السياسة الفرنسية والصراع العربي الإسرائيلي (1967- 1977): الأبعاد والمحددات

دراسة:

شكلت المنطقة العربية وضعًا متميزًا بين مناطق العالم الثالث في الاستراتيجية الفرنسية التي صاغها ديغول كسبيل لتأكيد دورها الدولي المستقل في مواجهة القوتين الأعظم، وكانت أزمة أيار (مايو) 1967، وما أعقبها منذ حرب 5 حزيران (يونيه)، مثلا للسياسة العربية لفرنسا الهادفة إلى خدمة أهداف هذه الاستراتيجية. وقد تناوب على رئاسة فرنسا خلال الفترة 1967- 1977 كل من “ديغول” و”بومبيدو” و”ديستان”، وكان لاختلاف أسلوب الرؤساء الثلاثة في إدارة السياسة الخارجية واختلاف رؤيتهم لوضع فرنسا في النظام الدولي، أثره على السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي في الفترة المذكورة. ولكن، في التحليل الأخير، كان مسار السياسة الفرنسية في هذه الفترة يتفق والتطور في معطيات الصراع ويراعى الحفاظ على المكاسب الاقتصادية في المنطقة العربية وتدعيمها. وكان استجابة لمعطيات خارجية وداخلية بأسلوب يتفق وأسلوب كل من الرؤساء الثلاثة، وانعكاسًا للمصلحة القومية الفرنسية كما يقدرها كل من هؤلاء الرؤساء في بحثه عن دور عالمي لفرنسا. كما تحددت تنائجه وفعاليته في ظل تفاعل هذه السياسة مع الإطار الداخلي والدولي المحيط.

السياسة الفرنسية والصراع العربي-الإسرائيلي 1967- 1977
الأبعاد والمحددات

تهدف هذه الدراسة(**) إلى تحليل أبعاد التطور في سياسة فرنسا (القوة الثانوية secondary power) تجاه أحد أهم الصراعات التي تنفجر في المنطقة العربية: وهو الصراع العربي-الإسرائيلي (منذ أزمة أيار- حزيران/ مايو – يونيه 1967، وحتى مبادرة السادات بزيارة القدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977).
ويستجيب هذا الهدف لاهتمامات –أكاديمية وعملية على السواء- بسياسات المنطقة العربية من ناحية وبدور القوى الثانوية في النظام الدولي من ناحية أخرى.
فالمنطقة العربية(***) تشهد صراعات متنوعة ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية، ويصبغ الصراع العربي- الإسرائيلي بتطوراته سياسات هذه المنطقة، والعلاقات الإقليمية والعالمية لدولها. فيظهر بوضوح على ضوء هذا الصراع، التفاعل بين مستوى العلاقات الدولية الإقليمية وبين النظام الدولي برمته. ذلك لأن هذا الصراع يثير النقاش حول العلاقة بين القوتين الأعظم في إطار إقليمي محدد يحتل فيه هذا الصراع مكانة مركزية مؤثرة على توازنه. ولقد تركزت معظم الدراسات التي تناولت هذا الصراع –في بعده الخاص بتأثير وتدخلات القوى الخارجية- على تحليل سياسات القوتين الأعظم ولكن يبقى هناك مجال يحتاج لمزيد من الاهتمام ألا وهو مجال البحث في حدود حركة تلك الدول المسماة بالقوى الثانوية أو المتوسطة التي تحاول القيام بدور عالمي وذلك في إطار تفاعلها مع مشاكل المنطقة العربية وفي ظل الإطار السائد للسياسات الدولية.
وتعدّ فرنسا –الجمهورية الخامسة- أحد أهم هذه القوى الثانوية الطامحة لدور عالمي ومستقل. وتساهم دراسة أبعاد سياستها تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي في إلقاء بعض الضوء على وضعها في النظام الدولي بصفة عامة وفي المنطقة العربية بصفة خاصة.
وتحاول هذه الدراسة إلقاء بعض الضوء على دور وتأثير القوى الخارجية على تطور الصراع العربي-الإسرائيلي في غمار التفاعلات الإقليمية في المنطقة العربية وما لها من ارتباطات بالنظام الدولي من خلال منظار محدد وهو تحليل دور قوة ثانوية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي الذي يقع في بؤرة الصراعات في هذه المنطقة بدءًا من الصياغة الديغولية لوضع المنطقة العربية، في الاستراتيجية الفرنسية العالمية.
لقد فرضت حرب 1967 اختيارات هامة لأبعاد هذه السياسة الفرنسية بما يتفق ومعطيات هذه المرحلة من الصراع على ضوء تأثير تفاعل عدة محددات محلية وإقليمية وعالمية.
ومن ثم تنقسم مقومات الدراسة على النحو التالي: أولا: أهداف ومحددات السياسة الفرنسية في المنطقة العربية.
ثانيًا: أبعاد التطور في السياسة الفرنسية.
ثالثًا: تحديد ماهية تأثير هذه المحددات على أبعاد التطور في السياسة الفرنسية.

أولا: أهداف ومحددات السياسة الفرنسية في المنطقة العربية

أ‌- الأهداف: وضع المنطقة العربية في الاستراتيجية الفرنسية

تحتل المنطقة العربية وضعًا متميزًا بين مناطق العالم الثالث في الاستراتيجية الفرنسية التي صاغها ديغول والتي تنبع من رؤيته الشاملة للنظام الدولي ووضع فرنسا فيه. وتدور تلك الرؤية حول الهجوم على القطبية الثنائية الجامدة التي لا تستطيع فرنسا أو غيرها من القوى أن تلعب في ظلها دور القوة الثالثة القادرة على التأثير على سياسات القوتين الأعظم في مناطق العالم المختلفة[1].
فمع رجوع ديغول إلى السلطة عام 1958 بدأت فرنسا مرحلة جديدة من العلاقات مع المنطقة العربية حيث اصطبغت المصالح الفرنسية التقليدية[2]، برؤية جديدة تتفق ورؤية ديغول للأوضاع الدولية المحيطة وكذلك للأوضاع الإقليمية العربية، وتنبع من تلك الرؤية أهداف ومحددة أراد ديغول تحقيقها من خلال عملية تقارب تدريجية مع العرب وتتلخص هذه الأهداف كالآتي:
فمن ناحية أولى: تهدف فرنسا إلى تدعيم نفوذها لدى دول العالم الثالث كسبيل لتأكيد دورها العالمي المستقل في مواجهة القوتين الأعظم، وكسبيل لكسر حدة القطبية الثنائية، وكان التقارب مع العرب يدعم من جاذبية فرنسا لدى دول العالم الثالث[3].
ومن ناحية ثانية: كانت فرنسا تهدف إلى حماية مصالحها الاقتصادية الحيوية في المنطقة، أي التي ترتبط بالتجارة والنفط. ومن هنا كانت ضرورة العمل للاستفادة من دعم النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية[4] فهل كان فصم عرى التحالف الفرنسي التقليدي مع إسرايل يمهد الطريق لتحقيق هذا الهدف؟
ومن ناحية ثالثة: تهدف فرنسا لمنع “الصدام أو الاتفاق” بي القوتين الأعظم في المنطقة، أي تهدف إلى إضعاف الاستقطاب الثنائي فيها حتى يتوافر لها مجال للحركة أو النفوذ[5]. ومن ثم فإن الإطار الذي كان يلائم مصلحة فرنسا هو سياسة مستقلة تهدف إلى تطوير العلاقات الثنائية مع الدول العربية. كما تهدف إلى التخفيف من التوتر والتقليل من حجم تدخل القوتين الأعظم[6]. وهكذا يتضح الارتباط –لدى ديغول – بين الاستقلال ووزن سياسة فرنسا العالمية وبين استقلال سياسة دول العالم الثالث بصفة عامة وأهم المناطق القريبة منه لفرنسا، أي المنطقة العربية بصفة خاصة، كما يتضح إدراكه للكيفية التي يؤدي بها استمرار الصراعات المحلية والإقليمية إلى تدعيم مصالح القوى العظمى[7].
ويأتي الصراع العربي-الإسرائيلي منذ أزمة أيار (مايو) 1967(*) ليصبح محكًا لقدرة فرنسا على خدمة هذه الأهداف، بل ووسيلة حاولت فرنسا استغلالها للدفع في اتجاه تحقيق هذه الأهداف.
بل تعتبر هذه الأزمة نقطة تحول في السياسة العربية لفرنسا التي أخذ ديغول يرسي ركائزها منذ رجوعه للسلطة في العام 1958. فماذا عن استمراريتها من بعده؟
بالرغم من أن بعض مواقف ديغول قبل رجوعه للسلطة في العام 1958[8]، كانت تدفع للاعتقاد باستبعاد احتمال تغير السياسة الفرنسية وتجاه إسرائيل والدول العربية، إلا أنه يرجع لديغول الفضل في توجيه السياسة الفرنسية في المنطقة العربية إلى مسار جديد يختلف عن مسار سياسة الجمهورية الرابعة[9]، ولكن لم تتغير السياسة الفرنسية مع ديغول بسرعة وبشدة فجائية. فلقد مرت بخطوات تدريجية في التقارب مع العرب (ولكن مع المحافظة على التوازن بينها وبين العلاقات مع إسرائيل) قبل أن تفصح عن وجهها الجديد في المنطقة[10].
وكانت أزمة حزيران (يونيه) 1967 اختيارًا حقيقًا لأبعاد ذلك الوجه الجديد. فكيف جاء تقدير فرنسا لعواقب وهذه الأزمة على التفاعلات الدولية والتوازن الإقليمي في المنطقة؟ وهل نالت هذه الأزمة من الوضع الذي كان يبحث عنه ديغول وتستطيع فرنسا في ظله القيام بدور نشط؟ وهل أضحت قدرة فرنسا على حماية مصالحها في المنطقة تتوقف على القيام بدور في محاولة تسوية الصراع؟ وما العلاقة بين هذا الدور وبين مصالح وسياسات الأطراف الخارجية الأخرى وخاصة القوتين الأعظم.
يمكن القول إن أزمة 1967 وعواقبها فرضت على فرنسا الاختيار بين عدة بدائل كان لابد أن يكون لها مغزاها بالنسبة لإمكانات تحقيق الأهداف التي صاغتها “الجمهورية الخامسة” مع ديغول. ذلك لأن عواقب هذه الأزمة فجرت التناقضات بين مطالب ومصالح الأطراف الإقليمية والعالمية المتصارعة في المنطقة.
وكان أول هذه الاختيارات هو: ضرورة الاختيار بين العرب وإسرائيل. أي إن صوت المصلحة الفرنسية لدى الدول العربية أخذ يعلو على صوت الصداقة الفرنسية –الإسرائيلية التقليدية بعد أن استطاع ديغول منذ العام 1958 الموازنة بين علاقات فرنسا بالطرفين.
وكان ثاني هذه الاختيارات: يفرض على فرنسا تبني سياسة تنطبق على كل الدول العربية ولمن تأخذ في الاعتبار في الوقت نفسه الاختلافات بين هذه الدول.
وكان ثالث هذه الاختيارات: يفرض تحديد كيفية مواجهة تعقيد العلاقات مع كل من القوتين الأعظم نتيجة اندلاع الحرب وخلال محاولة تسوية عواقبها، وذلك في ظل مطالب فرنسا بدور مستقل في هذه المحاولة بل وإصرار ديغول على مثل هذا الدور[11]. وهكذا كان على فرنسا أن تخطط لسياسة جديدة تتكيف مع المعطيات الجديدة لهذه المرحلة من الصراع العربي-الإسرائيلي. وتحقق لها الهدف الأساسي –أي الاستقلال القومي والدور العالمي- والذي يكمن وراء الأهداف الفرنسية الأخرى في المنطقة، أي تدعيم الوضع الفرنسي في المنطقة وتخفيض جاذبية القوتين الأعظم لدى الدول العربية[12].

ب‌- محددات السياسة الفرنسية:

لقد تأثرت السياسة بتفاعل عدة قوى مع الصياغة الديغولية لها بحيث انعكست تأثيرات تلك القوى وعلى تطور تلك السياسة، وعلى نحو يثير التساؤل التالي: هل حققت السياسة الفرنسية أهداف ديغول من وراء التعامل مع الصراع العربي-الإسرائيلي، وماذا عن درجة الاستمرارية في هذه السياسة بعد ديغول؟
يمكن تصنيف القوى المؤثرة إلى مجموعتين أساسيتين من المحددات: المحددات الداخلية، أي النابعة من النظام السياسي الفرنسي، والمحددات الخارجية أي النابعة من النظام الدولي.
فماهي أبعاد كل من هذه المحددات؟ حتى يمكن على ضوئها –بعد ذلك- تحديد ماهية وكيفية تأثيرها على أبعاد التطور في السياسة الفرنسية وعلى درجة فعاليتها مع ديغول ثم بومبيدو وديستان.
أولا: المحددات الداخلية النابعة من النظام السياسي الفرنسي:
ما هي الضغوط والإمكانات التي تنبع من الإطار الداخلي للسياسات الفرنسية والتي تؤثر على الاختيار بين بدائل السياسة الخارجية؟ بعبارة أخرى ما هي القوى السياسية الداخلية التي تؤثر على عملية صنع السياسة الخارجية الفرنسية؟
ومن ثم يثار التساؤل حول تقدير الوزن النسبي للرئيس الفرنسي بين القوى الأخرى المشتركة في عملية صنع هذه السياسة (السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية)، والقوى المكونة للوسط السياسي المحيط بهذه العملية (مثل جماعات الضغط والرأي العام).
وتهدف الإجابة على هذا التساؤل المزدوج الأبعاد إلى تحديد مركز القرار في السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي ودرجة وكيفية استجابته ومقاومته للضغوط النابعة من النظام السياسي الداخلي. ويساعد هذا النمط من التحليل على تقدير وزن الإطار الداخلي للسياسات الفرنسية في تفسير درجة الاختلاف أو الاستمرارية بين سياسات ديغول وسياسات كل من بومبيدو وديستان.
يمكن القول باختصار إن استعراض تطور وضع رئيس الدولة الفرنسية دستوريًا وفعليًا[13] (منذ ديغول وحتى ديستان) يشير إلى أن رئيس الدولة هو مركز صنع السياسة الخارجية الفرنسية.
ولكن تعرض الرؤساء الثلاثة (نظرًا لاختلاف علاقات القوى السياسية بين الأغلبية والمعارضة، وفيما بين أجنحة الأغلبية، وكذلك بين أجنحة المعارضة في ظل رئاسة كل منهم) لدرجات مختلفة من الضغوط على حرية حركة كل منهم. وكان ديغول أكثر الرؤساء الثلاثة مقدرة على التعامل مع هذه الضغوط وتحييد تأثيراتها. ومع ذلك فإن هذه الضغوط –بصفة عامة- لم تكن تعدو مجرد ضغوط سلبية النتيجة على اختيارات الرؤساء الثلاثة.
ومن هنا فإن تحليل رؤية كل من بومبيدو وديستان لوضع فرنسا في النظام الدولي يساعد على تفسير ما قد يكون قد طرأ بعد ديغول من تغيير في السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي.
وباستعراض اتجاهات وأسلوب إدارة السياسة الخارجية لبومبيدو[14] يتضح أنه تحرك في إطار المبادئ والأسس الديغولية، وحافظ على الأهداف السياسية الديغولية الأساسية ولكن بأسلوب جديد نابع من الاختلاف تمسك بومبيدو بسياسة الاستقلال القومي والدور العالمي لفرنسا العزيزة على تقاليد الدبلوماسية الديغولية، ولكن في إطار أكثر واقعية في تقدير حقيقة قوة ونفوذ فرنسا في العالم، وعلى ضوء حقيقة توزيع القوى العالمية التي لا يصل تأثير فرنسا عليها إلى درجة ومستوى تأثير القوتين الأعظم. ومن ثم كان بومبيدو أكثر واضعًا من ديغول في تطلعاته بالنسبة لأبعاد الدور الفرنسي العالمي المستقل، ذلك نظرًا لإدراكه ثقل تأثير العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية الداخلية منها والعالمية على أبعاد هذا الدور. ولذا اتسمت سياسة بومبيدو الخارجية بمزيد من الموضوعية والاعتدال بالمقارنة بسياسة ديغول.
أما ديستان[15] فلقد تجسدت مع بعض التحولات في مسار السياسة الخارجية الديغولية، ففي حين رفع بومبيدو شعار الاستمرارية مع الانفتاح فإن ديستان –وهو غير ديغولي- رفع شعار التغيير ومن ثم أدخل تطورًا جديدًا في فلسفة وأسلوب الدبلوماسية الديغولية، ولكن من ناحية أخرى لم يكن بدوره مستعدًا للتضحية بالمعطاة الأساسية في سياسة فرنسا الخارجية، أي مبدأ الاستقلال القومي. ولكن اتبع منهجًا مغايرًا لتحقيق ذلك الهدف على نحو يتلاءم مع التحولات التي يفرضها النظام الدولي، يقوم على الاعتراف بالحاجة للتعاون مع دول العالم، وعلى الاعتراف بحدود قدرات فرنسا بالمقارنة بالقوتين الأعظم. فلقد أضحت فرنسا الديستانية أكثر وعيًا بأولوية المتطلبات الاقتصادية الداخلية بالمقارنة بمتطلبات الحفاظ على المكانة العالمية. أي إن منطق ديستان يقوم على الاعتراف بأن فرنسا ليس لديها القدر الكافي من القوة والسلطة التي تمكنها من القيام بدور حاسم في تدعيم العلاقات الدولية والسلام العالمي.
خلاصة القول إن اختلاف الرؤساء الثلاثة في رؤيتهم العالمية لوضع فرنسا في النظام الدولي، واختلاف أسلوب إدارة كل منهم للسياسة الخارجية في ظل تحديات داخلية ودولية متباين، قد انعكس على درجة طموح وأهداف ووسائل السياسة الخارجية الفرنسية في ظل رئاسة كل منهم.
إذًا هل ستنعكس هذه الاختلافات على وضع المنطقة العربية في السياسة الفرنسية بعد ديغول؟ وإلى أي حد استمرت هذه السياسة بصفة عامة، وتجاه الصراع العربي-الإسرائيلي بصفة خاصة، مظهرًا من مظاهر التعبير عن الدور العالمي المستقل لفرنسا كما أراده ديغول؟

ثانيًا: المحددات الخارجية النابعة من النظام الدولي

كان لابد للحقيقة الموضوعية للنظام الدولي الشامل والنظم الفرعية الإقليمية أن تنعكس على تنفيذ اختبارات السياسة الفرنسية وتطورها، تلك السياسة التي ساهم في صياغتها –كما سبق الإشارة- إدراك الرؤساء الثلاثة لوضع فرنسا في النظام الدولي.
تنقسم المحددات الخارجية إلى ثلاث مجموعات: الأولى: نابعة من نظام العلاقة بين القوتين الأعظم. والثانية: تنبع من النظام الإقليمي لأوروبا الغربية الذي تنتمي إليه فرنسا والتي ترتبط بعلاقات حيوية مع المنطقة العربية. والثالثة: تنبع من النظام الإقليمي العربي ذاته.

أ‌- المحددات النابعة من القوتين الأعظم

اتسم اتجاه السياسة الفرنسية مع ديغول بالتخلي عن التحالف الوطيد مع الولايات المتحدة لصالح سياسة توازن بين القوتين الأعظم كوسيلة للتعبير عن استقلال فرنسا ونفوذها في العالم الثالث بصفة عامة وفي المنطقة والعربية بصفة خاصة[16].
ومن هنا فإن تطور مناخ علاقات فرنسا بكل من القوتين الأعظم يقدم بعض الدلالات بالنسبة لدور فرنسا العالمي وقدرتها على المناورة بينهما. ولكن من ناحية أخرى فإن أبعاد تطور وجود ودور كل من القوتين الأعظم في المنطقة العربية يعد محددًا هامًا لإمكانات تحقيق أهداف السياسة الفرنسية. فما هي إذا أبعاد هذين الجانبين:
1- من واقع استعراض تطور مناخ العلاقات الفرنسية بكل من القوتين[17] الأعظم بعد ديغول[18] يمكن تلخيص التطور في وضع فرنسا بينهما في النظام الدولي كالآتي:
تغيرت بعد ديغول بعض خصائص النظام الدولي الذي تحرك في ظله بومبيدو وديستان. ومن ثم تأثر وضع فرنسا كوسيط بين الكتلتين كما تأثرت قدرتها على المناورة بين القوتين الأعظم. فلقد أضحت فرنسا تواجه موقفًا عالميًا تتأكد فيه باستمرار إرادة القوتين الأعظم في ظل غموض علاقة التعاون مع العداء بينهما[19]. وظل الخضوع للهيمنة الأميركية وللاتفاق بين القوتين يهدر سياسة الاستقلال القومي الفرنسية في هذه المرحلة من تطور النظام الدولي. ومن ثم كان على فرنسا أن تختار أسلوبًا يتلاءم والضغوط الناجمة عن هذا التطور. ولم يدخل بومبيدو وديستان المعركة بأسلحة وأسلوب ديغول نفسه. ولذا برز حرص فرنسا (وبصورة أكبر مع ديستان) على الموازنة بين متطلبات الاستقلال وبين متطلبات المرونة مع الولايات المتحدة، التي فرضت تخفيف حدة الهجوم على السياسة الأميركية، في الوقت نفسه الذي ضعفت فيه دوافع وفرص التشاور مع السوفيات بالمقارنة بفترة رئاسة ديغول. لذا اتهم البعض السياسة الفرنسية العالمية بالتدهور حيث يبدو أن فرنسا قد تركت المجال أمام المبادرة الأميركية ولم يعد بمقدورها إلا قبول الأوضاع التي لم تعد تشارك فيها[20].
2- كذلك من واقع استعراض تطور تورط القوتين الأعظم في المنطقة ومن ثم تطور شكل علاقة التوازن بينهما[21] يمكن التمييز بين ثلاث مراحل:
مرحلة الاستقطاب الحاد حتى ما قبل أزمة 1967 والتي شهدت تداخلا بين الحرب الباردة الشاملة والحروب الباردة الإقليمية الناجمة عن الانقسامات العربية في تلك المرحلة[22]. وكانت كل من القوتين الأعظم ترى في الأخرى سبب التوتر الذي يجب استبعاده. ثم مرحلة محاولة الحركة المشتركة بعد 1967: حقيقة تأثر وضع القوتين بعواقب هذه الحرب، ولكن لم تتخل إحداهما عن رفض انفراد الأخرى بالسيطرة على المنطقة. ومع ذلك أخذ مناخ العلاقات بينهما يعرف قدرًا من الاسترخاء بعد أن اكتشفًا (في ظل احتمالات المواجهة بينهما أثناء الأزمة) ضرورة تشاورهما واتصالهما لإدارة الأزمة[23]. ولكن أدى التطور الذي أخذ يطرأ على مواقف بعض أطراف الصراع (وخاصة مصر) وكذلك التطور في مناخ العلاقات بين القوتين الأعظم، نحو مزيد من الإنفراج منذ 1972، إلى بروز شكل آخر لتعاملها مع الصراع. وهذا يقودنا إلى المرحلة التالية، وهي مرحلة بداية انفراد الولايات المتحدة بعد تشرين الأول (أكتوبر) 1973 بإدارة عملية التسوية.
حقيقة كانت الحرب وما بعدها اختبارًا لمدى اهتمام الاتحاد السوفياتي بالحفاظ على الانفراج[24]. ولكن الوزن النسبي لوضع كل من القوتين في المنطقة تغير على نحو برز معه تفوق دور الولايات المتحدة في إدارة التسوية. ورغم ذلك ظل تطبيق الانفراج بين القوتين في المنطقة بمثابة علاقة تتداخل فيها مظاهر العداء ومظاهر التشاور، وذلك في إطار استمرار مساندة كل منهما لحلفائه، وفي إطار العمل على الحفاظ على المكاسب التي تحققت[25].
هذا ويساعد الربط بين هذين الجانبين، أي تطور مناخ العلاقات الفرنسية بالقوتين الأعظم من ناحية، وبين تطور مناخ العلاقة بينهما حول الصراع العربي-الإسرائيلي من ناحية أخرى، يساعد على تقدير أبعاد تأثير ذلك المحدد على سياسة فرنسا تجاه هذا الصراع (كما سنرى). فإنه يتوقف على الجانب الأول وزن فرنسا العالمي، في حين يتوقف على الثاني مدى السماح لها بالقيام بدور القوة الثالثة إلى جانب القوتين –أو إحداهما- في عملية التسوية.
إذًا ما هي فرص وإمكانات السياسة الفرنسية في ظل هذين الجانبين؟ أي بعبارة أخرى هل فرنسا “القوة الثانوية”، التي رأى ديغول أن نفوذها ووزنها يتوقفان في المنطقة العربية على تخفيف تورط القوتين الأعظم فيها، هل ستقدر على مواجهة ما تفرضه سياسات القوتين من تحديات؟

ب- المحددات النابعة من النظام الإقيمي لأوروبا الغربية

أراد ديغول –تحقيقًا لأهداف الاستراتيجية الدولية- أن تضم فرنسا قدراتها إلى قدرات دول أخرى –وبصفة خاصة دول غرب أوروبا- (ولكن مع التمسك بمبدأ الاستقلال القومي وتفوق الدور الفرنسي) –حتى تصل إلى مرتبة من القوة تقارب مرتبة القوتين الأعظم وبالتالي تتمكن من تحدي سيطرتهما على العالم[26]. فإلى أي حد وكيف اتجهت فرنسا مع الرؤساء الثلاثة للتعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي من خلال الإطار الجماعي الأوروبي؟ وهل سيعتبر هذا التحرك الفرنسي بديلا أفضل من الحركة المنفردة لفرنسا (القوة الثانوية) التي تريد القيام بدور في تسوية ذلك الصراع الذي يتفجر في منطقة ترزح تحت عبء تنافس وسيطرة القوتين الأعظم؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقتضي مسبقًا تناول أمرين:
أولا: وزن الجماعة الأوروبية في النظام الدولي
في هذا الصدد يمكن القول إن تطور العلاقات الأوروبية الأطلسية، وتطور وضع الحماية الأوروبية بين القوتين الأعظم؛ وتطور عملية البنيان الأوروبي[27]، كلها تطورات تشير بوضوح إلى أن الكيان الأوروبي الجماعي الذي تشارك فيه فرنسا ليس في الواقع إلا مجرد قوة اقتصادية لا تملك القوة السياسة الكافية لقيامها بدور عالمي فعّال، وذلك في وقت تتزايد فيه درجة “الاعتماد المتداخل الدولي الاقتصادي” على نحو يزيد من شعورها بعدم الاستقلال الكامل عن الولايات المتحدة.
لقد شاركت فرنسا –مع الرؤساء الثلاثة، ولكن بدرجات مختلفة- في إبراز هذا الوضع. فمن مفاهيم ديغول عن الاستقلال القومي التي دفعت بفرنسا الديغولية إلى تجميد سياسة التعاون الجماعي الاقتصادي والسياسي بل والعسكري[28]، إلى بومبيدو الذي أراد استغلال الحماية لتحقيق مكاسب قومية، ولكنه وبالرغم من اهتمامه بدفع التعاون الأوروبي على الصعيد السياسي، بدرجة أكبر من اهتمام ديغول بذلك، لم يذهب بعيدًا من حيث الاستعداد لتدعيم سلطة الأجهزة الجماعية[29]، إلى ديستان الذي اهتم بدرجة أكبر بدفع البناء الأوروبي ولكن في ظل الاختيارات الأميركية، أي اهتم بتجسيد الهوية الأوروبية ولكن من مناخ غير مضاد للولايات المتحدة[30]. باختصار كانت هناك قيود على إمكان استغلال فرنسا للجماعة الأوروبية كإطار فعال لسياستها العالمية.
ثانيًا: تطور ودرجة فعالية السياسة الجماعية الأوروبية تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي
نظرًا لما كانت تعانيه سياسة فرنسا تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي من ضعف، مرجعة الهوة بين الأهداف وبين القدرات، كان لابد وأن تبحث عن حلفاء لسياستها في المنطقة العربية، ولذا أضحت فرنسا –وبصفة خاصة بعد ديغول- من أكثر المتحمسين لسياسة أوروبية جماعية في هذه المنطقة[31] فما هو الوزن الفعلي لهذه السياسة؟
تطور بشكل ملحوظ اهتمام الجماعة الأوروبية بالمشاركة في سياساتها المنطقة العربية وتجاه الصراع العربي-الإسرائيلي بصفة خاصة مع نشوب حرب 1976 ثم بدرجة أكبر بعد حرب 1973. ولكن كانت هناك قيود هامة على إمكانات وفعالية السياسة الجماعية الأوروبية، ينبع بعضها من ضعف التيار الأوروبي، وينبع بعضها الآخر من تأثير وانعكاس العلاقات الأوربية-الأميركية على درجة استقلالية السياسة الأوروبية المذكورة. فكيف ستنعكس هذه الأبعاد على فرص استغلال فرنسا للجماعة الأوروبية كإطار سائد لسياستها في المنطقة؟

جـ- المحددات النابعة من النظام الإقليمي العربي

كيف أثرت التفاعلات على مستوى ذلك النظام لخلق دوافع هذه السياسة ومن ثم تشكيل اتجاهها من ناحية، وعلى درجة فاعليتها من ناحية أخرى؟
وهنا تبرز لنا ثلاث مجموعات من التساؤلات الأساسية التي يجدر الاسترشاد بها عند محاولة الاستناد إلى هذه المحددات في تفسير التطور في أبعاد سياسة فرنسا:
أولا: إلى أي حد كان لتطور وأهمية مصالح فرنسا في المنطقة العربية –بالمقارنة بمصالحها لدى إسرائيل- وزن في تشكيل اتجاه السياسة الفرنسية مع ديغول ومن بعده؟ وهل يتوقف دعم العلاقات العربية الفرنسية على تأييد فرنسا للقضية العربية من ناحية، وعلى تراجع علاقاتها مع إسرائيل من ناحية أخرى؟ وتفرض وهذه التساؤلات الإحاطة بمغزى تطور العلاقات الاقتصادية الفرنسية-العربية، والفرنسية-الإسرائيلية[32] في إطار طبيعة المناخ السياسي المحيط بها[33].
ثانيًا: إلى أي درجة ستؤثر علاقات القوى العربية، وانعكاساتها بالنسبة للسياسات العربية حول سبل تسوية الصراع[34]، على إمكانات السياسة الفرنسية؟ بعبارة أخرى إذا كان تحليل مسار العلاقات العربية الفرنسية في مجموعها يلقى الضوء على وزن المصالح الفرنسية في تشكيل اتجاه السياسة الفرنسية نحو درجة أكبر من مساندة القضية العربية، فهل ستؤثر الانقسامات العربية على اتجاه وفعالية هذه السياسة؟ وبعبارة أخرى، كيف ستواجه فرنسا –التي تتنوع علاقاتها ومصالحها الاقتصادية مع عديد من الدول العربية –مشكلة الانقسامات بين هذه الدول والاختلافات بين سياساتها حول سبل تسوية الصراع؟
ثالثًا: كيف ينعكس تقييم أطراف الصراع –الدول العربية وإسرائيل- لدور القوتين الأعظم، أو إحداهما بمفردها، في عملية التسوية على تقييمهم لإمكانات قيام فرنسا –منفردة أو في إطار الجماعة الأوروبية- بدور ما في هذه العملية؟
هذا وتقودنا المقابلة بين دلالات مسار العلاقات العربية الفرنسية (بالنسبة لأهمية المصالح الفرنسية في تشكيل السياسة الفرنسية) وبين دلالات تقييم أطراف الصراع لدور القوى الخارجية (بالنسبة لمدى فعالية فرص التحرك الفرنسي) إلى جوهر معضلة “القوة الثانوية” التي تبحث عن القيام بدور في مناطق العالم الثالث المتفجرة بالصراعات؛ وهل هذا الدور هو وسيلة لتدعيم قدراتها المعتدلة، أم أنه غاية في حد ذاته يحد من تحقيقها هذه القدرات المعتدلة نفسها؟

ثانيًا: أبعاد التطور في السياسة الفرنسية

الخط العام الذي يحكم مسار تحليل هذه الأبعاد هو تتبع وزن الدور الفرنسي بالمقارنة بوزن دور الأطراف الخارجية الأخرى، وخاصة القوتان الأعظم –في عملية البحث عن التسوية. ويتم ذلك في هذه الدراسة، من خلال تقدير التطور في وضع الدبلوماسية الفرنسية في الإطار التفاوضي الذي يجري خلال هذه العملية(*)، كذلك يتم من خلال تحديد تقدير فرنسا لمستوى تحركها، وهل هو ناتج عن المبادرة الذاتية أم أنه مجرد رد فعل لمبادرة طرف آخر؟ وهل هو تحرك مشترك متعدد المستويات، ثنائي (الاتصال بالقوتين الأعظم أو أحداهما، الاتصال بأطراف الصراع) أم جماعي (على صعيد الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية أو مجموعات دولية أخرى). كذلك يتم من خلال تحديد طبيعة الدور الذي تلعبه فرنسا عبر مستويات الحركة السابقة: هل تحاول التهدئة في وقت تفجر الأزمة، أم تحاول القيام بدور الوساطة، أم تحاول الضغط للتأثير على بعض الأحداث، أم ينحصر دورها في مجرد الاستعداد لتقديم ضمانات في مراحل تنفيذ ما سيتم التوصل إليه من تسوية؟
مما لا شك فيه إن الامتداد الزمني للدراسة (1967- 1977) سيساعد على تقدير مدى التطور في هذه الأبعاد مع ديغول ثم مع بومبيدو وديستان. ذلك التطور الذي يعد محصلة التفاعل بين تأثير المحددات السابق الإشارة إليها. ولتكن نقطة البداية مع تتبع أبعاد هذا التطور قبل أن ننتقل بعد ذلك إلى تحديد ماهية وكيفية تأثير هذه المحددات.
هذا وسيتم تحليل هذه الأبعاد في إطار تطور استراتيجية المواجهة العربية-الإسرائيلية من ناحية، وتطور الجهود الدبلوماسية التي بذلت لاحتواء الصراع ومحاولة تسويته من ناحية أخرى. ومن ثم سيقسم تحليل هذه الجزئية على ثلاثة مراحل:
أولا: منذ أزمة أيار –حزيران (مايو –يونيه) 1967 وحتى أيلول (سبتمبر) 1970.
ثانيًا: منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1973.
ثالثًا: منذ حرب تشرين الأول (أكتوبر) وحتى مبادرة السادات 1977.
وبقدر ما يعكس هذا التقسيم مراحل تفجر الصراع في حروب، كما يعكس تغيّر القيادة بقدر ما، يعكس أيضًا نقاط هامة في مسار الجهود الدبلوماسية المبذولة منذ اندلاع أزمة أيار- حزيران (مايو- يونيه) 1967: إبتداءً من صدور القرار رقم 242 ثم مهمة يارنغ في أيلول (سبتمبر) 1967، والمحادثات الثنائية بين القوتين الأعظم، والمحادثات الرباعية، ومبادرة روجرز الأولى والثانية (1967- 1970)، ثم انتقالا إلى مرحلة اللا سلم واللا حرب التي تخللتها مبادرة التسوية الجزئية المؤقتة (1970- 1973)، ثم أخيرًا مرحلة حرب تشرين الأول (أكتوبر) وما أدخلته من معطيات جديدة على الإطار التفاوضي السلمي. وهكذا فإن تحليل أبعاد التطور في السياسة الفرنسية سيتم من خلال تحليل الإطار الكلي لتطور الصراع حتى يمكن تحديد مكانة ووضع السياسة الفرنسية بين سياسات غيرها من الأطراف المتورطة والمهتمة.

أ‌- السياسة الفرنسية منذ أزمة أيار –حزيران (مايو –يونيو) 1967 وحتى أيلول (سبتمبر 1971)

قبل اندلاع الحرب:

1- ظلت فرنسا صامتة طوال فترة تطور وتصاعد الأزمة، واستمر تدفق الأسلحة الفرنسية على إسرائيل[35]. واكتفت فرنسا –على لسان السكرتير العام لوزارة الخارجية في أيار (مايو) –بالتأكيد على أنها بالرغم من علاقات تحالفها وصداقتها مع إسرائيل فهي حليف مستقل لا يتورط في الصراعات الإقليمية ولا يتداخل في شؤون الدول الأخرى[36].
2- ولكن إغلاق مصر لمضائق تيران فرض على فرنسا ضرورة الاختيار. ولكنها لم تصدر بيانًا رسميًا بموقفها من أزمة حرية الملاحة، وصرّح المتحدث وباسم الحكومة الفرنسية –عقب اجتماع مجلس الوزراء في 24 أيار (مايو) ببيان مقتضب، لم يتضمن أية إدانة للقرار المصري باعتباره عملا عدوانيًا.
ولقد أدَّى ذلك الموقف إلى رد فعل حاد لدى إسرائيل وصل إلى قول بعض ساستها بأن عبد الناصر ما كان ليقدم على إغلاق المضائق لو لم يعتقد بأنه سيحصل على مساندة فرنسا[37]. ولقد حرص ديغول على أن يؤكد في لقائه مع أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي في 24 أيار (مايو)، على مطالبة فرنسا بألا تبدأ إسرائيل الحرب. أي إن ديغول لم يكن يعترف بأن إغلاق المضائق يعتبر عملا عدوانيًا يبرر شن الحرب[38]. حقيقة كان ديغول يعلم أن إسرائيل تعتبر إغلاق المضائق عملا عدوانيًا يبرر شنها لحرب على مصر[39]، لكنه لم يعترف بذلك رسميًا. فلقد كان يهدف إلى الحيلولة –بوسائله الخاصة- دون اندلاع حرب تقود إلى تزايد تورط القوتين الأعظم في المنطقة[40]. وكانت مطالبة فرنسا في تصريح 24 أيار (مايو) نفسه باجتماع الأربعة الكبار لاحتواء وحل الأزمة، تؤكد من ناحية أخرى هذا الهدف. فكان ذلك الأسلوب ويمثل حلا منطقيًا لفرنسا التي تسعى في ذلك الوقت –ومن خلال أزمة الشرق الأوسط- للقيام بدور عالمي، والتي تسعى وأيضًا لتحويل المواجهة من الميدان العسكري إلى الميدان الدبلوماسي خوفًا من تزايد تورط القوتين الأعظم في حالة اندلاع الحرب[41].
وقد ظلَّ ديغول غامضًا حول كيفية ودرجة مساندة فرنسا للجهود المبذولة لإعادة فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. ولقد أبدت فرنسا ترددًا في قبول فكرة، إنهاء الحصار المصري البحري بالقوة[42]. هذا وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن فرنسا اعترفت –على لسان وزير خارجيتها في حديثه أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في 7 حزيران (يونيو) 1967- بشرعية طلب مصر سحب قوات الطوارئ الدولية وصحة استجابة السكرتير العام للأمم المتحدة له. ولكن الوزير الفرنسي تحفظ على المغزى السياسي للقرار على أساس أنه كان من الأجدر بمصر التشاور مسبقًا مع الدول الأربع الكبار.
3- ثم جاء بيان الحكومة الفرنسية في 2 حزيران (يونيه) 1967 (الذي صاغه ديغول بنفسه)[43] تجسيدًا لبوادر الاتجاه الجديد للسياسة الفرنسية بعيدًا عن التزامها التقليدي السابق بتأييد إسرائيل بصورة مطلقة. فلقد كان جوهره التأكيد على حياد فرنسا وإعلانها عن عدم مساندة الطرف الذي سيبدأ القتال ولكن مع الاعتراف بحق كل دولة في المنطقة في البقاء. ولقد رحبت الدول العربية بهذا الموقف الذي كان بمثابة بداية العاصفة في العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية. كما تجسدت في هذا البيان أيضًا رؤية ديغول لكيفية تسوية الأزمة، أي عن طريق الاتفاق المسبق بين الأربعة الكبار كسبيل لافساح مجال لفرنسا إلى جانب القوتين الأعظم.

مع اندلاع الحرب وحتى وقف إطلاق النار
(5- 11 حزيران/ يونيه):

لم تصدر الحكومة الفرنسية أية بيانات رسمية، وكان دور القوتين الأعظم –بالمقارنة بدور أي طرف ثالث- حاسمًا في تلك الفترة[44]. ولم يكن بمقدور فرنسا، إنطلاقًا من مواقفها السابقة (التأكيد على حيادها ليكسبها وزنًا في المنطقة، والدعوة إلى محادثات الأربعة الكبار لتفسح لنفسها دورًا)، التأثير على مسار الأحداث السريعة، ولكن الموقف الفرنسي في مناقشات مجلس الأمن (5-11 حزيران/ يونيه)[45] تميز عن موقف الولايات المتحدة بصفة خاصة ويتلخص هذا الموقف كالآتي: الاعتراف بعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، والربط بين وقف النار وبين عودة القوات المتحاربة إلى حدود 4 حزيران (يونيه)، والتأكيد على حق إسرائيل في البقاء والامتناع عن التصويت على المطالبة بمجرد إدانتها، اعتقادًا من فرنسا بأن الطريق إلى السلام لا يتحقق بالإدانة فقط ولكن بالمفاوضات أيضًا، وأن السلام لا يتمثل في الانسحاب المباشر بلا شروط فقط ولكن عن طريق مناقشة كل مشاكل القضية. أي أن فرنسا كانت تربط بين الانسحاب ووقف إطلاق النار حتى تبدأ محادثات لتسوية عواقب الحرب، ولم تكن فرنسا في هذه الفترة ترى إمكان قيام مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين العرب وإسرائيل، ولكنها كانت ترى أن المحادثات الرباعية هي السبيل للاتفاق على حل “يفرض” على أطراف الصراع.
منذ وقف إطلاق النار وحتى صدور القرار رقم 242:
ظلت الدبلوماسية الفرنسية[46] تؤكد على أن اتفاق الأربعة الكبار على حل يفرضونه هو سبيل التوصل إلى تسوية. كما أخذت تتهم سياسات القوتين الأعظم وتلقي عليها مسؤولية تصاعد الأزمة والفشل في احتوائها، كما قدمت العديد من المبررات لرفض الحوار المباشر بين العرب وإسرائيل في هذه المرحلة. بعبارة أخرى كانت فرنسا في هذه المرحلة، وانطلاقًا من الرؤية الديغولية لوضع فرنسا في المنطقة، تريد القيام بدور الوسيط بين القوتين الأعظم وبين أطراف الصراع وذلك من خلال إطار التشاور الرباعي[47]. وقد رحبت الدول العربية بهذا الإطار في تسوية الأزمة، ولكن إسرائيل انتقدت هذا المسلك الفرنسي بشدة. فيما فضّلت القوتان الأعظم الاتصال الثنائي فيما بينهما[48].

مرحلة صدور القرار 242 وبداية مهمة يارينغ:

وافقت فرنسا على القرار باعتباره أساسًا للتسوية السلمية الشاملة ولكن على شرط أن تدعمه ضمانات الأربعة الكبار، كما تحفظت على عدم وضوحه بالدرجة الكافية بالنسبة للتفويض المعطى للسفير يارينغ على أساس أنه لن يستطيع القيام بمهمته دون مساندة إيجابية من الأربعة الكبار. بعبارة أخرى كان لفرنسا رؤيتها للعلاقة بين دور القوى الكبرى وبين مهمة يارينغ وبين دور أطراف الصراع[49].
وفي ظل الاتصالات الثنائية بين القوتين الأعظم (تشرين الأول/ أكتوبر- أيلول/سبتمبر 1969)[50]، استمرت فرنسا في توجيه اللوم إلى القوتين الأعظم اللتين لم تستجيبا لمطالبتها بعقد المحادثات الرباعية، كذلك بدا واضحًا في الفترة، الاختلاف بين رؤية فرنسا لكيفية تحريك عملية التسوية وبين رؤية الإدارة الأميركية الجديدة مع نيكسون والتي اهتمت بالبدء في الاتصالات مع الاتحاد السوفياتي[51]، كما بدا أيضًا اهتمام فرنسا بالتشاور مع هذا الأخير الذي أخذ يبدي اهتمامًا أكبر –من ذي قبل- بفكرة المحادثات الرباعية وذلك في ظل التقارب بين موقف الدولتين من هذه القضية[52].
مرحلة المبادرة الفرنسية حتى مبادرة روجرز كانون الثاني (يناير) 1969- حزيران (يونيه) 1970:
وفي 17 كانون الثاني (يناير) 1969 دعت فرنسا رسميًا إلى المحادثات الرباعية[53]، وحرصت في عديد من المناسبات على تبرير هذه الدعوة باعتبارها السبيل الوحيد الممكن لإعادة السلام إلى المنطقة، والحيلولة دون تحولها إلى حقل لتنافس القوتين الأعظم[54]. ولقد رحبت الدول العربية بالمبادرة الفرنسية كسبيل لتوسيع نطاق المناورة الدبلوماسية، في حين ظلت إسرائيل ترى في أية وساطة خارجية عقبة أمام الوصول إلى السلام المباشر مع العرب[55]. وكان الاتحاد السوفياتي أول من أعلن موافقته على المبادرة الفرنسية في 20 كانون الثاني (يناير) 1969. ثم أعلنت الولايات المتحدة قبولها لها في 5 شباط (فبراير) 1969[56]. ولكن كان هناك اختلاف بين فرنسا والولايات المتحدة حول درجة الاهتمام والتركيز على كل من مستوى المحادثات: الثنائية أم الرباعية؟ فلقد وضح من مباحثات ديغول مع نيكسون في باريس في شباط (فبراير) 1969 نوع من التحفظ الفرنسي على استمرار المحادثات الثنائية إلى جانب الرباعية، حيث كان ديغول يرى في الأخيرة “وسيلة لفرض حل في الشرق الأوسط”[57]. في حين كانت الولايات المتحدة تفضل الاتصالات الثنائية، وهو الأمر الذي كان يعني حرمان فرنسا من الدور الذي يريده لها ديغول. وبالفعل ظلت المحادثات الرباعية ذات أهمية ثانوية بالنسبة للولايات المتحدة. وبالرغم من انتهاء الاتصالات الثنائية في كانون الأول (ديسمبر) 1969 بدون إحراز تقدم ملموس، إلا أن المباحثات الرباعية التي بدأت في نيسان (أبريل) 1969 لم تكن بدورها تحرز أي تقدم. وكان هذا يعني بوضوح أنه لا يمكن لأية سلطة رباعية أن تحقق فعالية في الحركة في غياب اتفاق القوتين الأعظم ولو على الحد الأدنى من المواقف المشتركة[58].
هذا وتجدر الإشارة إلى أنه بعد أن كان ديغول –منذ اندلاع أزمة أيار- حزيران (مايو –يونيه) يصر على “فرض” الأربعة الكبار لحل على أطراف الصراع، أضحت المواقف الفرنسية أكثر مرونة في هذا الصدد. ولقد أوضحت –حتى قبيل الإعلان رسميًا عن المبادرة الفرنسية- بأن المقترحات الفرنسية لا تعني بأية حالة فرض تسوية تتفق عليها الدول الأربع الكبار[59].
ولقد تأكد هذا الاتجاه مع بومبيدو أيضًا: حقيقة أنه استمرّ في التمسك بالمحادثات الرباعية ولكنه تخلى عن فكرة الحل “المفروض”[60]. وقد ظلت هذه المحادثات واجهة تختفي وراءها المساومات وبين القوتين الأعظم، ومجالا تستغلانه لممارسة لعبتهما الثنائية. ولم تحرز المحادثات الرباعية أي تقدم –طوال العام 1969- يمكنها من المساهمة في دفع مهمة يارينغ. بل كان مسارها يتوقف على نتائج وحالة الاتصالات الثنائية بين القوتين الأعظم، كما توقف البدء بها من قبل، على موافقتهما أيضًا[61]. ولم تنجح فرنسا في القيام بدور توفيقي بينهما. ولهذا لم تؤثر بصورة حاسمة وفعالة على الأحداث في المنطقة في تلك الفترة (أي وقف إطلاق النار بعد تصاعد حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية). وعلى العكس استطاعت الولايات المتحدة (مبادرة روجرز والثانية في أيار –حزيران/ مايو- يونيه 1970) أن تؤثر على الوضع. وفتحت نتائج دبلوماسية كيسنجر أثناء أزمة الأردن في أيلول (سبتمبر) 1970، الطريق أمام الولايات المتحدة لتفصح عن نوايا تحركها المنفرد في هذه الفترة[62].
وإذا كان بومبيدو قد رحّب علنًا في تصريح له في 18 آب (أغسطس) 1970 بالمبادرة الأميركية باعتبارها إجراء يهدف لتخفيف أعمال العنف في المنطقة، إلا أنه طالب ببذل مزيد من الجهود في نطاق المحادثات الرباعية[63]. كذلك حرصت فرنسا من ناحية أخرى على التحذير من مخاطر هيمنة القوتين الأعظم أو انفراد إحداهما، مع التذكير دائمًا بأن المباحثات الرباعية هي الضمان الوحيد ضد وصايتهما[64].
بعبارة أخرى فإن فرنسا انتقدت مبادرة روجرز لأنها تقترح قنوات أخرى للتفاوض تتجاهل الدور الفرنسي[65]. ولقد حرصت فرنسا على الاستناد إلى ما كان للمبادرة من عواقب (وخاصة أزمة الأردن) لتبرير تحفظها عليها. ولكن هذا المسلك لم يكن كافيًا لاخفاء عجزها عن التحرك الفعّال في هذه المرحلة[66].

ب- السياسة الفرنسية منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1970 وحتى تشرين الأول (أكتوبر) 1973

في ظل إحياء مهمة يارينغ (تشرين الأول/ أكتوبر 1970- شباط/ فبراير 1971) استمرت فرنسا في التمسك بالمحادثات الرباعية ورفض سيطرة القوتين الأعظم مع التأكيد على أهمية دور مجلس الأمن[67].
ولكن كان يتأكد دائمًا فشل المحادثات الرباعية في إحراز أي تقدم يساعد على دفع مهمة يارينغ. ولم تعد هناك آمال كبيرة معقودة عليها وخاصة بعد قرار الولايات المتحدة التكتيكي بالانسحاب منها مؤقتًا. فلقد كانت هذه المحادثات ضحية تركيز نيكسون على الاتصالات الثنائية وبداية اتجاه مصر نحو الاتصال بالولايات المتحدة[68]. ولهذا ثار التساؤل حول المصير النهائي لهذه المحادثات وخاصة بعد أن قامت الولايات المتحدة بتحريك الاتصالات حول مبادرة التسوية الجزئية المؤقتة، وهي المبادرة التي جاءت من جانب مصر ثم إسرائيل بعد فشل يارينغ في شباط (فبراير) 1971، وأمام جمود المباحثات الرباعية[69].
فماذا كان موقف فرنسا من مبادرة التسوية المؤقتة الجزئية 1971؟:
تحفظت فرنسا على هذه المبادرة. وكانت تكمن وراء ذلك التحفظ أسباب موضوعية وأخرى إجرائية. وتنبع الأسباب الموضوعية من رؤية فرنسا لاستحالة تحقيق اتفاق على خطوات جزئية، إلا إذا كان في إطار الاتفاق على تسوية شاملة. أي إن فرنسا كانت ترى ضرورة الربط بين أي اتفاق مؤقت جزئي وبين التسوية الشاملة النهائية، وذلك على أساس أن أي حل مؤقت جزئي لن يكون إلا “سلامًا وهميًا”، لأنه لا يمكن حل المشاكل المعقدة المتداخلة والتي تمثل العقبة الأساسية أمام السلام الحقيقي، إلا في إطار تسوية شاملة تتناول كل المشاكل وتمتد لكل الأطراف المعنية[70]. وتنبع الأسباب الإجرائية من رفض فرنسا لانفراد الوساطة الأميركية بالتحرك على أساس أن ذلك الوضع بمفرده لا يكفي لتحقيق وضمان تسوية نهائية فعالة، ولأنه لابد وأن يجذب تدخل والقوة العظمى الأخرى. أي إن فرنسا كانت تحذر من عواقب التغير النسبي في توزيع الأدوار بين القوتين الأعظم[71]، الذي كان يدخل مرحلة حاسمة وهامة مع بداية الاتصالات المصرية–الأميركية ومع بداية المصاعب في العلاقات المصرية-السوفياتية.
ولكن ماذا عن مصير المحادثات الرباعية (شباط/ فبراير 1971 وحتى نهاية 1971)؟
لم يعد بإمكان تحريك المحادثات الرباعية، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى مسؤولية الدور الأميركي في هذا الصدد[72]. كذلك بدأ حماس فرنسا ذاتها للتمسك بهذه المحادثات يفتر، حيث لوحظ بداية تواضع نغمة الدبلوماسية الفرنسية بالنسبة لاشتراكها في الجهود الدبلوماسية المبذولة والذي أضحى يتوقف على سياسات غيرها من القوى[73].
وبدأت فرنسا تبحث عن قناة أخرى للحركة هي الإطار الجماعي الأوروبي
ومن ثم كان بيان أيار (مايو) 1971 الذي لعبت فرنسا دورًا كبيرًا في تحقيق ما قيل عن اتفاق شركائها الأوروبيين من حوله[74]، وكان توقيت إصداره يوضح اهتمام فرنسا بمحاولة الفكاك من آثار الجمود والقيود التي تحد من فعالية مشاركتها، ومحاولة إسماع صوتها حول مبادئ التسوية والسبيل الأمثل للاتفاق حولها. ولكنه لم يكن تحركًا إيجابيًا ذا آثار فعلية ولم يعوضها عن فشل المحادثات الرباعية.
فلقد كان ذلك البيان مجرد تصريح للصحافة باسم الجماعة الأوروبية[75] حول اتفاق دولها على التقرير الذي قدمته اللجنة السياسية (في إطار اجتماعات التعاون السياسي الأوروبي)، ولكن ظل هذا التقرير سريًا. ولقد عارضته الولايات المتحدة، كما تعرضت الدول الأوروبية لضغوط إسرائيلية بشأنه. كما برزت الانقسامات بين فرنسا من ناحية وألمانيا الغربية وهولندا من أخرى حول تفسير بعض بنوده. بل واتهمت فرنسا من جانب شركائها الأوربيين بأنها ضغطت من أجل إصدار بيان 13 أيار (مايو)[76].
وهكذا مثلما فشلت فرنسا –من خلال المحادثات الرباعية- في دفع البحث عن تسوية شاملة، لم يقدر للجماعة الأوروبية أيضًا أن تساهم في دفع مهمة يارينغ، ذلك الإسهام الذي أشار إليه بيان 13 أيار (مايو) 1971.
ولكن ماذا عن وضع الدبلوماسية الفرنسية في مرحلة الجمود الدبلوماسي (نهاية 1971 وحتى حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973) والتي شهدت مناورة مصر بين القوتين الأعظم؟:
لم تستطع فرنسا طوال العام 1972 القيام بأية مبادرة. فلم يكن بمقدورها أن تدلو بدلوها في هذه الفترة التي بدأ فيها نطاق اللعبة، التي تحاول الاشتراك فيها، يضيق حتى يكاد لا يتسع إلا للولايات المتحدة. ولذا اقتصرت التصريحات الرسمية الفرنسية[77] على التغلب على فشل الجهود التي بذلت، ولكن دون إشارة إلى تصور البديل الذي يمكّن من إحياء هذه الجهود، أو تشارك فيه فرنسا وخاصة المحادثات الرباعية التي كانت اجتماعاتها قد توقفت دون محاولة جادة لاحيائها.
ولقد اتهمت سياسة فرنسا الخارجية بصفة عامة وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة –وبصورة واضحة في مناقشات الجمعية الوطنية الفرنسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1972[78] –بفقدان الفاعلية والجمود. وثارت التساؤلات- من جانب الأغلبية والمعارضة على السواء- عما إذا كان هذا الجمود يخفي وراءه دبلوماسية سرية أم أنه تعبير فعلي عن التباطؤ والتراجع؟ وعما إذا كانت قدرة فرنسا على القيام بدور فعال ترتبط بقدرتها على إعادة التوازن في علاقاتها بكل من العرب وإسرائيل على حد سواء؟
وبفرض الأخذ باحتمال سعي فرنسا –من وراء محاولة تحسين مناخ علاقاتها السياسية مع إسرائيل في هذه الفترة- للقيام ولو من خلال دبلوماسية سرية، بدور يوازي الدور الأميركي الذي اقتصر في تلك الفترة على الاتصالات السرية الثنائية وخاصة مع مصر، بفرض الأخذ بهذا الاحتمال لم يكن بإمكان فرنسا أن تدفع بالأوضاع لكسر الجمود وذلك نظرًا لتشكيك إسرائيل في سياستها، ولأنه لم يكن ذلك من مصلحة الولايات المتحدة. بعبارة أخرى لم يعد بمقدور فرنسا –في هذه الفترة التي تخلت فيها مصر عن القنوات الدبلوماسية المعتادة وركزت على المناورة بين القوتين الأعظم[79] أن تؤثر بأية صورة.
بل لقد وصلت فرنسا إلى التخلي نهائيًا منذ كانون الثاني (يناير) 1973 عن فكرة المحادثات الرباعية والاعتراف بفشلها[80]. فلم يعد يتوافر لاستمرار هذه المحادثات –ولو من الناحية الشكلية- ما توافر لها من قبل: فمن ناحية أولى انتهى الاهتمام النسبي الأميركي بها تحت وطأة تأثير واسترتيجية كيسنجر في التعامل مع الصراع العربي-الإسرائيلي. ومن ناحية ثانية انخفض اهتمام مصر بهذه القناة الدبلوماسية، بعد أن بدأت تتجه للحوار المباشر مع واشنطن كما أراد كيسنجر ومن ناحية ثالثة كان اهتمام الاتحاد السوفياتي باستغلال هذه القناة للضغط على الولايات المتحدة، ولتدعيم شرعية اشتراكه في عملية التسوية، يتناقص وذلك مع تزايد اتجاه مصر للحوار المباشر مع واشنطن.

جـ- السياسة الفرنسية منذ حرب تشرين الأول (أكتوبر) وحتى مبادرة السادات في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977

خلال هذه المرحلة تأكد ما للدور الفرنسي المنفرد، أو في إطار جماعي، من حدود فمنذ اندلاع الحرب وحتى وقف إطلاق النار (6 تشرين الأول/ أكتوبر – 25 تشرين الأول/ أكتوبر) يمكن ملاحظة ما يمكن وصفه، بصفة عامة، بسلبية رد فعل بومبيدو بالمقارنة برد فعل ديغول أثناء أزمة أيار –حزيران (مايو- يونيه) 1967 الذي حرص على تأكيد الدور الفرنسي. ولكن من ناحية أخرى –وفي ظل اختلاف القوتين الأعظم حول وقف إطلاق النار (6-16 تشرين الأول/ أكتوبر) –اهتمت فرنسا بتبرير التحرك العسكري المصري مع عدم الإسراع في قبول وقف إطلاق النار[81]. وهو الأمر الذي أثار كثيرًا من الاتهامات حول مدى حياد فرنسا نظرًا لعدم إدانتها للطرف الذي بدأ الحرب[82] (مثلما فعلت في حرب 1967) ولكن فرنسا لم تقترح في الوقت نفسه، أية صيغة محددة للمساعدة على وقف إطلاق النار ثم العمل من أجل تسوية. وكان اتجاهها واضحًا لقبول الأمر الواقع دون محاولة تعديله[83]. حقيقة هاجم وزير الخارجية الفرنسي –ميشيل جوبير- سياسات القوتين الأعظم، ولكن من منطلق الاعتراف بسيطرتهما على مسار الأحداث وعدم قدرة فرنسا على التحرك من أجل التأثير على الأحداث، كما حاول ديغول أثناء حرب 1967[84].
كذلك اتضح أيضًا عجز الجماعة الأوربية على التحرك بسرعة وفعالية في هذه المرحلة المبكرة من اندلاع الأحداث. واقتصرت جهود في هذا الصدد على مجرد توجيه نداء، في 13/10/1973، لوقف إطلاق النار تمهيدًا للتحرك من أجل تسوية استنادًا إلى القرار 242. ولقد مرَّ ذلك البيان دون أن يثير انتباهًا كافيًا[85] ولم يكن وراء ذلك البديل الضعيف إلا صعوبة التوفيق، في هذه المرحلة، بين السياسات القومية الأوروبية المختلفة[86].
وفي ظل بداية اتفاق القوتين الأعظم على وقف إطلاق النار وإقراره (16- 25 تشرين الأول/ أكتوبر) تزايد بوضوح غياب فرنسا والجماعة الأوروبية عن ساحة الأحداث، ولم يصدر عنهم أي تحرك يذكرنا ولو من بعيد بإصرار ديغول على المحادثات الرباعية. في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه الاتصالات الثنائية بين القوتين الأعظم، وبينهما وبين أطراف الصراع، للتوصل إلى وقف إطلاق النار الذي أضحى في هذه المرحلة غاية مشتركة اللقوتين الأعظم وإن اختلفت بالطبع دوافعهما[87].
بل لقد وصلت فرنسا، على لسان وزير خارجيتها أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1973، إلى الاعتراف بحدود الدور الذي يمكنها القيام به.
ولم يتمسك وزير الخارجية الفرنسي، في خطابه المذكور، بفكرة المحادثات الرباعية التي وصفها بأنها غير واقعية ولن تقود إلى نتيجة، كما بدا مسلمًا بترك المبادرة في يد القوتين الأعظم، مكا لم يقدم تصور لأي بديل يمكن أن تبادر به أو تشارك فيه فرنسا، وأخيرًا لم يكن كثير الاقتناع بفعالية تحرك الجماعة الأوروبية[88].
وبالفعل جاء القرار 338 وكذلك القرار 339 و340 نتاج اتفاق القوتين الأعظم[89] ونص القرار الأخير صراحة على ألا تشترك الدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن في قوات الطوارئ الدولية التي ستكلف بمراقبة وقف إطلاق النار. وبذا تأكد عدم جدوى التحفظات الفرنسية المتتالية –على القرارات الثلاثة- والتي كانت تهدف بصفة عامة إلى تأكيد دور الأمم المتحدة وليس دور القوتين الأعظم فقط[90].
وبعد استقرار وقف إطلاق النار بدأت مرحلة جديدة من التحرك الأميركي لتنفيذ دبلوماسية الخطوة خطوة (إتفاق الكيلو متر 101- الانعقاد الأول لمؤتمر جنيف – اتفاقيتا الفصل على الجبهة المصرية والجبهة السورية)، ماذا كان موقف الدبلوماسية الفرنسية بين التسوية الشاملة ودبلوماسية الخطوة خطوة (تشرين الثاني/ نوفمبر -73 أيلول/ سبتمبر 75)؟
– لم تشارك فرنسا أو الجماعة الأوربية في مؤتمر جنيف أو الإعداد له، وحرصت على أن تؤكد على خطورة التشاور الثنائي بين القوتين الأعظم، وعلى خطأ استبعادها وأوربا من عملية البحث عن تسوية. لأن أية تسوية مفروضة من القوتين الأعظم فقط ستكون هشة، ولن تكون في مصلحة السلام في الشرق الأوسط. ولذا طالبت بالبدء في مفاوضات حقيقية لتطبيق القرار 242 –الذي كان يبدو لها- كأمر بعيد المنال في ذلك الوقت بسبب وطأة عواقب انفراد القوتين الأعظم بالحركة، وبسبب عجز الأمم المتحدة وزيادة تبعية الأطراف المتحاربة، وهي جميعًا أمور تفرض البحث عن بديل آخر هو دور أكبر للجماعة الدولية. هذا وكانت فرنسا ترى في مؤتمر جنيف إطارًا للمفاوضات المباشرة بين مصر وإسرائيل، ولكن تحت رقابة القوتين الأعظم مع تمثيل “شكلي” للأمم المتحدة، وقيام الولايات المتحدة بدور الحكم. كذلك
أعربت فرنسا عن قلقها لعدم اشتراك كل الأطراف المعنية في المؤتمر، ولعدم تناوله كل المشاكل الأساسية[91].
– وإذا كانت فرنسا قد احتجت على استبعادها وأوربا من مؤتمر جنيف، فلقد حرصا الجماعة الأوروبية على تأكيد وجودها بسبيل آخر تمثل في إصدار بياني 6 تشرين الثاني (نوفمبر) و14 كانون الأول (ديسمبر) 1973. ويعتبر البيان الأول –الذي رحبت به الدول العربية- أول إسهام أوروبي أساسي في تصور حل لمشكلة تهم أوروبا بصورة مباشرة. ويعد بمثابة ميثاقًا أوروبيًا، عمقت المواقف الأوروبية المتتالية ما فيه من مبادئ. في حين كان للبيان الثاني فضل الإعلان عن بداية الحوار العربي-الأوروبي[92]. ولقد لعبت فرنسا دورًا كبيرًا في إصدار البيانين، وفي محاولة التغلب على الاختلافات الأوروبية، والضغوط الأميركية التي تحاول الحد من فعالية الموقف الجماعي الأوروبي[93]. ومع ذلك فلقد بدت أوروبا في نهاية 1973 وكأنها تفضل ذلك الحياد الغامض الذي يسمح لفرنسا أن تكتسب الأصدقاء ولألمانيا بأن تؤدي واجبها نحو إسرائيل.
بعبارة أخرى لم يكن التحرك الفرنسي، أو الأوروبي، إلا مجرد وسيلة لإسماع الصوت. فلقد كان نطاق دور فرنسا محدودًا لا يسمح لها بتجاوز مجال الإعلان عن المواقف والانتقال إلى مجال الحركة المؤثرة.
– وهاجمت فرنسا دبلوماسية كيسنجر، ومن ثم لم ترحب باتفاقية الفصل على الجبهة المصرية في كانون الثاني (يناير) 1974. فلقد تخوفت من أن تكون مجرد تمهيد لهدنة مؤقتة جديدة وليست خطوة نحو السلام الحقيقي، كما لم تكن تعتقد بقدرة الولايات المتحدة وبمفردها على التحرك، لأن جوهر المشكلة هو الحاجة لضمان دولي جاد لتسوية نهائية، لا يمكن تحقيقه بالتزام أميركي أو ثنائي مع الاتحاد السوفياتي، ولكنه يحتاج لمساندة دول أخرى منها فرنسا[94]. وفي الوقت ذاته حاولت فرنسا –التي ظلت بعيدة عن إطار المفاوضات الجارية- ألا تبدو بعيدة تمامًا عما يجري في المنطقة، وأن تُسمع صوتها ولو من خلال تأكيد المبادئ. ومن هنا مغزى زيارة وزير الخارجية الفرنسي في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 1974 للسعودية والكويت والعراق ودمشق. وتعد زيارته لدمشق –دون القاهرة- في هذه المرحلة تغييرًا واضحًا عن المغزى السياسي لهذه الجولة التي أكد فيها “جوبير” تحفظات فرنسا على دبلوماسية الخطوة خطوة، السابق الإشارة إليها، كما طالب خلالها بأن تكون فرنسا طرفًا في تسوية دولية تقوم على نطاق واسع من المشاركة الدولية لا تتحقق في مؤتمر جنيف[95]. ولكن فرنسا عادت –مع ديستان- لترحّب في بيان رسمي، باتفاقية الفصل –فهو كان تعبيرًا عن عودة الدور الفرنسي إلى حجمه الطبيعي في إطار الدور الأميركي[96].
– إذًا كيف أصبح وضع فرنسا –مع ديستان- بين تصارع الاتجاهات المؤيدة لاستمرار دبلوماسية الخطوة خطوة والأخرى الداعية لانعقاد جديد لجنيف (أيار/ مايو 1974- أيلول/ سبتمبر 1975)؟
لم تستطع فرنسا تقديم تصور بديل مقبول من مختلف الأطراف في هذه الفترة. ولكنها حرصت –من خلال الاتصال بالأطراف المعنية- أن تبدو وكأن المبادرة لم تخرج من يدها تمامًا ولو عن طريق التأثير غير المباشر. ومن هنا يبرز مغزى جولة وزير خارجية حكومة ديستان في لبنان والأردن وإسرائيل (خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأول/ أكتوبر – وأوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 1974)، وهي أول زيارة لوزير خارجية فرنسي لهذه الدول الثلاث. ولقد حرص الوزير الفرنسي أن يؤكد أن جولته لم تكن تهدف إلى التدخل في جهود كيسنجر (من أجل التوصل إلى اتفاقية فصل ثانية على الجبهة المصرية)، ولكن تهدف إلى إسماع صوت فرنسا حول العديد من المبادئ التي يجب تأكيدها[97]. كذلك استمرت الاتصالات الفرنسية-الإسرائيلية (زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي “آلون” لباريس في نيسان/ أبريل 1975، وزيارة السادات لفرنسا في كانون الثاني/ يناير 1975 وزيارة ديستان لمصر في كانون الأول/ ديسمبر 1975).
هذا ويتضح من متابعة طبيعة النغمة التي سادت الدبلوماسية الفرنسية منذ مجئ ديستان وحتى توقيع اتفاقية الفصل الثانية[98] عدة أمور:
أولها: عدم مهاجمة جهود كيسنجر للتوصل إلى اتفاقية ثانية على الجبهة المصرية ولكن مع استمرار التحفظ، على نحو ما، على الطابع الجزئي للتسوية الجارية. فلقد أكدت فرنسا على أهمية صيغة التسوية الشاملة حتى ولم تّم البحث عنها في مراحل متعاقبة وإجراءات جزئية. أي أن فرنسا ظلت تتمسك بالتسوية الشاملة ولكن مع الاعتراف بأنه يمكن التقدم إليها على مراحل. أي إنه بعد أن كانت فرنسا العام 1971 واضحة وحاسمة في اشتراط أن تكون أية تسوية جزئية مرتبطة الشاملة وفي إطارها، بل هي في الواقع كانت ترى صعوبة تحقق ذلك، نجد أنها أضحت تقبل التقدم في البحث عن التسوية الشاملة، على مراحل، ولم تعد تشترط بصورة صريحة وواضحة أن تكون هذه المراحل مرتبطة في إطار تصور شامل للتسوية.
ثانيهما: استمرار الاعتراف بحدود الدور الفرنسي، مع عدم الإصرار على الدعوة لانعقاد جنيف أو الاشتراك فيه، على أساس أن ما تستطيعه فرنسا هو مجرد المشاركة في إقرار السلام وليس القيام بإقراره لأنه لا يتوقف عليها أساسًا.
ثالثها: الاكتفاء بالتأكيد على مبادئ التسوية وضرورة الربط بينها (الانسحاب والاعتراف والأمن وحل القضية الفلسطينية). كذلك التركيز على دور فرنسا في الضمانات الدولية، ولقد أتاحت المباحثات بين الرئيسين المصري والفرنسي (والتي جاءت تعبيرًا عن زوال التوتر في العلاقات بين البلدين منذ بداية دبلوماسية كيسنجر) فرصة ركز فيها ديستان على دور فرنسا في الضمانات وليس على القيام بمبادرة فردية أو أوروبية جديدة[99].
رابعًا: عدم إصرار فرنسا على البعد السياسي في الحوار العربي-الأوروبي[100].
ولم تتخل فرنسا عن تأكيد وزنها ضمن الجماعة الأوروبية. ولكن لم يكن للإطار الجماعي الأوروبي أية فعالية في مساندة الدور الفرنسي في هذه الفترة، حيث لم يصدر عنه أي بيان يحدد موقفه من المفاوضات الجارية. حقيقة كان ديستان واقعيًا في تقدير مدى إمكانات أوروبا في التأثير على مسار التسوية، ولكن تجمعت مجموعة أخرى من الظروف الأوروبية والعالمية أفضت بالجماعة إلى ذلك الدور السياسي الضئيل[101].
– وتم توقيع اتفاقية الفصل الثانية على الجبهة المصرية في أيلول (سبتمبر) 1975 ثم تجددت محاولات إحياء مؤتمر جنيف. وقد رحبت فرنسا بهذه الاتفاقية (حيث أرسل ديستان برقية تهنئة) على أساس أنها خطوة إيجابية تعبر عن ارتباط الأطراف المعنية بأسلوب التفاوض والحوار، والذي لا يمكن بدونه تطبيق ما تتمسك به فرنسا من مبادئ ثلاثة كأساس للتسوية. وعلى أساس أن الجلاء التدريجي عن الأرض المحتلة خطوة في اتجاه التسوية الشاملة. ولكنها ظلت تؤكد أن المنهج الشامل يفرض نفسه بعد هذه الاتفاقية، ومن ثم يجب البدء على طريق تسوية كل المشاكل الجوهرية دون إهمال المشكلة الفلسطينية[102]. بعبارة أخرى كان لفرنسا بعض التحفظ على انعكاسات الاتفاقية على الواقع العربي، وبصفة خاصة على لبنان وبالنسبة للقضية الفلسطينية. في الوقت نفسه أخذ موقفها من الحقيقة الفلسطينية في وطن، وبحقهم في الاشتراك في المفاوضات. ومن هنا فإن التساؤل حول محاولة فرنسا تطوير موقفها من البعد الفلسطيني في الصراع وذلك للتأثير، ولو بطريق غير مباشرة، على مسار جهود التسوية الجارية، وبصفة خاصة في هذه المرحلة التي تزايد فيها الهجوم على عواقب الاتفاقية الثانية بالنسبة للقضية الفلسطينية والوضع في لبنان. ولقد حرص ديستان أن يوضح أن موقف فرنسا من القضية الفلسطينية لا يهدف إلا إلى توفير شروط لا سلام الدائم والعادل وأن قراراتها تمثل منهجًا متكاملا من أجل تسوية شاملة[103].
ولم تستطع فرنسا المساهمة الفعلية في فك الجمود حول المشاكل التي أحاطت بدعوة مؤتمر جنيف للانعقاد في العام 1977، وخاصة مشكلة تمثيل الفلسطينيين فيه، لقد حاولت أن تشير إلى وجودها في هذه الفترة بالاتصال المباشر بأطراف الصراع (جولة وزير الخارجية الفرنسي في المنطقة التي شملت زيارة كل من مصر وسوريا والأردن في شباط /فبراير 1977، ثم إسرائيل في نيسان/ أبريل 1977)، كذلك بالمشاركة في إحدى المبادرات الأوروبية الجماعية (بيان قمة لندن في حزيران/ يونيه 1977). ولقد ثبت من كلا التحركين حدود قدرة التأثير الفعلي لفرنسا سواء إن كانت منفردة، أو ضمن إطار أوربي جماعي. فلقد أبرز الوزير الفرنسي في جولته، أن فرنسا لا تطالب بدور ما ولا تنوي التدخل في إشكال تطبيق مبادئ التسوية، وأن نطاق الدور الفرنسي يتركز أساسًا في التأكيد على ضرورة الربط والجمع بين مبادئ التسوية الثلاثة الأساسية، فضلا عن محاولة التأثير على أطراف الصراع من أجل الاعتدال ومن أجل والتوصل إلى الفهم المتبادل، والاهتمام بالاشتراك في الضمانات، باعتبار فرنسا عضوًا دائمًا في مجلس الأمن[104].
أما بالنسبة للبيان الأوربي فقد كان يمثل خطوة للأمام في الموقف الجماعي الأوروبي من حيث مساندة القضية الفلسطينية في هذه الفترة، إلا أنه تعرض لضغوط شديدة من الولايات المتحدة لإرجاء نشره من كانون الثاني (يناير) إلى تموز (يوليو) 1977. كما أنه لم يأت بجديد بالنسبة لدور أوروبا في المفاوضات، ولم يقدم على تحديد أساليب المشاركة الأوروبية الفعلية في مراحل التسوية، واقتصر فقط على إبداء استعداد الدول الأوروبية للاشتراك في الضمانات[105].
وهكذا إزداد الانتقاد لافتقاد فرنسا للمبادرة وغيابها الفعلي عن مجال الجهود الدبلوماسية المبذولة، خاصة بعد أن فشلت أيضًا مبادرتها حول لبنان في العام 1976[106].

ثالثًا: ماهية وكيفية تأثير المحددات

باسترجاع ما أثير حول أبعاد هذه المحددات، وعلى ضوء متابعة التطور في وضع فرنسا في الإطار التفاوضي، يمكن التوصل إلى أن تأثير كل من المحددات الداخلية والخارجية جاء على النحو التالي:

تأثير المحددات الداخلية:

لم يكن للسياسات الداخلية تأثير حاسم على سياسة ديغول، بالرغم من مظاهر الرفض وصور الضغط من جانب القوى السياسية الفرنسية المؤيدة لإسرائيل. وبالرغم من أن بومبيدو ثم ديستان (بدرجة أكبر) لم يسهل عليهما –مثل ديغول- عزل صنع سياسة فرنسا تجاه الصراع عن بعض الضغوط الداخلية، إلا أنهما –أيضًا- ظلا مركز صنع هذه السياسة. وبصفة عامة يمكن الإشارة إلى أمرين:
أولا: على ضوء استعراض علاقة الرؤساء الثلاثة بكل من السلطتين التنفيذية والتشريعية حول الصراع العربي-الإسرائيلي[107]، يمكن القول إن سياسة فرنسا في هذا المجال تعد من أبرز الأمثلة على الاستقلالية رئيس الدولة في إدارة السياسة الخارجية.
والواقع أن أزمة الشرق الأوسط لم تكن محكًا لاختبار هام وحرج ولتماسك السلطة التنفيذية أو للتحالفات السياسية بين الأغلبية ذاتها. كما أنها لم تكن أيضًا محكًا للعلاقة بين رئيس الدولة والأغلبية البرلمانية. ولكن نظرًا لاختلاف وضع كل من ديغول وبومبيدو وديستان بين علاقات القوى السياسية هذه (حيث كان وضع ديغول أقوى)، فإن بومبيدو وديستان (نظرًا لحاجتهما لتدعيم سلطتهما بالانفتاح على أجنحة حزبية أخرى) كانا أكثر استعدادًا من ديغول للاستجابة لتأثير بعض المعطيات الداخلية وخاصة التي تدفع إلى إعادة التوازن في سياسة فرنسا بين شقها العربي وشقها الإسرائيلي.
ثانيًا: على ضوء استعراض وزن بعض القوى السياسية المحيطة بعملية صنع السياسة الخارجية (جماعات الضغط، والرأي العام مثلا) نتوقف بصفة خاصة عند وزن الجماعة اليهودية الفرنسية، التي أثرت على السياسة الفرنسية من خلال تأثيرها على الرأي العام الفرنسي، ومن خلال ما يسمى “بالتصويت اليهودي”.
لقد تحركت الجماعة اليهودية من خلال قنوات متعددة لمساندة إسرائيل. فأثر ذلك على توجيه الرأي العام الفرنسي لصالح الأخيرة. وساعد على ذلك تمتعها بتعاطف كبير لدى الشعب الفرنسي[108]. ولقد أثار دور هذه الجماعة في الهجوم على سياسة فرنسا، منذ أزمة أيار (مايو) 1967، غضب ديغول لدرجة دفعته إلى الإشارة في كانون الثاني (يناير) 1969، وفي بيان رسمي أعلن فيه فرض الحظر الشامل على السلاح المرسل للمنطقة، إلى وجود تأثيرات إسرائيلية في الأوساط القريبة من أجهزة الإعلام[109].
هذا ولقد ثار –بعد مؤتمر ديغول الصحفي في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 والذي وصف فيه الشعب اليهودي بأنه شعب “صفوة واثق من نفسه ومسيطر” –نقاش حول حقيقة ما يسمى بالانتماء المزدوج ليهود فرنسا[110]. ومهما امتد هذا الحوار، وبالرغم من تناقض حدته بعد ديغول، إلا إن الواقع الفعلي كان يشير إلى تورط الجماعة اليهودية إلى جانب إسرائيل لدرجة وصلت إلى حد الدعوة لتجنيد “التصويت اليهودي” للتأثير على سياسة الحكومة. وتتجدد دائمًا مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية، التساؤلات حول هذا “التصويت اليهودي” ودرجة فعاليته. وباستعراض العديد من التحليلات والوقائع[111] يمكن القول إنه لم يكن “للتصويت اليهودي” إلا أهمية هامشية على مستوى الانتخابات الرئاسية (المستوى القومي)، ولكن يصبح له أهمية نسبية على مستوى الانتخابات التشريعية والبلدية بسبب ارتفاع نسبة الناخبين اليهود في بعض الدوائر. ومع تناقض الفجوة بين الأغلبية وبين المعارضة (مع بومبيدو ثم ديستان)، ومع بداية التفكك في الأغلبية البرلمانية ذاتها، أصبح لكسب دائرة أو فقدانها أثر ملموس. ومع ذلك يرى البعض أن هناك اتفاقًا بين المراقبين على أنه ليس في فرنسا “تصويت يهودي” جماعي له أبعاد “التصويت اليهودي” كما في الولايات المتحدة الأميركية.
إذا كان هذا هو وضع تأثير السياسات الداخلية. فما لا شك فيه أن الأكثر وضوحًا في تفسير تطور وضع فرنسا في الإطار التفاوضي –من المحددات الداخلية- هو اختلاف أسلوب الرؤساء الثلاثة في إدارة السياسة الخارجية وفي رؤيتهم لوضع فرنسا تجاه الصراع في استراتيجيتها الدولية. ومن ثم فإنه نظرًا لأن الاهتمامات الاقليمية، وليست العالمية، هي التي احتلت الأولوية لدى بومبيدو وديستان، على عكس ديغول، فلقد برز اهتمامهما برسم وتنفيذ “سياسة متوسطية”، تعد سياسة فرنسا تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي أحد أبعادها. أي لم تكن هذه السياسة بالنسبة لهما إلا تعبيرًا عن مجرد أحد أبعاد دور فرنسا كقوة إقليمية. على حين أن اهتمام ديغول بأمن البحر المتوسط والسياسة المتوسطية لم يكن من منطلق الاهتمام بتدعيم الدور الإقليمي لفرنسا، وإنما كان تعبيرًا عن الدور العالمي لها. ولقد انعكست هذه الاختلافات على درجة اهتمام فرنسا بالمشاركة في تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، فانخفضت نغمة اهتمام بومبيدو، ثم ديستان (بدرجة أكبر)، بالإصرار على إشراك فرنسا في هذه العملية، في حين كان إصرار ديغول على هذا الأمر قويًا وحاسمًا[112].
ولقد جاءت الضغوط النابعة من الإطار الدولي المحيط، لتدعم من دلالات الاختلافات بين هذه الأساليب الرئاسية الثلاثة. وهنا يبرز تأثير المحددات الخارجية بحيث لا يجدر القول إن التغيّر في الرئاسة الفرنسية هو فقط وراء ما طرأ على السياسة الفرنسية من تطور في هذا المجال.

تأثير المحددات النابعة من القوتين الأعظم

إن الاختلاف بين المصالح الفرنسية وبين المصالح الأميركية والسوفياتية انعكس على مناخ العلاقة بينهم في المنطقة العربية. ويرجع أساس هذا الاختلاف في المصالح، إلى أن اهتمام القوتين الأعظم بهذه المنطقة يدخل في إطار استراتيجيتهما العالمية، في حين يرجع اهتمام فرنسا بها –وخاصة بعد ديغول- إلى مصالح إقليمية[113].
وكانت فرنسا تخشى من عواقب تواجدهما (أي القوتان الأعظم) بأية صورة كانت (تشاور أو مواجهة أو سيطرة إحداهما في المنطقة)[114]. فهل تحقق هدف ديغول من وراء المناورة بين القوتين الأعظم كسبيل لدفع دور فرنسا المستقل؟ هذا الهدف الذي كان يتوقف، كما سبق الإشارة، على تطور مناخ العلاقات الفرنسية بكل من القوتين الأعظم وتطور شكل العلاقة بينهما في المنطقة.
في مرحلة أولى، حاول ديغول استغلال الاختلافات بين القوتين الأعظم من ناحية، وزيادة مخاوف العرب من عواقب الصراع بينهما من ناحية أخرى، وأخذت فرنسا في مهاجمة سياسة الولايات المتحدة في محاولة لتحسين وضعها على حسابها[115]. وكانت واشنطن ترفض المسلك الفرنسي الذي يتقارب مع المسلك السوفياتي حول مشاكل التسوية[116]. وكان هدف ديغول من الاعتراف بالمصالح السوفياتية في المنطقة هو الحصول على اعتراف مقابل بالمصالح الفرنسية فيها[117]. وفي الوقت نفسه كان الاتحاد السوفياتي يهدف، من وراء المحافظة على علاقات طيبة مع فرنسا حخول “الشرق الأوسط”، أن يحول دون تقارب فرنسي-أميركي حوله. ولكن هدف ديغول لم يتحقق لأن “موسكو” كانت تدرك أن “واشنطن” هي الأقدر على الضغط على إسرائيل، كما أنها لم تكن مستعدة للتضحية بمكاسبها في المنطقة في سبيل التقارب مع فرنسا على نحو يساعد الأخير على القيام بدور في تسوية الصراع[118].
وفي مرحلة ثانية (1970- 1973)، وبالرغم من ظهور بوادر التقارب بين الولايات المتحدة وفرنسا في ظل رئاسة بومبيدو، وبالرغم من تزايد مظاهر قلق فرنسا من الوجود السوفياتي في البحر المتوسط، ظلت الاختلافات الفرنسية–الأميركية حول الشرق الأوسط كبيرة[119]. وظلت معضلة العلاقة بين الدولتين تتلخص في تساؤل فرنسا: إلى أين ستصل الولايات المتحدة بالتسوية؟ وفي تساؤل الولايات المتحدة حوا جدوى الدور الفرنسي[120]. وفي هذه المرحلة نفسها بدأ التشاور الفرنسي-السوفياتي حول التسوية يتقلص وذلك مع تهاون قوة الدفع في العلاقات السوفياتية-الفرنسية بصفة عامة، في الوقت نفسه الذي تزايد فيه اهتمام القوتين الأعظم بالتشاور الثنائي. ولهذا كله أخذت المبادرة الفرنسية في التقلص في هذه المرحلة، التي أخذ الانفراج الدولي يتبلور فيها.
وفي مرحلة ثالثة، أي بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 ثار مزيد من الشكوك حول إمكانات المبادرة الفرنسية في ظل طبيعة العلاقة بين القوتين الأعظم، وفي ظل مناخ العلاقات الفرنسية بكل منهما، فلقد تخلت فرنسا نهائيًا عن أية مبادرة، بل واعترفت –كما رأينا- مرارًا بحدود الدور الفرنسي وعدم قدرته على المبادرة. وذلك في وقت ازداد فيه اتضاح إنعكاس الانفراج الدولي في المنطقة من ناحية أولى، واستمرت فيه الخلافات الفرنسية الأميركية –ولكن بأسلوب فرنسي أكثر مرونة- من ناحية ثانية.
واستمر فيه أيضًا ضعف دوافع التنسيق مع السوفيات، ولم يتوافق فيه المسلك السوفياتي والتوقعات الفرنسية من ناحية ثالثة. وهكذا تأكد تدريجيًا عدم جدوى المذهب الديغولي في المناورة بين القوتين الأعظم في المنطقة العربية[121]. وإذا كانت “فرنسا الديغولية” قد انتظرت من القوتين الاعتراف بمصالحها في المنطقة وباشتراكها في عملية البحث عن التسوية، فإن الإمكان الفعلي للتحرك الفرنسي المستقل كان متوقفًا على استمرار درجة من العداء بين القوتين لا تصل إلى حد المواجهة المباشرة، أو الاتفاق بينهما، أو انفراد إحداهما بإدارة عملية التسوية[122].
ومع ذلك ظلت فرنسا لا تنحاز انحيازًا كاملا تجاه سياسة إحدى القوتين الأعظم، لأن ذلك الانحياز سيدعم من الاستقطاب الثنائي في المنطقة، وهو الأمر الذي لا يتلاءم ومصلحة فرنسا مهما كانت حدود حركتها، ولهذا برز حرص فرنسا على استقلال مواقفها في الأوقات المناسبة، وبعبارة أخرى –ومهما قيل عن تقلص مبادرتها الفردية- فقد ظلت فرنسا تميل إلى تعدد المراكز التي تتعامل مع الصراع.

تأثير المحددات النابعة من النظام الإقليمي لأوروبا الغربية

لقد توقفت درجة اهتمام الرؤساء الثلاثة بقوة دفع البنيان الأوروبي على مدى اهتمام كل منهم باستغلال هذا البنيان كإطار مساند لسياسة فرنسا تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي.
فديغول لم يقبل التحرك من خلال إطار الجماعة الأوروبية انطلاقًا من اعتقاده –وهو المتمسك بالسيادة القيومية والحريص على استقلال فرنسا حتى بالنسبة لشركائه الأوروبيين- بأن مثل ذلك التحرك الجماعي يمكن أن يضعف من النفوذ السياسي والمكاسب الاقتصادية الفرنسية في المنطقة لصالح شركائه الأوروبيين[123]. ولكن وكما لم يكن ديغول مسؤولا بمفرده عن إعاقة تطوير المؤسسات الجماعية الأوروبية والسياسات الأوروبية المشتركة، فإن تمسكه بدور مستقل لفرنسا في المنطقة العربية، لم يكن مسؤولًا بمفرده عن عدم دفع التعاون السياسي الأوروبي حول الصراع العربي-الإسرائيلي قبل حرب 67 وبعدها[124].
أما بومبيدو فلقد اهتم بدرجة أكبر بدفع الإطار الجماعي الأوروبي لسياسة فرنسا بصفة عامة، وتجاه الصراع العربي-الإسرائيلي أيضًا. ولذلك جاء تطور الموقف الجماعي الأوروبي تجاه هذا الصراع مع بيان أيار (مايو) 1971، وبيانات تشرين الثاني وكانون الأول (نوفمبر –ديسمبر) 1973، نتاجًا لمبادرات فرنسية. ولكن نال من فعالية هذا الإطار المساند للسياسة الفرنسية عدة صعاب: فلقد أدت الاختلافات بين السياسات القومية الأوروبية المنفردة، فضلا عن الضغوط الأميركية، إلى النيل من جاذبية دور الجماعة كبديل لدور القوتين الأعظم[125].
ومع ديستان استمرت فرنسا في التأكيد على أهمية تطوير الموقف الجماعي الأوروبي من الصراع العربي-الإسرائيلي، ولكن ظلت الصعاب السابقة نفسها تحد من فعالية هذا الموقف. هذا فضلا عن أن قناعة ديستان بدفع البناء الأوروبي، ولكن بدون الدخول في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة، انعكست على تقديره ومن ثم اعترافه بالأبعاد الحقيقية لدور الجماعة الأوروبية، نظرًا لافتقاد أوروبا ما للقوتين الأعظم من وسائل عسكرية تمكنها من المشاركة في إيجاد التسوية وضمانها[126].

تأثير المحددات النابعة من النظام الإقليمي العربي

كان تأثير هذه المحددات على تشكيل اتجاه السياسة الفرنسية على النحو التالي:
1- خلقت المصالح الفرنسية لدى العرب دافعًا لتوجيه هذه السياسة نحو مساندة القضية العربية. فلقد جاءت معظم المكاسب الاقتصادية الفرنسية الجديدة في المنطقة نتاج التشدد الفرنسي ضد إسرائيل منذ أزمة أيار (مايو) 1967[127]. أي إن تحسين المناخ السياسي للعلاقات الفرنسية-العربية يدعم من القدرة التنافسية للأوساط المالية والتجارية الفرنسية في مواجهة منافسة القوى الخارجية الأخرى في المنطقة[128]. ولقد تعددت حجج ومبررات الاتجاه القائل بأن استمرار فرنسا على خط سياسة ديغول نفسها من شأنه أن يحافظ على قوة المركز التنافسي لفرنسا.
ولكن في المقابل كان هناك اتجاه آخر يرى أن فرنسا لن تفقد شيئًا من مكاسبها الاقتصادية إذا ما أصبحت سياستها أكثر توازنًا بين العرب وإسرائيل، بل يرى أن فرنسا، إذا ما استطاعت تثبيت قدرتها على التأثير على إسرائيل والوساطة بينها وبين العرب، يمكن أن تدعم من وضعها بصورة أقوى في المنطقة[129].
ويمكن في الواقع الإستناد إلى هذا الاتجاه الأخير في تفسير بعض التطورات التي حدثت في اتجاه السياسة الفرنسية، وخاصة من حيث العودة –بعد ديغول وبومبيدو- إلى الاهتمام بتحسين العلاقات مع إسرائيل. إذ لم يكن ذلك الاهتمام نابعًا فقط من تأثير بعض المعطيات الداخلية –كما رأينا- ولكنه كان أيضًا استجابة من فرنسا لبداية اتجاه الموقف العربي بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) نحو الحل السلمي التفاوضي، ذلك الاتجاه الذي وجدت فيه فرنسا فرصة للمناورة بأسلوب جديد بين أطراف الصراع، لا يقوم على استبعاد إسرائيل لصالح العرب ولكن يحاول المساهمة في خلق الفهم المتبادل بينهم (زيارة وزير الخارجية الفرنسي لإسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، وفي نيسان/ أبريل 1977).
2- كذلك أثرت الانقسامات العربية (وخاصة في ظل عواقب المسلك المصري من التسوية السلمية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر) على اتجاه السياسة الفرنسية.
فمنذ ديغول وبومبيدو، حرصت السياسة الفرنسية على تجنب التورط في السياسات العربية. وتركت الانقسامات العربية للعرب ذاتهم أو للقوتين الأعظم، حتى تفسح المجال لنفسها للاستفادة من هذه الانقسامات، أو من عد\م رضا العرب عن محاولة القوتين الأعظم التدخل فيها[130]. كذلك حرصت فرنسا –بعد تفاقم هذه الانقسامات في ظل دبلوماسية كيسنجر (اتفاقيات الفصل)- الحفاظ على التوازن بين علاقاتها بمختلف الدول العربية المتشددة والمعتدلة على السواء[131]. وقد يفسر، جزئيًا، هذا الموقف بعض الاتهامات التي وُجهّت لسياسة فرنسا في المنطقة. فيرى البعض[132] إن الغموض هو السمة الأساسية لهذا السياسة خلال السبعينيات. ويصف البعض الآخر[133] سياسة ديستان بأنها سياسة استعمارية برزت تحت ضغط علاقات القوى المتنافسة في المنطقة. ولا يفصل ذلك الرأي بين تلك السياسة وبين ارتباط الإمبريالية الفرنسية بالاستراتيجية الأوروبية-الأطلسية تحت قيادة الولايات المتحدة، ولكن دون التخلي عن دور فرنسي خاص.

تأثير هذه المحددات على فعالية السياسة الفرنسية

يمكن الإشارة إلى ثلاثة أبعاد لهذا التأثير:
البعد الأول: محوره التساؤل عما إذا كان تدهور العلاقات السياسية بين فرنسا وإسرائيل أم عودتها إلى مسارها الطبيعي هو الأجدى لمحاولة فرنسا الاضطلاع بدور في عملية التسوية؟ يرى العديد من المراقبين الأميركيين أنه قد ترتب على تخلي فرنسا سياسيًا وعسكريًا عن إسرائيل ضعف دورها في التسوية. إذا كان وراء رفض الولايات المتحدة لمطالبة فرنسا الاشتراك في مفاوضات التسوية، الاعتقاد بأنها لن تدافع إلا عن العرب[134].
هذا ويمكن الرد على هذا الرأي بالقول الفرنسي، والتدهور في العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية، لم يكن مسؤولا بمفرده عن عدم فعالية الدور الفرنسي، لأن القوتين الأعظم ما كانتا لتسمحا لدور قوة ثالثة بالبروز إلى جانب دورهما.
حقيقة وصل ديستان إلى الاعتراف بأن فرنسا لا تريد المشاركة في إجراءات التوصل للتسوية لأن ليس لها مسؤولية مباشرة فيها، وأن العلاقات الفرنسية الوطيدة مع الدول العربية لم تؤثر على إمكان مساهمة فرنسا فعليًا في الوصول إلى صيغة للسلام[135].
وحقيقة اعترف وزير الخارجية الفرنسي (جرينجو)، في أحد تصريحاته أثناء جولته في المنطقة في شباط (فبراير) 1977، بأن فرنسا إذا أرادت التأثير على التسوية فعليها أن تصل لاقناع إسرائيل بالاصغاء إليها بقدر ما يصغي إليها العرب[136]. ولكن بالرغم مما لهذه التصريحات –وغيرها- من دلالة على ما أضحى إليه إدراك فرنسا لوزن دورها في عملية التسوية، إلا أن الواقع يشير –بالنظر إلى وزن القوتين الأعظم، وبالنظر إلى رفض إسرائيل الاعتراف بدور لفرنسا –إل أن الدور الذي تحاول فرنسا القيام به من خلال تحسين مناخ علاقاتها مع إسرائيل، ليس إلا دور “الحكم أو الوسيط بدون سلطة”[137].
والبعد الثاني: محوره التساؤل التالي: هل يؤثر مناخ العلاقات العربية (محاولة توحيد الصف أو تفاقم الانقسامات) على فعالية السياسة الفرنسية وعلى وضعها في الإطار التفاوضي؟
انعكس تعدد وتنوع المصالح الفرنسية لدى الدول والعربية المختلفة الاتجاهات في شكل تعقد إدارة فرنسا لعلاقاتها مع هذه الدول، لأنها واجهت معضلة تطوير منهج متجانس يأخذ في الاعتبار الانقسامات بين هذه الدول بصفة عامة وتجاه الصراع مع إسرائيل بصفة خاصة، بحيث يحقق المواقف والاتجاهات[138].
ومن ناحية أخرى لا تحوي وحدة الصف العربي أو الانقسامات العربية آفاقًا كبيرة لدفع الدور الفرنسي، ذلك لأنه ترتب على وحدة الصف العربي –كما حدث أثناء حرب تشرين الأول (أكتوبر) –آثار عكسية تحدث الاستقلال السياسي والاقتصادي لفرنسا[139]. كما تفرض السياسات العربية المنقسمة مشكلة الاختيار بين الأجنحة التي يجب على فرنسا مساندتها. وهنا تواجه وفرنسا الصعوبة نفسها التي تواجه القوى الغربية الأخرى[140].
ونظرًا لهذه الصعوبات –وخاصة بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر)- اتجهت فرنسا لتعبئة مساندة شركائها الأوروبيين لتدعيم النفوذ الأوروبي –ومن خلاله الفرنسي- في مواجهة القوتين الأعظم.
وبالنسبة للبعد الثالث: فمحوره التساؤل التالي: هل يحوي تطور موقف أطراف الصراع من دور القوتين الأعظم أو إحداهما آثارًا على إمكانات التحرك الفرنسي؟
لم ينعكس نمو العلاقات العربية-الفرنسية على زيادة وزن فرنسا في عملية البحث عن التسوية بقدر ما انعكس على دعم مكاسبها الاقتصادية. فلقد تعرض الدور الفرنسي لقيود ناجمة عن تطور مواقف أطراف (وخاصة مصر) من دور القوتين الأعظم ودور فرنسا ذاتها. فلقد توقف هذا الدور على مقدرتها على التأثير وعلى علاقات أطراف الصراع بها. واقتضى هذا من فرنسا –وخاصة مع ديغول- الهجوم على سياساتها ودعوة العرب للحياد في الصراع بينهما وتقديم نفسها كبديل محايد يعمل لتحرير المنطقة من سيطرة القوتين الأعظم[141]. أي قدمت الدبلوماسية الفرنسية مثالا واضحًا على محاولة انتزاع المكاسب من القوتين الأعظم كلما تناقصت مخاطر التورط في الصراع بينهما[142]. ولكن كان رفض إسرائيل لتوسيع نطاق الأطراف المشتركة في عملية البحث عن التسوية يعني رفضًا للدور الفرنسي وتخوفًا من الدور السوفياتي. وكان ذلك يقيد من فاعلية التشاورالفرنسي-السوفياتي ومن ثم قدره فرنسا على المناورة بإحدى القوتين ضد الأخرى.
كذلك بقدر ما كان اهتمام مصر (1967- 1970) بدفع اشتراك القوتين الأعظم للتوصل إلى تسوية يعطي فرنسا فرصة للمناورة بالتشاور مع السوفيات –وخاصة في إطار المحادثات الرباعية- إلا أن ذلك الوضع لم يذهب بدور فرنسا بعيدًا وخاصة مع تزايد اهتمام السوفيات بالتشاور مع الولايات المتحدة ومع توقف المحادثات الرباعية. ومن ثم لم يعد تراجع النفوذ السوفياتي في مصر من ناحية وتزايد اتجاه تلك الأخيرة نحو الولايات المتحدة من ناحية أخرى، يتناسب مع مطالبة فرنسا بدور مستقل والذي كانت ترفضه الولايات المتحدة. ولذا ضعف إمكانات هذا الدور وخاصة مع تزايد اتجاه دول عربية أخرى (سوريا) للاتحاد السوفياتي ليدعم موقفها في مواجهة الولايات المتحدة أثناء المفاوضات التي تلت حرب تشرين الأول (أكتوبر)، ولم يعد بمقدور فرنسا تغيير هذا الوضع وخاصة مع رفض الولايات المتحدة إشراك الجماعة الأوروبية في عملية التسوية. وهكذا أضحى التساؤل الدائر هو: هل أصبح على فرنسا أن تقبل وقوع دورها في إطار الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة عقب حرب 1973 ولكن في إطار من توزيع الأدوار يساعدها على الحفاظ على مصالحها لدى الدول العربية والرافضة لمنطق السلام الأميركي.
وهكذا يتضح لنا الفرق بين جاذبية فرنسا لدى العرب نتيجة موقفها المساند للقضية العربية، وبين تقديرهم لقدرتها على التأثير على مسار تسوية صراعهم مع إسرائيل ومن ثم مدى إمكان الاستفادة من دور فرنسي مستقل. حقيقة تطور الموقف العربي من الاهتمام بدفع دور فرنسا المستقل (في إطار المحادثات الرباعية)، إلى الاهتمام بتحريك الدور الفرنسي ومن خلاله الدور الأوروبي لكسر جمود فترة اللاسلم واللاحرب، إلى التركيز على تعبئة ومساندة فرنسا في إطار الجماعة الأوروبية عقب حرب تشرين الأول (أكتوبر). ولكن هذا التطور في الاهتمامات العربية بالدور الفرنسي، كان يقع دائمًا في إطار عام محوره النظر إلى فرنسا لتقوم بتعبئة المساندة وليس لفرض حل. لأن فرنسا وإن لم تعد حاول أو لم تقدر على المشاركة في عملية المفاوضات، فهي ما زالت الدولة الكبرى التي تعلن بوضوح وصراحة عن مواقفها وعن تمسكها بمبادئ محددة للتسوية والتي تسعى لإقناع الأطراف المعنية بقبولها.
وهكذا يتضح أن سياسة فرنسا (في الفترة من 67- 77) توقفت على عدة قوى تفاعلت ولم يكن بمقدور فرنسا أن تؤثر عليها بقوة. فهناك تفاعل مستمر بين الاتجاهات الأساسية للقوى الخارجية وبين اتجاهات ومواقف أطراف الصراع. وكان لكل من الأمرين عواقبه بالنسبة للدور الفرنسي.
هذا وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن التطور في السياسة الفرنسية كان يتفق والتطور في معطيات الصراع ويراعى أساسًا الحفاظ على وتدعيم المكاسب الفرنسية. بعبارة أخرى فإن مسار السياسة الفرنسية في هذه الفترة كان استجابة لمعطيات خارجية وداخلية ولكن بأسلوب يتفق وأسلوب كل من الرئاسات الفرنسية الثلاث. ولهذا يمكن القول إن التطور في السياسة الفرنسية خلال هذه الفترة لم يكن مرجعة التغير في الرئاسات الفرنسية فقط ولكنه كان انعكاسًا للمصلحة القومية كما تقدرها كل من هذه الرئاسات في بحثها عن دور عالمي لفرنسا، كما تحددت نتائجه وفعاليته في ظل تفاعل هذه السياسة مع الإطار الداخلي والدولي المحيط.
*****

الهوامش:

(*) مدرسَة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية –جامعة القاهرة.
(**) تستند هذه الدراسة إلى الرسالة التي تقدمت بها الكاتبة للحصول على درجة دكتوراه الدولة من قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة- في أيلول (سبتمبر) 1981، وكان موضوعها: سياسة فرنسا تجاه أزمة الشرق الأوسط (1967- 1977)، أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات الأخرى.
(***) سنستخدم مصطلح المنطقة العربية في الدراسة بمعنى الوطن العربي، وذلك لاعتبارات عملية تتعلق بنظرة السياسة الفرنسية إلى المنطقة ككل.
[1]Edward Kolodziej, French International Policy under De Gaulle and Pompidou (London: Cornell University Press, 1974), pp. 46- 50, pp. 447-453.
[2] Paul Balta, “De Gaulle renoue avec la politique traditionnelle de la France en Méditerranée: pour faire face aux Règèmonies”m Etudes gaulllennes: 5 (19- 20) 1977, pp. 47- 60.
[3] Paul Balta, La polltlque Arabe de la France (De De Gaulle a Pompidou) (Paris: Sindibad, 1974), pp. 59- 63.
[4] Ibid, pp. 95- 99.
[5] Jacques Vernant, “Les Limites d’une cooperation Franco-Americaine”, Polltique Etrangere, Vol. 36 (5- 6)1971, pp 712- 716.
[6] Vincent Labouret, “Politique Mèditernèen de la France”. Politique Etrangère: vol. 36 (5-6) 1971, pp. 497- 499.
[7] Paul Balta, op. cit. pp. 50-51.
(*) بدأت هذه الأزمة عندما وصلت معلومات إلى مصر عن تزايد الحشود العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية، فأصدرت القيادة السياسية المصرية أوامرها برفع درجة الاستعداد في القوات المسلحة المصرية يوم 14/5/1967 والبدء في اتخاذ إجراءات تعبوية بهدف الضغط العسكري والنفسي على إسرائيل حتى تمتنع عن مهاجمة أو تهديد سوريا، وأعقب ذلك إعلان مصر عن قرارها بإنهاء وجود قوات الطوارئ الدولية على أرضها، مما فتح المجال أمام القوات المصرية لإعادة التمركز في شرم الشيخ والسيطرة على مضائق تيران، وفي 18/5/1967 اتخذت القيادة المصرية قرارًا بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية (نفذ القرار ظهر يوم 23/5) وهو الأمر الذي رفع من احتمالات المواجهة العسكرية، حددت فرنسا موقفها من هذه الاحتمالات في بيان أعلن في 2 حزيران (يونية) 1967-صاغه ديغول نفسه- أكد على حياد فرنسا، وعدم مساندتها للطرف الذي سيبدأ القتال، مع الاعتراف بحق كل دولة في المنطقة في البقاء.
[8] انظر بعض نصوص ما نقل عن ديغول بهذا الصدد في:
– Samy Cohen, De Gaulle, Les Gaullistes et Israel (Paris: Alain Morean, 1974), pp. 69- 73.
[9] انظر أبعاد هذه السياسة في:
– Nadav Safran,From War to War: Arab-Israeli Confrontation (U.S.A: Western Publishing company, 1968), pp. 133- 139.
[10] انظر مراحل هذا التقارب التدريجي في:
-Pierre Randont, “Western Europe and The Middle East”. In Paul Hammond (ed), Political Dynamics in the Middle East (New York: American Elsevier Publishing Company, 1972), pp. 466- 472.
[11] Edward Kolodziej, op. cit., pp. 489- 491.
[12] Ibid., pp. 491- 492.
[13] أنظر في هذا الصدد:
– Maurice Duverger, La vo République (paris: presses Universitaires de la France, 1970), pp. 142- 151.
– Elijah Ben-Zion Kaminsky, “The French Chief Executive and Foreign policy”, Sage Yearbook of Foreign policy Studies, v. 3, 1973, pp. 64-70.
– Serge Sur, La vie politique en France sous la vo République (paris: Editions Montchrestien, 1977).
– Jean Massot, La Présidence de la République en France (paris: La Documentation Française, 1977).
– Marie Claude Smouts, “French Foreign Policy (The Domestic Debate)”, International Affairs, vol, 53, no. 1,January 1977, pp. 36- 45.
[14] Wolf Mendel, “After De Gaulle? Continuity and Change in French Foreign policy”, World Tody, vol. 27. No, 1, 1971.
Roger Sceats, “The Continuity of French Foreign policy”, Yearbook of World Affairs, vol. 26, 1972.
Roy Macridis (ed.), Foreign policy in world politics (New Jersey: Englewood Cliffs, prentice Hall Inc., 197).
Roger Berncs, “Gaullist Foreign policy in Retrospect”, World Today, vol, 30, on 8, August 1974.
[15] Marie, Claude smouts, “Du Gaullisme au néo-Atlantisme”, (in) Alfred Grosser (ed.), Les Politiques Extérieures Européennes dans la Crise (paris: Presses de la Fondation Nationale de Sciences Politiques, 1976).
[16] Jean Baptiste Duroselle, La France et les Etats Unis des origins á nos jours (paris: Editions du Seuil, 1976).
[17] Maurice Ferro, Kissinger Diplomate De L’impossible (paris: Edition France-Empire, 1976).
[18] Michel Jobert, L’autre Regard, 1976.
[19] Raymond Aron, “Les Limites de cooperation Franco-Sovietique”, Le Figaro, 14/10/1975.
[20] J.Huntzinger, Le Monde, 10/11/1976.
[21] Hélène Carrère d’Encausse, La politique soviétique au Moyen-Orient (1955- 1975) (paris: Presses de la Fondation Nationale de Science Politiques, 1975).
– Willian Polk’ The USA and The Arab World, 3rd ed. (Cambridge: Harvard University press, 1975).
– Michel Chatelus, Stratégies Pour Le Moyen-Orient, (paris: Calmann-Levy, 1975).
– Ian Smart, “The Superpower and the Middle East”, World Today, vol. 30, no.1, 1974.
[22] J.C. Hurewitz, “Origins of Rivalry”, (in.) J.C. Hurewitz (ed), Soviet American Rivalry in the Middle East (New York: Praeger Publishers, 1969), pp. 2-3.
[23] Ian Smart, op. cit. pp. 89.
[24] Coral Bell, “A Case Study in Crisis Management during Détente”, International Affairs, vol. 50, no. 4, 1974, pp. 542-543.
[25] Ian Smart, op. cit. pp.14-15.
[26] Edward Kolodziej, op. cit., p. 577.
[27] Max Kohnstamm (ed), L’Europe avec un Grand E (paris: Robert Laffont, 1973).
-Raymond Aron, the Imperial Republic (USA and the World 1945- 1973) (New Jersey: Prentice Hall, 1974).
-Saymon Brown, New Forces in World Politics (Washington: Brookings Institution, 1974).
-Richard Foster and other (ed), Strategy for the West (London: Stanford Research Institute, 1974).
[28] Edward Kolodziej, op. cit., pp. 577- 578.
[29] Ibid., pp. 585- 587.
[30] José-Alain Fralon, “Peut-on parler de nouvelle politique Européenne de la France”, Revue du Marché Commun, no.179, November 1974, pp. 459- 461.
[31] Hanns Maull, “The Strategy of Avoidance: Europe’s Middle East Policies after October War”, in J.C.Hurewitz (ed.), Oil, The Arab-Israeli Dispute and the Industrial world (Boulder, Colorado, Westview Press, 1976), p. 121.
[32] Paul Balta, op. cit., pp. 64- 68, pp.69-74. Samy Cohen, op. cit.,
[33] L’année Politique.. en France (1967- 1977).
[34] Yair Evron, The Middle East (Nations, Superpowers and Wars) (London: Elek Books, 1973).
– John Bulloch, The Making of a war (The Middle East from 1967 to 1973), (London: Longman, 1975).
– Malcolm Kerr, The Arab Cold War (1958- 1970), 3ed. (London, New York, Toronto: oxford University press, 1971).
– Nadav Safran, “Engagement in the Middle East”, Foreign Affairs” vol. 53, no. 1, October 1974.
(*) تقتصر هذه الدراسة على هذا البعد. ولكن يجدر الإشارة إلى أنه قد حدث تطور في أبعاد أخرى وخاصة في مضمون السياسة الفرنسية، أي تكيفها لطبيعة وكيفية تسوية القضايا الأساسية في الصراع (الانسحاب، والأمن، والاعتراف المتبادل، والقضية الفلسطينية…)، وكذلك في سياسة مبيعات السلاح الفرنسية في المنطقة باعتبارها أداة عسكرية حاولت بها فرنسا تدعيم وضع وفعالية دبلوماسيتها السياسية.
[35] Michel Bar Zohar, Histoire secrète de la guerre d’ Israel (paris: Fayard, 1968), pp. 86-88.
[36] Samy Cohen, op. cit., pp. 140- 141.
[37] L’année Politique…en France (1967), pp. 172- 173.
[38] Abba-Eban, An Autobiography (London: Weidenfeld and Nicholson, 1978), pp. 339-349.
[39] Ibid., p. 327.
[40] Samy Cohen, op. cit., p. 142.
[41] Naseer Arui, Natalie Hevener, “France and the Middle East (1967- 1968)”, The Middle East Journal, vo. 23, no.4, 1969, pp.491-492.
[42] Edward Kolodziej, op. cit., p. 493.
[43] L’année Politique…en France (1967), op. cit., p. 186
[44] Oran Young, “Intermediaries and Interventionists Third Parties in the Middle East Crisis”, International Journal, Vol.23, no.1, (1967- 68), pp. 53-55.
[45] Nasser Aruri, Natalle Hevener, op. cit., pp. 492- 493.
[46] أنظر على سبيل المثال وليس الحصر: بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة في دورتها الطارئة في 22 حزيران (يونيه) 1967 من:
– Politique Étrangère de la France, le semestre 1967.
[47] Robert S. Wood, France and The World Community (Netherland: International Publishing Company, 1973), pp. 126- 129.
[48]Naseer Aruri, Natalie Heveher, op. cit., p. 493.
[49] Maurice Couve De Murville, Une Politique Étrangère (1958- 1969) (paris: plon, 1971), pp. 472- 473.
[50] William Quandt, The Decade of Decisions: American policy Toward Arab-Israeli Conflict 1967- 1977 (University of California press, 1978).
[51] Stanley Hoffmann, “La France, Les Etats Unies, et la conflit Israélo-Arab”, Politique Étrangère, no. 5-6, 1971, p. 665.
[52] Le Monde, 14/12/1968.
[53] انظر نصها في:
– Politique Étrangère de la France: le semestre 1969, p. 67.
[54] انظر تصريحات رسمية متعددة في:
– Ibid., pp. 189- 190, pp. 198-203.
[55] د. بطرس بطرس غالي، “القضايا العشر في تسوية أزمة الشرق الأوسط”، السياسة الدولية، عدد 24 نيسان (أبريل) 1971، ص 12.
[56] Henry Kissinger, White House Years (Boston: Little Brown Company, 1979), p. 107, pp. 345- 346.
[57]
[58] J.C.Hurewitz, “Le Dialogue reprend”, Politique Étrangère, no. 5-6, 1971, p. 731.
[59] نبيه الأصفهاني، “الدبلوماسية الفرنسية، والمواجهة العربية الإسرائيلية”، السياسة الدولية – عدد 13 تشرين الأول، (أكتوبر) 1972، ص ص 88- 89.
[60] L’année Politique… en France (1969), p. 404.
– كذلك انظر حديث لوزير الخارجية الفرنسي شومان أمام جمعية الصحافة الخارجية في باريس في:
– Le Monde, 4/4/1970.
– كذلك انظر تصريحات الرئيس بومبيدو أثناء زيارته للولايات المتحدة في شباط (فبراير) 1970 في: سجل الآراء حول الوقائع السياسية في البلاد العربية شؤون عالمية، ص ص 748- 756.
[61] Stanley Hoffmann, op. cit. p. 667.
[62] Henry Kissinger, op. cit. p. 1267.
[63] نبيه الأصفهاني، مصدر سابق، ص 83.
[64] انظر بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 1970 في:
– Documents officiels, no. 42, 15-21/ 10/1970, p. 444-445.
[65] Edward Kolodziej. Op. cit., p. 509.
[66] Michael Jobert, op. cit., pp. 140- 142.
[67] انظر بيان المندوب الفرنسي الدائم في الأمم المتحدة الخاص وبالوضع في الشرق الأوسط، في 30/10/1970 في:
– Documents officiels, no. 1, 1-7/1/1971.
[68] Jean Schwoebel, Phillippe Ben, Le Monde, 26/10/1970.
[69] Lawrence Wetten, The Canal War (U.S.A: Press MIT, 1974), pp. 172-173.
[70] انظر على سبيل المثال: نص رد مكتوب من وزير الخارجية الفرنسي على سؤال أحد نواب الجمعية الوطنية في 21/8/1970 في:
– Politique Étrangère De la France, le semestre, 1971, p. 14.
– كذلك انظر: حديث وزير الدول الفرنسي للشؤون الخارجية في اجتماعه مع سفراء فرنسا في الشرق الأوسط في 22/6/71 في:
– Le Monde, 23/6/1971.
– كذلك انظر: كلمة المندوب الفرنسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1971 في:
=- O.N.U. (Chronique mensuelle), vol. 1ox, no. 1, Janvier 1972, p. 109.
[71] انظر: حديث لوزير الخارجية الفرنسية في 31/7/1971 في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1971, p. 71.
[72] L’anné e Politique…En France (1971). P. 345.
[73] انظر على سبيل المثال: بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 أيلول (سبتمبر) 1971 في:
– O.N.U. (Chronique Mensuelle), vol. VIII, no.9, October 1971, p. 202
[74] L’année Politique… en France (1971), op. cit., p. 281.
[75] انظر نصه في:
– Politique Étrangère de la France, la semester, 1971, op. cit., p. 167.
[76] الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية، 1971، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1972)، ص ص 410- 414.
[77] انظر على سبيل المثال: تصريح المتحدث باسم الحكومة الفرنسية عقب اجتماع مجلس الوزراء في 26/7/1972 في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1972, p. 288.
[78] انظر نص هذه المناقشات في:
– Journal Officiel (Débats Parlementaires: Assemblée Nationale) no. 97, 17 October, pp. 5276-5285.
[79] انظر أبعاد هذه المناورة في:
– Lawrence Wetten, op. cit., pp. 225-230.
– William Quandt, op. cit., pp. 150-155.
[80] انظر مؤتمر الصحفي الذي عقده بومبيدو في 9 كانون الثاني (يناير) 1973 في:
– Politique Étrangère de la France, le semestre 1973, p.51
[81] انظر أساسًا تصريح رئيس الوزراء الفرنسي في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتصريح وزير الخارجية في 18 تشرين الأول (أكتوبر) في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1973, pp. 133-135.
[82] Michael Jobert, op. cit., pp. 338-339.
[83] انظر بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة في 10/10/1973 في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1973, op. cit.
[84] Michael Jobert, op. cit. pp. 330-339.
[85]L’année Politique… en France, 1973, p. 278.
[86] Hans Maull, op. cit., pp. 116-118.
[87] Lawrence Wetten, op. cit., pp. 288- 289.
[88] Journal officiel (Débats Parlementaires: Assemblée Nationale) no. 78, 18 October 1973, pp.4476-4512.
[89] Matti Golan, Les négociations secrètes de Henry Kissinger (Paris: Robert Laffont, 1976, pp. 55-60.
[90] Michael Harbottle, “Lessons for UN Peacekeeping”, International Affairs, v. 50, no. 4, 1974.
[91] انظر بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في 12/11/ 1973، وأمام مجلس الشيوخ الفرنسي في 30/11/1973 في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1973, op. cit., pp. 179- 180, pp. 213- 214.
[92] Pierre Weiss, “L’Europe des neufs et le conflit Israélo-Arabe”, Annuaire du Tiers Monde, 1977, p.252.
[93]L’année Politique… en France (1973), op. cit., pp. 285-288, pp. 298-299.
[94]C.L.Sulzberger, “Pompidou and The Middle East”, Herald Tribune, 4/2/1974.
[95] انظر تصريحات جوبير خلال هذه الجولة في:
– Politique Étrangère de la France, le semestre 1974.
[96] Le Monde, 2-3/6/1974, 7/5/1974.
[97] انظر تصريح للوزير الفرنسي في التليفزيون الفرنسي في 11/11/1974 في:
– Politique Étrangère de la France, 2 semestre 1974, pp. 176-177.
[98] انظر على سبيل المثال: بيان وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28/10/1974، وكذلك بيانه أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974 وفي 27 حزيران (يونيه) 1975 ومجموعة التصريحات التي أدلى بها أثناء جولته في المنطقة، كذلك تصريحه أثناء زيارته لمصر في كانون الأول (ديسمبر) 1974.
كذلك أنظر المؤتمر الصحفي للرئيس ديستان في 24/10/1974.
[99] Lawrence Grey, “France ‘s Middle East Initiatives”, Middle East International, June 1975, no.48, p. 16.
[100] Maurice Ferro, op. cit., pp. 320-330.
– John Campbel, Les Etats Unies, et l’Europe au moyen orient, op, cit., p. 272- 176.
[101] موريس كوف دي مورفيل، “الرؤية الفرنسية للحوار”، السياسة الدولية، العدد 49، تموز (يوليو) 1977، ص ص 238- 240.
[102] انظر مثلا: تصريح وزير الخارجية الفرنسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26/9/1975، وحديث الرئيس ديستان للفيجارو في 12/ 1/ 1975 في:
– Politique Étrangère de la France, 1975, p. 156- 157.
[103] Ibid., p. 205.
[104] انظر تصريحاته خلال هذه الجولة في:
– Politique Étrangère de la France, le trimestre 1977.
[105] Jacques Vernant, “L’Europ et la proche Orient”, Revue de Défense Nationale, vol. 33, août 1977, p. 104.
[106] Eric Rouleau, “Convergences et équivoques”, Le Monde, 19/6/1976.
[107] Samy Cohen, op. cit., pp. 19-22, pp. 93- 94, pp. 102- 107, pp. 164- 165.
– Samy Cohen, “Le Giscardisme et Israel”, Nouveaux cahiers, no.45 (1976), pp. 6-11.
– Sylvia Kowit Crosble, The Tacit Alliance (Princeton University Press, 19771), pp. 27- 130.
[108] Samy Cohen, op. cit., p. 213.
[109] Philippe de Saint Robert, Le Jeu de la France dans la Méditerranée (paris: Julliard, 1970), pp. 188- 194.
[110] Raymond Aron, De Gaulle, Israel et les Juifs (Paris: Pion, 1968), pp. 156- 162.
[111]Samy Cohen, op. cit., pp. 204-216.
– John Vinocur, “French Revise Policies to Court the Jewish Vote”, International Herald Tribune, 10/5/1977.
– Jean Raymond Tournoux, “M Giscard d’Estaing devant le vote Juif”, Figaro, 20/10/1977.
[112] Jacques Fauvet, “Une Politique Méditerranéenne’, Le Monde, 24/11/1970.
[113] Jacques Vernant, “Les Limites d’une coopération franco-Américaine”, Politique Étrangère, vol. 36, no. 5-6, 1971, pp. 708-709.
[114] Ibid., pp. 712- 714.
[115] Leonard Binder, “Les Etats Unies, La France et le conflit Israélo-Arabe”. Politique Étrangère, no. (5-6), pp. 642- 643.
[116] Stanley Hoffmann, op. cit., pp. 663-665.
[117] Edward Kolodziej, op. cit., pp. 513- 514.
[118] William Griffith, “La Coopération avec l’Union Soviétique au Moyen Orient et en Afrique du Nord”, Politique Étrangère, vol.36, no. 5-6, 1971.
[119] Ibid., p. 694.
[120] Stanley Hoffmann, op. cit., pp. 666- 669.
[121]Ibid., pp. 517.
[122]Ibid., pp. 519.
[123]Ibid., pp. 579.
[124] Stanley Hoffmann, “La France et la Construction de l’Europe et les rapports avec les Etats Unies”, Council on Foreign Relations Conference: France and USA in the 1980’s, 1975, pp. 5-6.
[125] Edward Kolodziej, op. cit., p. 579.
[126] انظر مثلا: مقتطفات من المؤتمر الصحفي لديستان في 24/10/1974 في:
– Politique Étrangère de la France,2 semestre 1974, p. 138.
[127]Naseer Aruri, op. Cit., pp. 83-84.
[128] Paul Balta, op. Cit., p. 23.
[129] Samy Cohen, Le Giscardisme et Israel, op. cit., p. 6.
[130] Edward Kolodziej, op. cit., p. 507.
[131] Jacques Vernant, “La France et les pays Arabes”, Revue de Defence Nationale, Février 1976, pp. 146- 148.
[132] Jacques Couland, “Moyen orient, La Stratégie de L’Impérialisme Française”, Nouvelle Critique, no.36, (217) September, 1970.
[133]Jacque Couland, “La politique Giscardienne en direction du Monde Arabe et de L’Iran”, (in) Comité Central du parti Communiste Français (ed.), L’Impérialisme Française Aujourd’hui, 1977, pp. 68-69.
[134]J.C.Hurewitz, Le Dialogue Reprend, op. cit., pp. 731- 732.
[135] انظر: حديث ديستان لمحطة التلفزيون الأميركي A.B.C في 1/1/1978 في:
– Politique Étrangère de la France, le trimestre 1977, p. 11.
[136]Politique Étrangère de la France, le trimestre 1977, p.92.
[137] L’Année Politique.. en france, 1975, p. 120.
[138] Edward Kolodziej, op. cit., p. 588.
[139]Ibid., pp.518.
[140]Ibid., pp. 549- 550.
[141]Ibid., pp. 514- 515.
[142]Ibid., pp. 544- 545.

نشر في مجلة الفكر العربي الاستراتيجي، العددان 13- 14 نيسان (أبريل) – تموز (يوليو) 1985

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى