إعادة تنظيم السياسي والاجتماعي، ففي ظل سياق إقليمي -متمثل بشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية- يدفع بالنيوليبرالية لِتُفْرَضَ على دول أمريكا اللاتينية، كانت عمليات إعادة التنظيم تلك مدفوعةً من أسفل نتيجةً للأثر البالغ للأزمة الاقتصادية على المجتمع الأرجنتيني، حيث أعادتْ فئات المجتمع تنظيمَ ذاتها في الوقت الذي لا تملك تلك الفئات القدرة الاقتصادية لطرح بدائلها على السلطة، ونتيجةً لضعف فئات المجتمع نتيجة للأزمة الاقتصادية؛ فقد برزت فئات الطلاب والعمال وظهرت مقدرتهم -مقارنة بباقي الفئات- على تنظيم أنفسهم وطرح رؤاهم من خلال محاولاتهم إنشاء أحزاب سياسية، فزاد عدد الأحزاب السياسية في الأرجنتين إلى 700 حزب بحلول 2005.

كانت قدرات الطلبة والعمال المرنة في تنفيذ إضرابات وتظاهرات في ظلِّ القمع المستمرِّ من الحكومات المتعاقبة -على الرغم من نفْي تلك الحكومات ممارستها أي نوع من أنواع القمع والعنف ضدَّ أي فئة من فئات المجتمع- هي المحك في استمرارهم وقدرتهم على البقاء فى مواجهة الحكومة والأزمات الاقتصادية المتتالية التي ستواجهها الأرجنتين.

  1. إعادة زيارة الأرجنتين 2001-2013: من مظاهرات “ليرحل الجميع” للعقد البيروني

يشير هذا الفصل على الرغم من أن النشاط الاحتجاجي بعد الأزمة كان يهدف لرفض السياسات النيوليبرالية والرأسمالية المتوحِّشة التي اتَّسمت بها السياسات الاقتصادية في الأرجنتين، فإن العقد الذي يلي الأزمة وحتى 2013 شهد مزيدًا من التعايُش بين زيادة الاضطرابات السياسية وسياسات نزع الملكية، ممَّا وضع الأرجنتين في موقفٍ هَشٍّ وغير مستقر.

فشهد هذا العقد ظهور دورة جديدة من انتهاكات حقوق الإنسان على المستويين الجماعي والفردي، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهرة نزع الملكية، حيث قُتل أو مات 12 من السكَّان الأصليِّين والفلاحين في ظروف مريبة خلال السنوات من 2008 حتى 2013؛ وتم تسجيل معظم الوفيات رسميًّا على أنها “حوادث” من قبل السلطات. تشير التغييرات في أنواع القمع إلى تزايد عمليات إسناد أعمال العنف لقوات الشرطة المحلية والعصابات والقتلة الذين يتمُّ تعيينهم من قبل مالكي شركات فول الصويا وكبار مالكي الأراضي، وعلى الرغم من محاولة إخفاء هذه الحوادث إلا أن تكرارها يخلق نمطًا يُظهر حقيقة السياسات العامة في مجملها وتوجُّهها الرأسمالي على الرغم من نضال الشعب الأرجنتين لمواجهتها.

ثالثًا- رودود الفعل الثقافية والإعلامية على الأزمة، وينقسم هذا الجزء إلى ثلاثة فصول كالتالي:

  • بوينس آيرس الاستوائية: تمثيلات العرق في الأدب الأرجنتيني خلال أزمة عام 2001 وما بعدها

كان تأثير الأزمة الاقتصادية قويًّا وعميقًا داخل المجتمع الأرجنتيني -كما سبق الذكر- ليتجاوز المساحات السياسية والاقتصادية وليتغلغل في قلب النسيج الاجتماعي والهوية للمجتمع، اتَّضح ذلك الأثر في النسيج الاجتماعي عن طريق الأدب وتناوله للأعراق خلال الأزمة الاقتصادية 2001 وما بعدها، وهو ما يركِّز عليه هذا الفصل من خلال دراسة بضع نماذج مختلفة للأدب الذي تمَّ إنتاجه بعد الأزمة.

كانت السردية السائدة للهوية والتاريخ الأرجنتيني تنزع إلى أن البلاد أقرب ما تكون للدول الأوروبية -خاصة في أثناء الفترة الديكتاتورية- وإنها تُعَدُّ استثناءً في محيطها الإقليمي من حيث هُويتها العرقية الأقرب إلى البياض منها إلى السكَّان الملوَّنين والأصليِّين، جاءت الأزمة لتهزَّ كافَّة سرديَّات السلطة عن الأرجنتين ومنها هُويتها داخل الإقليم وحجمها في العالم، وظهرت التعدُّدية الثقافية للأرجنتين في تلك الفترة من خلال الحراك الذي شهده المجتمع في مختلف الجوانب، سواء في صراعه مع السلطة وفشلها وقمعها، أو مع باقي فئات المجتمع في محاولة للتضامن حتى لا تنهار البقيةُ الباقيةُ من نسيج المجتمع. نتج عن ذلك الحراك صعود الخطابات العرقية الثقافية في الأدب، وأيضًا في الاحتجاجات، ويتَّضح ذلك في جوانب الفصل من خلال مراجعة خمس روايات صدرت بعد الأزمة حتى 2010، كيف ظهرت الأرجنتين الملوَّنة المرتبطة بالسكَّان الأصليِّين المتعدِّدة الأعراق والإثنيَّات.

  • الاتصالات ونضالات مابوتشي[3] في باتاجونيا[4] بعد الأزمة:

حاول السكَّان الأصليُّون (مابوتشي) في فترة ما بعد الأزمة أن يقوموا بتجميع أنفسهم في شكل تنظيمي واحد من أجل الدفع بمطالبهم أمام الحكومات المتعاقبة خاصة حكومة كريشنر، في فترة الصحوة الإثنية والاعتراف بالتعدُّدية في أنحاء الأرجنتين، وذلك من أجل الاعتراف بهم كأشخاص يتمتَّعون بحقوق متساوية في الوصول إلى موارد الدولة وعلى وجه الخصوص في العقد اللاحق للأزمة الاقتصادية، وهو ما يطرحه الفصل بشيء من التفصيل.

كان السكَّان الأصليُّون محرومين من الوصول إلى الموارد والأراضي، وكانت الاتصالات في مجتمعاتهم سيئة على الدوام، كانت قضية الاتصالات إحدى أهمِّ القضايا على أجندة مابوتشي في باتاجونيا، لأنها محورية في قضايا التعليم والمعرفة واختراق المساحات المغلقة ودائمًا ما كان يتم تسييس الموضوع وتجاوزه حَدَّ السياسة العامة لأيِّ حكومة صعدت إلى سُدَّةِ الحكم في الأرجنتين، وعلى الرغم من نضال السكَّان الأصليِّين في هذا الملف، فإن انتصاراتهم كانت محدودةً مثل إنشاء محطات إذاعية جديدة بدلًا من المتهالكة.

  • الذكرى المئوية الثانية للأرجنتين واستعادة المجال العام في أعقاب أزمة عام 2001:

يدرس هذا الفصل الجدال حول الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لثورة الأرجنتين في عام 2010، خاصة مع عدم تعافي البلاد بشكل كلي من الأزمة الاقتصادية بالإضافة إلى آثارها التي ما زالت واقعةً على فئات المجتمع المختلفة، خاصة أن الخلافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما زال وقْعها على النسيج الاجتماعي مؤثِّرًا. واعتبرَ الكثيرُون -وخاصة المنظمين- أن هذا الاحتفال يمكن أن يكون فرصةً لإعادة تخيُّل المجال العام والذاكرة التاريخية للأرجنتين وإعادة التلاحم بين المجتمع.

خاتمة:

إن أزمة الأرجنتين الاقتصادية في 2001-2002 كانت أكبر أزمة تعرَّضت لها البلاد في تاريخها، إلَّا أنها لم تكن بأيِّ حال من الأحوال الأزمة الأخيرة في تاريخها حيث اعقبها أزمات في 2018، 2023 أزمات مازالت تؤكد أن تداعيات أزمة 2001 لم يتم التعافي منها حتى الآن، فتلك الأزمة تدق ناقوس الخطر للعديد من دول العالم الفقير والنامي من حيث سيناريوهات الافلاس أو وتداعياته وحتى الاحتجاجات عليه، فشعار ليرحلوا جميعًا لن يكون خاصًا بالحالة الأرجنتينية بل سيتردد صداها في 2019 في لبنان كلن يعني كلن. ومن الدروس المستفادة التي تطرحها تلك الأزمة بالنسبة للأرجنتين وباقي دول العالم التي تعاني من أزمات مشابهة في 2023 مع صعود الأزمة الاقتصادية العالمية على السطح:

إن ارتباط السياسي بالاقتصادي ارتباط حتمي، فلا وجود لتنمية حقيقة في ظلِّ ديكتاتورية وقمع من الشرطة للمواطنين، بل إن نتائج استمرار الاستبداد كارثية على الوضع الاقتصادي حتى ولو انتهي الاستبداد، فآثاره قد تستمر لعقود ممتدَّة.

إن محاولات السيطرة على التضخُّم والأزمات الاقتصادية بالسياسات المالية الخاطئة -تثبيت سعر الصرف- غير مجدٍ في كثيرٍ من الأحيان، خاصة في حالات الأزمة الهيكليَّة الاقتصادية، فإنها تحتاج إلى حلول هيكليَّة وليس حلولًا شكلية مؤقَّتة.

إن المجتمعات القوية المتمكِّنة من مساحاتها العامة ومناقشة أوضاعها السياسية بكل حرية، قادرة على التفاعل بشكل جيد مع الأزمات وطرح حلول وبدائل تكافليَّة لتخفيف وقع الصدمة، والعكس صحيح فكلما ضعفت المجتمعات كلَّما كان تأثير الأزمات عميقًا وحادًّا حتى تصبح الأزمة في الذاكرة الجماعية حية ومستمرَّة كجرحٍ لا يندمل.

وأخيرًا، إن المتأمِّل في حال الاقتصاديات الفقيرة والنامية يجد أنماطًا متكرِّرة من الأخطاء السياسية والاقتصادية تؤدِّي إلى أزمات كبرى، وعند سقوط أي دولة في براثن الأزمات الاقتصادية يتمُّ الحديث عن فرادة الحدث دون النظر في النمط، فالخبرات موجودة وتحتاج إلى إعادة النظر واستخراج العبر.

_________________

الهوامش

[1] Cara Levey (et al.), Argentina since the 2001 Crisis Recovering the Past, Reclaiming the Future, (New York: Palgrave Macmillan, 2014).

[2] للمزيد حول الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين 2001، انظر:

– بعد أزمتين هزتا اقتصادها..هل تنجو الأرجنتين من الثالثة؟، قناة العربية، 2سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ljPj9

– الأزمة الاقتصادية الكبرى في الأرجنتين: ندوب المأساة ظاهرة بعد 20 عامًا، العربي الجديد، 18 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/taqjE

– تجربة إفلاس الأرجنتين.. الشبح الذي يطارد الاقتصاد المصري، موقع أخبارك، يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/YK3Th

– أسماء شاكر، تاريخ كارثة 2001 الأرجنتين، موقع أي عربي، 21 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eSf7U

[3] المابوتشي  هم مجموعة من الشعوب الأصلية الأمريكية والتي تتمركز في وسط وجنوب تشيلي وجنوب الأرجنتين، المابوتشي يشكِّلون نحو 4٪ من سكَّان تشيلي، ويتوزَّعون بشكل خاص في منطقة أرَوكانيا التشيلية، وأيضًا في منطقتي باتاجونيا التشيلية والأرجنتينية.

[4] هي منطقة طبيعية ذات كثافة سكانية منخفضة في الطرف الجنوبي من أمريكا الجنوبية، تحكمها الأرجنتين وتشيلي، وتبلغ مساحتها داخل بلدين: 10٪ في تشيلي و90٪ في الأرجنتين.

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثلاثون – يوليو 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى