من خبرة تطوير منظور حضاري في العلوم السياسية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية، لي مجموعة من الملاحظات الأولية حول مفهوم ومنظور “الحضاري”:

أولها أن “الحضاري” كمفهوم والمنظور الحضاري حاضران في العلوم الاجتماعية والإنسانية على عكس ما قد يبدو أو ما توحي به المدرسة السائدة والمهيمنة في مجال العلوم السياسية. وهذا يعني أن أول مسلمات دراسة العلوم السياسية من منظور حضاري هو ألا ندرسها بمعزل عن العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى؛ فالانفتاح على العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى منطلق أساسي في منظور حضاري للعلوم السياسية. وهذا هو دأب مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات منذ تأسس وحتى الآن، ولعل هذه الرسالة تكون قد وصلت خلال هذه السنوات.
ومن واقع التراكم الذي تحقق خلال الجلسات السابقة، يمكن القول أن هناك مستويان للحديث عن “الحضاري”: المستوى الأول هو أن هناك فارق بين مقتربات حضارية في مجالات معرفية كالتاريخ مثلا (كيف نقترب من التاريخ من مقترب حضاري؟)؛ لأن مدارس تفسير التاريخ وفلسفة التاريخ متنوعة: أحدها المدرسة الحضارية سواء برؤية إسلامية أو غيرها، أما المستوى الآخر فهو أن هناك فارق بين الحديث من منظور حضاري، والحديث عن مفهوم “الحضاري”، أو الحديث عن قضايا ذات طابع حضاري.
وما يشغلنا هنا هو: كيف نطوِّر منظورًا جديدًا في دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية نطلق عليه منظورًا حضاريًا؛ بحيث يمثل تحولًا عن المنظور السائد في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية.
أما الملاحظة الثالثة، فهي أن كل المداخلات التي قُدِّمت في اليوم الأول والجلسة السابقة تعكس مشتركات عن مفهوم الحضاري ومتطلبات للمنظور الحضاري،أيًا كان المجال المعرفي الذي نتحدث فيه (فلسفة/ تاريخ/ اجتماع… إلخ).
المشترك الأول أنه تجسيد للخصوصية ولكنها خصوصية منفتحة ومتطورة وليست جامدة؛ لأنها تعترف بالتعددية القائمة على الاختلاف. المشترك الثاني أن الحديث عن الحضاري حين نتناول قضايا اجتماعية وإنسانية، وعن منظور حضاري إنما هو استجابة لتحديات فكرية ونظرية وعملية تواجه واقع معين لزمان ومكان محددين وفي دائرة حضارية معينة.
المشترك الثالث أنها مرتبطة بعملية التغيير الشامل أو ما يُسمى بالنهوض الحضاري ومحاولة تحقيق الاستقلال الحضاري وكسر قيود التبعية الحضارية وليس فقط التبعية السياسية والاقتصادية أو العسكرية، لكن كسر التبعية الحضارية التي تعني تبعية شاملة تضم جميع هذه الأبعاد وفي قلبها التبعية الفكرية.
الملاحظة الرابعة أن هناك مصادر متعددة للحديث عن الحضاري وموضع الثقافة والدين منه ومن ثم فليس المقصود بالمنظور الحضاري أنه منظور إسلامي أو عربي فقط، ولكن هناك طبعات متعددة من المنظورات الحضارية بتعدد أو بتنوع النماذج المعرفية وتعدد مصادر كلٍ من هذه المنظورات.
بعد هذه الملاحظات التمهيدية، أين العلوم السياسية من هذا الأمر، وهذا ما سأتحدث عنه اليوم فقط وبصورة مباشرة. ربما سبق وتحدثت د.ريهام عن علم العلاقات الدولية وتحدث د.إبراهيم البيومي عن العمل الخيري والعمل الأهلي من منظور حضاري، وهو يختلف عن الحديث عن مجال علمي مثل العلاقات الدولية أو العلوم السياسية الذي نتحدث عنه. أيضًا تحدثت د.ريهام عن الغربي أساسًا في مجال علم العلاقات الدولية كما تقدمه المدرسة الإنجلوسكسونية أساسًا على نحو مباين نجد أن الحضاري ليس جديد على فكر العلاقات الدولية لكن تجدد الاهتمام به مع هانتنجتون – بالرغم من النقد الموجه للحديث عن أثره- لكن بالنسبة للعلاقات الدولية والعلوم السياسية بصفة عامة فقد دشن لفترة في هذا الحقل تعكس تزايد الاهتمام بالأبعاد الدينية والثقافية والحضارية في دراسة العلاقات الدولية وكذلك العلوم السياسية، واقترن ذلك بعملية مراجعة معرفية ومنهجية ونظرية في هذه الحقول وهي انعكاس للمراجعات التي تتم في النظرية الاجتماعية.
إذن فإن ما نقصده بالمنظور الحضاري في العلوم السياسية هو منظور حضاري مقارن، وليس إسلامي فقط. هذا هو مدخلي دائمًا لهذا الأمر وكان أيضًا مدخل د.منى أبو الفضل ود.حامد ربيع.
الملاحظة الخامسة في هذا التمهيد – وهي تتصل مباشرة بالعلوم السياسية- تكمن في إشكالية العلاقة بين الديني- الثقافي- الحضاري (مع الاختلاف بين الأمور الثلاثة وتنوع للتعريفات لكل منها وعلاقتها مع بعضها البعض) وبين السياسي، ما نمط العلاقة؟ أيهما يؤثر على الآخر؟ أم نطرح السؤال بحيث نقول متى يؤثر كل منهما على الآخر فيكون تأثيره أكثر وضوحًا؟ ولماذا هنا تبرز العديد من الأسئلة: ما سبب تجدد الاهتمام الراهن بالأبعاد الدينية الثقافية والحضارية في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية في الغرب بصفة عامة؟ هل هي مجرد مراجعات نظرية ومعرفية أم هناك أسباب متعلقة بالواقع الفعلي للسياسات الغربية وكيفية استفادتها من هذا الزخم؟
وهل كل ما هو متصل بالمنظور الحضاري في الغرب صراعي كما يراه هانتنجتون؟ هناك دوائر أخرى غربية تتحدث عن الثقافي والحضاري وأثره السياسية والعلاقات الدولية من منظور آخر غايته أن يكون التنوع والتعدد أساسًا لبناء نظام عالمي جديد يتحقق فيه السلام، وهناك كثير من الأدبيات تتحدث حول هذا الموضوع.
لكن يظل السؤال الأساس: ما المشترك وما مصدر التمايز بين هذه المنظورات في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية بصفة خاصة التي أضحت تتحدث عن الحضاري وعلاقته بالسياسي (صراعي أو تعاوني، تابعًا أو مستقلا) وبين ما يمكن أن يُقدم من منظور حضاري إسلامي. هذا هو الإطار الذي نسعى دائمًا للعمل فيه. ما أشكال التمايز وأشكال الاختلاف وأسبابها واختلاف مصدر المرجعية، فمن يتحدث عن منظور حضاري في الغرب ليست مرجعيته في الأساس منطلقة من تقاليد دينية لكن من تقاليد متنوعة قيمية وإنسانية.
– هذه الملاحظات استنبطتها من خلال الجلسات السابقة، لكني كنت هناك عدة ملاحظات أخرى أحاول أن أتحدث بها مباشرة عن خبرة العمل في مجال منظور حضاري في الجماعة العلمية للعلوم السياسية على صعيد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهذا هو الشق الثاني من مداخلتي بعد الشق الأول الذي بُنى على إسهاماتكم في الجلسات السابقة.
في هذا الشق الثاني من مداخلتي أتحدث على مستويين: الأول هو مجموعة الملاحظات:
الأولى، أن المنظور بصفة عامة لا يدشنه ولا يؤسسه ولا يُفعِّله أفراد ولكن جماعات علمية (وكان هذا من تعليقات د. مصطفى علوي على ندواتي وأبحاثي في الكلية، من أن الفرد لا يبني منظور إنما هو جهد لمؤسسات) وفي هذا الإطار نجد فضل جماعتين: هما جماعة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. هاتان المؤسستان لهما فضل احتضان هذه الخبرة. المعهد بتأسيسه المعرفي والمنهاجي وبارتباط شديد مباشر بالخبرة الإسلامية ابتداءًا ونهاية وبتداخل مع تجديد العلوم الشرعية، أما في الكلية فكان الانطلاق من المعرفي إلى التشغيل في مجال العلوم السياسية في عملية ممتدة الحلقات والأجنحة.
الثانية: أن المنظور الحضاري هو محصلة أو غاية أو منتج، وهو نتاج تراكم عبر عملية ممتدة، تبدأ لدى البعض بنقد المنظورات الغربية، وتبدأ لدى أخرين من رؤية تجديدية في العلوم الشرعية. حوت مدرسة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد الجانبين، فالأستاذ د. حامد ربيع ود. منى أبو الفضل وأضيف نفسي لهما -مع الفارق- بدأنا من الغربي و استيعابه ونقده، ومن قراءة ما ينقده ذاتيًا بنفسه وقد سكَّنا حيوية الإسلامي الحضاري في هذا العمل. واتجه آخر يبدأ من تجديد العلوم الإسلامية والخروج من دائرة الفكري التقليدي إلى دائرة الحضارة الأوسع. وفي كلتا الحالتين هناك نقد ومراجعة سواء للعلوم الغربية أو للعلوم الشرعية في محاولة لتكسير هذه الفجوة، وهذا هو المستوى الأول.
المستوى الثاني: أنه يجب أن ينبني على وعي بماهية النماذج المعرفية المتقابلة التي تمثل ما قبل المنهج ورؤى العالم، والتي تتنوع بتنوع مصادرها الحضارية وباعتبارها مصادر للتنظير ومصادر للقيم ومصادر للرؤية عن التاريخ.
المستوى الثالث: فقه الواقع لدائرة حضارية معينة.
المستوى الرابع: تفاعل نقدي ومقارن مع منظورات المجال المعرفي الأخرى تأكيدًا للتعددية في إطار الخصوصية، فالانعزال لمنظور حضاري إسلامي عن غيره في نطاق علم من العلوم يقضي عليه ويحكم عليه بالانتهاء؛ لأنه لن ينمو أو يتطور إلا إذا استمع لنقد الآخرين له وإذا بنى ونمّى نفسه على أساس متطلبات الحقل الذي يتحدث عنه.
الملاحظة الثالثة: أن هذا المنظور بيني ومفتوح يقوم على العلاقة بين العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى ولا يمكن أن يقوم بدون هذا، وقد تحدثت د. منى أبو الفضل -رحمها الله- عن مجال للدراسات الحضارية وليس الدراسات السياسية -وإن كانت له مرتكز ومنطلق- هذا بالإضافة إلى العلاقة بين العلوم السياسية ذاتها.
الملاحظة الرابعة: بقدر ما لهذا المنظور من مصادر للتأصيل فلا بد أن يكون له غاية، فالعلم المجرد عن الغاية ليس من أصول الرؤية الإسلامية، لكن العلم لابد أن تكون له وظيفة وغاية، وفي الرؤى الأخرى كلها، سواء غاية نظرية في نطاق العلم أو غاية عملية خاصة أو متعلقة بتغيير المجتمع والنظم، فعلى سبيل المثال صعود الإسلام فيما يُسمى بالصحوة المعاصرة ثم العولمة ثم أحداث 11 سبتمبر كلها عوامل جددت الاهتمام بـأبعاد جديدة في الواقع الدولي دفعت إلى المراجعات المعرفية والفكرية لدى الغرب ولدينا، وجددت الاهتمام بالحديث عن منظور حضاري في العلوم السياسية وإن كانت ذكرت أن البعد الحضاري موجود في مجالات معرفية أخرى حتى في علم السياسة ذاته لكنه كان متواريًا وراء سطوة المنظور السائد.
الملاحظة الخامسة: هذا المنظور يُعلي الرابطة بين المعرفي والنظري والمنهجي، يُعلى الرابطة بين القيمي والمادي؛ أي أنه يتجاوز الثنائيات المعهودة فيُعلى الرابطة بين النظري والحركي، ويُعلى الرابطة بين الجزئي والكلي، يفتح الحدود بين المجالات المعرفية المختلفة ويُعلى الرابطة بين التاريخ والراهن والمستقبل، فهو أقرب إلى رؤية كلية تعالج اختزاليات الرؤى السابقة المستندة إلى منظورات معينة.
لكن فيما يتصل بما هو منظور إسلامي، فهو ليس منظور فقهي إسلامي فقط، لكنه يتجاوز ذلك بأنه منظور أكثر كلية وشمولية؛ لأنه استجابة للأزمة الفكرية التي هي عصب أزمة الأمة، وهو يسعى إلى التجديد في الفكر والثقافة ومن أجل تطوير علوم اجتماعية وإنسانية من منظورات جديدة في كل مجال من المجالات العلمية وعلى نحو متميز.
في ورقة كتبتها عام 1992 عن دراسة المنظور الحضاري، قدمت د.منى أبو الفضل تعريفًا للمنظور الاجتماعي الحضاري في ظل مرحلة بدأ فيها الغرب الحديث عن مراجعات وأبعاد قيمية، سبقها د.حامد ربيع، وأيضًا رسالة الدكتور عبد الحميد أبو سليمان حول نظرية إسلامية للعلاقات الدولية والتي قدّم فيها نقدًا للمدارس التقليدية في النظر للعلاقة بين المسلمين وغيرهم والتي اقترح فيها منهاجية لأمور يؤخذ بها في دراسة العلاقات الدولية على أسس جديدة.
الجزء الثاني في الحديث عن خبرة هذا المنظور، بعد الحديث حول لماذا المنظور وكيف المنظور؟ يتناول كيفية تشغيل وتطبيق هذا المنظور وبعض النماذج لذلك.
في اجتماع سابق تسائل البعض: أين عملكم؟ لأنه يظن أن حصائد عملنا لن تكون إلا في الإسلاميات بالمعنى التقليدي، وتغافل أن الأعمال التي تُسجل في إطار رؤية العالم وخصائص الرؤية النقدية وتفعيلها انطلاقًا من متطلبات واقع تغيير العالم الإسلامي هي من صميم المنظور الحضاري، وهذا التغافل تضييق للمفهوم وعودة به إلى مرادفة الفقه الإسلامي فقط.
– ومرة أخرى سؤال من داخل دائرة الجماعة البحثية العاملة في هذا الموضوع:
أين عملكم؟ وهذا لأننا لا نقرأ لبعضنا البعض ولا نحقق تراكمًا ولا نؤسس بالفعل جماعة علمية بالرغم من تعدد الجهود وكثرتها وثرائها لكنها لا تتواصل ولا تتراكم ولا يتم تُسويقها.
خلاصة القول في نقطتين أساسيتين أنهى بهما كلامي. لكى ندرب جيلًا كما تدربنا على معرفة هذا المنظور فهذا ليس بالأمر اليسير إنها عملية منهاجية. أولًا: هناك إنشاء لمنظومة التأصيل للمفهوم أو المنظور بصفة عامة في أبعاد معرفية ومنهاجية ونظرية تتلخص في أنه كان علينا العمل على أربعة محاور: الأول، أن نتبنى مدخل الجدال بين المنظورات في نطاق العلم. الثاني، أن نتعرف على وظيفة المنظورات الحضارية بأن نعرف عن النماذج المعرفية المتقابلة باعتبارها الأساس المعرفي لاختلاف المنظورات الحضارية. الثالث، نتأسس في مصادر التنظير من التراث الإسلامي حيث تبرز إشكالية العلاقة بين النص والواقع، والقيمي والمادي، والثابت والمتغير. الرابع، أن ننظر في فقه الواقع العالمي وواقع الأمة الإسلامية وكيفية إحداث التغيير – وإن كانت هذه النقطة يمكن أن تكون في الخلفية قبل أن نبدأ النقطة الأولى.
بعد التأسيس في منظومة هذه الأبعاد قُدِمت أعمال كثيرة على مدار ثلاثة عقود حول إعادة بناء المفاهيم السائدة منها علم السياسة والدولة والقوة والصراع والأمة وحقوق الإنسان، وتأسيس مفاهيم جديدة للتدافع والتعارف والتداول، تفعيل المنهاجية الملائمة لهذا المنظور وهي منهاجية قيمية. فنرد الاعتبار للحديث عن القيم وعلاقته بالعلم. نتحدث عن نماذج فكرية فنذهب إلى الفكر الإسلامي ونقرأ فيه عما يقدم من مصادر للتنظير السياسي في فروع العلوم السياسية المختلفة والعلاقات الدولية بشكلٍ خاص، نبحث عن الأنماط التاريخية لدعم التحليلات، نبحث في قضايا صعود وسقوط الدول، ومعنا أجندة قضايا ذات أولوية لنا تعكس تضافر بين الثقافي والديني وبين السياسي. ولعل أعداد أمتي في العالم تعكس هذه الأجندة من القضايا، مثل قضية الحوار والأمن الإنساني والعولمة، وكلها تمثل قضايا يمكن الاقتراب منها من رؤية نقدية سواء كانت قضايا وطنية أو إقليمية أو عالمية من منظور حضاري. فمن يتناول العولمة من منظور إسلامي لا شك يختلف عمن يتناولها من منظور ليبرالي أو قومي، وأخيرًا فقد قدمنا مستويات وحدات جديدة للتحليل إلى جانب نقد مستوى الدولة القومية ونظام الدولي القائم ومستوى الأمة ومستوى الجماعة.
إذن كل هذا يصب في إعادة تعريف السياسي من أكثر من مدخل، كثيرون لا يعلمون (وكما قلت أن غير المتابع بدقة لنا وهم كُثر حتى من بين أنفسنا) أن كل هذا تم خلال عدة قنوات من تدريس للمقررات العادية في القسم، أو استحداث لمقررات جديدة مثل الثقافة والسياسية العالمية أو الثقافة والنظم السياسية ومن خلال البحث العلمي ليس فقط في إطار الإسلاميات مع أهميته، ومن خلال دورات التثقيف الحضاري -وهي سبع دورات حتى الآن- ومن خلال التدريب على الأبعاد المنهاجية، ومن خلال الحوارات.
أختم قولي بأن هذا لم يتم بجهود فردية ولكنها جهود جماعية حاولنا جميعًا أن نتضافر. البعض استمر والبعض قد أبعدته قوى الطرد المركزية؛ لأن من يبقى على هذه الساحة قليل؛ لأن الأمر ليس بالهين اليسير. وهو تيار في العلم الآن ونحن مطالبون أن نضيف إليه وهناك العديد من الكتابات الغربية التي تطالب الدائرة الحضارية الإسلامية أن تُدلي بدلوها في علم العلاقات الدولية وهم خلال العقد الماضي قدموا العديد من المؤلفات في هذا المضمار منها “حوار الحضارات كمنظور لنظرية العلاقات الدولية اليوم”.
فهذه تقارير تنقد الآن في الغرب ذاته المفهوم التقليدي للسياسة بأنه صراعي وقائم على الدولة القومية، و يوسعون الدائرة لمستويات جديدة في التحليل وقضايا جديدة، فنحن من باب أولى الذين بدأ مفهوم السياسة لدينا مرتكنا إلى هذه الأمور في تقاليدنا الحضارية والإسلامية مطالبون بأن نفعل هذا.
كانت آخر مشاركة لي في ديسمبر الماضي مع أحد أساتذة العلاقات الدولية في جامعة أكستر حول الديمقراطية العالمية وهو مفهوم مُستحدث في الأدبيات الآن، منطلقين من أنه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية العالمية إلا إذا عرفنا الاقترابات المقارنة، فقدمنا ورقة مبنية على نقد المنظورات الغربية التي عملت في هذا المجال، وكان حوارًا مهمًا بدأ من الخصوصيات منطلقًا نحو التعدديات وفيه جاذبية لما يتصل بما يمكن أن يقدمه الإسلام من منظومات قيم وخبرة حضارية وتقاليد مؤسسية في وقت ازدهاره كسبيل ليس فقط لحل مشاكل أمتنا ولكن أيضًا لحل مشاكل العالم، وهذا الأمر يحتاج إلى جرأة ومبادرة من الباحثين تتخلص من قيود الواقع المتردي الذي نعيشه.

نشر في: نادية محمود مصطفى (تحرير)، في تجديد العلوم الاجتماعية: بناء منظور معرفي وحضاري.. الفكرة والخبرة، (لقاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2016)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى