مصر وتركيا و”الشرق الأوسط الكبير”

الدور المصري والتركي في ظلال الشرق الأوسط الكبير

ترجمها من الإنجليزية: شيرين حامد فهمي

إن مفهوم “الشرق الأوسط” يستوعب كلا من تركيا ودولًا غير عربية، ودولا عربية.. في داخل منظومة واسعة، تشتمل على تفاعلات إقليمية، وليست تفاعلات عربية فحسب. وقد بدأ مصطلح “الشرق الأوسط ” في الظهور منذ حوالي قرن، ثم تجددت أهميته الآن بعد عدة انتكاسات أصابت المنطقة العربية والإسلامية مؤخرًا.
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية شهدنا ميلاد النظام “الأتاتوركي” في تركيا، وكذلك ميلاد القومية العربية في الدول العربية؛ الأمر الذي أدى إلى بروز الصراع والتطاحن بين الأتراك والعرب.
وطبعا كان الطرف الثالث -الاستعمار الأوربي- هو المستفيد الأول من تلك الصراعات التي عززها وعمقها كل من: الحرب الباردة وإقامة دولة إسرائيل وتوجهات القوميين العرب الراديكاليين. إلا أنه منذ عام 1991 (في ظل حرب الخليج الثانية ومشروع مدريد للسلام) بدأت العلاقات في التحسن تدريجيا. وقد نستخلص هنا أن التأثيرات والتدخلات الخارجية كان لها باع كبير على المناخ الإقليمي، ومن ثم على العلاقات العربية التركية، وعلى مواقف كل منهما تجاه الظروف والمستجدات الإقليمية.
وإذا قمنا باستطلاع تاريخ الإمبراطورية العثمانية سواء في لحظات قوتها أو ضعفها وجدنا أن التدخلات الخارجية كانت ذات تأثير سلبي على العلاقات العربية التركية. واهتمامنا الحالي ينصب أساسا على “الشرق الأوسط فيما بعد 9-11″؛ حيث تواجه المنطقة في ظل هذا الوقت الحرج ضغوطا مفروضة من قبل القوة الأمريكية المهيمنة وحلفائها، تطالبها بالتغير وبإعادة التشكيل. ومن ثم فنحن أمام تدخل خارجي هائل سيؤثر بقوة وبشدة على التوازنات الإقليمية، وعلى الأنظمة الداخلية. ولذلك فإن إطلاق مبادرة “الشرق الأوسط الكبير” بعد احتلال أفغانستان ثم العراق ليس إلا خطوة ثالثة من أجل تطبيق الإستراتيجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر. وستنصب قضيتنا الأساسية في هذه الورقة على تحديد موقف كلٍ من الطرفين: العربي والتركي، تجاه هذه المبادرة الأمريكية.
اتسمت العلاقات العربية التركية في النصف الأخير من القرن العشرين بالتذبذب والتطور المستمر، وهي ظاهرة كانت نتيجة لعاملين مهمين: الدور التركي في الإستراتيجية الأمريكية والتوجه التركي تجاه الغرب من ناحية، والعلاقات التركية الإسرائيلية من ناحية أخرى. وتطور العلاقات بين الطرفين يعكس بوضوح ماهية السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط التي نظرت إلى العلاقات مع العالم العربي على كونها أداة، لا على كونها هدفا في حد ذاتها. بلغة أخرى: لقد نظرت تركيا إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، وإلى تحالفها مع إسرائيل، وإلى اندماجها في داخل أوربا، على كونها متغيرات مستقلة، بينما نظرت إلى علاقاتها مع العرب على كونها متغيرات تابعة.
إن فهم الدور التركي حيال المبادرة الأمريكية التي من شأنها إعادة تشكيل الشرق الأوسط يستلزم التالي:
1) دراسة المحددات الدولية والإقليمية التي تحيط بكل من مصر وتركيا.
2) تحديد مناطق وموضوعات التفاعل والتماس بين مصر وتركيا.
3) دراسة نظرتنا نحن المصريين للتوجهات التركية العامة حيال إعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر.
هذه الورقة باختصار تهدف إلى مناقشة المشكلة الآتية: العلاقة بين العناصر الجيوإستراتيجية التي تساعد على إمكانية تصاعد الصراعات والتوترات، والأواصر الثقافية والتاريخية الواحدة التي تساعد على إمكانية ظهور أفق للتعاون.

أولًا: محددات إعادة تشكيل الأنظمة العربية حيال نظام شرق أوسطي بعد 11/9:

1) المحددات الخارجية: الإستراتيجية الأمريكية العالمية (الحرب ضد الإرهاب) : التدخل الأمريكي ذو المشارب المتعددة لإعادة تشكيل المنطقة منذ الحرب الباردة، والإستراتيجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط متأثرة من قبل إستراتيجيتها العالمية، ومن ثم كان موقف كل من مصر وتركيا متعلقًا بتطور هاتين الإستراتيجيتين. أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تفرز إستراتيجية عالمية أمريكية جديدة؛ بل إن الفكر الإستراتيجي الأمريكي كان قد خطط من قبل الأحداث التي لم يكن دورها إلا تسليط الضوء على الإستراتيجية الأمريكية، وجعلها أكثر بروزا وظهورا.
وتتلخص السياسات والدوافع الأساسية للإستراتيجية الأمريكية في التالي:
1) مكافحة الإرهاب تبعا للمنظور الأمريكي، وهو غير مقصور على استخدام الآلة العسكرية، وإنما تؤيده السياسات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية.
2) إحكام السيطرة على مصادر النفط الممتدة من وسط آسيا إلى منطقة الخليج، وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية لما يمهد لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم بأَسره.
3) منع ظهور القوى الكبيرة (الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي) ، وطردها من ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة تشكيل العالم الإسلامي بما يتناسب مع مصالح التحالف الأمريكي الصهيوني.
وكما نرى فإن السياسات الأمريكية حيال الشرق الأوسط تكشف عن مدى التصاق القوة العسكرية والاقتصادية بالسياسة الثقافية والتعليمية.
ولقد اجتمعت الآراء المصرية والعربية على أن الإستراتيجية الأمريكية تطمح في النهاية إلى تطبيق الأهداف التالية:
1) حماية المصادر النفطية بهدف السيطرة على منطقة الخليج.
2) حماية الأمن الإسرائيلي حتى ولو على حساب عملية السلام، وعلى حساب تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
3) إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية من خلال بناء تحالفات جديدة تضم الكويت وقطر والعراق على حساب التحالفات مع مصر والسعودية.
4) ضرب مراكز المقاومة العربية المتبقية من خلال تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على سوريا، واستخدام ورقة الأقليات في السودان وفي سوريا.
وخاصة بعد حرب العراق في مارس 2003 لم تعد الولايات المتحدة في حاجة إلى الحلفاء والأصدقاء، أو حتى العملاء. وكذلك لم تعد العناصر الثقافية والاجتماعية للتدخل الأمريكي منفصلة عن العناصر العسكرية والاقتصادية. فمن المنظور الأمريكي لم تعد إعادة تشكيل الشرق الأوسط مقصورة على الأسباب العسكرية المباشرة، بل امتدت إلى الأسباب الثقافية والاجتماعية. وصارت العلاقة بين الإسلام والمجتمع والدولة في لب التغييرات اللازمة.
إن أحداث سبتمبر أدت إلى تصاعد التدخلات الخارجية بشكل ملحوظ، وكذلك إلى تصاعد العلاقة بين الداخلي والخارجي؛ فالخارجي صار داخليا، والداخلي صار خارجيًا، والإقليمي صار دوليًا.
وأخيرًا فإن الضعف والترهل في العالم العربي والإسلامي سهل على الإدارة الأمريكية مهمتها؛ الأمر الذي أدى إلى وضع الشرق الأوسط في مقدمة الإستراتيجية الأمريكية العالمية بعد أحداث سبتمبر.
ثانيا- المحددات الداخلية:
كل من مصر وتركيا يواجهان نفس الظروف التالية:

أ‌) نوعية العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع:
النظام التركي نظام علماني ديمقراطي ولكن ذو صبغة عسكرية، وهو يواجه 3 أزمات تتمثل في: أزمة الهوية وأزمة الاستقطاب العلماني/الإسلامي وأزمة عدم الاستقرار السياسي. أما النظام المصري فهو -تبعًا للدستور- يندرج تحت دولة إسلامية، وهو نظام نصف ديمقراطي؛ حيث لا يتواجد مبدأ تدويل السلطة. وبينما استطاعت العلمانية التركية التأثير على الإسلاميين التركيين استطاع النظام المصري أن يمنع التيار الإسلامي المعتدل من الحصول على الشرعية، خاصة بعد تصفيته للجماعات الإسلامية بالقوة. إلا أننا لن نستطيع إغفال الفوارق بين طبيعة الحزب الإسلامي في تركيا (حزب العدالة والتنمية) والإخوان المسلمين بمصر الذين لا يزالون يلعبون دور المعارض دون التمتع بصلاحيات الشرعية.

ب‌) الموقف الاقتصادي المتدهور:
يواجه النظامان أزمات اقتصادية خطيرة، تتمثل بوضوح في البطالة والتضخم والتدهور الحاد في المستوى المعيشي. وقد أثرت هذه الأزمات بدورها على توجهات السياسة الخارجية للدولتين؛ إذ تستخدمان تلك التوجهات في خدمة الأهداف التنموية المحلية. ومن ثم فإن البعد البرجماتي له أهمية كبيرة في هذا المضمار.

ج) توجهات الدور الإقليمي:
حرص النظامان -وما زالا- على لعب دور إقليمي. وبالإضافة إلى إيران يمثل الثلاثة المراكز الأساسية في العالم الإسلامي، ومن ثم كانت الدول الثلاثة في تنافس دائم مع بعضها البعض. وقد اتسم توجه كلٍ من الدولتين: مصر وتركيا تجاه العالم العربي بالتذبذب، وبالانتقال بين الصعود والهبوط. وبينما كان هذا التذبذب يسير بدرجات مختلفة؛ فإن العلاقات مع الولايات المتحدة كانت هي المؤثرة على هذا التذبذب.

ثالثًا: المؤثرات الإقليمية

أ‌) دور إسرائيل:
لقد استفادت إسرائيل -الدولة الإرهابية- أكبر استفادة من “الحرب على الإرهاب” التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر. فقد تعمقت علاقتها مع الولايات المتحدة تعمقا ملحوظا بعد الحرب الأمريكية في أفغانستان، وبعد احتلال العراق، وبات التحالف الأمريكي الإسرائيلي أكثر صلابة؛ مما يغري بتأثير أكبر في المستقبل القريب على التوازنات الإقليمية الجديدة. والأمر الذي يستحق الملاحظة هنا أنه بينما اتجهت العلاقات المصرية الإسرائيلية نحو التصاعد والتأزم -بسبب الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة- اتجهت العلاقات التركية الإسرائيلية نحو التحسن.

ب‌) محددات إقليمية أخرى:
– سقوط عملية التسوية السلمية ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية على يد التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وفرض تسوية بالقوة، تصب في مصلحة التحالف.
– الضغوط الحالية على سوريا.
– مستقبل أمن الخليج والتحالفات الإقليمية في ظل الاحتلال الأمريكي.
– مستقبل الدولة العراقية الجديدة.
– الضغوط الأمريكية الحالية على إيران وأفغانستان فيما بعد طالبان.
– التحديات التي تواجه الدور الباكستاني في ظل الإستراتيجية الأمريكية.
– توابع المشكلة الأمنية في دول الجوار الآسيوي.
– بروز موضوعات ذات طبيعة إقليمية؛ مثل أسلحة الدمار الشامل، وتوزيع المياه، وحقوق الأقليات، ودور حركات الإسلام السياسي.
مواقف مصر وتركيا في ظل عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط:
قامت أحداث سبتمبر بفرض تحديات وتدخلات على المنطقة العربية والإسلامية؛ مما سيؤثر حتما على خيارات الدولتين، وعلى نظرة كل واحدة منهما تجاه الأخرى. فكان منظور بعض التوجهات المصرية تجاه تركيا كالآتي:
– أن تركيا دولة غربية وليست إسلامية، أو ربما تكون إسلامية ولكنها تواجه أزمة هوية بسبب المعوقات التي تجابهها على صعيد الامتزاج في داخل القارة الأوربية؛ الأمر الذي سيجعلها تراجع سياستها الخارجية، وتعيد النظر بشأنها.
– أن تركيا إما أنها تعتبر مصدرا للتهديد ضد المصالح العربية وضد الأمن العربي، وإما أنها تعتبر حليفة ممكنة بسبب الإرث الإسلامي الواحد الذي يجمع الأتراك والعرب.
– أن تركيا تمثل نموذجًا للعلمانية الحديثة التي تكون بمثابة جسر بين العلمانية الغربية والإسلام، أو أنها تمثل نموذجا “للإسلام السياسي المعتدل” الذي يُسمى “العلمانية الإسلامية” التي يمكن دمجها في ظل دولة شبه ديمقراطية يسيطر عليها العسكر.
ومن أجل توضيح الدور الذي يلعبه التدخل الأمريكي للتأثير في مواقف الدولتين (مصر وتركيا) لا بد من الإشارة إلى 6 عوامل مهمة:
1) التغير الداخلي على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
2) التنسيق الأمني الإقليمي والتنسيق الاقتصادي الشرق أوسطي بعد احتلال العراق.
3) التحالفات الإقليمية في فترة ما بعد احتلال العراق.
4) انهيار عملية السلام.
5) التحالف الإسرائيلي التركي.
6) حوار أو تصادم الثقافات.
وسنقوم في هذه الورقة بعرض عاملين فقط لضرب أمثلة توضيحية للقراء:

1) التغيير الداخلي وإمداداته الخارجية:
إن التغيير الداخلي سواء سياسيًا أو اقتصاديًا في كلٍ من مصر وتركيا صار مسألة خارجية. فالدولتان تسيران في منهاج التغيير الداخلي، ولكن عينهما -في اللحظة نفسها- على ردود الفعل الخارجية، وعلى ضغوط الدول الكبرى.
فعلى الجانب التركي نلاحظ الآتي:
محاولة تقديم صورة للإسلام المعتدل الذي يحظى على قبول الولايات المتحدة، والتعامل مع أزمتي حقوق الإنسان والهوية بدون استثارة غضب الغرب، وفي نفس الوقت بدون قطع العلاقات بين “الحزب الإسلامي الحاكم” (العدالة والتنمية) وجذوره الانتخابية والمجتمعية. باختصار: إن التطورات الداخلية الحالية في تركيا تسير تحت ضغط كلٍ من: مستقبل عضوية تركيا في داخل الاتحاد الأوروبي، والمواجهة الممكنة مع الهيمنة الأمريكية التي يمكن أن تأتي بمخاطر وتهديدات حقيقية تضر بالمصالح الداخلية.
إن الخبرة السياسية التركية في ظل التاريخ الحديث (منذ الإصلاحات العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر حتى التغييرات الراديكالية التي أحدثها أتاتورك) سلطت الضوء على تأثير الأطراف الخارجية. ومما لا شك فيه أن أحداث سبتمبر قد فرضت المزيد من القيود، خاصة على الحزب الإسلامي الحاكم. ومن الواجب علينا هنا في هذا الصدد التذكير بمدى أهمية دراسة طبيعة حزب العدالة والتنمية، وكيف أنه استطاع كسب هذا الكم الكبير من الأصوات، مع قدرته في نفس الوقت على إدارة علاقته مع الولايات المتحدة المعروفة بمواقفها المتحيزة ضد كلٍ من العراق وفلسطين.
أما بالنسبة لمصر التي تعرض نموذجا آخر للعلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع؛ فإن الظروف الحالية تفرض نوعا مختلفا من الضغط الخارجي على الخبرة المصرية في عملية التغيير الداخلي؛ فما زال هناك -حتى هذه اللحظة- تيار إسلامي ضخم يُنظر إليه بعدم الرضا؛ لكونه غير شرعي. وبالرغم من أن الأخير قد بدأ بالفعل في المشاركة مع تيارات سياسية أخرى في مصر لإدخال بعض الإصلاحات المطلوبة حتميا على الصعيد السياسي فإنه ما زالت هناك شكوك حول ردود الفعل الأمريكية.
لم يعد دور “العسكر” في مصر وتركيا مهيمنًا، كما كان الوضع من قبل؛ فالدولتان تشهدان حركة واسعة للتعبئة المجتمعية؛ مما يعكس نوعًا من تجديد دور الإسلام في أنشطة المجتمع المدني، سواء اجتماعيًا أو تعليميًا. وبينما قامت هذه الحركات المدنية برفض الإصلاحات التعليمية والثقافية -التي تبغي الولايات المتحدة فرضها كوسيلة لمحاربة جذور الإرهاب- كنوع من رفض التدخل الخارجي، إلا أن التيارات السياسية والاجتماعية المختلفة قد اجتمعت كلها على إلزام الخطاب الديني بالتجديد. وحتى الآن لم يُتفق على صيغة مناسبة لتجديد محتوى هذا الخطاب.
بلغة أخرى: إن مستقبل الإصلاحات والتغييرات الداخلية في مصر وتركيا سوف يؤثر على مساحة التوازنات بين القوى السياسية الشرق أوسطية (علماني/إسلامي) ، وسيؤثر أيضًا على طبيعة الديمقراطية التي ستتبناها الأنظمة السياسية. وهذه المساحة سوف تؤثر بدورها على توجهات السياسات الخارجية، وعلى نوعية التحالفات الإقليمية.

2) دوائر السياسة الخارجية: تأثير الإستراتيجية الأمريكية العالمية، وضرورة التغيير الداخلي وتنسيق الأمن الإقليمي:
لا جدال أن كلا من البلدين له علاقات خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ بغض النظر عن الاختلافات في طبيعة ودرجة العلاقات بالنسبة للدولتين. ولا جدال أيضا أن لكل دولة دوائر للسياسة الخارجية، تختلف عن الأخرى، وأن أولويات هذه الدوائر تختلف تبعا للوقت المحاطة به. فعلى الجانب التركي نجد أن هذه الدوائر هي قائمة: الأوروبية، الأطلنطية، الشرق أوسطية، وسط آسيا، البلقانية، والإسلامية. وعلى الجانب المصري نجد أن هذه الدوائر هي قائمة: العربية، الإفريقية، المتوسطية، الشرق أوسطية، الإسلامية والجنوبية.
وكلا المجتمعين -المصري والتركي- يواجه أزمة هوية، قامت بإثارة التوترات بين النخب ذات التوجهات الفكرية المختلفة. وهذه الأزمة قامت بدورها بتصعيب وتعقيد خيارات ومواقف السياسات الخارجية.
وتحت تأثير الإستراتيجية الأمريكية العالمية وإملاءاتها لخلق شرق أوسط جديد تغيرت أولويات هذه الدوائر. فعلى الصعيد المصري نجد دائرة “الشرق الأوسط” هي التي اعتلت القمة على حساب الدوائر الأخرى، خاصة الدائرة العربية. وعلى الصعيد التركي نجد دائرة “الشرق الأوسط” تعتلي أيضًا القمة على حساب الدوائر الأخرى، وخاصة الأوربية.
إن التنسيقات الشرق أوسطية (التي تشتمل على تضييق العلاقات مع إسرائيل، وكذلك على تحالف متوازن مع الولايات المتحدة أمام الأزمات العربية) ستكون بمثابة الثمن الذي ستدفعه تركيا في سبيل الحصول على المكاسب على مستوى الدائرة الأوروبية. ولكن علينا أن نسأل من الناحية الأخرى: إلى أي مدى يمكن للموقف السياسي الداخلي (حزب العدالة والتنمية) أن يؤثر على التوجهات التركية تجاه المزيد أو التراجع من التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة على حساب توازن العلاقات مع العالم العربي والإسلامي؟
وعلى الجانب الآخر نجد أن الموقف المصري -في ظل الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط- سيكون له دور كبير في التأثير على التوجهات المصرية تجاه الدائرتين العربية والإسلامية، وكذلك تجاه الدائرة المتوسطية الأوروبية.
إن النزاع بين النظام الشرق أوسطي في ظل الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية والشراكة الأوربية المتوسطية في ظل قيادة الاتحاد الأوربي.. سوف يلبس ثوبًا جديدًا يعطي لكلٍ من الدورين التركي والإسرائيلي أهمية متصاعدة على حساب الدور المصري، وعلى حساب المساعي التي تبذل من أجل إعادة بناء نظام إقليمي عربي من جديد.

الخلاصة:

يتبقى بعد هذا العرض الموجز عدة تساؤلات، لا بد من طرحها:
هل الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط حاليًا تشجع على إمكانية الوصول إلى تنسيق بين مصر وتركيا؟ وهل هذا التنسيق سيساعد على إحداث توازن بيّن أمام التدخل الأمريكي، مقللا بذلك من حجم التأثيرات السلبية على المصالح الوطنية لكلٍ من الدولتين، خاصة مصر؟ هل المحددات الخارجية -خاصة الإستراتيجية الأمريكية العالمية- تشكل قيودًا أكثر على مصر من تركيا التي تعتبر الحليف التقليدي للولايات المتحدة وإسرائيل؟ هل ستمنع هذه المحددات تنسيقا مثمرا بين مصر وتركيا؟
وإذا كانت الضغوط والمحددات الخارجية على تركيا ليست بالضخامة التي تعاني منها مصر؛ فهل بإمكان التنسيق المصري التركي أن يُصعد من الخيارات المصرية؟ وإذا كانت مصر قادرة على تحديد المكاسب الاقتصادية المباشرة التي ستجنيها من خلال علاقتها مع تركيا.. فهل سيمكنها ذلك من التأثير على المواقف التركية تجاه الأجندة العربية التي تحتوي على: “العراق بعد الاحتلال”، و”القضية الفلسطينية”، و”الحصار على سوريا”، و”الأمن الخليجي”؟
بلغة أخرى: إذا كان الدور المصري الحالي مكبلا بالقيود والضغوط.. فهل بإمكان التنسيق المصري التركي أن يساعد على بعث الحيوية والفاعلية في الدور المصري من جديد؟
وعلى الناحية الأخرى فإن تركيا لا تشعر أبدًا بأن مصالحها المباشرة (الاقتصادية) مع العرب معرضة للخطر؛ ومن ثم فهي لا تشعر بحتمية أو بضرورة مراجعة سياستها تجاه المسائل العربية، خاصة مسألة المياه، أو مسألة تقليص التحالف مع إسرائيل، بينما الأخيرة متواصلة في اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني. إلا أننا نجد بعض القوى المصرية غير الرسمية تعارض السياسة التركية، وترى فيها مصدرا للخطر. ومن ثم فعلى الجانب التركي أن يعيد النظر في بعض سياساته؛ من أجل تحقيق المزيد من التنسيق والتربيط مع مصر (فرض بعض الضغوط على إسرائيل بدلا من بيع المياه لها) .
إن الخلاصة التي نريد أن نقدمها في النهاية تتلخص في الآتي: إن تركيا تمثل مسألة ضخمة لا يجوز لمصر أن تتجاهلها أو أن تسقطها من اعتباراتها. وبالرغم من ترديد مقولات بعض القوميين العرب الذين يرون في تركيا خطرا مهددا للأمن القومي العربي، وأنه من واجب مصر إما ترك تركيا لإسرائيل، أو النظر إليها باعتبارها “إسرائيل ثانية” لخدمة الغرب في المنطقة، وبالرغم من وجود بعض الآراء المصرية التي ترى استحالة استغناء تركيا عن بعض محددات سياساتها، مثل دور جيشها في تحسين علاقاتها الخاصة مع إسرائيل والغرب، بالرغم من كل ذلك.. فإنه ما زال هناك -على الوجه الآخر- مجالات للمصالح المشتركة التي يمكن تدعيمها، والترويج لها.
ومن ثم فعلى مصر ألا تقنع بمد الاتصالات الاقتصادية والثقافية مع تركيا؛ وألا تقنع بلعب دور في تهدئة الصراعات بين تركيا وبعض الدول العربية مثل سوريا. بل عليها أن تتعدى ذلك كله، من خلال قيامها بمبادرات حقيقية، تعتمد على رؤية إستراتيجية تجاه تدشين وتأصيل العلاقات مع تركيا، بدلا من اقتصارها على اتخاذ مواقف رد الفعل تجاه المبادرات التركية الغربية الإسرائيلية.
إن اعتماد مثل هذه الرؤية سوف يُحول مصر والعرب من مجرد أداة ثانوية للسياسات التركية إلى هدف واضح.
إن الدبلوماسية المتوازنة الذكية التي انتهجتها تركيا قبل وبعد احتلال العراق تؤكد علينا ضرورة اكتشاف المجالات والأراضي المشتركة للمصالح. فلا يجوز أبدا ترك الساحة فارغة لإسرائيل لكي تقيم علاقات أكثر قوة مع تركيا على حساب العلاقات العربية. ولا يجوز أبدا أن نبقى سائرين في ظلال القوى العلمانية الراديكالية التي أسقطت العلاقات التاريخية والثقافية التي جمعت بين مصر وتركيا على مدى قرون من الزمان. علينا أن نقتنع بأن الاختلافات القومية لا تنجب صراعات من نفسها؛ فالأخيرة ليست إلا نتاجًا للحسابات السياسية.
وأخيرًا فإن مصر ملزمة باستنفاد الجهد في تعزيز وتدعيم العلاقات مع تركيا، والاستفادة من هذه العلاقات أقصى استفادة؛ وكذلك على تركيا أن تقتنع بأن مصالحها مع العرب ليست أقل شأنًا من مصالحها مع الغرب وإسرائيل.

******

* تم تقديم هذه الورقة في ندوة “الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر 2001: رؤى مصرية وتركية” التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة مع مركز الدراسات الإستراتيجية بوزارة الخارجية التركية، في 22-23 مارس 2004.
ونشرت أعمال الندوة في:
Nadia Mahmoud Mostafa and Pakinam El-Sharkawy (eds.), The Middle East after 9-11, (Cairo: Center for Political Research & Studies in Cairo University, 2005)

للتحميل اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى