هوية مصر: الدولة والنظام والمجتمع

 يشهد تاريخ مصر أن هويتها ظلت حاضرة دائمًا في حوارات الفكر السياسي المصري (بل العربي والعالمي)، وخاصةَ خلال مراحل الانتقال من عصر إلى عصر، وهي جزء من هوية “الفضاء العربي والفضاء الإسلامي”. وقد كانت التحولات في مصر ومن مصر ونحو مصر دائمًا في قلب تحولات هذين الفضاءين تأثيرًا وتأثرًا،

وكانت دائمًا قضية الهوية في القلب من هذه التحولات، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وفي ارتباطاتها بالأبعاد السياسية والاقتصادية والمجتمعية على حدٍ سواء.

 

ولعلنا نتبين ما سبق، على ضوء استدعاء حوارات الوافد والأصيل، التراث والمعاصرة، الخصوصية والعالمية، التقليدية والحداثة، الإسلامية /العلمانية، الإسلامية/ العروبة. ولعلنا نتذكر أيضًا مفاصل تاريخية فارقة على هذه الحوارات خلال القرنين الأخيرين. على الأقل، الحملة الفرنسية، الاحتلال البريطاني، ثورة 1919، ثورة 1952، وأخيرًا ثورة 25 يناير 2011.

 

ولعلنا أيضًا نستطيع أن نميز في حوارات الفكر السياسي بين تيارات متنوعة وبين خريطة الحركات والقيادات السياسية وتوازنات القوى فيما بينها وبين النظم الحاكمة في مصر والقوى الخارجية المؤثرة في السياسة المصرية داخليًا وخارجيًا.

 

إن تراكم أنماط هذه الذاكرة ودلالاتها، لابد وأن يكون حاضرًا ونحن نتحدث الآن، بعد ثورة 25 يناير عن هذه القضية –الهوية- بل لابد وأن يكون حاضرًا ونحن نتساءل: متى ولماذا بدأت هذه القضية في الظهور؟ وهي التي ظلت كامنة طوال المشهد الثوري الأول والثاني، أو بمعنى أصح ظلت حاضرة على نحوٍ إيجابي، حيث إن نموذج الثورة من ميدان التحرير كان نموذجًا حضاريًا وصفه البعض بأنه تعبير عن أقصى أشكال هوية مصر اكتمالاً؛ ذلك لأن قضية هوية مصر لا تختص بالمجتمع فقط ولكن بالنظام العام، وهي ليست هوية الحكومة ولكن توجه حضاري عام على ضوء تاريخ وثقافة شعب مصر وهو توجه حضاري عربي إسلامي. وإذا كانت هوية الدولة قضية أكثر تركيبًا من مجرد العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، فإنه يجب الاقتراب منها بمنهج متعدد المداخل؛ تاريخي، جغرافي، ديمجرافي، ثقافي، ديني. فإن فهم طبيعة الهوية (مصادرًا ومحتوى وكعملية تطورية ذات نواة صلدة) ضروري لفهم تداعياتها على مجالاتٍ عدة: الخصوصية الثقافية، المواطنة، النظام العام، وكذلك دوائر السياسة الخارجية ودوائر الانتماءٍ. وقد يسقط فهم هذه المجالات في مناحي اختزاليةٍ جزئية إذا ما انطلق من المنظورات التقليدية (الحداثية)، وقد ينحى منحى آخر –حضاريًا- إذا ما انطلق من منظور حضاري رحب يتجاوز الثنائيات المتضادة.

 

وتبين المؤشرات خلال المشهد الثوري الأول أن قضية الهوية لم تقفز إلى السطح ولم تنعكس في الأهداف المعلنة، إلا أن المشهد الثوري الثاني بدأ يسجل بعض هذه المؤشرات، والخاصة بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين وذلك من مدخل وضع الإخوان والسلفيين، ويقول البعض أن جمعة النصر التي كان الشيخ القرضاوي إمام صلاتها هي التي استدعت على السطح هذا الفهم لموضع هوية الدولة من الثورة حيث رأى البعض في إمامة الشيخ للصلاة اتجاه الثورة توجهًا دينيًا –وفق قوله- إلا أن هذا الاقتراب من هوية الدولة هو اقتراب تجزيئي تفكيكي وعلماني لا يفهم طبيعة الثورة ذاتها. وسرعان ما جاءت أحداث البحرين وليبيا لتبين بعدًا آخر لهذه القضية، ألا وهو دائرة انتماء مصر الإقليمية (العربية) ومدى التفاغل بينها وبين الدائرة العالمية، ناهيك عن الوطنية بالطبع.

 

إذن، كيف ظهرت هذه القضية، ولماذا؟ وما دلالاتها في هذه المرحلة الانتقالية؟ وما مآلها؟

 

كانت جدالات ثم حوارات “التعديلات الدستورية” ولمدة أسبوعين (من جمعة الاستمرار إلى جمعة الوحدة الوطنية إلى جمعة الاستفتاء) ساحة لظهور هذه القضية، على نحوٍ ضمني في البداية ثم على نحوٍ ظاهر وصريح حين اتضحت طبيعة التيارات السياسية المصطفة وراء نعم أو لا للتعديلات، وحين تحولت مواقف المدافعين عن لا من مجرد الاعتراض على مضمون البنود المعدل إلى الحديث عن الكليات أي توقيت التعديلات والخطة الزمنية للتغيرات بعد الاستفتاء والتي تقرها هذه التعديلات ومآل الساحة السياسية في ظل تنفيذ هذه الخطة. هنا، تجلت واتضحت مآلات أخرى، وخاصةً من واقع المخاوف والفزاعات التي امتلأ بها خطاب المدافعين عن لا للاستفتاء. ومن أهم هذه المخاوف انفراد القوى المنظمة، أي التيارات الإسلامية، في وقت لم تستكمل فيه القوى الجديدة تشكيلاتها ولم تستعد القوى المنظمة الجزئية القديمة عافيتها. والخطير أن هذه المخاوف قد اقترنت باستعلاء “مدني ليبرالي” نحو ما هو إسلامي، بشكل يستبطن أن الحرية والديمقراطية لا يمكن أن تستقيم مع “الديني”. والجدير بالذكر أن الموافقين على التعديلات برز خطابهم الداعي إلى “نعم” كرد فعل لصعود خطابات المدافعين عن “لا”، والتي اقترنت بهجوم على “التيار الإسلامي” باعتباره حليف الحزب الوطني المستفيدين من التعديلات.

 

ولقد كشف الأسبوع السابق على الاستفتاء كيف تحول الموافقون على التعديلات إلى مدافعين عن “التيارات الإسلامي” في إطار الدفاع عن التعدد والتنوع والتداول من ناحية، كما تحولوا من ناحية أخرى إلى محذرين من مخاطر هذا الاستقطاب الجديد الذي يفجره الرافضون للتعديلات ومع الاعتراف بأن ليس كل الموافقين على التعديلات من التيارات الإسلامية أو بقايا الحزب الوطني، وأن ليس كل الرافضين لها من التيار التقليدي العلماني ليبراليا أو يساريًا، إلا أنه يجب القول إن الحوارات المعلنة في الفضاء العام والتي تستهدف الناس ولا تمثل كل الناس هي التي خلقت هذا الاستقطاب وهذا المناخ. وشتان بين حرية الرأي في ظل الديمقراطية وبين التشتت وعدم الاتساق لدرجة وصلت للقول إن الصورة لم تتبلور بعد في ذهن الكثيرين في حين أن الأمر أبسط من ذلك بكثير لو كانت فزاعات الحزب الوطني القديمة قد توارت من خطاب مدَّعي الدفاع عن الديمقراطية.

 

فإن الحاضر الغائب في هذه المواقف (الداعية للاستفتاء بلا) كان كيفية التأثير في هوية “النظامبدعوى أن “المدنية” هي جوهر الديمقراطية. علمًا بأن المدنية المقصودة لدى أصحاب هذه المواقف هي العلمانية، في حين أن “الموافقون” على التعديلات قد استدعوا التلازم بين “الهوية” وبين الديمقراطية.

 

وبدون تكرار الحديث عن مؤشرات سبق ذكرها في المشهد الثالث، يجدر القول إن قضية الهوية” لصيقة بقضية الحرية والعدالة الاجتماعية ويكفي هنا طرح الأسئلة التالية التي يجب أن تحكم التفكير في هذه القضية الآن على ضوء السياق المحيط بها بل ويجب أن يتحدد توافق حول المفاهيم المتصلة بها:

 

1-    ما هو المقصود بالدولة المدنية؟ وما المقصود بالتيار الديني؟

 

2-    ما الفارق بين “الإسلام السياسي” وبين السياسة من مرجعية إسلامية، أو المجتمع أو الاقتصاد… من مرجعية إسلامية؟

 

3-    ما العلمانية المقصودة، وهي ذات أشكال مختلفة؟ وما هو النمط الذي لابد وأن يستجيب لهوية المجتمع، بفرض أنها أضحت هوية للنظام؟

 

4-    ما الفارق بين هوية الدولة، المجتمع، النظام السياسي؟

 

5-    وما الفارق بين هوية المجتمع وهويات التيارات السياسية؟

 

6-    ما الفارق بين مواقف النخب والتيارات ومواقف “الأهل” والناس؟ وما درجة تعبير كل من “التيارات” السياسية عن “الأهل”؟

 

7-    هل هوية المجتمع ثابتة، وهل هوية النظام متغيرة؟ وهل هوية المجتمع محسومة لدى “الناس” أم مختلف عليها؟ وهل هوية النظام هي المختلف عليها بين التيارات السياسية؟

 

8-    وهل الدستور يحدد هوية المجتمع أم هوية النظام؟

 

9-    وهل يمكن أن تكون هوية النظام بعيدة عن هوية المجتمع؟

 

10- ومن الذي يحدد هوية الدولة والمجتمع والنظام في الدستور؟ وما وزن النخب مقارنة بالأهل؟

 

إن هذه الأسئلة راوحتني كأستاذة في العلوم السياسية (من منظور حضاري) أثناء متابعتي الجدالات والحوارات والمونولوجات والمناظرات بين النخب في الفضاء العام (الإعلام والندوات والمحاضرات).

 

وقد كان دافعي لتسجيلها هو ملاحظتي مدى الارتباك أو الانفعال الذي ساد هذا الفضاء، سواء من حيث الإعلان صراحة أو التنويه ضمنًا عما هو كامن وراء قبول أو رفض التعديلات، كذلك ما يمكن أن تحدثه المفاهيم المستخدمة (المدني، التيار الديني…) من ارتباك لدى “الأهل” الذين يريدون الحراك والخروج من صمتهم فإذا بهم أمام نخب تفتعل جدالاً يدلي فيه بصوته كل من يعرف ومن لا يعرف وعلى الملأ، في الإعلام الذي تبارى “لخدمة الثورة” ولكنه في الواقع تبارى في إرباكها بحجة “حرية الرأي وتعدده”. وهو الأمر الذي جعلني أكرر التساؤل: هل المرحلة الحالية من الثورة تحتمل هذا الاستقطاب السياسي في وقت ما زالت فيه التحديات الآنية تواجه الثورة على مستوى الشارع المصري؟

 

وفي مقابل هذه الظاهرة الصوتية المربكة والمشتتة، كنت أرى الذين يصبون طاقاتهم في العمل المثمر لتدعيم قيم الثورة وتوسيع نطاقها ولا يهدرون طاقاتهم في جدالات سياسية مجردة، وهم يعتقدون أن نموذج الثورة الحضاري قد حسم أي نقاش حول “هوية مصر” لأنه جسد نموذجًا حضاريًا يأمل كل مصري أن يكسو وجه مصر كلها، أو بمعنى أدق أن تستعيد مصر هذا النموذج الذي هو نموذجها الأصلي، لأنه نموذج أهلها وليس نموذج نخبها. ولهذا تساءلت كيف يمكن الجمع بين العمل المدني والعمل السياسي على التوازي لأن كل منهما في حاجة للآخر، ولكن في مناخ صحي لا يستعيد آثام مناخ نظام مبارك؟

 

وللإجابة عن الأسئلة المطروحة وبمعنى أدق لحفز الإجابة وتنظيم حوار منظم علميًا وفكريًا وسياسيًا حول المفاهيم المتصلة والتعريفات الإجرائية اللازم تقديمها للناس، في حراكهم المتميز للفهم وللممارسة، كل ذلك سعيًا “لتحديد” “المخاوف” والتفكير في التطمينات، سأكتفي هنا بالإحالة إلى نتائج حلقة عصف ذهني مهمة نظمها مركز الحضارة، وكانت تحت عنوان “هوية مصر: الدولة ). وهي كما يلي:*والمجتمع“(

 

جددت ثورة الخامس والعشرين من يناير الجدل حول هوية مصر بشكل صريح وضمنى، وهوما وضح فى تصاعد الخطاب العلمانى بمكوناته الليبرالية واليسارية برفض التعديلات الدستورية التى تمهد إلى إجراء انتخابات نزيهة وصياغة  دستور جديد بعد هذه الانتخابات، بالإضافة إلى  ماوقع من حوادث فتنة طائفية بعد أن سعد الجميع بتلاحم كافة مكونات الشعب فى ميدان التحرير، ودعوة قلة- وإن كانت ذات صوت عال عبر الإعلام بأشكاله المختلفة عبر حملات منظمة – إلى تغييرالمادة الثانية من الدستور والتى تنص على أن  الاسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.  وهو الأمر الذى يستهدف النواة الصلبة الحاضنة لهوية مصر: إسلاميتها وعروبتها.

 

ومن الضرورى التأكيد على أن  الحديث عن الهوية المصرية لا ينحصر في مسألة الدين (مسلم /مسيحى). فالهوية لا تقتصر على الجانب الدينى بل هناك التاريخ واللغة والثقافة والفكر والقيم الحاكمة التى ارتضى المجتمع أن تحكم سلوكه وتوجه مساراته فالقيم هنا هى موجهات السلوك وضوابطه وموازينه، وحامية البناء الاجتماعي ومفعّلته. كما يجب التمييز بين عدة مستويات عند الحديث عن الهوية : هوية الدولة، هوية المجتمع،هوية النظام السياسى. فالقول بأن الديمقراطية والليبرالية والعدالة والمدنية والنهضة هى التى يجب أن تشكل ملامح هوية مصر الآن وجهة نظر تتعلق بهوية النظام السياسى، كما أن المكونات الخمس تحتاج لمن يملأ مضامينها، والذى يجب أن يحددها هوالتيار الرئيس بما يحمله من تاريخ وثقافة وفكر، يتمثل هذا التيار الرئيس فى الجماهير ونخبتها المنطلقة من ثوابت هذه الجماهير والمعبرة عنها. فمن يصيغ هوية النظام السياسيى هو هوية المجتمع والدولة، وعكس هذه المعادلة معناه معاداة الهوية الأصلية للملايين وهو ما مثل أحد أسباب الثورة المصرية حيث سعى النظام السابق حثيثًا لطمس هوية الشعب فلم يكن معبرًا عنها فى توجهاته وسياساته الخارجيه والداخلية.  

 

وقد أكدت وكشفت ذروة الثورة (25 يناير- 11 فبراير) عن النواة الصلبة الحاضنة لهوية مصر بكل تنوعاتها ومشاربها.فالغالبية العظمى التى شاركت فى الثورة تعبر عن مجتمع مصرى متدين- بمسلميه ومسيحيه -عروبى، يستوعب كافة ألوان الطيف السياسى من الليبرالين واليساريين. وضح ذلك فى مواعيد المليونيات فى أيام الجمعة وأقامة الصلوات فى ميدان التحرير، ومشاركة مسيحيين من الكاثوليك والإنجيليين أقامو صلواتهم فى الميدان بالأضافة إلى بعض الأرثوذكس،  مع تذكر منع البابا شنودة لطائفته من المشاركة صراحة وتأييده للرئيس المخلوع وقوله له ” احنا معك”على  شاشات التليفزيون، كما أن مشاركة المسيحيين فى باقى المحافظات فى الثورة كانت مشاركة ضئيلة للغاية وانعدمت فى معظم محافظات الصعيد خصوصًا أسيوط. أما العروبة فاتضحت فى استلهام الثورة التونسية ودعم الثورة الليبية معنويًا وماديًا بالمساعدات الطبية فيما بعد.

 

تجاوزت الثورة فى تلك الفترة الفصل المفتعل بين مكونات الشعب المصرى فتجاور رقيق الحال قاطن الأحياء الشعبية مع ميسور الحال من أهل الأحياء الراقية،وشارك فى الثورة أهل العاصمة والأقاليم من خلفيات ثقافية وفكرية ومجتمعية وسياسية متعددة تناغمت وانسجمت فى عمل ثورى مبدع.

 

هذه الحالة مثيرة للإعجاب لكنها عند أغلبية المتابعين لم تدم، بوصفها لحظة فريدة استثنائية أو إتيكيت ثورى تنازل الكل فيه عن تحفظاته ضد الكل، وليس تغييرًا جذريًا في الرؤى عند الجميع. إدامة هذه اللحظة الإستثنائية وجعلها طبيعة أمر يحتاج إلى جهد كبير، فالزخم الثوري في ميدان التحرير لم ينتقل بعد إلى المجتمع، و نحتاج إلى جهد منظم وعمل مخطط يتعلق بالتحول المجتمعي حتى لا ينفك المجتمع عن الثورة.

 

هذا الجهد المطلوب من جميع الأطراف تتحمل الأغلبية الجزء الأكبر من مسئوليته من خلال إدارة حوار مجتمعى على أرض الواقع يتمثل فى العمل المشترك فى القضايل المتفق عليها وهى قضايا تنموية ذات طبيعة عملية مترجِمة  للمحتوى المتفق عليه من شعار الثورة :الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، و دور الأقلية يتمثل فى المشاركة فى البناء و عدم الاستفزاز غير المبرر بزعم أن ما لم يأخذ الآن شيئًا فلن يأخذ شيئًا فيما بعد. وهو منطق التفاوض لا منطق الحوار. الحوار يحكمه وعي بمصلحة عليا، أما التفاوض فهو سعى للمصلحة الخاصة الفئوية فى مباريات قوى.  وفى هذا الإطار فإن رفض التعديلات الدستورية يخفى ورائه ترتيب يريد أن يحدد علاقة الدين بالدولة مرة واحدة وللنهاية لصالحه وفقا لتصور خاص به فى مواجهة إرادة الشعب، أي احتكار الحكم على التعديلات وهي معروضه لاستفتاء شعبي.

 

وينبغى التنبه إلى أن عدم استمرارالحالة التى ولدتها الثورة من تلاحم القوى المختلفة لا ينفى أن كميات من الطاقة  والفاعلين قد دخلت المجال العام السياسي.  وتحركت مراكز الثقل لتتجاوز القوى التقليدية ولم تنفيها، لكنهه صبت فى عافية النواة الصلبة للهوية المصرية. فالشباب اليوم يقدم نموذجًا مهمًّا وجديدًا بمرجعية متجاوزة، تتماهي في الهوية المصرية المتدينة المنفتحة.

 

إن مقولة النواة الصلبة الحاضنة: الإسلام والعروبة لاتعنى أن الهوية أمر ناجز بل إن مفاد وجود نواة يعنى لزوم وجود دوائر متنوعة متراكبة غير متنافية تحتضنها وتظللها وتحتفى بها النواة الأساسية؛ لأن تلك الدوائرإثراء لها. فالإسلام يمثل عقيدة للمسلم، وحضارة للمسلم وغير المسلم باعتبار أن الحضارة الإسلامية العربية شارك فى بنائها المسلمون والمسيحيون وغيرهم من أديان وأعراق مختلفة وهى التى تمثل الإطار الجامع لهذه المكونات. تلك الهوية ليست إقصائية استقطابية فضلا عن أن تكون مفجرة للصراعات فيما يصفه البعض بأنه ” هويات قاتلةإشارةً إلى مايثيره الانتماء الدينى من صراعات ووجوب تنحيته جانبًا، فإذا كان مثير للصراع فينبغى تجنبه، وهو دفن للرؤس فى الرمال خصوصًا إذا ما طُلب ذلك من طرف واحد وهو فى حالتنا المسلمين، فى حين أن الآخرين ينزلون الشارع ويعتصمون حاملين رمزهم الدينى.

 

وصفوة القول أن الثورة أكدت على لب هوية الأغلبية الصامتة التى أعلنت فى جلاء مركزية الإسلام والعروبة فى هوية مصر وأن العروة الوثقى التى تنعقد حولها هويتنا هى أن تكون مصر حرة مستقلة قوية. وهى هوية ذات مرجعية، وشرعية، و جامعة، وفعالة، ودافعة للعمل. وهذا هو السبيل للخروج من الاستقطاب ما بين النخبة – فالجماهير حسمت هويتها-   عبر صياغة خطاب للهوية من خلال مبادئنا وقيمنا وإطار واسع جامع،وهذه الجماهير  تستحق أن تجرى هويتها الإسلامية العربية فى الدستور بجميع مواده -وليس الثانية فقط- والقوانين والسياسات  مجرى الماء فى الورد عبر منظومة قيمه من أجل تحقيق الحرية والعدل والكرامة. وهنا يمكن أن تلتقى النخب الإسلامية والاشتراكية والليبرالية.

 

هذا، ولم يكن يخفى عني، طوال متابعاتي أحوال مصر من مدخل “الهوية”، ثمانية حضارية غير مسبوقة، وأقصد بها ثمانية أيام الجمع التي توالت على شعب مصر واحتضنت أحرار مصر، ولابد من التأريخ للثورة من خلالها. وهي: جمعة الغضب 28/1، جمعة الرحيل 4/2، جمعة الصمود 11/2، جمعة النصر 18/2، جمعة التطهير والخلاص 25/2، جمعة الاستمرار 4/3، جمعة الوحدة الوطنية 11/3، جمعة الاستفتاء 18/3.

 

وحين قفزت برأسها قضية الهوية خلال الأسبوع الأخير قبل الاستفتاء، تساءلت: ما الدلالة الحضارية لهذه الثمانية بالنسبة لقضية “الهوية”؟

 

وبقدر ما كنت أجيب أحيانًا بأن هذه الدلالة قوية وتحسم كل شكوك وما قد يترتب عليها بالنسبة لأمور كثيرة، بقدر ما كنت أبحث عن “المخاوف” التي قد تسببها هذه الدلالات لدى البعض من أصحاب المرجعيات الأخرى، وعن الضمانات اللازم توافرها حتى لا يشعر أصحاب أية مرجعية بالمخاوف في هذه المرحلة الانتقالية، شريطة ألا يبتدعوها أو يضخموها لأغراض “سياسية أنانية” ولكن يطرحوها للتشارك لأغراض التوافق الوطني الذي هو النواة الصلدة الأساسية لأي نظام عام ينتظم الجميع في إطاره –مهما كانت مرجعياتهم- محددًا قواعد التنافس والتداول في إطار هذا التوافق. دون وصاية من أحد على أحد وبدون إقصاء من أحد لأحد.

 

فهل تخلصنا من فزاعات الحزب الوطني ونظام مبارك عن التيار الإسلامي كله، وليس الإخوان فقط، لنسقط في نفس الفزاعات ولكن يرفعها هذه المرة “ثوار” وباسم الثورة التي جاءت للحرية والكرامة والعدالة للجميع؟ فهل يصبح الإسلاميون عن بكرة أبيهم من جديد موضع اتهام؟ ولمصلحة من؟ والأعجب أنه يتم الربط بين الإخوان وبين الحزب الوطني كضاغطيْن من أجل “نعم” للتعديلات؛ فأي حزب وطني يقصدون؟ وألا يتذكر أصحاب هذا الربط من أهل اليمين وأهل اليسار كيف نسقوا هم من قبل مع الحزب الوطني مستبعدين “الإخوان” مما سمي بالحوار الوطني تحت رعاية نظام مبارك؟

 

ولهذا كله يجب أن نتصدى بجدية وعلمية وبدون هوى لقضية الهوية في ارتباطاتها بقضيتي الحرية والعدالة الاجتماعية.

 

24 مارس 2011

 

أ.د. نادية مصطفى : أستاذة العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، ومديرة مركز الحضارة للدراسات السياسية.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى