إشكال الهوية: ما الجديد..؟

لا يزال سؤال الهوية وجواباته عالقًا في فضاء الفكر العربي العام، على الرغم من طول المدى التاريخي الذي قطعته سجالاته. وسؤال الهوية هو: “من نحن؟” أو بعبارة أخرى: إلى ماذا ننتسب؟ ومعلوم لكل من عَنِي بهذا الأمر، أنه سؤالٌ مركَّب ومتفِّرع إلى قضايا ومساحات عديدة، على مستوى السؤال الذي اختلطت جواباته المختلفة بتساؤلات واستشكالات أخرى من قبيل: الموقف من التراث الذاتي، الموقف من الفكر الأجنبي، الموقف من العولمة ومحاولات تقديم نموذج حضاري معين باعتباره فكر العالم والإنسانية، والموقف من الدين، ومن الثقافة السائدة، ومن الأوضاع السياسية والاجتماعية، والاقتصادية العامة.
لقد كانت الإجابات الثلاث الأبرز في هذا الصدد؛ هي: أولًا- نحن وطنيّون أي إن انتماءنا الأساس محدود بحدود الوطن/ القُطر. وثانيًا- نحن العرب؛ أي إن انتماءنا الأساس مبنيّ على لساننا العربي وما يستدعيه ذلك من ثقافة وتاريخ وجغرافيا عربية مشتركة، والثالثة- إننا مسلمون؛ أي أن انتماءنا الأبرز والأجمع هو إلى الإسلام إما عقيدة تربط المسلمين بعضهم ببعض أيا ما كانت اختلافاتهم القومية والقطرية، وإما حضارة تضم إلى المسلمين غيرهم من المسيحيين واليهود والبوذيين و… ممن أوى إلى ظلال الحضارة والديار الإسلامية وشارك فيها. ولقد غلب على ساحات الفكر العربي صراع الجوابات الثلاث وما يتفرع منها وبينها من تفريعات.
ولقد طرح العقل العربي الحديث إجابة جامعة، قامت على ملاحظة أن هذا الصراع مفتعل، وأصله قلة التدقيق، ومعاناة العقل العربي من ضغط وضيق جعله يرى الثنائيات والأبعاد المكوّنة لحياتنا في مواضع التضاد والتنافي، والأمر ليس كذلك دائما، بل عكس ذلك غالبًا. ومن ثم توالت أطروحات التوافق بين الوطنية والقومية، وبين كل منهما والانتماء إلى الإسلام. وبرز في هذا الصدد طرح الأستاذ المصري طارق البشري لفكرة “دوائر الانتماء المتحاضنة”.
والذي يراجع أطروحة البشري، هذه، يلاحظ من قريب، أنه لم يكتشف شيئًا كان غائبًا عن الواقع، بقدر ما يدقق هو النظر في الواقع متخففا من أشكال السجالات الفكرية المنفعلة. لقد لاحظ البشري أن الفرد الواحد لا يخلو منذ ولادته من انتسابات منها القريب جدًّا بحكم ولادته لأب وأم؛ أي الانتساب/ النسب العائلي، ومنها الواسع جدًّا بحكم كونه بشرًا ينتمي إلى النوع البشري برمته؛ (كلكم لآدم، وآدم من تراب)…الحديث. ثم إن مسار كل إنسان فرد يضيف إليه دوائر انتماء بعضها معطىً لا دخل له فيه، وبعضها الآخر مكتسب بالاختيار منه، فالإنسان يجد نفسه منتميا إلى مكان يضيق إلى حدود بيته ومحلته (القرية/ الحي السكني) ويتسع إلى الأرض والعالم، وإلى زمان هو جيله المساوق له، وعصره الذي يزامن حياته من مولده إلى وفاته، وينتمي إلى لغة تنتقل إليه من أهله أو القائمين على تنشئته، وإلى ثقافة هي عبارة عن أنماط سلوك يتشرب منها بوعي وقصد، وبغير وعي ولا قصد، وينتمي إلى تراث لهذه الأمكنة واللغة والثقافة والقومية التي ولد فيها.. ثم يكتسب الإنسان مزيدًا من دوائر الانتماء مع الوقت، يختارها هو لنفسه أو يختارها غيره له؛ كنوع التعليم، ونوع العمل أو المهنة، والمذهب الديني، والمذهب الفكري، ومحل الإقامة، والحضارة التي يريد أن ينتسب لفكرها وحياتها…
فدوائر الانتماء للإنسان بعامة متعددة، ومتجاورة، ومتقاطعة، وليست بالضرورة متعارضة، ولا متناقضة بحيث يهدم بعضها بعضًا.. وهي ليست كلها نهائية، بل للإنسان أن ينقل انتماءاته، كمن يتحول عن دينه إلى دين آخر، ومن ينتقل من مذهبه الفكري إلى غيره، ومن يختار الانتماء المكاني خارج دائرة قوميته أو حضارته التي وُلد فيها، كالمهاجر إلى ديار غير دياره الأولى، وقد يغير الإنسان نوع تعليمه، أو مهنته، أو لغته التي يتحدث بها أو ثقافته ومنظومة قيمه وآرائه.. ومن ثم فثمة مساحة كبيرة في قضية الانتماء هي اختيارية، وإرادية، وقابلة للتغيير والانتقال.
ومن ثم بقى سؤال ترتيب العلاقة بين هذه الدوائر، لا سيما على المستوى السياسي؛ هوية الدولة. فمن الواضح أن المجتمعات العربية أو معظمها لم تشترك مع النخب كثيرًا في معاناة إشكالية الهوية، بقدر ما تلقّت قدرًا مع الإشكاليات الحياتية الناجمة عن تداخل أنظمة الإدارة والتشغيل.. ذلك التداخل بين الموروث والوافد الذي عرفته الشعوب بوصفه إشكالية فاعلية أكثر منه إشكالية هوية.
لكن هوية الدولة بقيت هي الإشكال الأكثر إشارة للصراع الفكري والسياسي في عالمنا العربي، ومن ورائه عالمنا الإسلامي الأكبر. فهل الدولة هي منتهى انتماء ذاتها؛ بمعنى الاكتفاء بالقطرية والاستغناء عن أي انتماء معنوي وسياسي آخر أوسع من الدولة؟ أم إن لها انتماءً أكبر للأمة العربية من المنظور القومي؟ أم إن لها انتماء أوسع من ذلك المنظور الديني العقدي، ومن المنظور الحضاري إلى الأمة الإسلامية؟: ولقد أخذ كل طرح من هذه الطُروحات الثلاثة مسارًا مشكلًا آل بالقضية إلى مآلات غاية في السوء.
فالطرح القُطريُّ يقاسي اليوم متوالية التفكيك والتفتيت للدولة العربية على محاور الطائفية، والأيديولوجية (الإسلامية- العلمانية)، وعلى محور أخطر بين وطنيين غير قطريين، وقطريين يمارسون التبعية لقوى خارجية ممارسة دموية على أرض الواقع. إن الأقطار العربية التي لفظت القومية بعد فشل الناصرية والبعثية والبومدينة والقذافية… وما آلت إليه أحوال مصر منذ عهد أنو السادات، وحال اليمن.. وبالأخص القضية الفلسطينية منذ أوسلو..هذه الأقطار تحولت لتنضم اليوم إلى مجموعة الدول التابعة خارجيّا المتسلطة داخليّا، ما تفاقم إثر الربيع العربي وتحوله إلى خريف عاصف. ومع ذلك، فالتشبّث بمقولة الدولة القطرية والتضامن بين النظم المتشبثة بها لا يزال هو عنوان اللحظة، وهي اللحظة التي يغلب عليها العناد ضد التحول التاريخي من جهة، والاستبداد بتحديد المصير من قبل الأنظمة الهشة من الجهة الأخرى.
بدورهم القوميون تعرضوا لانتكاسات متتالية أذهبت الكثير من قوتهم على التأثير في مسار الدولة، فلم تكن نكبة 1948 ونكسة 1967 سوى قمة وقاع تأرجحت بينهما الحركة القومية- الأولى وقعت بها لأعلى مراحلها، والأخرى هوت بها إلى مكان سحيق، ثم لم تلبث الضربات أن توالت منذ كامب ديفيد المصرية فاحتلال الكويت، وأوسلو الفلسطينية والأردنية والسورية، فاحتلال بغداد.. ولم تأت محطة الثورات العربية 2010-2011 إلا والقوميون قد سلمّوا قيادتهم للقطرية التابعة، بصفة أساسية، وأعلنوا نهاية الحلم العربي؛ حلم الوحدة، وشرعوا يحوّلون مطالبهم إلا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ديمقراطية قطرية أو عدالة اجتماعية قطرية.
بقي الإسلاميون في الساحة في مواجهة الدولة القطرية ونظمها الحاكمة.. وإذا كان الإسلاميون –كغيرهم- تعرضوا لصحوة ونكبة أكثر من مرة في معظم الأقطار العربية والإسلامية، فإن الثورات جاءت إليهم بما يشبه عملية البسترة الأليمة والمزعجة؛ إذ ألهبت حماسهم ورفعت من شأنهم ومطامحهم ومواقعهم ثم مرة واحدة هوت بهم إلى غياهب الاستهداف الدموي والقمعي الرهيب.
وعلى الرغم مما حملته المرحلة الأخيرة إلى الإسلاميين ومشروعهم من ضربات قاصمة فإن الساحة العربية لا تكاد تعترف بقوة على الأرض سوى: الدولة-القطرية بقيادة عسكريين وأنظمة شائخة، في مقابل تنظيمات الإسلاميين وجبهتهم المتداعية.
هذا المآل العربي يعني أن اللحظة الراهنة ظاهرها صراع دائرتي انتماء: قطرية وإسلامية، ولكن جوهرها، صراع الذات على نفسها ومع نفسها، في إطار من صراع آخر بين استقلال عن الأجنبي ولو باستعدائه، وبين تبعية له ولو باستدعائه. والأمر صار من التركيب والتعقيد بمكان بحيث لا محل لمضي للأمام قبل أن يحرَّر هذا الموضع للنزاع.
وأول ذلك أن الإسلاميين من حيث التعريف ينتمون ويدعون للانتماء إلى الأمة الإسلامية كدائرة انتماء عقيدي أولًا تؤطر الانتماءات الأخرى، وتجُّبّ ما يعارضها منها كالانتماء العلماني القطري أو القومي، ولكن الحقيقة أن التيارات والفصائل الإسلامية ليست هي نفسها متحدة ولا تمارس ذلك الانتماء بشكل منسق أو مجمّع فضلًا عن أن يكون موحدًا ومن ثم فمن حيث الممارسة فالإسلاميون أقرب إلى القطرية منهم إلى “الأمتية” الإسلامية.
أما القطريون الرسميون اليوم، فبالرغم من تشديدهم على مقولة “الدولة الوطنية” و”الوطنية السياسية والشعبوية”، فإنهم يمارسون أمرين غاية الخطورة؛ أحدهما فتح المجال أمام الخارج ليحوز موقعًا عليّا في جسم هذه الدولة؛ اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ثم ممارسة دور ثقافي خطير تجاه الإسلام وثقافة الشعوب المتعلقة بالإسلام. وهذان الأمران خطيران جدًّا؛ لأن معناهما الجامع؛ خلخلة الثابت الداخلي لصالح الهيمنة الخارجية عليه.. ويصعب تخيل ما يمكن أن يترتب على ذلك من صراعات مريرة، واضطرابات لا حدود لها. إن تحريك التغيير في الهوية والمرجعية والثقافة الإسلامية، في ظل حالة تفكك وانقسام، تليها هجمة خارجية واضحة المطامع، لا يعني سوى شيء واحد، مشروع انهيار للدولة العربية من داخلها ومن خارجها.
ومن ناحيتهم، لا يقدم الإسلاميون حتى اليوم مشروع إنقاذ مقابل، خاصة في ظل معاناتهم من أنفسهم ومن خصومهم في الداخل والخارج. وما يقدمه الإسلاميون يتراوح بين تفجير الطائفية، التي هي مراكمة في المسار القطري المتهاوي وأشد، أو التشرنق على الذوات الصغيرة والانكفاء على التكوينات الفرعية، وهي من نوع الطائفية وإن بدت مسالمة أو مسلمة بالواقع، أو خيار ثالث؛ وهو ما يهمنا في هذا المقام؛ وهي إعادة النظر في الموقف من القطرية إلى جوار الفكرية الإسلامية.
ثمة اجتهادات إسلامية صاعدة في السنوات الأخيرة، تعيد النظر في الموقف من “الدولة” من المنظور الإسلامي ما بعد الثورات وتداعياتها، أو الموقف من النظام السياسي، أو من نظام الحكم كما يتصوره الإسلاميون، وتتضمن بعض هذه الاجتهادات تسليمًا بأمور من قبيل القطرية –ولو مرحلّيّا- ومن قبيل المواطنة، والمشاركة، والتعددية.. نزولًا مع الواقع وإمكانياته.. وفي هذا عودة مهمة إلى يمكن تسميته بالواقعية الإسلامية التي لطالما لاقت مطاردة وانتقادا من قبل إسلاميين وعلمانيين على حدّ سواء.
ولكن ما علاقة ذلك كله بقضية الهوية وتحولاتها، وبفكرة دوائر الانتماء المتحاضنة؟
إن الاجتهاد الفكري المنتظر في ظل هذه التحولات يتعلق بكيفية احتضان التأصيل الإسلامي والاجتهادات الفقهية المعاصرة لمفهوم وواقع الدولة الوطنية وكيف يتم ترتيب علاقات الانتماء ما بعد القطرية بصورة مرحلية تشمل على إرجاء مواقف ومسئوليات إلى حين تتوافر إمكانيات واقعية، وكذلك إعادة تكييف مسائل انتمائية وتضامنية بحيث يمكن معالجتها كقضايا أمن وطني وقطري لا تنحصر داخل الحدود القطرية..؟ وكذلك كيف يمكن تحقيق المقاصد الانتمائية والولائية والتضامنية ومقاصد النصرة الإسلامية من أرضية قطرية مرحلية رعاية لميزان المقاصد والوسائل، من ناحية، وتطويرًا لفقه الدولة القطرية نفسه بعد أن أعلنت النظم الحاكمة وفقهاؤها إفلاسهم في هذا الصدد؟!
ويتصل بذلك إلحاق قضايا الهوية “التواصلية” بهذه الأسئلة عن الهوية السياسية.. فإن هوية الدولة لم تعد وحدها على طاولة صراع الهويات بعدما بزغت بوادر انتماءات سيبرانية عابرة للحدود الدينية والسياسية، ولا تزال تحت التشكل والتماثل للعيان…إن هذه الناحية تمثل نوعًا جديدًا من قضايا “أمن الهوية” وتحولاتها الجديدة بالتفكير والتدبر.
*****

(*) المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى