نموذج جبهة المقاومة/ الصمود/ النصرة في طوفان الأقصى: سياسات، مخرجات، خيارات

مقدمة:

مرَّت الحرب الدائرة الآن بأربع مراحل: مرحلة 7 أكتوبر (إذ هي تعد مرحلة بذاتها بما فيها من حدث عظيم وتفاصيل مكثفة وآثار ضخمة) – مرحلة القصف الإسرائيلي الجنوني على غزة (7-27 أكتوبر) – مرحلة الحرب البرية (27 أكتوبر–23 نوفمبر) – مرحلة الهدنة الإنسانية (24 نوفمبر–30 نوفمبر). ونحن اليوم في المرحلة الخامسة: مرحلة تجديد الحرب البرية على غزة. وقد تابعنا –ولا نزال نتابع بمجريات هذه الحرب الكثيفة- يومًا بيوم، أو لحظة بلحظة.

وفي هذا المسار، قام مركز الحضارة بمتابعة الشهر الأول عبر ملفات أسبوعية تابعت أطراف الحرب الأساسية وتطورات مواقفها وتفاعلاتها، ثم أخرج المركز تقارير أخرى منها تقدير موقف بعد 45 يومًا من الطوفان والحرب (نُشر في 22 نوفمبر على الموقع الإلكتروني للمركز)، وتقريرًا تضمَّن تسجيلًا مهمًّا لمشاهد مرحلة الهدنة وأبعادها السياسية والدعائية والإنسانية الأخلاقية (نُشِر على موقع المركز بتاريخ الأول من ديسمبر)، ثم تقريرًا تحليليًّا مهمًّا قدَّمته أستاذتنا د. نادية مصطفى عن مآلات الطوفان بين مطرقة الحرب وسندان السياسية (نُشِر على موقع المركز بتاريخ 3 ديسمبر)؛ وذلك قبيل اندلاع المرحلة الجارية واحتمالات تطورات الصراع.

وهكذا، يأتي الشهر الثاني للصراع متحرِّكًا من الحرب إلى الهدنة المؤقَّتة لتبادُل أسْرى ومحتجزين إلى تجدُّد الحرب وانتقالها من شمال القطاع إلى جنوبه (حول خان يونس)[1]. والحقيقة أنني تحيَّرت في طريقة تناول هذه الساحة القلب في الصراع؛ ولكن بدا أن سؤالًا أساسيًّا عن الخيارات المتاحة أمام المقاومة وحاضنتها الصامدة ودائرة نصرتها في إطار السياقات – التطورات – الاحتمالات التي تحيط بالحرب الجارية وأطرافها، جدير بالاهتمام والبحث، وهو سؤال هذه الورقة.

ولترتيب التفكير للوصول إلى إجابة عن هذا السؤال، يمكن تصوُّر نموذج لهذه الجبهة، يتشكَّل من (أساس – أداء – أثر)، أساس: بمعنى التكوين الذاتي للمقاومة وحاضنتها ضمن سياقاتها المتحرِّكة، وأداء: بمعنى سياسات عسكرية وإدارات سياسية حكومية وإعلامية ومدنية، ثم الأثر عبارة عن ثمار ومخرجات متطوِّرة عبر الشهرين محل البحث مع التركيز على المرحلة الأخيرة، لنصل إلى بعض الاحتمالات أو السيناريوهات الأكثر احتمالًا؛ ومن ثم تصور للخيارات وشروط مواجهتها… وهذا ما يصلنا بسؤال المستقبل القريب: متى وكيف يمكن أن تتوقف هذه الحرب من منظور هذا الطرف (المقاومة / الصمود / النصرة)؟ وماذا بعدها؟

هذا سؤال مركب ولا تبدو الإجابة عليه بسيطة، لكنها محاولة لا بدَّ منها؛ من أجل تفكير ونقاش عميقين. وتتَّخذ محاولة الإجابة الترتيب التالي على ثلاثة محاور:

المحور الأول- مراجعة جبهة (المقاومة / الصمود / النصرة) وسياقاتها المحيطة.

المحور الثاني- التطورات وسياسات الجبهة وممارساتها.

المحور الثالث- المخرجات / التراكمات… الاحتمالات والخيارات.

أولًا- مراجعة جبهة (المقاومة / الصمود / النصرة) وسياقاتها المحيطة

تعميقًا للنظر في اللحظة، نراجع بإيجاز شديد طبيعة قوة المقاومة وحدودها، في اتصال بحاضنتها الصامدة حتى الآن، ثم دائرة نصرتها المتجدِّدة هذه المرة بصورة مختلفة:

  1. فالمقاومة الفلسطينية هي حركة تحرر أو تحرير وطني فلسطينية، ضد احتلال استيطاني صهيوني، تستعمل المقاومة السياسة والسلاح، بعد فشل مسار الحل السلمي المسمَّى، بمسار أوسلو، وبعد تقدُّم المشروع الصهيوني في النطاق العربي؛ وضربه للحاضنة العربية للقضية الفلسطينية؛ حوصرت هذه المقاومة في قطاع غزة منذ عام 2007، وتم فصلها عن الهيئة الرسمية المعترف بها باسم السلطة الفلسطينية (في رام الله)، ثم قامت بتطوير قدراتها، وخاضت مع العدو جولات اختبرت كلُّ واحدة منها قدرات هذه المقاومة، وأهدافها، واستعداداتها لا سيما السياسية. وقد تطوَّرت هذه الجولات من دفاع المقاومة عن ذاتها وضدَّ الهجوم على قياداتها كمقتل أحمد الجعبري في جولة 2012؛ وكانت المقاومة غالبًا ما تهدف لكسر الحصار والبحث عن سبيل لفكِّه أو كسره أو فتح ملفه، إلى أن جاءت جولة 2021 (سيف القدس)، التي تحركت إليها المقاومة نُصْرَةً للضفة والقدس والأقصى، وخاصة بعد استفحال الأمور في أزمة حي الشيخ جراح. ثم تأتي هذه الجولة مختلفة في أشياء مهمَّة نتعرَّض لها في المحور الثاني.
  2. تعتمد المقاومة على حاضنة شعبية في غزة، جرى الإلحاحُ عليها في الجولات السابقة لكي تعلن انفصالها عن المقاومة، وبالأخص (حركة حماس وجناحها العسكري)، لكن الذي حصل أن القطاع لم يشهد ثورة أو حركة اعتراضية شعبية ضد المقاومة ولا حكومتها، وأن شعب القطاع بأفراده وعائلاته أظهروا درجة ما من التعايش مع الحصار رغم قساوته واستحكامه. واليوم أظهرت هذه الدائرة نوعًا عجيبًا من الصمود والمصابرة ضد العدوان الجنوني الصهيوني، أكَّد ليس فقط معنى الحاضنة للمقاومة؛ أي المقاومة غير المباشرة، ولكن أظهر معنى لـ”الصمود” الشعبي المباشر جعل منها فاعلًا عسكريًّا وسياسيًّا ضدَّ العدو وعدوانه ومخططاته وأفشل الكثير من أهدافه.

ولا يحتاج ذلك إلى إثبات، لكنه لا يزال يحتاج إلى إنعام نظر لفهمه؛ ومن ثم فهم قدرته على الاستمرار، ومتى يمكن أن ينهار أو يتم تحريكه عن واقعه الجغرافي، ومن ثم عن فاعلية موقفه الصمودي، في ظل القصف، والحصار القاتلين، وفي ظل تطوُّرات خطط العدو في المرحلة الراهنة لتجديد العدوان. هذا الصمود ينبغي أن نتذكَّر أنه نابعٌ من شعب محتلَّةٍ حياته، ومحاصر، شعب مفصول عن جسمه الأكبر في الضفة والخارج، ومتنازع عليه بين إدارة مباشرة، وسلطة مُبعدة، وبين العيش والمقاومة؛ ومفروض عليه معادلة المقاومة (أم هو يختارها… هذا ما تختبره الجولات المختلفة وخاصة الجارية)، ما يطرح عليه سؤال الخيار المستقبلي: عيش مع مقاومة؟ أم عيش من غير مقاومة (لا قدر الله)؟

3. ثم يأتي مكوِّن النُّصرة والمساندة: وهو المكوِّن الذي يشهد اليوم تطوُّرات كبيرة، حرَّكها أولًا التأثُّر بالعدوان الجنوني الصهيوني والقتل الجماعي عن طريق المذابح اليومية الكثيرة والكثيفة غير المسبوقة، المنقولة صوتًا وصورةً أيضًا بكثافة غير مسبوقة. ويمكن القول إن هذا المكون تشكَّل من أربع دوائر متتالية: أولها- دائرة محور عسكري على خصومة مع العدو الصهيوني ومع شريكه الأساس الولايات المتحدة؛ وهو المحور الإيراني في لبنان واليمن والعراق، ثم دائرة الشعوب العربية والإسلامية المقيَّدة في الشرق وامتداداتها في الغرب (الجاليات)؛ وهي مقيَّدة في بلادها الأصلية لكنها تجد بعض المساحات المهمَّة في الغرب للتعبير عن نصرتها للقضية والمقاومة والشعب الصامد، ثم دائرة دول أو حكومات قليلة في العالم الإسلامي وفي الغرب (تعد على أصابع اليد) تقدِّم أشكالا من رفض العدوان وإدانة العدو والعمل على إدخال المساعدات للشعب الصامد، ثم رموز وتجمعات وهيئات في الغرب على وجه الخصوص تدخل معركةً مدنية وإعلامية ضد الصهيونية وتأييدًا للحق الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى أجواء عامة عالمية ترفض هذه الحرب العدوانية وتدعو إلى وقف إطلاق النار من منظورات إنسانية أو قانونية.

إنعام النظر في هذه الخريطة -بتكويناتها، وخصائصها، ومحدداتها، وقدراتها، وعجوزاتها أو التحديات التي تواجهها- مهم لإعادة النظر في نتائج متابعة الشهر الأول من الحرب، وتدقيق النظر في مجريات وتطورات، وممارسات وسياسات هذه الجبهة –إن صح التعبير- عبر الشهر الثاني وخاصة مرحلته الأخيرة. وهذا ما نحاوله. وننظر في ذلك على تواصل بين الدوائر الثلاث وسياقاتها. والسياقات الأساسية هي العدو، ومواقف وأدوار القوى المختلفة: الإقليمية والدولية والساحة المدنية العالمية..

لكن من السياق إلى الحدث يمكن أن نقول إننا نعرف من تاريخ وتطورات الصراع خلال العقود الثلاثة الأخيرة ما يلي:

1- اشتداد وطأة العدو على الشعب ومقاومته؛ بل على مناصرية خارج فلسطين، في مقابل تطورات في موقف المقاومة خاصة في أمرين:

أ) اشتداد القيود والضغوط على المقاومة، نتيجة سياسات العدو، ونجاحه في تطوير سياقات تتجاوز الشعب والمقاومة والقضية برمتها، إلى مرحلة لا مكان للقضية فيها.

ب) تطور فكر وقدرات وأداء المقاومة، وبالأخص عسكريًّا، ما وصل إلى:

  • تطور سياسي عسكري تجاوز المقاومة للسلطة، وتصدُّرها لتحمُّل مهمَّة الدفاع عن القضية برمَّتها، بما فيها الضفة، وبالأخص القدس والأقصى مع تطوُّرات صفقة القرن ونقل الولايات المتحدة ومن تبعها سفاراتهم إلى القدس (دون تحديد الغربية من الشرقية) وما نعرفه من سياسات التهويد وطمس الهوية ومحاصرة المسجد والإحرام الأخرى.
  • والتطور الثاني عسكري يتعلق بتحسين مستمر للقدرات العسكرية، وخاصة سلاح الصواريخ، مع بعض الأسلحة الأخرى المساعدة؛ بما مكَّن المقاومة من تطوير ميزان القوة والردع نسبيًّا وتهديد العدو عند ممارسته للعدوان على غزة عسكريًّا، ثم على الضفة أيضًا.

2- جاء 7 أكتوبر مستصحبًا ذلك التطور في السياق لا سيما السياق المعادي للمقاومة والقضية ليكشف عن تطور آخر في موقف أو حال المقاومة؛ وليختبر الموقف الشعبي في غزة والضفة، ثم ليفرض على السياق متغيرات جديدة (طبعًا اختباره للعدو والقوى المختلفة تتناوله الحلقات الأخرى). إن التطور الأساسي الذي كشف عند 7 أكتوبر بالنسبة للمقاومة هو تطور يمكن وصفه بالاستراتيجي؛ أي العسكري السياسي – فـ7 أكتوبر هو نقله نوعية استراتيجية في فكر وأداء المقاومة وذلك على ثلاثة أنحاء:

أ) وضع هدف بعيد المدى من بعد سيف القدس مايو 2021 لكي ينفذ أكتوبر 2023 (سنتان ونصف). والخروج من حالة رد الفعل على عدوان إلى صناعة الحدث ابتداءً.

ب) وضع وتنفيذ خطة دفاع استراتيجي عالية الكفاءة.

ج) تنفيذ خطة عسكرية واسعة على جبهة عريضة وعميقة تنفيذًا متقنًا وشجاعًا؛ وكل ذلك يعني شيئًا واحدًا: 7 أكتوبر نصر كبير على السياق السابق عليه. ولكنه نصر مرحلي في هذا السياق، وحتى 7 أكتوبر يفرز سؤال المستقبل: ما مدى قدرة المقاومة على الاستمرار؟

ثانيًا- التطورات وسياسات الجبهة وممارساتها

نحاول إجمال تطورات أداء المقاومة/ الصمود/ النصرة حتى اللحظة القائمة في الآتي:

(1) مرحلة القصف الصهيوني الجنوني (7-27 أكتوبر)= 3 أسابيع:

  1. رجعت المقاومة إلى قواعدها القتالية السابقة (بإرسال رشقات الصواريخ على الأرض المحتلة في مواجهة القصف الصهيوني الجوي والبحري والمدفعي البري).
  2. قضت المقاومة نحو “أسبوع” في إظهار الصمود خارج السياج (أي في بعض مغتصبات غلاف غزة)، وفي القيام باختراقه، وفي التصدِّي لمحاولات العدو القليلة التحرُّك برِّيًّا أو عمل هجمات برِّيَّة خاطفة؛ إما لتحرير أسرى أو لجسِّ نبض المقاومة على هذا المستوى.
  3. أظهرت هذ الأسابيع الثلاثة قوة المقاومة، وأيضًا أظهرت حدود هذه القوة أمام استراتيجية القصف، والعدو يعرف ذلك جيِّدًا ولكنه يختبره كلَّ مرة، ليطَّلع على القدر الذي وصلت إليه قدرات المقاومة؛ التي هي عبارة عن: صواريخ غير موجَّهة ضعيفة التأثير القتالي، وقدرة هذه الصواريخ على تعطيل الحياة اليومية نسبيًّا لمناطق عديدة تحت سيطرة العدو، لكنها من الناحية العسكرية لا تمثِّل تهديدًا خطيرًا. ومن ثم طُرح السؤال وفق أهداف العدو المعلنة للقضاء على المقاومة: ماذا عن عملية برية تتوغَّل في القطاع؟ هذه المعركة تحسَّب لها العدو وشركاه بشدَّة؛ لذا تأخَّرت حتى بدأت 27-28 أكتوبر.
  • وفي هذه المرحلة بدا من مظاهر الإدارة السياسية للموقف من جهة المقاومة:
  1. الحرص على شرح الاتصال والانفصال بين المقاومة ودولة إيران ومحورها (وأنها حليف مساند لا شريك ولا محرِّك للمقاومة في معركتها).
  2. العمل على تأكيد الإطار الشعبي الفلسطيني الشامل للمقاومة؛ سواء في غزة أو الضفة أو القدس واتصالا بعرب أو فلسطيني 48 وفلسطيني الشتات.
  3. الحرص على تجنُّب الصدام مع السلطة الفلسطينية في هذه الظروف، وعدم الرد على ما ينبو من مواقف وتصريحات تتبرَّأ من المقاومة أو تعلن أنها ليست من يمثِّل الشعب الفلسطيني أو ما إليه.
  4. مواصلة مناداة الأنظمة العربية والإسلامية بالمساندة، دون إثارة نزاع معها أو لوْمها على ما يبدو من خذلان وتراخٍ في نصرة القضية والمقاومة أو إغاثة الشعب المحاصر المنكوب.
  5. مواجهة المساندة الغربية لإسرائيل بخطاب شديد وحاسم وواضح، وخاصة تجاه الإدارة الأمريكية (وليست الدولة الأمريكية)، لكنه خطاب غير تصعيدي ولا عنتري، لا يدَّعي المواجهة المباشرة مثلا مع هذه القوى.
  6. إظهار الاستعداد المستمر للاستجابة لأية اتصالات أو خطابات مباشرة حول وقف العدوان والحل السياسي، والاستفادة من موقف دول مثل قطر ومصر وتركيا.
  7. الوضوح المبكر والحسم في الموقف السياسي والأخلاقي من قضية الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة من البداية؛ ومبدأ (الكل مقابل الكل: جملة أو على أجزاء)، وإعلان أن المدنيِّين ضيوف سيتم إخلاء سبيلهم بمجرد أن تتهيَّأ الظروف العسكرية المناسبة.
  8. القدرة على إدارة خطاب عسكري وسياسي فيه درجة عالية من المصداقية، والتكامل، والتناغم، والتوازن.
  9. إدارة معركة إعلامية ودعائية، واجهت حملة الشيطنة، وأظهرت البُعد الأخلاقي للمقاومة، ومدافعة معركة (الصورة والرواية) ضد حملة العدو وشركاه التي بدأت من أول لحظة، والتعاون الجيد من المقاومة مع جهات النصرة في ذلك.
  10. إدارة الأزمة الإنسانية -حكوميًّا وإعلاميًّا وبالتعاون مع قنوات إعلامية مناصرة- بصورة جيدة عبر بيانات موثقة ومدققة ومحدَّثة يوميًّا، وضرب محاولات التعتيم والتشويه والتشكيك في واقع المأساة. وبالطبع يُشار إلى أن المقاومة –إداريًّا وأمنيًّا- اجتهدت خلال أكثر من (15) عامًا من الحصار المشدَّد، أن تقيم “شبكة أنفاق” واسعة ومتماسكة، ظهر لها دور كبير في استمرارها في المواجهة حتى الآن (كأنها كانت تتحسَّب للغزو البري). وتمتلك حكومة للمقاومة إدارة صحية ومدنية جيدة؛ وهي أيضًا جزء من قوة الصمود الحالية.
  • الصمود الشعبي في غزة:

لكن من ناحية مكملة، يمكن القول إن المتغير الأساسي في المرحلة الأولى (7-27 أكتوبر) تمثل في تصاعد صورة (الصمود الشعبي من أجل غزة) أمام واحدة من أبشع وأشنع الحروب العدوانية المعاصرة؛ مئات المذابح التي قامت حتى الهدنة، بأبشع الأساليب، وأمام الكاميرات وتحت مرأى ومسمع العالم كله.

لقد ظلَّ استمرار هذا الصمود محلَّ شكٍّ في أن يستمرَّ، لكنه تحوَّل إلى فاعل سياسي وعسكري مؤثِّر كما أشرنا، خاصة أمام عمل العدو على تفريغ الحاضنة السكانية للمقاومة؛ أي مشروع “التهجير” الذي تبدَّت محاولاته بقوة في هذه المرحلة، وتردَّدت في قبوله أطراف عربية (على خلفية مواقفها ممَّا عُرِفَ بصفقة القرن)، حتى قطع هذا الصمودُ الخارقُ كثيرًا من الأمل في احتمالات هذا السيناريو، وأفسد على العدو وشركاه الظاهرين والخفيين محاولاته صناعة الفوضى في القطاع، وتعميق الأزمة الإنسانية.

ومن المهم أن نراجع مشاهد الصمود الغزاوي لنرى:

  1. كيف تحول الصمود من إثارة التعاطف الإنساني عبر العالم إلى صنع “القوة المعنوية” لكلٍّ من المقاومة وقوى النصرة، وبالمقابل كيف كسر غطرسة وأحلام العدو وشركاه.
  2. كيف تحول هذا الصمود من داع إلى وقف إطلاق النار والدعوة إلى هدنة أو هدن إنسانية، إلى عامل إثارة المطالبة بالحق الفلسطيني كلِّه؛ حق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلَّة.
  3. كيف أثر صمود أهل غزة على مواقف شركاء العدو ومسانديه بإطلاق، من كونهم دعاة استمرار للحرب ودعاة تهجير للفلسطينيين إلى مصر أو غيرها، إلى مطالبين بمراعاة المدنيين ومراعاة القانون الدولي الإنساني ولو نظريًّا.
  4. استدْعى هذا الصمود مواقف من دول ومعظم المنظمات الدولية تدين العدوَّ وعدوانه، وتدعو لإيقافه، ومنها من يعلن تأييده للحق الفلسطيني في دولة مستقلَّة.
  5. أفقد هذا الصمودُ العدوَّ كثيرًا من رصيده المعنوي العالمي، وأحرج أصدقاءه الإقليميِّين والعالميِّين.
  6. أظهر هذا الصمود الصلة القوية بين المقاومة وحاضنتها؛ ليس على سبيل التضامن والتساند، ولكن على سبيل التشابه والتكامل في مواجهة العدو وعدوانه. فالصمود مقاومة والمقاومة صمود. وانتقل ذلك إلى دائرة النصرة التي صمدت وتصاعدت وقاومت محاولات العدو وشركاه القيام بحرب إعلامية ودعائية مضادَّة.
  7. أثار هذا الصمود وشجَّع نوعًا من المقاومة في الضفة، رغم القيود المزدوجة المشدَّدة، حتى لقد تحملت الضفة مئات الشهداء والجرحى وآلاف الأسرى وأظهرت مزيدًا من سوءات العدو وهكذا.
  • النصرة متنوعة الأشكال:

وكذلك تحوَّلت دائرة النصرة والمساندة للمقاومة وشعبها الصامد وقضيتها الأم من إظهار التعاطف الإنساني إلى المؤازرة السياسية؛ ومنها العسكرية؛ ومن ثم أخذت أشكالا عدَّة، أهمها:

  1. أدارت إيران وحلفاؤها -خاصة حزب الله اللبناني- معركة نصرة ومؤازرة للمقاومة؛ بالاشتباك المحسوب مع العدو؛ بما لا يجعله قلقًا من احتمالات حرب أوسع، وغير متفرِّغ تمامًا للعدوان على غزة.
  2. مثلت قطر رأس حربة في الضغط الدبلوماسي باتجاه المسار السياسي، وقدَّمت نوعًا مؤثِّرًا من النُّصرة الإعلامية عبر شاشات قناة الجزيرة.
  3. فشلت الأنظمة العربية والإسلامية في فعل شيء مؤثِّر، اللهم إلَّا قرار الجمعية العامة ثم قرار مجلس الأمن بخصوص (هدنة إنسانية).
  4. تحرَّكت الشعوب العربية الإسلامية بموجات ومستويات قوة مختلفة، ضمن قيود معروفة، ولعلَّ أبرز أدوارها تمثل في تأييد المقاومة والقضية عبر وسائل الإعلام الجديد وفي مواجهة دعاية العدو.
  5. لكن حركة المقاطعة للبضائع التي ينتجها الكيان الصهيوني أو داعموه ومؤيِّديوه ومؤيِّدو العدوان برزت بشكل واسع عبر الشرق والغرب، وأبْدت قدرًا فعَّالا من التأثير عبر وسيلة سلبية في ظاهرها؛ مهمَّة في آثارها، وستستمر هذه المقاطعة بشكل كبير في العالم العربي والإسلامي طوال مراحل الحرب.
  6. بدت معالم شقاق مدني–سياسي في الغرب على محور تأييد أحد الطرفين، وتطورات إلى (الدعوة إلى الإسلام والاستجابات المعلنة والمتأثِّرة بصمود أهل غزة).. وهكذا.

(2) مرحلة الحرب البرية الأولى (27 أكتوبر – 23 نوفمبر) = 27 يومًا

  1. مع استمرار العدو في المذابح عبر قصفه المتَّصل للقطاع، واستمرار المقاومة في إرسال “رشقات الصواريخ” بشكل مناسب، اختبرت هذه المرحلة وجهًا آخر لقوة المقاومة عسكريًّا؛ وهي قدرتها على المواجهة البرية والتصدِّي لآليات العدو القوية بأدواتها القليلة والضعيفة.
  2. وهي معركة جديدة على الطرفين، تختلف عن الجولات السابقة، بما فيها مواجهة 2014 التي كان فيها توغُّل العدو في حي الشجاعية لنحو (20 يومًا: 17/7 – 5/8/ 2014)، واضطرَّ العدو فيها إلى التراجع ليعود بشكل مختلف بعد تسع سنوات. مما يشار إليه في هذا الصدد أن العدو لم يكن في أفضل أحواله، بل ربما بدا في أسوئها في إدارة معظم ملفاته الداخلية والخارجية.
  3. في هذه المعركة ظهرت مجموعة أسلحة مناسبة لدى المقاومة، بعضها مُصَنَّع أو مطوَّر محلِّيًّا، لكنها ظلت دون قدرات العدو بكثير؛ مما ألقى العبء الأكبر على كيفية إدارة المعركة التي تقوم بها قيادة المقاومة، وعلى القوة المعنوية والمهارية للمقاتلين. وقد ظهرت إدارة جيدة للمعركة؛ تتجنَّب المواجهات الصدامية لصالح حرب مدن وعصابات وأنفاق وركام. كما ظهر التوازن في إدارة المعركة؛ من حيث الاقتصاد في السلاح والذخيرة، وإدارة الوقت.
  4. استمرَّت مصداقية “الإعلام العسكري” لتقوية المقاومة والصمود والنُّصرة. وإضعاف دعاية العدو، واستثمرت المقاومة جيِّدًا الصورة والفيديوهات المسجَّلة، مع جودة خطابها العسكري الموجَّه إلى الذات والعدو بالأساس.
  5. استمرَّت الإدارة السياسية والإعلامية والحكومية من قيادة المقاومة وخاصة إدارة ملف الأسرى؛ ما أدَّى إلى وقف مؤقَّت لإطلاق النار، وهدنة إنسانية، وفق مفاوضات بدتْ قوية، وصعبة –كما استنتجت د. نادية مصطفى في تقريرها المشار إليه- ودلَّت على القوة السياسية للمقاومة، والتي لا تكون إلا بناء على قوة عسكرية.
  6. من ثم توقَّف العدو عند محاصرة الثلث الشمالي للقطاع بآلياته ودباباته، لكن المقاومة ظلَّت تواجهه كل يوم، في التوقيتات والأماكن التي تختارها هي، بينما لم ينجح العدو في صناعة ما أراده من (صورة نصر)، خاصة مع انشغاله بحرب جنونية على المستشفيات (مستشفيات الشفاء والرنتيسي والإندونيسي..) والعدوان على المدارس وأماكن الإيواء، والاستمرار في (صنع المذابح الكثيرة).

الصمود والنصرة

  1. مع الحرب البرية لم يخفض العدو من مستوى إجرامه ومذابحه الكثيرة والكثيفة؛ واستمرَّ مسلسل ارتقاء الشهداء وإصابة المئات يوميًّا بإصابات متنوِّعة وخطيرة، والهدم واسع النطاق، على النحو المشاهد للجميع، وحرص العدو في حربه هذه على تكرار محاولة التهجير لكن هذه المرة ليس خارج القطاع إنما من شماله إلى وسطه وجنوبه، ولكنه لم يُدِرْ هذ الملفَّ بعقلانية، وتضاربت أهدافه السياسية والعسكرية، حتى كان يضرب طرق نزوح المواطنين بالاتجاه جنوبًا، ويضرب المواقع التي نزحوا إليها؛ ما جعل النزوح أو التهجير كعدمه بالنسبة إلى أهل غزة. ومع هذا برزت مشاهد الصمود والثبات في المكان بعدما أصبح ركامًا وأنقاضًا، وتحت تهديد القتل بالقصف.
  2. استمرَّ العدوُّ في التضييق على إدخال المساعدات والإغاثات لأهل غزة؛ لكي يعمِّق الأزمة الإنسانية ويضغط على الشعب الصامد ويكسر صموده، وعلى المقاومة الباسلة ويضعف معنوياتها، ومع هذا استمرَّ صمود أهل غزة قويًّا ومذهلًا عبر هذه المرحلة التي وصلت بسابقتها إلى سبعة أسابيع.
  3. مع الحرب البرية صعَّدت قوى النصرة العسكرية (محور المقاومة) من عملياتها؛ سواء من لبنان (مما زاد من مخاوف التوسُّع إلى حرب إقليمية، تحذِّر منها الولايات المتحدة وحلفاؤها).
  4. دخل حكَّام اليمن الحوثيُّون على خط نصرة المقاومة وشعبها بداية من 30/10 بإرسال صواريخ موجهة ومُسيَّرات إلى جنوب إسرائيل، وصولًا إلى الاستيلاء على سفينة إسرائيلية في 19/11، مع مناوشات قوى عسكرية غير رسمية من العراق ومن سوريا بقواعد أمريكية في البلدين، بهجمات محدودة.
  5. وفي أثناء هذه المعركة البرية اشتعلت جبهة الضفة الغربية أكثر من ذي قبل؛ من المدن والقرى والمخيمات المختلفة، وتعامل معها العدو بعنف شديد، ولم يظهر تحرُّكٌ ظاهر للسلطة الفلسطينية.
  6. استمرَّت المساندة المدنية في العالم العربي والإسلامي وفي الغرب بأشكالها المختلفة… لكن ظهرت بشكل أكبر حالة (الشقاق السياسي والمدني في الغرب بأشكال مختلفة) وانتقلت أجواء الصراع إلى قلب العدو نفسه وإلى شركاه.

(3) المرحلة الثالثة (هدنة إنسانية وتبادل أسرى 24- 30/11) = 7 أيام

كما أشرنا فقد شرحت د. نادية مصطفى أبعاد عملية تبادل المحتجزين والأسرى جيدًا، وخلصت إلى:

  1. استمرار المقاومة في عملية الدعاية البيضاء وكسر حملة الدعاية السوداء تجاهها وتصويبها إلى وجه العدو.
  2. ومن ذلك بروز التفوق الأخلاقي لأداء المقاومة، ونجاحها في إظهار بعدها الوطني الشعبي الشامل، متجاوزةً الانقسام الوطني؛ ومن ثم ظهور حاضنتها الشعبية في غزة وفي الضفة أيضًا.
  3. إظهار وجود المقاومة وحضورها في كل مناطق القطاع وكشف كذب ادعاء العدو إحكامه قبضته على شمال القطاع أو غيره، وكذلك حضور الصمود الإداري والحكومي في غزة عبر صامدي القطاع الصحي والمستشفيات والدفاع المدني وعملية إدارة المساعدات التي بدأت بالكاد تزداد.
  4. قوة الصمود الشعبي الفائق برزت في فترة الهدنة في عودة عكسية إلى الشمال من بعض العائلات، بل في دخول البعض إلى القطاع من خارجه من رفح، رغم استمرار المخاطر وهشاشة الهدنة.
  5. لكن هذا الصمود لم يمنع من ظهور المأساة والتوق إلى تأمين موارد الحياة ما يدل على أنه صمود من بشر لا من حجر؛ ومن ثم فهو قابل للتهاوي في أي وقت، أو على الأقل التحييد أو إعادة التوجيه.

تقول د. نادية مصطفى “بالنظر إلى ملامح هذا المشهد عن أهل غزة خلال الهدنة، تتأكَّد حقيقة مهمَّة؛ وهي أن غزة ليست مقرًّا لقوات حماس والفصائل الأخرى، ولكنها حاضنة للمقاومة العسكرية، إنها تمدُّ القسَّام والفصائل بالسند والعون المادي والمعنوي؛ لأن الحاضنة وقوَّتها العسكرية يُجمعان على نفس الهدف والغاية، ويتمسَّكان بنفس الإيمان والصدق والإخلاص للقضية. وفي المقابل فإن المقاومة العسكرية تمدُّ الحاضنةَ بالأمل، نعم قد تعجز أحيانًا عن حمايتهم من القصف الصهيوني الوحشي، ولكن تظلُّ المقاومة تمثِّل لأهل غزة –بل لفلسطين كلها- الأمل في فرج قريب، ونصر من الله وعد به المجاهدين في سبيله وفي سبيل الأقصى. نعم، هذه هي حقيقة غزة الحاضنة للمقاومة، التي عاشت منذ نصر 7 أكتوبر مأساة إنسانية لم يعرفها العالم منذ عقود؛ وهي صامدة أمام العدوان الصهيوني، وهي تتكاتف مع قوة المقاومة بدورها ومواجهتها للعدو وتكبيدها له خسائر غير مسبوقة (7 أكتوبر)، انتقامًا لغزة والضفة والأقصى. هذه الحقيقة عن التحاضن بين أهل غزة ومقاومتها لا تستطيع أن تفهمها إسرائيلُ ولا شركاؤها في الحرب، ولكن يفهمها أحرار العالم الذين انتفضوا للإنسانية المهدرة المكلومة المستباحة في غزة من جانب الصهاينة الإسرائيليِّين والغربيِّين[2]اهـ.

هذا، وقد استمرَّت بعض المساندات الخارجية في المطالبة بإدخال المساعدات ومدِّ الهدنة، لكن السياسة والتوازنات كان لها رأي آخر، فانتهت الهدنة أو أسبوع الاستراحة، وعادت الحرب 1/12؛ ومن ثم تجدَّدَ التحدِّي أمام المقاومة وأسئلته:

  • هل ستكون هذه المعركة مثل سابقتها؟
  • هل ستخرج المقاومة منها منتصرة ولو نسبيًّا، أم يمكن أن ينجح العدو في كسرها أو إضعافها؟
  • ما الاحتمالات؟ ومن ثم ما الخيارات من الآن أمام المقاومة؟ ومنها الخيارات السياسية من باب الحل السياسي أو مفاوضات تبادل الأسرى وتجاذبات سائر الملفات؟!

لقد جرى سجال غير جوهري عن (من انتهك الهدنة؟) وادِّعاءات متبادلة، لكن في النهاية تبدَّدت الهدنة، وبدأ العدو في تجديد عدوانه الجنوني والإجرامي على قطاع غزة.

(4) المرحلة الرابعة (1/12- ….) إلى متى؟ وإلى أين؟ وكيف؟

في الأسبوع الأول من هذه المرحلة، لاحظنا الآتي:

  • رجع العدو إلى الحرب في مظهر جديد، بدا فيه أكثر انتعاشًا، وأنه حصل على قوة معنوية لا سيما من الولايات المتحدة، وبدا مظهره الإعلامي أقوى، وبدا كأنه حَدَّدَ أهدافًا عسكرية أدقَّ، ورسم خططًا عسكرية محدَّدة، ومن ثم وَصَلَهَا بهدفه السياسي، وبدا أقدر على مخاطبة الداخل والخارج. فمظهر رئيس الوزراء تغيَّر، وتنوَّعت طريقة ظهوره، مع الثنائي الآخر جالانت وجانتس ومن دونهما، وظهر مستشاره مايك ريجيف، ومتحدث حكومي شاب، ومتحدث عسكري آخر غير هجاري (لم يطل ظهوره)… ولكن ذلك لم يطل، فمع ظهور بسالة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني رجع العدو إلى حالته الأولى وربما أسوأ وأضعف في الأداء السياسي والإعلامي.
  • وكذلك بدا الشريك الأساس للعدو (الإدارة الأمريكية)، أكثر انتعاشًا، وحاولت التطوير في الأداء الإعلامي بظهور كامالا هاريس متحدثة بدلًا من بايدن، ومتحدث الخارجية أكثر من كيربي، ومتحدث الجيش الأمريكي أكثر من وزيره، وبدت الإدارة الأمريكية أكثر التحامًا وتداخلًا هذه المرة مع قيادة العدو في الإعلان المتزامن عن الأهداف، والإشعار بالخطط المرسومة، وبشكل منظَّم في إدارة المعركة على جبهات القتال والإعلام والاتصالات السياسية والدفاع عن الجوانب المدنية والإنسانية (وبدا الطرفان متفاهمين حتى في نقاط الخلاف بينهما كما شرحها نتنياهو ليلة السبت 2 ديسمبر ثاني أيام تجديد العدوان).

أداء المقاومة

  1. عمليَّاتيًّا، تحرَّك العدو باتجاه الجنوب، وركَّز على منطقة خان يونس ومحيطها، وبدا أنه يحاول تقطيع قطاع غزة إلى ثلاثة أو أربعة أجزاء. وهذا في ظلِّ القصْف البري والبحري والجوي على كل مناطق القطاع. وادَّعى أنه قادم لتحرير المختطفين، وقتل قيادات حماس، وتدمير الأنفاق، وتحديد مناطق آمنة للمواطنين المدنيين، وأنه سيقيم منطقة آمنة محيطة بغزة… إلخ.
  2. كمعهودها، وردًّا على عودة استراتيجية المجازر على كل القطاع، وقبل أن يميل العدو إلى توسعتها جنوبًا وتركيزها في محيط وقلب (خان يونس)، ردَّت المقاومة أولًا برشقات الصواريخ، التي أظهرت أن الجولة الأولى لم تكسر من قوتها هذه كسرًا ملحوظًا، وإن كانت بعض التقارير من قبل العدو رأتْها أخفَّ من ذي قبل.
  3. على المستوى البري، أبدت المقاومة نوعًا من الصبر لنحو يوميْن، ولم تتصدَّ إلا قليلا لتحرُّكات العدو برِّيًّا ونحو الجنوب بشكل واضح. ثم بدأت من اليوم الثالث تشتبك بشكل أوضح في الشمال أساسًا، ثم في الوسط والشرق وباتجاه الجنوب، وعلى الطريقة السابقة غالبًا من استهداف الدبابات والآليات والجرافات، وقنص الجنود وقصف تحشُّداتهم، وعمل الكمائن. وفي هذه الجولة ظهرت الفصائل الأخرى خاصة سرايا القدس بصورة زائدة عن ذي قبل، وبدت المعركة معركة الفصائل كلها في غزة، وإن ظلَّت حماس / القسام هي الفصيل الرئيس الفارق.
  4. ومع الوقت عادت المقاومة لإبراز قوَّتها وقدرتها على تكبيد العدو خسائر على مستوى الأفراد والمعدَّات، وقدرتها على الحيلولة دون العدو وأهدافه.
  5. أعلنت حماس لبنان عن تأسيس كيان باسم (طلائع طوفان الأقصى)؛ ما أثار نوعًا من اللغط في لبنان؛ واجهتْه المقاومة بتوضيح أنه كيان فكري وثقافي للتوعية بالقضية، ثم جرى صمت عام عن هذا الموضوع.
  6. لم يبادرْ متحدِّثو المقاومة السياسيُّون ولا العسكريُّون بإنتاج خطاب جديد في هذه المرحلة، اللهم إلا تصريحات قليلة، وتدريجية؛ من أهمها:

– تصريح مبكِّر لصالح العاروري (السبت 2/12) بأنه لا تفاوض ولا تبادل للأسرى ما لم يتم وقف إطلاق النار، ردًّا على أقوال بإمكان ذلك أثناء الحرب.

– تصريح لأسامة حمدان ردًّا على خطاب الأهداف الإسرائيلي الأمريكي: لن يحقِّق العدو شيئًا من أهدافه.

– تصريحات إعلامية بتحميل الولايات المتحدة ثم بريطانيا (التي أعلنت أنها ستشارك بطائرات استطلاع فوق قطاع غزة) مسؤولية الجرائم التي يرتكبها العدو بجنون.

الصمود والنصرة:

  1. عادت صورة الصمود الشعبي العظيم أمام المذابح والقتل الشنيع المستمرِّ كلَّ يوم وطوال اليوم، وبدا أنه سَمْتُ الشعب كله ولا يقتصر على أهل شمال القطاع أو وسطه. ومن ثم عاد حديث (التهجير) للطرح مرة أخرى، واحتمالات الاستجابة له، خاصة مع اقتراب العدوان من رفح والحدود المصرية، ودفعه الناس إلى الانتقال إلى هناك. لكن العدوَّ ظلَّ على أدائه غير المفهوم من ضرب الأماكن التي ينزح إليها الناس جنوبًا، وعدم ترك مساحات آمنة حقيقية لهم، ومع استمراره في استهداف المستشفيات والمدارس والمساجد، ومقرَّات المنظمات الدولية وغيرها.
  2. هذه المرة ظلَّ معبر رفح مغلقًا ولا تدخل منه أية مساعدات، رغم وعود العدو وشركاه (خاصة الإدارة الأمريكية)؛ ما جعل مسألة الصمود محلَّ تساؤل ومخاوف. وانفتح المشهد على ما بدأت به الحرب من آمال ودعوات وقف النزيف، ومخاوف استمرار العدوان واستفحاله، وما بين مخاوف الانكسار، وآمال الانتصار.
  3. عادت مشاهد وشواهد النُّصرة؛ سواء من الجبهة اللبنانية أو العراقية، أو اليمنية، وعادت المظاهرات في المدن الغربية الكبرى وفي أنحاء العالم.
  4. الشيء الذي لم يتوقَّف -حتى في أثناء الهدنة- هو العدوان المستمر على الضفة: قتلًا، وهدمًا وأسْرًا، وتهييجًا لقطعان المستوطنين مع زيادة تسليحهم بالأسلحة، وموافقة نتنياهو على توجُّه بن غفير؛ الأمر الذي ركَّز نقد شركاء العدو عليه، وتظاهروا بإدانته والعمل على معاقبة هؤلاء المستوطنين.

والخلاصة أن جبهة المقاومة / الصمود / النصرة أصبحت تحت نار تطوُّر فارق خطير –وربما أخير- من قبل العدوان والخذلان على حَدٍّ سواء، كأننا عُدْنَا إلى الأسبوع الأول من طوفان الأقصى، لكن في ظلِّ توسيع للحرب البرية، وتجديد من العدو وشركاه لقواه وللضغوط المتزايدة، خاصة مع تطاول الوقت على الأزمة الإنسانية في القطاع، وعاد الشعب لمعاناة الأسابيع الماضية قبل الهدنة وزيادة؛ ما يطرح سؤال الاحتمالات… والخيارات!

قبل ذلك يمكن أن نلخص مخرجات هذين الشهرين وتراكماتهما.

ثالثًا: المخرجات – الاحتمالات – الخيارات

هذا المحور يطرح أسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، ويرسم صورة احتمالات أكثر ممَّا يؤكِّدها أو يقطع بها، ويقترح خيارات عمومية أكثر ممَّا يحدِّدها أو يخصِّصها.

أ) المخرجات: عدوان وطغيان وخذلان، ومقاومة وصمود ونصرة

بالنسبة للمقاومة والصمود والنصرة، فيمكن التأكيد على ما يلي:

  1. المقاومة ليست بالضعف الذي يسهل معه تحقيق أهداف العدو؛ بمجرد ترديده لها أو عزمه عليها.
  2. المقاومة تبدي في هذه المرحلة قدرة أساسية على المواجهة وتكبيد العدو قدرًا من الخسائر؛ وترى التقارير أنها ستخوض معارك ضارية في هذه المرحلة أقوى بكثيرٍ ممَّا تقدَّم في المرحلة السابقة.
  3. المقاومة لديها مساحة من الإدارة السياسية والإعلامية الجيدة، عبَّرت عنها حتى نهاية الهدنة الإنسانية 30 نوفمبر، ولا تزال تبدي خطابًا صامدًا وواضحًا، لكن مساحة الإدارة السياسية تقلَّصت مع رفض العدو وقف إطلاق النار، وإصرار المقاومة على أنه لا تفاوض إلا بعد وقف إطلاق النار. وهذا لا شك يبدو موقفًا مبدئيًّا أكثر منه موقفًا نهائيًّا.
  4. لكن المقاومة محاصرة حصارًا شديدًا داخل القطاع والأنفاق، ومخذولة خذلانًا كبيرًا من السياق العربي والإسلامي القريب، وهي تحارب قوى أفْوق بكثير: إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا معًا حتى الآن.
  5. المقاومة لديها حاضنة شعبية لا تزال صامدة في القطاع، وإن كانت تتعرَّض لضغوط شديدة قد تعرِّض صمودَها لبعض الحراك، وبدأت بالفعل في النزوح الثاني نحو رفح، خاصة من خان يونس.
  6. خطة التهجير الإسرائيلية متعسِّرة، لا سيما إلى خارج القطاع، لكنها قابلة للتغيُّر إذا لم تتغيَّر معادلة القصف الجوي المستمرَّة، وإذا لم تحقِّق المقاومةُ ضغطًا مناسبًا على القوَّات التي توغَّلت في الجنوب.
  7. الضفة لا تزال تتعرَّض للتقييد والتضييق بل العدوان اليومي؛ ما يقيِّدُ قدرتَها على نُصرة غزة، والانضمام إلى صفِّ الصمود، واحتمالات انتفاضتها ضعيفة لكنها قائمة. والسلطة الفلسطينية لم تدخل في دائرة الضوء اللهم إلا في حديث ترتيبات ما بعد الحرب.
  8. نصرة المقاومة من الخارج لا تزال في مستوى الجولة السابقة؛ على المستويات العسكرية (حزب الله والحوثيون يتحرَّكون ضمن سقف لا يبدو أنه سيرتفع كثيرًا)، وعلى المستويات الشعبية والمدنية في المنطقة والغرب.
  9. محور النصرة السياسية الرسمية لا يزال ضعيف الأثر (تركيا – قطر…) ومساندة دول أوروبية قليلة.
  10. ترفض المقاومة أي مفاوضات أو تبادُلات للأسْرى قبل وقف العدوان، ومن ثم فكيفيَّة توقُّف الحرب رهين بقدرة المقاومة على مواصلة الحرب لوقت أطول نسبيًّا، وعلى الاشتباك الفعَّال في ترتيبات ما بعد الحرب؛ تخفيفًا لاستمرار وتيرة العدوان.

ب) حول الاحتمالات

ليس السؤال إن كانت هذه الجبهة (قوة المقاومة / صمود الشعب / نصرة الخارج) ستصمد وتنتصر أم لا؟ إنما السؤال هو كيف ستصمد وهي لها من الصمود قدرٌ كبيرٌ واحتمالٌ عالٍ؟ وإلى أيِّ درجة يمكن أن يكون صمودها انتصارًا لها وهزيمةً للعدو؟ يحرِّكنا السؤال بهذه الطريقة بين احتمالين رئيسين وسطيِّين:

أولهما- أن تحقق الجبهة صمودًا أو انتصارًا محدودًا.

الثاني- أن تتراجع المقاومة ويحدث لها انكسار لكنه محدود أيضًا.

الاحتمال الأول- صمود وانتصار محدود، وهذا يعني:

  1. وصول المعركة إلى مرحلة غير نهائية في اجتياح العدو للمقاومة والقطاع، دون تحقيق أهداف عالية.
  2. تكبيد المقاومة –واستمرار قدرتها على تكبيد- العدو من الخسائر (لا سيما البشرية) ما يجعله يتوقَّف عند مرحلة قبل نهائية، تحتفظ فيها المقاومة بقدر من قوتها ووجودها.
  3. تقديم المقاومة رؤية سياسية فعَّالة قابلة للتفاوض حولها، وتعمل على تحريك أهداف العدوِّ نسبيًّا للخلْف.
  4. صمود القطاع الأعرض من الشعب في قطاع غزة، حتى لو خرجت نسبة محدودة منهم خارج القطاع، وتعاظم تأثير المأساة الإنسانية الصامدة على المواقف الدولية لإيقاف الحرب.
  5. تجدُّد ظروف سياقية خادمة للحل السياسي قبل أن تصل المعركة إلى نهايتها؛ ومنها: تصاعد جهود النصرة خارج القطاع؛ في الضفة، أو في الجبهات اللبنانية واليمنية والعراقية، وتصاعد الحراك المدني وضغطه على الولايات المتحدة بالأخص، وضغط عنصر الوقت على العدو وشركاه، وتأثير ضغوط عناصر داخلية لدى العدو والولايات المتحدة… إلخ؛ ما يفرض في النهاية القريبة ضرورة وقف الحرب.
  6. متغيرات أخرى ليست في دائرة الضوء الآن. والله يفعل ما يشاء!

الاحتمال الثاني- تراجع وانكسار محدود

  1. انكسار قطاع كبير من المقاومة وتبقِّي قوى أصغر أو فلول منها تناور وتناوش هنا وهناك، وتراجع قدرة المقاومة على تكبيد العدو خسائر مؤثِّرة، وضعف قدرة المقاومة على الاحتفاظ بقدر معقول من قوتها ومن ثم وجودها. وذلك نتيجة شدَّة الحصار، وأثر الوقت الطويل، أو غير ذلك.
  2. وصول المعركة إلى مرحلة شبه نهائية في اجتياح العدو للمقاومة والقطاع.
  3. انغلاق الرؤية السياسية، وعدم فتح مجال لها، وإصرار العدو على الحرب فقط.
  4. تراجع صمود القطاع الأعرض من الشعب في القطاع، وخروج نسبة كبيرة منهم إلى خارج القطاع، أو الانحشار في مناطق آمنة يديرها العدو بعيدًا عن بقية القطاع، مع اشتداد الحصار والمأساة الإنسانية الصامدة وتجمُّد المواقف الدولية إزاءَها.
  5. تحكُّم العدو وشركاه في حركة وتأثيرات الظروف السياقية لتعطيل الحل السياسي إلى أن تصل المعركة إلى نهايتها التي ينشدها العدو.
  6. متغيِّرات أخرى ليست في دائرة الضوء الآن. والله يفعل ما يشاء!

طبعًا، يتطلَّب الأمر التوسُّع إلى السياقات والأطراف الأخرى وخاصة العدو، ولكن هذا متروك لأوراق أخرى مكملة.

ج) أسئلة حول الخيارات أمام المقاومة – الصمود – النصرة:

أمام هذين الاحتمالين المتوسطين (الانتصار المحدود أو الانكسار المحدود)، تطرح مجموعة أسئلة على هذه الجبهة؛ لعل أهمها:

ما الذي ينبغي أن تفعله هذه الجبهة الآن لتجنب الانكسار وتحقيق الانتصار؟

  1. ما الذي يجب أن تفعله، وما يجب ألا تفعله المقاومة؟
  2. ما الذي يجب أن تفعله، وما يجب ألا تفعله قوى الصمود؟
  3. ما الذي يجب أن تفعله، وما يجب ألا تفعله قوى النصرة والمساندة؟
  4. كيف يمكن تنسيق ذلك في رؤية شاملة؟
  5. كيف يمكن تفعيل ذلك؟
  6. كيف تراعى عوامل: الوقت، القيود الرسمية، ضعف الموارد؟

●●

مجمل التعقيبات على الورقة:

  1. أهمية تحديد مفاهيم الورقة من مثل “الانتصار”، “الانكسار”، “العدو”، “الصمود”، “النصرة”، “المساندة”، تحديدًا عمليًّا بمؤشِّرات، ومن وجهات نظر الأطراف المختلفة، ومن ثم الإجابة عن مستويات الانتصار ومستويات الانكسار. فالبعض يرى أن ثمة انتصارا قد تحقق في 7 أكتوبر، وأن ما يجري لن يؤثِّر على هذا الانتصار، والبعض يرى أن الانتصار العسكري ليس هو الانتصار الوحيد ولا بالضرورة الأهم، والبعض يرى أن العبرة بالنهاية التي ستنتهي إليها المعركة العسكرية وتأثيرها السياسي على القضية الأم: تحرير فلسطين. وكذلك أهمية إحسان توظيف المفاهيم إعلاميًّا والحذر من المفاهيم؛ من مثل مفهوم الجهاد، والمفاهيم الدينية على وجه العموم التي لاقت تشويهًا في الوعي الخارجي وربما الداخلي، وذلك دون التخلِّي عنها بالطبع، ومن المهمِّ أيضًا أن نشرح هذه المفاهيم ونوضِّح كيف أنها تتضمَّن قيمًا إنسانيةً عامةً لمقاومة الظلم والاحتلال والعدوان.
  2. أهمية الاستمرار في رسم خرائط القضية والصراع والسياقات المحيطة بهما؛ ومنها الإجابة عن سؤال “قوة المقاومة”، وكيف حقَّقت ما حقَّقته، ومن أمدَّها بمواردها؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما طبيعة العلاقة بإيران؟ وأهمية العناية بسياق العدو الداخلي؛ أي من داخله؛ وخاصة أنه يُعاني الكثير من المشكلات التي ينبغي التعامل معها؛ وبالأخصِّ موضوع الأسرى؛ وأهمية إدارة المقاومة له بكفاءة وحذر. ومن ذلك ينبغي عدم التهوين من تداعيات العدوان على المقاومة وعلى الشعب الفلسطيني والتحسُّب لتراجع الصمود لا سيما أمام الخذلان الكبير، (فللصمود حدود). وعلينا أن نفكر في كيف ننتقل من المساندة المحدودة إلى التحرُّك الجماعي الفعال. فالتظاهرات الغربية لن تستمرَّ طويلًا، وهناك هجمة مضادَّة تواجهها بشدَّة، وستكون لها تداعياتها التي ينبغي رصدها.
  3. أهمية تكييف الصراع تكييفًا حضاريًّا؛ فينبغي العناية بالجانب العقيدي والإيماني والتربوي ومفاهيمه في وصف المقاومة والصمود، ومراعاة تأثيرات ذلك على الوعي العام بالقضية خاصة لدى الشباب العربي والمسلم، في مقابل “الخواء” المعنوي –بل والمادي- لدى العدو. ومن ذلك أهمية الذاكرة والنماذج التاريخية واستدعاء المسار التاريخي للصراع، ومراجعة “النموذج الانتفاضي” الذي قدَّمه الدكتور المسيري رحمه الله تعالى، وقراءته للمشهد من مفهوم “الإنسان” متعدِّد الأبعاد بما فيه من قوة وما فيه من ضعف، والنظر في جانب القوة إلى المعاني القيمية والإنسانية، وتبيُّن موقع كلٍّ من المقاومة وجبهتها، والعدو وجبهته؛ من تلك المعاني الإنسانية المشتركة. فقد أثبتت المعركة أنه لا يمكن تجاوز القيم والكرامة والحقوق. وكذلك كيف تغلَّب الإنساني على “التقني / التكنولوجي” المتقدِّم، وأهمية الخروج من خطاب الثنائيَّات المتضادَّة بين الخير والشر، والنور والظلام، والتمسُّك بمنظور إسلامي إنساني، (والإنساني ليس بمعنى التعاطف؛ إنما بالمعنى الشامل للسياسي والاقتصادي والعسكري وغيرها). ويدخل في ذلك البعد الجيلي والتدافع بين الأجيال دخولا مركزيًّا؛ ممَّا ينبغي رصده ورصد تحولات الجيل الشبابي القائم حين يكبر.
  4. أهمية النظرة الاستراتيجية إلى العدو؛ فالمقاومة تواجه إسرائيل والولايات المتحدة معًا، والأخيرة ليست مساندًا بل شريكًا، بل هي عند البعض من يقود الحرب على غزة، وما إسرائيل إلَّا أداةً في يدِها. وينبغي النظر في ذلك من زاوية أن العالم يتغيَّر ويتحوَّل، ليس فقط على مستوى هيكل القوة المادية، ولكن على مستويات المفاهيم والقيم ومناهج النظر والتفكير. وينبغي أيضًا النظر إلى الأمة بوصفها مستهدفة بكلِّيَّتها بما فيها الأنظمة السياسية العربية، فالعدوان غربي إمبريالي متعمد؛ وله بُعْدٌ رأسمالي مخترِق لمنطقتنا العربية عبر العقدين الماضييْن بشكلٍ خطيرٍ، ومن ثم ينبغي أن تتحرَّك النظم من الخذلان إلى النصرة والتضامن والمساندة، نصرةً لأمنها القومي نفسه، وخاصة مع حَسْمِ مواقفِها المركزية من موضوعات مثل: التهجير، وضعف الظروف الاقتصاية لدول الطوق العربية، وتلويح بعض الإعلام العربي بالتهجير والنزوح وإمكانه مقابل صفقات معيَّنة.
  5. أهمية إدارة الوصل والفصل بين إسرائيل والغرب، والتمييز بين الغرب شعوبًا وحكومات، وبين الغرب والحضارة الغربية، وبين ما ينفعنا من ذلك وما يضرُّ بنا. فالعدوُّ في الغرب هو الإدارة الأمريكية وحكومات بعض الدول، وليس الغرب كله الذي يتظاهر فيها مئات الآلاف –ومنهم يهود- من أجل قضيتنا وشعبنا وحقوقنا، ومع هذا فإن مواقف دول الغرب تتراجع نسبيًّا أو تتغيَّر ولو تغيُّرات محدودة، أو بتعبير آخر “تتلوَّن” من أجل أهداف سياسية وبراجماتية، ونتيجة بعض الضغوط. ومن ثم فمن المهم إبراز التناقضات –وليس التكتيلات- بين تكوينات العدو؛ بين ما تفعله إسرائيل وقيم الغرب المعلنة والرائجة، وبين مصالح الطرفين أو هذه الأطراف المؤيِّدة للعدوان.
  6. الرأي العام العربي ينبغي فهمه في إطار القيود، وتغييب قنوات النصرة والدعم عنه، اللهم إلا وسائل التواصل الاجتماعي وعلى وَجَلٍ. هذا بينما يملك العدو وشركاه ومساندوه قوة إعلامية جبارة ذات خبرة طويلة وأدوات مؤثِّرة، فالمعركة ليست متوازنة القوى، ومع ذلك أبلى فيها المقاومون والشعب الصامد والمناصرون بلاءً حسنًا. ومن الأهمية بمكان الاستمرار في فحص الخذلان الرسمي العربي السابق على 7 أكتوبر، وكيف جرى تشويه المقاومة الفلسطينية واتهامها بالإرهاب في عدد من الدول العربية ذاتها بصورة كبيرة، بالأخصِّ من ساعة الثورات العربية، وبفعل الثورات المضادَّة. وينبغي للأنظمة أن تستلهم القوة من الموقف الجاري وَتُصَحِّحَ من أوضاعِها ومواقفِها، وتعرف أنها قادرة على التأثير على المصالح الغربية تأثيرات مختلفة. ومن النظر الاستراتيجي النظر إلى تداخل القضايا والمجالات والتقاطع بينها وتأثير ذلك على الاستقطابات والمواقف من قضيَّتنا المركزية: تحرير فلسطين.

 

يمكن تحميل الدراسة من خلال الرابط التالي

___________________

هوامش

[1] قدمت هذه الورقة إلى حلقة نقاشية معمقة عقدها مركز الحضارة يوم الأربعاء 6 ديسمبر 2023، قد وضع المركز إطارًا لهذا النقاش على خمسة محاور (جبهة المقاومة وبطانتها من الصمود والنصرة – العدو واستراتيجية العدوان الجارية – ثم السياقات الثلاثة: المواقف الإقليمية العربية والدولية الشرقية – والمواقف الدولية الغربية – الشقاق المدني العالمي)، استغرقت خمس حلقات من 6-16 ديسمبر 2023. وفي هذا الإطار جاءت هذه المداخلة حول (نموذج جبهة المقاومة / الصمود / النصرة).

[2] تقرير د. نادية مصطفى، طوفان الأقصى: مشاهد من مرحلة الهدنة الإنسانية، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 3 ديسمبر 2023 متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3v3wNMW

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى