دورة تفاعلية في التعامل مع مفاهيم المرحلة الانتقالية وإزالة اللبس عنها

دورة تفاعلية في التعامل مع مفاهيم

المرحلة الانتقالية وإزالة اللبس عنها

إعداد: أ.ماجدة إبراهيم(*)

28/05/2011

 

على مدار أمسيتين (15- 16مايو 2011) عقد مركز الحضارة للدراسات السياسية ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة دورة تعريفية تفاعلية تحت عنوان: “التعامل مع مفاهيم المرحلة الانتقالية وإزالة اللبس عنها”، شملت الدورة منظومة من المفاهيم المثارة والمطروحة على أجندة النقاش العام في مصر والمنطقة العربية خلال هذه المرحلة الثورية والانتقالية.

 

افتتحت الدورة د.نادية مصطفى بإشارتها لأهمية ظاهرة الدورات التوعوية والتثقيفية في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الوطن، وما تعكسه من حالة حراك: فكري ومجتمعي وسياسي… وأن الفاعل والمستهدف الأول من هذه الأنشطة والدورات (باختلاف وتنوع القائمين عليها) هو الشباب الذين هم عماد الأمة وبناة الوطن.

وشملت محاور هذه الدورة المركزة خمسة منظومات من المفاهيم شكَّلت مداخلات الأساتذة المحاضرين بها وفق الترتيب التالي: إعادة تعريف السياسة والسياسي، منظومة مفاهيم الانتقال والتغيير والاستقرار، والعلاقة بين المدني والديني والسياسي، الفتنة والخروج على الحاكم، الدولة والمجتمع والأمة، أنماط التنمية والتحديث، والنخب والجماهير.

وباعتبار المفاهيم ذات موقع محوري من اهتمامات المركزيْن بمرجعيتهما الحضارية، وباعتبار المفاهيم أيضًا مرتكزًا للأفكار والمشروعات اللازمة للنهوض بمصر، كانت مقدمة الدورة حول أهمية المفاهيم وكيفية التعامل معها؛ حيث أبحر بنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في عوالم مفاهيم ثورة 25 يناير وما غيَّرته في عوالم الأشياء والأفكار والأحداث والمؤسسات، وكيف تغيرت المفاهيم ذاتها وتغير عالمها حين بُنيت على أرض أحداث الثورة.

فنجد الأشياء المعتادة تغير مفهومها: فمثلاً تغير مفهومنا عن “ميدان التحرير” بعد الثورة عما قبلها؛ فصار رمزًا للتحرر والثورة على الاستبداد. وتغيرت المفاهيم فارتدت ثوبًا مبهجًا من معاني: الأمل والعدل والكرامة…

هكذا بدأت منظومة المفاهيم الانتقالية في التجسد فانتقلنا من حالة مفاهيم: “كفاية”، “اتخنقنا”…، إلى حالة مفاهيم: التغيير، الحرية، الكرامة، …

وظهرت عبقرية ثورة الشباب في نقلها لمفاهيم التغيير والانتقال من الواقع الافتراضي في “Facebook” إلى الواقع الحقيقي، فبنى الشباب مقدمات مفهوم الإصلاح على أرض الميدان بمعادلة بارعة للخروج من ثنائية الإصلاح من أسفل أم من أعلى (التي كثيرًا ما ترنح بين طرفيها الأساتذة والمفكرون).

فخلال ثمانية عشر يومًا في الميدان (من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011) أعاد الشعب المصري بناء مفهوم الثورة على طريقته الخاصة حيث:

– تشكل نموذج أشبه بـ”المدينة الفاضلة”: تعدد، تعايش، شبكية، تنظيم…

– تم ابتكار ما يمكن تسميته “بالملف المضغوط” يحمل للمجتمع مفتاح حل أزماته في مختلف المجالات بحيث تكون العودة لحالة الميدان شفرة فك هذا الملف للتعامل مع أزمات الوطن المحتقنة في مرحلته الانتقالية (الفتنة الطائفية، الأزمة الاقتصادية، المطالب الفئوية، الفوضى الأمنية،…).

فإذا كانت “المرحلة الانتقالية” بطبيعتها تمثل مفهومًا يحمل معاني: الحيرة والتداخل، فهي كذلك مرحلة تتسم “بالتأقيت” لن تدوم ولكن علينا حُسن التعامل معها وفك الالتباس بين مفاهيمها للولوج بأمان للمرحلة المطلوبة من الاستقرار والعمران.

وبانتقال غير ملتبس، نقل د.سيف عبد الفتاح حضور الدورة من مقدمته إلى المحور الأول من الدورة حول السياسة وإعادة تعريفها وعلاقتها بثلاثية مفاهيم التغيير والانتقال والاستقرار في مداخلته التقديمية التي أكد في ختامها على أن السياسة هي “علم إدارة إرادة الشعوب” وهي “علم إدارة التعدد” تعلمنا الحيطة من مفاهيم خبيثة تعمل في خِلسة على هدم الوطن وتآكل خلاياه ببث مفاهيم الفُرجة واللامبالاة والفرقة ومفاهيم الاشتباك و”الشنكلة”. فأمسكت د.نادية مصطفى طرف الخيط الناظم للدورة بإحكامها المعتاد فربطت نسيج منظومة مفاهيم الثورة والانتقال بمفهوم السياسة مؤكدة أن نموذج الثورة المصرية نموذج حضاري غير تقليدي؛ فالثورة التي أطلق شرارة بدءها الشباب كان قوام قوتها جموع الناس الذين أكدوا على أرض الواقع أن السياسة لم تعد النظام السياسي من أعلاه، بل السياسة هي معاش الناس بهمومهم وأحلامهم والقيام على أمورهم بما يصلحها.

إنه المعنى الحضاري للسياسة كما أكدته الثورة المصرية في 25 يناير، كما هو المعنى الحضاري الإسلامي للسياسة.

وحتى لا تتحول المرحلة الانتقالية إلى الثورة المضادة، وحتى ننتقل لمرحلة الاستقرار الصحي لا الجمود، لابد من التعويل على “الناس” أنفسهم فهم حجر الزاوية لتحقق معاني “التغيير الحضاري”؛ بتغيير قيم وهياكل النظام الفاسد التي أرّقت حياة الناس في كل مناحيها.

وعلينا كأفراد (يكوِّن مجموعنا جملة الناس/ الشعب المصري) أن يعي كل منا خطورة المرحلة فلا يكون بأي درجة جزءًا من الثورة المضادة بسلبيته أو تقصيره فيما أوكله الله عليه من “ثغر”. وعلى الجموع لا سيما جموع المثقفين والنخب الفكرية والأكاديمية أن يسعى الجميع لتشكيل “تيار رئيسي” يجمع مجموعة القيم والثوابت المشكِّلة لهوية هذا الوطن والدافعة للاستفادة من إمكاناته.

ولما كان تشكيل التيار الرئيس الذي ختمت به د.نادية مصطفى مداخلتها بالدورة أحد دعائم نهوض مصر ما بعد المرحلة الانتقالية، ولأن التيارات الفكرية والسياسية في مصر تجمع بين ثلاثية مفاهيم المدني والديني والسياسي ولكن بشكل بدى التباسه وتنازعه فيما بينها، جاءت مداخلة د.سيف الدين عبد الفتاح في هذا المضمار شارحًا ومرشِحًا منظومة العلاقة بين هذه الثلاثة مفاهيم المتلبس كل منها بمفرده والملتبسة في علاقاتها.

فشفرة فك الالتباس المصطنع بين هذه الثلاثة مفاهيم المحورية (المدني، والديني، والسياسي) هي حُسن الفهم لمعاينها الحقيقية ثم حسن الجمع لها؛ فالدين في أصله يحمل للمجتمع الدور الناهض (العقيدة الرافعة) والمدني يتعلق بحياة الناس وعمرانها، ومقابله العسكري الذي يتعلق بحماية حياة الناس وحدود دولتهم ويكون دخوله للمدني مؤقت في اللحظات الحرجة كاللحظة الراهنة في مصر. أما السياسي، فهو كل ما اقترب من الإصلاح عنه من الفساد (بقول ابن القيِّم).

بهذا تتجلى وشائج الصلة الحميدة والمطلوبة بين المدني والديني والسياسي في منظومة ثلاثية متكاملة. وبترجمة ذلك في أرض الواقع المصري، نجد أن مثال الفتنة الطائفية لا يجوز فيه تقديم التعامل الأمني أو الديني بل لابد من التعامل المدني المجتمعي، تسنده ولا تفتأت عليه قيم الدين وأواصر المواطنة السياسية.

إن حُسن إدارة العلاقة بين المفاهيم المتصلة، كالديني والمدني والسياسي، ثم بناء تيار أساسي/ رئيسي في مصر يتسم: بالمرجعية الوطنية والشرعية التوافقية والجامعية على قيم وثوابت المجتمع والدافعية  والتفاعلية بالانفتاح على كل التيارات والأفكار وعدم إقصاء أحد أو طرف وطني منه، هذا كله هو مُحَقِق ضمانة الخروج من حالة الفتنة واستمرار نموذج الثورة.

هنا يتفاعل د.محمد صفار بدخوله ساحة بيان المفاهيم الانتقالية بمداخلته حول مفاهيم الثورة والفتنة والخروج على الحاكم. ولكن الحالة المصرية الراهنة لم يؤدِ فيها الخروج على الحاكم إلى فتنة بل كانت ثورة سلمية ذات مطالب عادلة حققت في ذاتها نموذجًا تاريخيًا يختلف عما خطته سطور المفكرين في الغرب والشرق من معاني ونماذج نظرية للثورة حالاً ومآلاً، كما يختلف عن النماذج التاريخية في التاريخ المصري على أقرب تقدير. لكنه استفاد بعبقرية من مخزونه التاريخي والحضاري متجنبًا كثيرًا من تحديات الثورات السابقة (سواء الثورة العرابية، أو ثورة 1919، أو انتفاضة 1977 التي لم تكتمل كثورة).

ولكن النموذج الحضاري المصري في ثورة 25 يناير 2011 حتى يتجاوز ويتغلب على شبح الفتنة الطائفية الراهنة، عليه التخلص من سلبيات نموذج الفتنة الأكبر تأثيرًا في الوجدان الجمعي لنا (وهي أحداث الفتنة الكبرى في أواخر عهد الخلافة الراشدة). ولعل أهم أسلحة التغلب على الفتنة يتمثل في قول الإمام علي –كرم الله وجهه- الفتنة هي اختلاط الحق بالباطل فلا يتضح أحدهما عن الآخر، وبالتالي يصبح علينا عدم الانخراط في أحداث الفتنة حتى تضمحل وتنقشع غمتها فنمر بوطننا بسلام من مرحلة الانتقال إلى مرحلة الاستقرار التي تتوطد فيها روابط الأمة وفاعلية المجتمع وبناء الدولة.

وبثلاثية النهوض والتكامل: الدولة والمجتمع والأمة، رسمت د.هبة رءوف عزت الخريطة الـﭽينية لكل من المفاهيم الثلاثة مزيلةً اللبس المصطنع حولها ومحللة لتراكم عوامل الزمن على كل منها. وأنه حتى تعود العلاقة المتكافئة البناءة بين المفاهيم الثلاثة، لابد من الوقوف على ثوابت كل مفهوم منها ثم مكنات اتساعه لأن يجمع أو يرافق غيره؛ فالمجتمع بمجموع طوائفه وتياراته وما يملكه من رأس مال اجتماعي وخلقي يبنى الدولة ويراقبها بمجموعة من الالتزامات والقواعد، والدولة تدير شئون المجتمع بمعايير تضمن قوة الدولة مع عدم تجبرها بأن تكون دولة بها صفة التداول في السلطة مثلاً. أما الأمة بمعانيها الجامعة الرابطة، فمفهوم مركب قد يقتصر على الجمع بين الدولة والمجتمع وقد يتسع ليشمل مجتمعات ودول ذات روابط ثقافية وحضارية محددة.

ولعل أكبر هموم تجمع الدولة والأمة والمجتمع هي أسئلة التنمية والتحديث عبورًا للمستقبل. لهذا جاءت مداخلة د.باكينام الشرقاوي بهذه الدورة في هذا الصدد مؤكدة على أن خلاصة الفكر التنموي تفيد بأن التنمية الحقيقية لابد وأن يكون جوهرها “الإنسان”، وأنه مع تباين أنماط ونماذج التنمية الناجحة في العالم لم يعد السؤال الأهم في التنمية هو ما النموذج التنموي الأفضل، ولكن السؤال هو: ما نموذج التنمية الأنسب لنا؟

فالذاتية عنصر مهم في بناء النموذج التنموي، وإن بقيت بعض معالم ودورس عامة يمكن الاستفادة منها من الخبرات العالمية في التنمية؛ فليس كل ما يأتي من الخارج سيئًا كما أنه ليس خيرًا مطلقًا.

أما مفهوم التحديث، فقد عافى عليه الزمن؛ إذ هو منظومة ثقافية تُنَمط المجتمع الآخذ به على نمط الخبرة والقيم الغربية الحداثية بينما المجتمعات البشرية ذات خبرات وقيم متنوعة.

هكذا انتقل الفكر التنموي عبر تطوره إلى الاقتراب أكثر فأكثر والتركيز على دور الجماهير وفاعليتهم واشتراط التحام النخب بالجماهير وعدم احتكار النخب الحديث حول التنمية بل أن تطال آثار وثمار التنمية الجماهير كأولوية.

وهكذا انتقل التفاعل المفاهيمي داخل هذه الدورة إلى محورها الخامس والأخير عبر مداخلة أ.محمد كمال محمد حول النخب والجماهير في مرحلة الانتقال والتغيير.

حيث استعرض تطور النظر والتناول لهذه الثنائية (النخب- الجماهير) في الفكر السياسي وصولاً لمبدأ أن التناول لها كثنائية حادة جامدة غير صحيح؛ فعلاقة النخب والجماهير قوامها المشاركة والتكامل وإلا فسدت.

وخلال استعراضه لمجموعة من التساؤلات والإجابة عنها حول طبيعة هذه المنظومة العلائقية بين مفهومي النخب والجماهير، رابطًا كل سؤال منها بأحداث واقع الثورة المصرية، أكدت مجموع إجابات تساؤلات المحاضر وكذا جميع أمثلته الواقعية على عدة أمور في علاقة النخب بالجماهير كعلاقة صحية تبني الوطن وتُحدث التغيير: أنه لا ثورة بدون جماهير كما لابد لها من قدر من النخب حتى تكتمل، أهمية وجود نمط العلاقة القائم على وجود جماهير قوية ونخب قوية تُبث خلالها شبكات من الثقة المتبادلة بين النخب والجماهير معتمدة على ممارسات أصيلة من داخل المجتمع ومن واقع خبرته الحضارية والمجتمعية.

وبتحقق المنظومات الخمسة من المفاهيم التي تناولتها هذه الدورة، تنتقل مصرنا بثورتها من المرحلة الانتقالية آمنة إلى المرحلة النهضوية إن شاء الله.


(*)باحثة بمركز الحضارة للدراسات السياسية.



 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى