انخراط الصين في أمريكا اللاتينية: تشويه للتنمية والديمقراطية؟

مقدمة:

يتناول كتاب “انخراط الصين في أمريكا اللاتينية: تشويه للتنمية والديمقراطية؟[1] حضور الصين السياسي والاقتصادي والعسكري: الناعم والصلب وتطوُّره في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وآثاره على التنمية والهياكل الاقتصادية والنظم السياسية لدول المنطقة، والولايات المتحدة الأمريكية، إذ يحدِّد الباحث أن جمهوره الأساسي هو جمهور الولايات المتحدة والمهتمِّين بالحضور الصيني في المناطق المختلفة من العالم. ويوضِّح أن هدفَه ليس مناهضة “الصعود الصيني”، بقدْر ما هو توجيه العلاقات بين الصين وهذه المنطقة إلى المسار الصحيح. ويبرز المؤلَّف دور العلاقات الاقتصادية كأساس  للعلاقات بين الصين والمنطقة؛ حيث يُنظر للصين كشركة عملاقة تعمل لأجل الهيمنة على القطاعات الاقتصادية المختلفة. كما يدرس تطوُّرات انتشار فيروس كورونا، خاصةً خلال فترة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما صاحبها من تغيُّرات على مستوى النظام الدولي، وعلى مكانة الصين في المنطقة في مقابل الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

ويستلهم المؤلِّف إطارَه المنهجي من “نظرية التبعية Dependency Theory”، إذ يرى أن انخراط الصين المتزايد في المنطقة، وهيمنة شركاتها على القطاعات الاقتصادية المختلفة، وعملية القيمة المضافة، سيسْمح لها بالتأثير في القرارات الاقتصادية، وبالتالي سيكون لها آثارها على سياسة المنطقة Politics of the region، كما يستفيد من نظرية النظام العالمي World System في فهم النشاط الصيني المتعلِّق بالاكتشافات النفطية، والتعدين، والزراعية، واستيرادها للمواد الخام في مقابل تصدير المواد المصنَّعة عالية القيمة؛ بما يعزِّز دورَ الصين في موقع دول “المركز”، في مقابل دول المنطقة كدول “أطراف / هامش” Core-periphery relations.

لقد اعتمد الكتاب على الكتابات السابقة للمؤلِّف، وعلى مصادر أكاديمية وصحفية باللغة الإنجليزية والإسبانية. واعتماده على الكتابات الصحفية ليس بوصفها مصادر ثانوية لتفسير وتحليل السلوكيات الصينية، وإنما باعتبارها مصادر أولية للمعلومات والأخبار. وتُعَدُّ النقاشات والمقابلات التي أجْراها المؤلِّف مع أكاديميِّين وأصحاب أعمال في دول المنطقة والصين، على مدار أكثر من ثمانية عشر عامًا، المصدر الأهم للمعلومات التي لجأ إليها الباحث.

  • الرؤية العامة للكتاب

يتبع المؤلِّف في مقدِّمته (الفصل الأول) فكرة صعود الصين وتأثيرها، وكيف أن صعودها أثَّر في عملية تحوُّل النظام الدولي أكثر من تأثير النظام الدولي في الصين، وكيف بدأ انخراط الصين يتعمَّق في المناطق المختلفة من العالم البعيدة، بدءًا من أفريقيا، والعالم العربي، وأمريكا اللاتينية، وأصبح له تأثير كبير على دول هذه المناطق، والقوى “التقليدية” أصحاب النُّفوذ العالمي فيها، والولايات المتحدة تحديدًا. ثمَّ أوضح كيف أن صعود الصين أصبح له آثار تتَّصل بتقوية نموذجها السلطوي في الحكم بقيادة الحزب الشيوعي، وقدرته على مواجهة النظم الديمقراطية، والتعامل مع الأزمات الكبرى خاصة في ظلِّ كورونا، التي أبْرزت ضعفًا في تعاطِي الدول الديمقراطية الكبرى معها، بسبب السلوك المضطرب لإدارة ترامب في الولايات المتحدة، والأزمات التي شهدتها الدول الأوروبية، والتي أكَّدت مدى “اعتمادها” على الصين في القطاع الطبي. وأكَّد المؤلِّف على أن الصين تطمح إلى دورٍ أكثر فاعلية وحسْمًا في السياسة الدولية، وأنها لا تخشى الدخول في منافسة مع الولايات المتحدة.

ومع ذلك، يفرِّق المؤلِّف بين حالة التنافس التي كانت سائدة في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والتي تسود بين الولايات المتحدة والصين في الوقت الراهن. فبينما يرى أن التنافس في الحرب الباردة كان تنافسًا بين كتل Blocks، فإن التنافس الراهن تنافس بين شبكات Networks؛ بمعنى أنه بين قوى تطْمح إلى نسْج شبكة علاقات ممتدَّة مع الدول الأخرى، في مقابل قوى معيَّنة تسْعى للأمر نفسه، ويستدلُّ على ذلك بمبادرة الحزام والطريق الصينية. ويوضِّح أن الانتماء لشبكات متعدِّدة ممكنة، في حين أن الانتماء لتحالفات متعدِّدة لم يكن أمرًا سهلًا.

كما بيَّن أن زيادة اعتماد دول أمريكا اللاتينية على الصين، وإن كان من شأنه إخراج المنطقة من فلك الهيمنة الأمريكية “الغربية”، فإنه يدخلها في فلك التبعية للصين، ما سيكون له من آثار اقتصادية وسياسية وعسكرية متعدِّدة. ويشير إلى أن الرَّدَّ من دول المحيط الغربي (دول المنطقة، والولايات المتحدة، وغرب أوروبا) غير منسَّق، ولا يستوعب حجم التهديدات التي تفرضها الصين، أو ستفرضها في الأجل البعيد، ويرى الكاتب أن حكومات دول المنطقة تفتقر إلى قدرة حقيقة على المساومة مع الصين، وإلى تقويمٍ بيئيٍّ واجتماعيٍّ جادٍّ للانخراط الصيني. ويستعرض المؤلِّف قرب نهاية المقدمة أهم الأدبيات التي تناولت الصعود الصيني بصفة عامة وآثاره عالميًّا وفي المنطقة باللغتين الإنجليزية والإسبانية، ويؤكِّد على الرغم من ثراء وتنوُّع هذا الأدب، فإنه لا يوجد مؤلَّف واحد بكامله يحلِّل التداخل والتكامل بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية للانخراط الصيني في المنطقة، وهو ما دفعه لسدِّ هذه الفجوة، ثمَّ ينهي مقدمته ببيان تنظيم الكتاب، الذي يأتي في عشرة فصول، يُعَدُّ الأول منها مقدمة، أما الفصل العاشر فيمثِّل الخاتمة.

في الفصل الثاني، يشير المؤلِّف إلى أن الأنشطة الصينية في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي يمكن النظر إليها على أنها جزء من سعي الصين الخارجي لربط دول العالم بها، وزيادة حجم قوتها وثروتها؛ لأجل تأمين بقاء الحزب الشيوعي الصيني في الحكم، والحفاظ على أمن الدولة الصينية، وإلى أن الاستراتيجية العالمية للصين اقتصادية بشكل أساسي، وحتى وإن كان لها مكونات دبلوماسية وسياسية وعسكرية وثقافية “ناعمة”، فهي في النهاية داعمة لتحقيق هذا التوجُّه الاقتصادي. وعلى هذا تتَّضح حجَّة هذا الكتاب في أن الصين، في متابعة استراتيجيَّتها العالمية الموجهة اقتصاديًّا، تمارس الأعمال بطريقة تضرُّ بازدهار وتنمية المناطق التي تتعامل فيها، من خلال الحصول على حصة غير متكافئة من الفوائد الاقتصادية، التي تجعل القيمة المضافة منحصرة لصالح الصين، كما تساعد في تعزيز وبقاء الأنظمة الشعبوية الاستبدادية في المنطقة، وبالتالي “تشويه” التنمية والديمقراطية.

وقد سعت الصين للسيطرة على المجالات الاقتصادية في هذه المناطق المختلفة عبر؛ أولًا- شركاتها العملاقة SOE عبر عمليات الشراكات الاستراتيجية والدمج والاستحواذ على الشركات العاملة في القطاعات الرئيسية في هذه الدول. وثانيًا- وضع استراتيجية لتعزيز ترابط الصين بالعالم Connectivity بالاستثمار في مشروعات البنى التحتية الضخمة، والسيطرة على قطاعات النقل والمواصلات، والاتصالات، والكهرباء، والتجارة الإلكترونية، وغيرها. وثالثًا- الحضور النشط في المؤسسات الدولية (كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والأمم المتحدة)، والمنظمات الإقليمية سواء القائمة (كالاتحاد الأفريقي، ومنظمة الدول الأمريكية، مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي) أو التي تنشئها كآلية تنسيقية مع دول هذه المناطق مثل 16+1 مع دول وسط وشرق أوروبا، والـ FOCAC مع دول أفريقيا وغيرها. ورابعًا- تعزيز الروابط السياسية والدبلوماسية مع جميع الأنظمة السائدة، بغضِّ النظر عن طبيعتها السياسية. خامسًا- الدعوة لعالم التعدُّدية القُطبية، الذي سيكون للصين دورٌ مركزيٌّ فيه، وذلك بدعم من النظم السلطوية الصديقة لبكين. سادسًا- تدويل عملتها (الرنمينبي RMB)، وزيادة مكانتها في شبكة التداولات المالية الدولية. سابعًا- تحديث الجيش الشعبي الصيني PLA، وتدعيم الانتشار العسكري الصيني في العالم. ثامنًا- تعزيز القوة الناعمة الصينية، بنشر الثقافة الصينية عن طريق مؤسسات كونفوشيوس، والمنح، والقنوات الإعلامية الموجَّهة.

أمَّا الفصل الثالث فانقسم إلى جزئين؛ الجزء الأول منه طرح السياق السياسي لتطوُّر العلاقات الصينية مع أمريكا اللاتينية، مؤكدًا على أن العلاقات بينهما ليس لها جذور تاريخية بعيدة، إذ لم تكن القارة جزءًا من طريق الحرير القديم، وأن الرابطة بينهما لم تبدأ سوى في القرن السادس عشر مع السفينة الإسبانية “جليون مانيلا”، التي نقلت الخزف والتوابل الصينية إلى الفلبين والمكسيك، والفضة من المكسيك وبيرو إلى الصين، واستمرَّت التجارة بينهما عبرها حتى القرن الثامن عشر، وقت أن سيطر الغرب على الصين، فلم يَعُدْ لها علاقات مستقلَّة مع أمريكا اللاتينية. واستمرَّ ذلك حتى بعد قيام الثورة الشيوعية (فترة ماو تسي تونج)، الذي كان الاتصال السياسي والثقافي معها محدودًا، فلم تعترف أي دولة لاتينية بجمهورية الصين الشعبية باستثناء جمهورية كوبا في سبتمبر 1960، ثمَّ تَبِعَتْهَا بعِقد شيلي في ديسمبر 1970، ثمَّ جاء اعتراف معظم الدول الأخرى في السبعينيات والثمانينيات بعد زيارة كسينجر للصين، ثمَّ انضمام الأخيرة للأمم المتحدة، واعتراف الولايات المتحدة بها 1979.

أما الجزء الثاني فأشار إلى المعالم الرئيسة للترابط الاقتصادي والتبادل التجاري بين الصين ودول المنطقة، التي بدأت تنتعش مع دخول الصين منظمة التجارة العالمية 2001، ومعها بدأت تلعب الشركات الصينية المملوكة للدولة دورًا محوريًّا في القطاعات الاقتصادية الرئيسة في المنطقة، ثمَّ تعمَّقت هذه العلاقات مع الأزمة المالية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة والعالم 2007-2008؛ فأصبحت معها الصين مصدرًا رئيسًا لدول المنطقة، ومستثمرًا حقيقيًّا، ومقرضًا بديلًا للغرب، فبدأت الصين تستحوذ على مكانة مهمَّة في صناعة النفط بدول المنطقة، بعد الاستحواذ عبر تحالف تجاري Consortium على بعض الشركات الرئيسة العاملة مع الإكوادور (2005)، وكولومبيا (2006)، وبوليفيا، والأرجنتين. ثمَّ تأكَّد ذلك التوسُّع عام 2010، حين استحوذت الصين على قطاعات النفط والتعدين وتوزيع الكهرباء في العديد من دول المنطقة. وفي هذا التاريخ تحديدًا، مهَّدت الأنظمة الشعبوية اليسارية الطريق أمام الصين للاستثمار المكثَّف في المنطقة، وبخاصة في دول مثل فنزويلا، والإكوادور، وبوليفيا، والأرجنتين. وبالمثل تنامى دور الشركات الصينية في قطاعات الموانئ، والنقل البحري، والبنية التحتية الإلكترونية والاتصالات (عبر هواوي وZTE) منذ التسعينيات.

وبالنسبة للفصل الرابع فقد استعرض مظاهر التواجد الاقتصادي في المنطقة، والقطاعات التي تستثمر فيها الصين، مؤكِّدًا على أنه يمكن فهم سعي الصين لتحقيق أهدافها الاقتصادية من خلال ثلاثة أنشطة متداخلة:

(1) أنشطة للحصول على وصول آمن وقيمة مضافة من موارد المنطقة والمواد الغذائية.

(2) أنشطة تركِّز على الوصول الآمن للسلع والخدمات الصينية إلى الأسواق.

(3) أنشطة تركِّز على السيطرة على البنى التحتية التي تربط المنطقة.

وتناول بشيءٍ من التفصيل معالم الاستثمار الصيني في قطاعات: البترول، والتعدين، والزراعة، وصيد الأسماك، والخشب، والتكنولوجيا، والبنية التحتية التقليدية (الطرق والمواصلات)، والموانئ، وكذا الطاقة النظيفة وإنتاج الكهرباء، وصولًا إلى أنظمة المراقبة، والتجارة الإلكترونية ومصادر البيانات في كلِّ دولةٍ من دول المنطقة. كما أشار إلى نوعٍ آخرَ من التصدير قامت به الصين للنظم السلطوية، يتمثَّل في تصدير أنظمة المراقبة الرقمية China’s Export of Digital Authoritarianism to the Region، الذي ساعد هذه النظم في مراقبة مواطنيها، والسيطرة على شبكات الإنترنت، ومقاومة الاحتجاجات المعارضة لها، خاصة في فنزويلا، والإكوادور، وبوليفيا، وكوبا، عن طريق منتجات شركاتها الرقمية هواوي وZTE.

وفي الفصل الخامس تمَّ تحليل الأبعاد المختلفة للقوة الناعمة الصينية في المنطقة، إذ بدأ بتناول دور المؤسَّسات الثقافية الصينية في المنطقة، وعلى رأسها مؤسَّسات كونفوشيوس، وعددها 39 مؤسسة، و18 فصلًا في دول مختلفة، والمنح التعليمة التي تخصِّصها الصين للطلاب، والتي ستصل إلى 5000 منحة دراسية، و3000 فرصة تدريبة بين عامي 2022 و2024. ويشير إلى أن أحد مصادر القوة الناعمة الصينية هو تصوُّر بعض النُّخب المنافعَ المحتملة من علاقات جيدة مع الصين: تجارية، وتعليمية، واستثمارية، وسياسية، فضلًا عن كون الصين تمثِّل نموذجًا تنمويًّا لبعض هذه الدول. بالإضافة إلى ذلك تنشط الدبلوماسية الشعبية People to people diplomacy ودبلوماسية الأحزاب Party to party diplomacy، التي تشْمل تبادل الزيارات بين أعضاء البرلمانات، والنخب السياسية والحزبية إلى الصين والعكس. فضلًا عن ذلك، زار الصين لأكثر من مرة كل متخصِّص معتبر في الشؤون الصينية من أمريكا اللاتينية، وشارك في منتديات مراكز البحوث. وكذلك بالنسبة لقادة الأعمال والمستثمرين. بالإضافة إلى ذلك حاولت الصين تعزيز تواصلها مع التجمعات الصينية في أمريكا اللاتينية؛ محاولةً تقديم نفسها كحضارة أكثر منها دولة لها حدود جغرافية. كما خصَّصت القناة الصينية الرئيسة CGTN برامج لأمريكا اللاتينية، مقدِّمةً صورًا وفيديوهات مجانية للصحف والقنوات المحلية. ويَعُدُّ المؤلِّفُ دبلوماسية Covid_19 أحد أوجه القوة الناعمة التي استغلَّتها الصين لتحسين صورتها في المنطقة، بالإسراع في تقديم المساعدات الطبية والصحية لحكومات المنطقة.

أما الفصل السادس فتناول موضوع الصراع الدبلوماسي بين الصين وتايوان على نزع اعتراف دول المنطقة، وأشار إلى أهمية منطقة الكاريبي في هذا الصراع بسبب أن 9 من أصل 14 دولة تعترف بتايوان تنتمي إلى المحيط الغربي (منطقة الأمريكتين والكاريبي). وعملية الاعتراف نفسها ليست سياسية فحسب، وإنما تتعلَّق بالأساس بالاقتصاد: التبادل التجاري، والاستثمار الخارجي (الصيني أو التايواني)، والمعونات والقروض، وغيرها من الفرص التعليمية والثقافية لشعوب البلاد التي تعترف بها، فضلًا عن الدعم السياسي للحكومات. ولذلك حولت أكثر من دولة في المنطقة اعترافها بين الصين وتايوان؛ فأصبح هناك أحزاب وحكومات ذات توجه صيني، وأخرى ذات توجه تايواني، تحاول كل واحدة منها فور الوصول للسلطة توسيع علاقاتها بطرفٍ على حساب الآخر.

ويقسِّم المؤلِّف التنافسَ بينهما إلى ثلاث مراحل، الأولى بدأت بعد إقامة الولايات المتحدة لعلاقات[2] مع الصينامتدَّت حتى التسعينيات، والأخرى من التسعينيات حتى  2008 ثم مرحلة الهدنة من 2008 حتى 2016، وما بعد مرحلة الهدنة 2016، التي شهدت زيادة في حدَّة التنافس بين القوَّتين، وخلالها اعترفت ثلاث دول لها أهميتها الاستراتيجية في المنطقة بالصين: وهي بنما (يونيو 2017)، والدومينيكان (مايو 2018)، والسلفادور (أغسطس 2019)، مع احتمالات تحول دول أخرى للاعتراف بالصين، بسبب نوعية الأحزاب التي تزداد فرصها السياسية في السنوات القادمة في جواتيمالا، وهاييتي وغيرهما.

وفي الفصل السابع، قُدِّمَ شرحٌ لآثار تولِّي أحزاب شعبوية يسارية الحكم في عدد من دول المنطقة Leftist Populist Regimes على العلاقات مع الصين من ناحية، وحقوق الإنسان من ناحية أخرى. فركَّز على أنه في المجمل تقع تطوُّرات في حجم العلاقات بين هذه الأنظمة والصين، وذلك في القطاعات المختلفة بدءًا من التبادلات التجارية، والاستثمارات في قطاعات البترول والتعدين، والبنى التحية، وحتى القروض. وقد أظهر الفصل هذا التأثير عبر تتبُّع خمس حالات هي: فنزويلا، والإكوادور، وبوليفيا، والأرجنتين، وكوبا. ومع أن الصين توسِّع علاقاتها بكل أنواع الأنظمة السياسية في المنطقة، فإن آثارها كانت ملموسة أكثر مع هذه النظم، فحصلت على مزايا نسبية أكبر، حتى مثَّلت بالنسبة لهم بديلًا للغرب ومؤسساته المانحة، وضامنًا مهمًّا لبقائها وازدهارها. وبقاء هذه الأنظمة من وجهة نظر المؤلِّف بمثابة “كساد ديمقراطي” في المنطقة “”Democratic depression.

ثم تناول الفصل الثامن طبيعة الانخراط العسكري الصيني ودور الصين الأمني في المنطقة. فرغم أن أنشطة الصين العسكرية ليست الأبرز، ولا هي أصلًا جزءًا جوهريًّا من استراتيجياتها هناك، فإن نشاطها تزايد في العقدين الأخيرين. وقد دفع ترحيب نظم الحكم الشعبوية اليسارية بدور عسكري وأمني للصين في المنطقة، وتعرُّض مواطنين وعمَّال صينيِّين لأخطار جرَّاء عملهم في الشركات الصينية، خاصةً في مجال البترول والتعدين في فنزويلا، وبيرو، وغيرها، وسعيها لتعزيز مكانتها في “حرب قادمة / مستقبلية” مع الولايات المتحدة، فتتمكَّن من الولوج Access إلى موانئ ومطارات المنطقة، دفع كل ذلك إلى دور نشط للصين في هذه المجالات.

وتتَّخذ الأنشطة الصينية العسكرية في المنطقة مظاهر كثيرة، على رأسها مبيعات الأسلحة، التي تطلبها كافة دول المنطقة، وبخاصة الدول التي تضع الولايات المتحدة عليها قيود، كما تزداد الزيارات العسكرية الصينية إلى دول المنطقة، وتقدِّم الصين العديد من التدريبات المهنية للجيش وقادة قطاع الأمن الداخلي (الشرطة) لمعظم دول المنطقة، فضلًا عن إمدادها بالمعدات والأدوات اللازمة لعملها، بالإضافة لدور الشركات الأمنية الصينية الخاصة. ويُلاحظ أن لهذا النشاط دور سلبي بسبب عدم فرض الصين أية قيود على تصدير واستخدام الأسلحة، إذ تستخدم القوات الشرطية المعدَّات والمركبات الصينية في قمع التظاهرات، وهو ما يُهَدِّدُ أوضاعَ حقوق الإنسان في المنطقة وقيم الديمقراطية.

وفي الفصل التاسع، قبل الختام، تناول المؤلِّف الفرص التي خلقها فيروس كورونا للصين في المنطقة، والتي ساعدت في تعزيز تواجدها ودوروها، خاصةً في المجال الطبي، كما فتحت الآفاق لمزيد من الفرص للاستثمار وتقديم القروض. لقد لعبت الدبلوماسية الطبية أو دبلوماسية كورونا دورًا محوريًّا في تحسين صورة الصين بعد انتشار الفيروس، إذ أمدَّت الكثير من دول المنطقة بالمعدَّات الطبية بعضها كان هِبات، والبعض الآخر كان صفقات تجارية؛ لتتخطَّى بذلك مكانة الولايات المتحدة في المنطقة كأكبر شريك في المجالات الطبية. كما اكْتسبت الصين عنصر تأثير إيجابي بسبب قدرتها على السيطرة على الفيروس بداخلها، واستعادة النمو الاقتصادي. كما كان للأزمة أثر على الدول التي تقيم علاقات مع تايوان، التي رأت أنها لو كانت تعترف بالصين لكان أسهل لها الحصول على مساعدات كورونا (باراجواي)، وكذا فتحت هندوراس مكتب ممثل تجاري للصين. لقد أعطت هذه الجائحة فرصة للشركات الصينية لتوسيع استثماراتها والقيام باستحواذات جديدة وعمليات دمج لشركات قائمة خاصةً تلك التي باعها الغرب. ومع ذلك قد تسببت فترة ما بعد الجائحة في تحديات كبرى للصين في المنطقة، بسبب عرضة الكثير من دول المنطقة للتظاهرات، واحتجاجات عمالية ومن قبل البيئيين ضد الصين، فضلًا عن احتمالات تزايد الجريمة المنظمة وانعدام الأمن.

أما الفصل العاشر والأخير، فقد شرح فيه المؤلِّف عدَّة آثار لوجود الصين في المنطقة، وعلى الولايات المتحدة، في مقدِّمتها قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، التي رغم عدم تدخُّل الصين لتعطيلها، فإنها تساعد نظم اليسار الشعبوية (غير الديمقراطية) عن طريق القروض والاستثمارات، وأنظمة المراقبة والتتبع، وتدريبات أجهزة الشرطة على القمع. وبذا يتحدَّى تواجدها التفوُّق الأمريكي في المنطقة: اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.

ولمواجهة ذلك قدَّم بعض التوصيات لصنَّاع القرار في واشنطن تتعلَّق أساسًا بتعزيز الشفافية، وحكم القانون، وتقديم الدعم التقني والتكنولوجي لدول المنطقة، بالانخراط في مجالات الاتصالات والمعلومات والتجارة الإلكترونية، وإمداد النخب بالمعلومات الدقيقة التي تساعدهم في اتخاذ القرارات المتَّصلة بترشيد سياسات بلدانهم والتعامل مع الصين؛ لتحقيق استفادة من تواجدها، وتقليل الأضرار الواقعة عليهم.

خاتمة:

بات صعود الصين السمة الرئيسة لعالم اليوم، كما باتت الصين شريكًا تجاريًّا أساسيًّا، ومستثمرًا رئيسًا في كافة القطاعات الاقتصادية، خاصةً بعد إطلاقها مبادرة الحزام والطريق للاستثمار في البنية التحتية بأنواعها المختلفة، وبذلك فمن المهم كما يتم الالتفات إلى الفرص التي تقدِّمها الصين، الالتفات إلى التحديات والآثار (السلبية) لتزايد الانخراط الصيني في دول المنطقة؛ وهو ما التفت إليه عدد من دول العالم خاصةً في جنوب شرق آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، وعدد من الباحثين من دول العالم المختلفة، وفي مجالات متنوِّعة، في مقدِّمتها المجال البيئي.

ومن هذا المدخل يلزم الدول العربية في انخراطها مع الصين اتِّباع عددٍ من السياسات، منها:

1- الموازنة بين المكاسب والمخاطر من الانخراط الاقتصادي، والقروض والاستثمارات الصينية؛ تجنبًا للوقوع في فخِّ الديون.

2- الانتباه إلى الآثار البيئية لمشروعات الحزام والطريق الصينية؛ بسبب توسُّعها في استثمارات القطاعات النفطية، ومشروعات إنتاج الكهرباء بالوقود الأحفوري.

3- تنويع الشراكات التجارية، والاستثمارية، والعلاقات الدولية بين القوى المختلفة، وعدم الارتكان إلى الدعم الصيني فقط، والاستفادة من القوى الصاعدة المختلفة.

أمَّا على مستوى الشعوب العربية، والمجتمع المدني، والباحثين: فمن المهم الانتباه إلى تفاصيل الانخراط الصيني في المشروعات المختلفة، وعدم الاكتفاء بالتعرُّف على الأبعاد التاريخية والحضارية والعمومية للانخراط الصيني. وكذلك من المهم التغطية الإعلامية المتوازنة للانخراط الصيني مع المنطقة العربية، وتتبُّع الآثار البيئية والسياسية المتعلِّقة بتزايد التعاون مع الصين والحكومات العربية.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_____________________

الهوامش

[1] R. Evan Ellis, China Engages Latin America: Distorting Development and Democracy?, (London: Palgrave Macmillan, 2022).

[2] تقع الولايات المتحدة -وفقًا للمؤلِّف- في خلفية كافة التفاعلات بين الصين والمنطقة، إذ تُعد هذه المنطقة مجالًا حيويًا للولايات المتحدة، كما أنها تعد نفسها المُهيمن عليها، وبالتالي يأتي تطور العلاقات بين الصين ودول المنطقة دومًا إما بإشارة من الولايات المتحدة كما أقدمت عدد من الدول على الاعتراف بالصين بعد الولايات المتحدة عام 1979، وإما أن يكون تحديًا لنفوذها، مثل قيام عدد من الدول بتحويل اعترافها من تايوان إلى جمهورية الصين وقت إدارة ترامب، وقد قامت باستدعاء سفراء هذه الدول لديها لمناقشتهم في الأمر، كما يرى المؤلِّف أن انتشار النظم اليسارية الشعبوية المدعومة من الصين، وتزايد قوة الصين الناعمة، سيكون له تأثير سلبي على مكانة الولايات المتحدة ومصالحها، وقيم الليبرالية والديمقراطية في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى