مستقبل السودان في ظل التطبيع واتفاق السلام الداخلي والأزمة المعيشية

مقدمة:

في ظل وضع عالمي متأزِّم صحيًّا ومتعثِّر اقتصاديًّا، وظرف إقليمي شائك ومتحوِّل، وواقعٍ عربيٍّ يعجُّ بمشكلات متَّصلة ومتفاقمة، يحاول هذا التقرير تسليط الضوء على الحالة السودانية، فيتناول ثلاثة قضايا أساسية، هي: الأزمة المعيشية، واتفاق السلام الداخلي، والتطبيع، ومن خلال دراسة هذه القضايا الثلاث وباستحضار الوضع العالمي والظرف الإقليمي، يحاول التقرير وضع عدَّة سيناريوهات مستقبلية وما يدفع/ يمنع حدوث أيٍّ منها.

وبعرض سيناريوهات المستقبل يكون التقرير قد أجاب -فيما يخصُّ الحالة السودانية- عن الشقِّ الأول من سؤال هذا العدد؛ ماذا ننتظر؟ وفي الخاتمة يجيب التقرير على الشقِّ الثاني؛ وماذا يمكن أن يقوم به المصلحون على نطاقات التوعية والإصلاح؟

الأزمة المعيشية:

يتعرَّض التقرير للأزمة المعيشية التي يعانيها السودان اليوم بما يساعد في الإجابة على سؤال؛ ماذا ننتظر؟ أو بقول آخر يتعرَّض التقرير للأزمة المعيشية بالشكل الذي يُرجِّح/يستبعد أن تؤدِّي -كسببٍ رئيس- في سقوط الحكومة الحالية كما أسقطت حكومة البشير.

لا يكاد الباحث الناظر في تاريخ السودان الحديث يجد فترة لم يعش السودان فيها ضيقًا في عيشه، فما بين الاستعمار والفترات الانتقالية مرورًا بالحكومات المستبدَّة والحروب الطويلة يعيش الإنسان معاناة الفقر ومصيبة القتل وألم التهجير، ولكن هذه المعاناة تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر داخل السودان، ولذلك فإن الحديث يجري بالأساس عن درجة المعاناة أو التأزُّم وليس عن وجود أو عدم وجود معاناة من الأساس.

التنوُّع السكَّاني الكبير الذي يتمتَّع به السودان وامتداد إقليم الدولة لا يمكن أن يؤدِّيا لرفاه أو مجرد استقرار اقتصادي إلَّا إذا وُجدت دولة قوية قادرة على السيطرة على كامل الإقليم بدون نزاعات مسلَّحة تعطِّل التنمية، وعادلة من حيث كونها قادرة على استيعاب كلِّ الفصائل والتعبير عنها، هذه الدولة القوية العادلة لم تَقُمْ في تاريخ السودان الحديث الموزَّع بين حكومة انقلابية مستبدَّة أو حكومة ائتلافية قصيرة العمر، ولذلك لم يَخْلُ السودان من معاناة معيشية منذ استقلاله.

كانت حكومة الإنقاذ (1989-2019) واحدة من الحكومات الانقلابية المدعومة حزبيًّا من قبل الحركة الإسلامية، والتي استكمَلت وبوتيرة أسرع الحرب الدائرة بين شمال السودان وجنوبه حتى تمَّ انفصال الجنوب باتفاق رسمي في 2011، ودخلت في دائرة العقوبات الاقتصادية الأمريكية عام 1997 بعد أن صُنِّفت كدولة راعية للإرهاب عام 1993، وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب في الجنوب لا تزال دائرة والعقوبات قائمة افتُتحت دائرة جديدة للحرب بين الحكومة وعدد من الفصائل المسلحة في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وجنوب كردفان، كلُّ هذه الحروب بالإضافة لانفصال الجنوب الغني بالثروات النفطية زادتْ من درجة المعاناة المعيشية التي يعيشها المواطن، بل يمكن القول إن الدولة أصبحت تعيش هي الأخرى معاناة مالية شديدة لم تجد سبيلًا لحلِّها إلَّا على حساب المزيد من معاناة المواطن، فقامت على خلفية الاحتجاجات والمطالبات بوضع خطة للتقشُّف.

ثلاثة أسباب رئيسية للأزمة الاقتصادية خلال حكم البشير هي؛ الحروب الداخلية المتواصلة، وانفصال الجنوب وضياع ثرواته النفطية، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، وفي ظل إدارة سيئة للاقتصاد من قبل الحكومة، أدَّى ذلك لمعاناة في ثلاثة ملفات هي الخبز والوقود والسيولة النقدية، فمع غياب أو شحِّ العملة الصعبة وصعوبة الوصول إليها في بلد يحارب بعضه بعضًا في الداخل ويُحاصَر من الخارج، لم تستطع الحكومة أن تستورد الكميات اللازمة من القمح بالسعر المدعوم، والأمر مثل ذلك في الوقود، فلم تكن استجابة الحكومة سوى في التقشُّف الذي يشمل بالأساس تقليل النفقات الحكومية عن طريق تقليل عدد الوزراء كأحد الآليات، ولذلك تمت إقالة حكومة الوفاق الوطني على إثر الاحتجاجات الشعبية ضدَّ الغلاء في 2018 بعد حوالي عام من تشكيلها، ورفع الدعم عن السلع وتحرير سعر الصرف وهي حلول تأتي على حساب المزيد من معاناة الناس.

ولما كانت الحلول الحكومية غير ناجزة وتأتي بالمزيد من معاناة الناس، فإن الدولة وإن كانت استطاعت أن تتجاوز احتجاجات غلاء المعيشة بإزاحة حكومة الوفاق الوطني وإعلان خطة للتقشُّف تقلَّص بها عدد الوزراء ودُمجت فيها بعض الوظائف تقليلًا للنفقات، إلَّا أن الاحتجاجات عادت أقوى في ديسمبر 2018 بعدما عجزت الحكومة الجديدة عن توفير الخبز أو الوقود أو تجاوز شُحِّ السيولة، وانتهى الأمر بسقوط دولة الإنقاذ الوطني في أبريل 2019.

بعد سقوط حكومة البشير زادت معاناة الناس، فبعد أن تحسَّن سعر الدولار قليلًا لم يلبث أن عاد ليرتفع بأكثر ممَّا كان عليه حتى في وقت مأزوميَّته أواخر عهد البشير، ومع حكومة حمدوك تحلحل الأمر قليلًا في أزمة السيولة،  نتيجة المساعدات الخارجية الخليجية بالأساس، ولكن بقيت الأزمة في الملفات الثلاثة (الخبز والوقود والسيولة) قائمة وتتفاقم يومًا بعد يوم.

واللافت في سياسات حكومة حمدوك في معالجة الأزمة الاقتصادية أنها لم تختلف كثيرًا عن تلك التي تبنَّتْها حكومة معتز موسى الأخيرة في عهد البشير والتي قامت عليها الثورة، ولا عن محاولات سابقة من قبل أطراف في حكومة البشير، ولكن لأن مستقبل الحكومة يتوقَّف على أدائها خلال هذه الفترة وبالتحديد في ملف الأزمات المعيشية اليومية، لهذا السبب سيتعرَّض التقرير بشيء من التفصيل للسياسات الاقتصادية للحكومة الحالية حكومة عبد الله حمدوك، والتعرُّف على ما أنجزتْه حتى يصبح ممكنًا معرفة ما ينتظر الحكومة وبالتالي السودان في المستقبل القريب.

خلال أول اجتماع لمجلس الوزراء الحالي بعد تشكيله في سبتمبر 2019 وعدَ بتنفيذ 10 أولويات خلال المئتي يوم الأولى من عمر الحكومة الانتقالية، حيث أوجز وزير الإعلام فيصل محمد صالح الملفات العشرة في: تشكيل لجنة تحقيق مستقلَّة بشأن مجزرة فض اعتصام القيادة العامة خلال أقل من شهر، والتحضير للمؤتمر الدستوري، ومكافحة الفساد، وفك الأموال المجمَّدة لتسيير دولاب العمل، والعمل على إنهاء الحرب ومعالجة الأزمة الاقتصادية وإلغاء القوانين المقيِّدة للحريات، وتحقيق العدالة الانتقالية ووضع سياسة خارجية متوازنة، وتعزيز حقوق النساء واتِّخاذ إجراءات لضمان مشاركتهنَّ فعليًّا وإصلاح أجهزة الدولة وعلاقة المركز بالولايات لضمان استقلاليَّتها وقوميَّتها لتؤدِّي عملها بشكل جيِّد، مع مراعاة موضوع الكفاءة والتأهيل[1].

وعلى مستوى وزارة المالية الأقرب للأزمة المعيشية، ثمة محاور خمسة تحدَّث عنها وزير المالية كبرنامج إسعافي خلال المئتي يوم الأولى من عمر الحكومة، وتشمل هذه المحاور: تثبيت الاقتصاد الكلِّي وهيكلة الموازنة، وتنفيذ إجراءات إسعافية وناظمة وجزائية لتثبيت الأسعار وتخفيف الضائقة المعيشية، ومعالجة أزمة بطالة الشباب، والانتقال من العون الإنساني إلى التنمية المستدامة في مناطق الصراع، وبناء القدرات وبناء مؤسَّسات إدارة الاقتصاد[2]. غير أن الواقع لم يسعف الحكومة لتنجز ما وعدت به في الوقت الذي حدَّدته فقام وزير المالية الدكتور ابراهيم البدوي في مارس 2020 بالاعتذار للشعب السوداني عن عدم قدرة وزارته على كبح جماح التضخُّم وتثبيت سعر الصرف[3].

وإجمالًا تسير سياسات الحكومة تجاه الأزمة المعيشية في مساريْن متوازييْن متكامليْن: مسار هيكلي، ومسرحه الخارج ويتوجَّه نحو أمريكا والمؤسَّسات الدولية المانحة والدول الصديقة، ويستهدف تجاوز الأزمات الهيكلية في الاقتصاد السوداني، وأهم إجراءات الحكومة في ذلك هو السعي لدى الولايات المتحدة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وكذلك الاقتراض من المؤسَّسات الدولية، وطلب الدعم من أصدقاء السودان في الإقليم والعالم، وهو مسار سبق إليه وزير الخارجية قبل الأخير في عهد البشير (إبراهيم غندور) وحقَّق فيه شيئًا من النجاح قبل أن يُقيله البشير، إلَّا أن محاولات حكومة حمدوك الخارجية لم تنجح بعد وأصبحت مؤخَّرًا مرتبطة بشكل كبير بما يتم إنجازه في ملف التطبيع مع إسرائيل[4].

ومسار جزئي مسرحه الداخل، ويستهدف تجاوز الأزمات المعيشية، ويتَّخذ رفع الدعم كإجراء أساس لتوفير تكلفته من ناحية ولاستيفاء شروط المؤسَّسات المانحة من جهة أخرى، وهي خطوة قامتْ بها الحكومة في 27 أكتوبر2020، والتحرير التدريجي لسعر الصرف، وطلب الدعم من المواطن نفسه، فقد أطلق رئيس الوزراء مبادرته “القومة للسودان- الحملة الشعبية للبناء والتعمير” وهي دعوة للتبرُّع الجماعي الذي سيُساعد السودان على مواصلة إرث الثورة، وهذه الإجراءات شبيهة بتلك التي قامت بها حكومة معتز موسى الأخيرة في عهد البشير، غير أن محاولتي إبراهيم الغندور في الخارج ومعتز موسي في الداخل لم يتزامنا من ناحية كما لم تتوفَّر لأيٍّ منهما البيئة الكاملة التي ترعى النجاح أو تساعد عليه، ما يجعلهما محاولاتان جزئيَّتان أو فرديَّتان، ولكن حكومة حمدوك تتهيَّأ لها ظروف ثورية أفضل وإن لم تَخْلُ مسيرتها من معوقات حقيقية.

يبقى أن إجراءات الحكومة في الداخل تجاه المواطن وأزماته المعيشية لا تزال لا تختلف كثيرًا عن تلك التي اتَّخذتها حكومة معتز موسى، وحجم التحسُّن في الظروف المعيشية ضعيف، وبعض جوانب المعاناة تتفاقم، والإصلاحات الهيكلية الخارجية باتت مرتبطة بملف خارجي آخر وهو التطبيع، ولذلك يمكن القول إنه إذا لم تتقدَّم الحكومة بملف التطبيع للدرجة التي تستقبل عندها منح المؤسسات الدولية وتُرفع بها من قائمة الدول الراعية للإرهاب نهائيًّا وتُعفى من العقوبات الاقتصادية الأمريكية بكلِّ مستوياتها، فلن تُحَلَّ مشكلتُها الاقتصادية على مستوييْها الهيكلي والجزئي، وبالتالي يتعجل سقوطها، وإن كان هناك سيناريوهات كثيرة ستؤدِّي لسقوط الحكومة الحالية أنجزت التطبيع أو عطَّلته، حلَّت الأزمة الاقتصادية أو تعثَّرت فيها.

 

اتفاق السلام الداخلي:

في الذكرى السنوية الأولي (31 أغسطس 2020) لتوقيع اتفاق تقاسم السلطة (31 أغسطس 2019) وقَّعت الحكومة السودانية (ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء) وتحالف الجبهة الثورية -الذي يضم مجموعة من القوى السياسية والحركات المسلَّحة- اتفاقًا للسلام بالأحرف الأولى، في جوبا عاصمة جنوب السودان، لإنهاء قرابة عقدين من النزاع المسلَّح.

يأتي هذا الاتفاق كحلقة ثانية في عملية الانتقال السياسي التي يمرُّ بها السودان، فبعقد اتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير تكوَّنت الحكومة السودانية من شقَّين مدني وعسكري، وبذلك يكون الوضع السياسي قد رجع لما قبل الثورة حيث توجد حكومة مستقرَّة وحركات مسلَّحة تتمرَّد، وبعقد هذا الاتفاق القاضي بتقاسُم السلطة والثروة بين الحكومة والحركات المسلَّحة المتمرِّدة يصبح التقسيم ثلاثيًّا بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير والحركات المسلَّحة/تحالف الجبهة الثورية.

يضمُّ تحالف الجبهة الثورية الذي وقَّع الاتفاق مع الحكومة السودانية بعد مفاوضات استمرَّت نحو عام، قوى مسلَّحة من مختلف مناطق النزاع تم الاتفاق على تنظيم التفاوض بينها وبين الحكومة من خلال مسارات خمسة يتم تقسيمها على أساس جهوي/جغرافي مراعاة لخصوصية كل مسار ومشكلاته. وتشمل المسارات الخمسة مسار دارفور (حركة العدل والمساواة، وجيش تحرير السُّودان، وتحرير السُّودان – المجلس الانتقالي، وتجمع قوى تحرير السُّودان)، ومسار الشرق (مؤتمر البجة المعارض)، ومسار الشمال (كيان الشمال وحركة تحرير كوش السُّودانية)، ومسار الوسط (الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض)، ومسار النيل الأزرق وجنوب كردفان (الحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال)[5].

كما أن الاتفاق لم يكن واحدًا، فقد شمل اتفاقًا خاصًّا بالقضايا القومية وعدَّة اتفاقات خاصة بالمسارات الجهوية المُشار لها[6]، وإن كان تمَّ توقيعها معًا في اتفاق واحد للسلام بعد ذلك تمَّ توقيعه نهائيًّا في 6 أكتوبر ويقع فيما يزيد على 250 صفحة. ومن أهم المواد التي جاءت في اتفاقية القضايا القومية، المادة (2) التي نصَّت على فترة انتقالية، تكون مدتها 39 شهرًا، “يبدأ سريانها من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام”. وبموجب هذه المادة، سوف يتم تعديل الوثيقة الدستورية، وتمديد الفترة الانتقالية لعام إضافي. واستثنت المادة (3) ممثلي الأطراف الموقِّعة على اتفاقية القضايا القومية من نص المادة (20) من الوثيقة الدستورية، والذي يسقط حق أعضاء مجلس السيادة والوزراء في الفترة الانتقالية من الترشُّح في الانتخابات العامة التي سيتم إجراؤها في نهاية الفترة الانتقالية. ويعطي هذا الاستثناء شاغلي المناصب الدستورية المشار إليها في الفترة الانتقالية حقَّ الترشُّح في الانتخابات العامة، بشرط “أن يقدِّموا استقالاتهم قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية المتَّفق عليها، ولتنظيماتهم الحق في اختيار من يخلفهم في تلك المواقع”. كما اقتضت المواد (4) و(5) و(6) إجراء التعديلات التالية على الوثيقة الدستورية: أولًا- تمثيل الأطراف الموقعة على اتفاقية جوبا بثلاثة أعضاء إضافيِّين في مجلس السيادة، وتمثليهم في مجلس الوزراء بخمس وزارات، وفقًا للإجراءات المعمول بها في الوثيقة الدستورية، أي ما يعادل 25% من أعضاء مجلس الوزراء، وتمثيلهم في المجلس التشريعي بنسبة 25%، أي أن يحصلوا على 75 مقعدًا من مقاعد المجلس المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية بـ 300 مقعد. وعلى مستوى الحكم الولائي (الولايات)، نصَّت الاتفاقية على تخصيص 10% من الوظائف القيادية العليا لممثِّلي أطراف الاتفاقية في الولايات التالية: الشمالية، ونهر النيل، سنار، الجزيرة، النيل الأبيض، شمال كردفان، وغرب كردفان. أما بقية المواد الخاصَّة باتفاقية القضايا القومية فقد تناولت القضايا الإجرائية المتعلِّقة بإنفاذ العدالة الانتقالية، والتعداد السكَّاني، والإعداد للانتخابات العامة، وتشكيل المفوضيات المتخصِّصة، وانعقاد مؤتمر نظام الحكم، والمؤتمر الدستوري وكتابة الدستور، ووضع آليات مراقبة الاتفاقية وتنفيذها على أرض الواقع[7].

أما اتفاقيات المسارات الفرعية، فقد كانت اتفاقية مسار دارفور أكثرها تعقيدًا؛ لأنها قامت على ثمانية بروتوكولات شائكة ومتشعِّبة، تشمل تقاسُم السلطة والثروة، وحيازات الأرض والحواكير (الحيازات التقليدية)، والعدالة الانتقالية، والتعويضات (جبر الضرر)، وتنمية قطاع الرُحَّل والرعاة، والنازحين واللاجئين، والترتيبات الأمنية الخاصَّة باستيعاب قوَّات الحركات المسلَّحة في أجهزة الدولة، واستند بروتوكول تقاسُم السلطة في الإقليم إلى المادة (10/2) من اتفاق القضايا القومية، والتي نصَّت على إعادة نظام الأقاليم القديم خلال ستين يومًا من تاريخ التوقيع النهائي على اتفاقات جوبا. وتقضي الإعادة بتوحيد ولايات دارفور الخمس في إقليم واحد في ظلِّ نظام حكم فيدرالي. ويكون تمثيل الأطراف المكوِّنة لمسار دارفور في إدارة الإقليم 40%، وتمثيل الحكومة الانتقالية 30%، والحركات الموقِّعة الأخرى 10%، وأصحاب المصالح المحلِّية 20%[8]. كما نصَّت الاتفاقيات الفرعية على تحقيق الحكم الذاتي لولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان وتقسيم الثروة بحيث تحصل الحكومة الفيدرالية على 60% من إيراد المنطقتين، ويتمُّ تخصيص 40% لصالح السلطات المحلية في تلك المناطق[9]. ويكفل الاتفاق أيضًا لها حقَّ التشريع وتأسيس نظام تشريعي استنادًا على دستور 1973 القائم على الاعتراف بالدينين الإسلامي والمسيحي، ويكفل المساواة في الحقوق والحريات لجميع مواطنيه. كما ستؤسَّس بموجب هذا الاتفاق مفوضية قومية للحريات الدينية لها أفرع في المنطقتين، لإنصاف المسيحيِّين السودانيِّين الذين يشكِّلون مجموعة مقدَّرة من سكان المنطقتين[10].

أما برتوكول الترتيبات الأمنية فقد نصَّ على ضرورة إعادة هيكلة القوات المسلَّحة وقوات الكفاح المسلَّحة في جيش مهني واحد يؤسَّس على عقيدة جديدة تهدف إلى حماية الوطن والمواطنين والدستور. كما أقرَّ البرتوكول إنشاء قوات مشتركة باسم “القوى الوطنية لاستدامة السلام في دارفور”، تتشكَّل من القوات المسلَّحة (الجيش)، والشرطة والدعم السريع، وحركات الكفاح المسلَّحة. وشدَّد البرتوكول أيضًا على الترتيبات الأمنية الخاصة بمعاملة “شهداء” الحركات المسلَّحة خلال فترة الحرب في دارفور حسب قوانين ونظم القوات المسلَّحة السُّودانية من حيث التعويضات المادية والرعاية الصحية، كما نصَّ على تشكيل لجنة خاصَّة للإشراف على ملف أسرى الحركات المسلَّحة ومفقوديها، ومعالجة مشكلاتهم وقضاياهم حسب اللوائح والنُّظم القانونيَّة المعمول بها[11].

يبقى التساؤل قائمًا حول مستقبل الحياة السياسيَّة في السودان في ظلِّ الاتفاق على تقاسُم السلطة والثروة، وجبر الضرر، وجيش مهني واحد، ومشاركة قادة التمرُّد في الحكم الانتقالي، هل سيصبح تقاسم السلطة نافذًا والجيش المهني واقعًا؟ أم إن وقائع الأمس (التاريخ) وظروف اليوم (الواقع) تنبئ بنتائج أخرى؟

في سبيل التعرُّض لهذا التساؤل يمكن الإشارة لعددٍ من النقاط التي تؤدِّي لنتائج أقرب للصواب، وهي على النحو التالي:

– الاتفاق يواجه مشاكل وإشكالات قانونية كثيرة؛ منها على سبيل المثال أنه ينصُّ على أنه في حالة تناقض أحكام الاتفاق الخاص بالسلام مع أحكام الوثيقة الدستورية تسود أحكام الاتفاق، بينما الصحيح قانونًا هو أن تسود أحكام الوثيقة الدستورية لأنها الدستور الحاكم، واللافت في ذلك أن الأطراف معًا مستعدةٌ اليوم لنقض ما اتَّفقت عليه بالأمس، وهو ما يفتح الباب أمام حالة من السيولة قد لا يكون لها حد[12]، ولا يستطيع الاستفادة منها إلَّا القوى الصلبة وأهمها الجيش.

– ومثل ذلك إطالة الفترة الانتقالية؛ فالاتفاق الجديد أضاف سنة جديدة للفترة الانتقالية المتَّفق عليها في اتفاق تقاسم السلطة السابق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، والأهم أن الاتفاق نقضَ ما أقرَّته الوثيقة الدستورية من حرمان أعضاء مجلس السيادة والوزراء من الترشُّح في الانتخابات العامة التي تلِي الفترة الانتقالية.

– إنجاز الاتفاق هذه المرة من خلال وساطة جوبا عاصمة جنوب السودان والمرة السابقة عن طريق المساعي الإثيوبية يؤكِّد عجز القوى السياسية والهيئات الوطنية السودانية عن إدارة خلافها الداخلي بأي طريقة غير النزاع.

– جرت العادة السياسية في السودان أن يُفتح الحوار وأن يتم الاتفاق على مُخرجات له شبيهة بتلك التي تمَّ الاتفاق عليها هذه المرة، وألَّا يتمَّ تنفيذ شيءٍ من ذلك، فيعود كل طرف لما في يده بما في ذلك العنف واستخدام السلاح، ولسنا في حاجة هنا لتتبُّع مآلات الحوارات السياسية التي خاضها نظام البشير ولا تلك التي كانت خلال فترات الديمقراطية الثلاث، يكفي أن يتمَّ التأكيد على أن الاتفاق الوحيد تقريبًا الذي تمَّ تنفيذه بالفعل هو الذي قضى بتقسيم السودان لشمال وجنوب، وما عدا ذلك لم يكن إلَّا نوعًا من المماطلة السياسية وكسب الوقت من جانب النظام الحاكم أو أحد القوى السياسية تجاه غيرها.

– خلال التحضير للاتفاق الجديد لعب المكون العسكري في الحكومة الحالية الدور الأكبر على حساب المكون المدني (قوى إعلان الحرية والتغيير) وهو ما يجعل محصلة الاتفاق بين شقَّين كلاهما عسكري، ويمثِّل خطورة كبيرة على المكون المدني في حال اتفاق المكونين العسكريَّيْن -الرسمي والمليشياتي- على إزاحته وهو احتمال غير مستبعد.

– بعقد هذا الاتفاق تصبح السلطة في السودان مقسَّمة على عددٍ كبير جدًّا من الأحزاب والقوى السياسية (تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير) والجماعات المسلحة (كل الجماعات المسلحة ما عدا حركتين يجري التفاوض معهما) وهيئات الدولة (على رأسها الجيش مُترئِّسًا مجلس السيادة) ولا يغيب عنها إلَّا القليل، وبذلك فإن الغالبية تحكم والقليل جدًّا تمَّ إقصائه أو امتنع هو عن المشاركة، وتاريخ السودان الحديث منذ الاستقلال وحتى اليوم لا يشهد حكومة ائتلافية قامت واستمرَّت، وحتى الحكومات الديمقراطية الائتلافية لم تستطع أن تنجز مهمتها في ظل عدد أقل بكثير ممَّا يشترك اليوم في الحكومة، ولذلك فإن شواهد الماضي القريب من تاريخ السودان لا تفترض نجاح الحكومة بل تعني أن عمرها قصير كغيرها من الحكومات الائتلافية في السودان.

– الحكومات الائتلافية في تاريخ السودان لم تكن عرضة للفشل فحسب، بل كانت أيضًا سمة من سمات فترات عدم الاستقرار ومقدِّمة لانقلاب عسكري، يقوم به الجيش باستدعاء أو مساعدة أو تخطيط أحد الأحزاب السياسية الرئيسية لتُنهي مرحلة الائتلاف وتنفرد بالحكم أو على الأقل تحرم غيرها من الاشتراك فيه.

ومن خلال ما سبق وبالجمع بين تجارب الخبرة السودانية ممثَّلة في فترات الديمقراطية الثلاث ومتغيِّرات الواقع الراهن المحيطة بالاتفاق ونصوص الاتفاق نفسه، لا يتَّضح أنها تُشير إلى أن الاتفاق سيتمُّ تنفيذه أو أنه سيؤدِّي لنتائج أفضل.

التطبيع مع إسرائيل:

منذ أواخر حكم البشير لم يعُد التطبيع مع إسرائيل مستبعدًا كحلٍّ لعزلة السودان التي فرضَها وضعُه في القائمة الأمريكية للدول الرَّاعية للإرهاب وفرض عقوبات اقتصادية أمريكية عليه، ولكي يتَّضح الأمر اليوم تلزم الإشارة إلى أن السودان قاتل إسرائيل إلى جانب الدول العربية عام 1948، وله تاريخ طويل في مقاومتها بداية من المؤتمر الذي عُقد في أغسطس 1967 وأعلنت فيه الدول العربية “اللاءات الثلاثة”: (لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات معها، لا سلام معها)، ومرورًا بكونه كان حليفًا لأهم نظامين معادييْن لإسرائيل في المنطقة (إيران وعراق صدام حسين) بالإضافة إلى أنه ما يزال واحدًا من أهم داعمي المقاومة المسلَّحة في الداخل الفلسطيني ويقع على خط تهريب السلاح لها، وله علاقات جيدة معها أغلب الوقت. وفي المقابل إسرائيل لها سجل طويل في الاعتداء على السودان من خلال اختراق أجوائه وإصابة أهداف محدودة في 2009 و2011 و2012 و2015[13]، مُضافًا إلى ذلك دعم الانفصاليِّين في الجنوب والمتمرِّدين في مواقع التمرُّد في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان.

ماذا تريد إسرائيل من السودان؟ وماذا ستستفيد السودان؟

هذا التاريخ الطويل من العداء يجعل الاهتمام الإسرائيلي بالسودان أمنيًّا بالأساس، “فالسودان يقع على شواطئ البحر الأحمر (ويشرف) على مسار تهريب البشر والسلاح والتجارات من الشمال إلى الجنوب. وموقع السودان بإمكانه أن يساعد في خفض خطر تموضع جهات معادية على طول خط الملاحة الأساسي لـ”إسرائيل”، وعلى المدى البعيد، هناك إمكانيَّة لعمليات أمنية مشتركة في المنطقة”. ويمكن للسودان المساعدة في منع تهريب السلاح في خطِّ (السودان – مصر – غزَّة)، ومنع تموضع جهات تجهِّز لعمليات تخريبيَّة معادية على أراضيه، وإمكانية إحباط إقامة قواعد بحرية لجهات معادية مثل إيران وتركيا على شواطئ البحر الأحمر. وهو ما يمنح إسرائيل قطاعًا طويلًا على حدود البحر الأحمر، بفضل علاقاتها الحالية مع إثيوبيا وإريتريا ومصر، والآن مع السودان، ومن الناحية الاقتصادية، ستكون السودان بمنزلة سوق متطوِّرة للبضائع الإسرائيلية، وستستفيد إسرائيل من الإمكانيات الكبيرة للسودان في مجال الزراعة.

بينما الجانب الاقتصادي يأتي أولًا بالنسبة للسودان الذي سيستفيد من التطبيع من جانبين: أولهما وأهمهما هو رفع اسمه من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وهو ما يتيح له الاقتراض من المؤسَّسات الدولية وتدفُّق الاستثمارات الخارجية والحصول على مساعدات مالية بما يساعد في حلِّ مشاكله الداخلية وهذا هو الجانب الثاني.

ولكون التطبيع سيأتي بمنافع متبادلة رضي بها الطرفان ويلبِّي أهداف الوساطة الأمريكية ويتوافق مع رؤى بعض القوى الإقليمية الدافعة نحوه، أعلن القادة الأربعة؛ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس مجلس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في بيان ثلاثي يوم الجمعة 23 أكتوبر 2020 تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل ونصَّ البيان على عدَّة التزامات وتعهُّدات على النحو التالي:

– تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، وإنهاء حالة العداء بين البلدين.

– بدء العلاقات الاقتصادية والتجارية، مع التركيز مبدئيًّا على الزراعة.

– اجتماع الوفود في الأسابيع المقبلة للتفاوض بشأن اتفاقيات التعاون في تلك المجالات، وكذلك في مجال تكنولوجيا الزراعة والطيران وقضايا الهجرة، وغيرها من المجالات لصالح الشعبيْن.

– أكد البيان أن القادة عقدوا العزم على العمل معًا لبناء مستقبل أفضل، وتعزيز قضية السلام في المنطقة.

– اتفقت الولايات المتحدة وإسرائيل على الشراكة مع السودان في بدايته الجديدة، وضمان اندماجه بالكامل في المجتمع الدولي.

– ستتَّخذ الولايات المتحدة خطوات لاستعادة الحصانة السياديَّة للسودان، وإشراك شركائها الدوليِّين لتقليل أعباء ديون السودان.

– كما التزمت أيضًا بدفع المناقشات حول الإعفاء من الديون بما يتَّفق مع مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.

– كما التزمت الولايات المتحدة وإسرائيل بالعمل مع شركائهما لدعم شعب السودان في تعزيز ديمقراطيَّته، وتحسين الأمن الغذائي، ومكافحة الإرهاب والتطرُّف، والاستفادة من إمكاناته الاقتصادية[14].

وقد يأخذ تطبيع العلاقات خلال الفترة الانتقالية المستوى الجزئي بحيث تكون القضايا التي تأسَّس عليها لقاء البرهان-نتنياهو هي مضامين العمل الرئيسية حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وبالتالي لن يكون هناك تطبيع سياسي كامل، ولا فتح سفارات، ولا تمثيل دبلوماسي مباشر، وربما سيكون هناك وجود فني غير مستقر؛ وقد تلجأ إليه الحكومة الانتقالية السودانية بإعلان الموافقة على التطبيع، وتأخير المصادقة عليه حتى تأسيس المنظومة التشريعية.

وربما يصبح تطبيعًا كاملًا؛ وهو ما تلحُّ عليه الإدارة الأمريكية وتتطلَّع إليه حكومة نتنياهو، وتضغط واشنطن بقوة للوصول إلى هذا المستوى، وتستند في ذلك إلى مستوى ابتزاز سياسي يتعلَّق بتعدُّد مستويات العقوبات الأمريكية، ولا سيَّما تلك المتعلِّقة بعقوبات الكونجرس، بحيث يتم رفع بعض العقوبات وإبقاء بعضها ليتم إلغاؤها تدريجيًّا بحسب التجاوب السوداني.

وقد يتجمَّد مشروع التطبيع فما تزال قوى أساسية في قوى إعلان الحرية والتغيير وأحزاب رئيسية ترفض التطبيع، وتعتبر ما جرى تجاوزًا غير مقبول من طرف الحكومة والقيادة العسكرية، وأنهم لا يملكون تفويضًا من الشعب ولا من اللجنة المركزية لقوى إعلان الحرية والتغيير، كما أن القوى الإسلامية وحلفاءها التي نشطت مؤخَّرًا على خلفية التدهور الاقتصادي، ستعمل على تصعيد خطابها المعارض، وتحشيد الشارع ضدَّ هذا التطبيع.

وعند الترجيح بين الاحتمالات فإنه يصعب الحديث عن تطبيع كامل خصوصًا في المرحلة الانتقالية، وعدم اكتمال المؤسَّسات الدستورية في السودان، ولذلك فغالبًا سيكون التطبيع جزئيًّا. وسيظل مُعرَّضًا للتجميد بسبب تصاعد المعارضة ضدَّه، خصوصًا إذا لم تنعكس نتائجه الاقتصادية على حياة السودانيِّين[15].

كيف سيؤثر التطبيع في مستقبل السودان؟

لما كان السؤال عن المستقبل (ماذا ننتظر؟) هو هدف التقرير بالأساس تلزم الإشارة إلى أن التطبيع سيكون واحدًا من محددات شكل السلطة في السودان من الآن فصاعدًا حتى لو تمَّ تعطيله، فإنفاذ التطبيع بمستوياته يعني إزالة العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان بمستوياتها، وفتح الباب أمامه ليقترض ويتلقَّى المساعدات كونه أصبح حليف إسرائيل وصديق الولايات المتحدة الأمريكية، كما يعني أن إسرائيل ومعها المحور المعادي لثورات الربيع العربي (الإمارات-السعودية-مصر) ستساند الفصيل الموافق على التطبيع في حال تعرَّضَ لأيِّ معارضة داخلية تستهدف إزاحته من السلطة، وهذا يعني أن السودان في ظلِّ التطبيع يدور في هذا المحور، وفي حال قرَّرت بعض الأحزاب الخروج من الحكومة الحالية كاعتراض على التطبيع -وهذا لم يحدث حتى الآن- فهذا لن يؤدِّي سوى لزيادة نفوذ القوى الموافقة على التطبيع ويُصعب مهمة الأخرى في إزاحتها بعد ذلك.

أما إذا تعطَّل التطبيع فهذا يعني أن تعود الولايات المتحدة الأمريكية لخنق السودان بالعقوبات أو ما يتبقى منها وتفرض عليه عزلة من جديد حتى يطوِّر أبناءه أجندة تفاوضية تجعله يتمكَّن من الدخول في علاقة عادلة مع مختلف دول العالم بعيدًا عن إجباره على التطبيع أو غيره كثمن لذلك، ويعني أيضًا أن تقوم إسرائيل بدعم تشتيت وتفتيت السلطة وتكتُّلاتها بالشكل الذي يغذِّي أجواء الاحتراب وعدم الاستقرار الداخلي، وهذا إن لم تعالجه القوى السياسية بسياسات اقتصادية عاجلة يتحسَّن بها حال المواطن وتوافقات سياسية تقطع الطريق على التدخُّلات الخارجية، إن لم تفعل ذلك سيؤدِّي لوضع أقرب للفوضى.

سيناريوهات المستقبل:

السيناريو الأول- استيلاء العسكر على السلطة

وفي الغالب لن يكون الجيش وحده بل ستشترك معه الجماعات المسلَّحة التي أصبحت شريكًا في السلطة بعد اتفاق جوبا لسلام السودان، إذ يتَّحد طرفان لإزاحة الثالث، ويدعم هذا السيناريو كون الجيش أو المكون العسكري في مجلس السيادة هو من مهَّد للتطبيع وأنجز ما تمَّ إنجازه منه حتى الآن، وهذا يخلق له داعمين إقليميِّين ودوليِّين يساعدونه ويحافظون على وجوده لارتباط مصالحهم بوجوده أو لكونه يدور في محورهم وبالتالي هو الأفضل والأسهل بالنسبة لهم عند التعامل مع السودان، ويدعمه أيضًا اتحاد القوى العسكرية النظامية والمليشياتية معًا في السلطة؛ فتجتمع قوة الجيش وإلى جانبه قوات الدعم السريع وإلى جانبهم الحركات المسلَّحة، ما يجعل المعارضة المتوقَّعة فقط مدنية سلمية وهذه يسهُل إجهاضها وإخمادها ويتوفَّر غطاء دولي لذلك من جانب القوى الإقليمية الدافعة نحو التطبيع.

كما يدعم هذا السيناريو أيضًا تشرذم القوى المدنية وعدم اتفاقها على رأي واحد حول التطبيع أو حول طبيعة السياسات الاقتصادية الواجب اتخاذها لتجاوز الأزمة المعيشية، فلو أن القوى المدنية التي رفضت التطبيع خرجت من الحكومة لما أدَّى ذلك إلَّا إلى زيادة قوة العسكر وسيطرتهم على السلطة في ظلِّ وجود قوى أخرى مدنية توفِّر لهم الغطاء السياسي اللازم، وعدم اعتراضها وخروجها من السلطة يمرِّر عملية التطبيع حتى الآن، ويمنح العسكر المزيد من الوقت لتوفيق أوضاعه داخليًّا وخارجيًّا حتى يصبح الوقت مُواتيًا للانفراد بالسلطة.

طول الفترة الانتقالية وتمديدها مع كلِّ اتفاق جديد في ظلِّ سوء الأحوال المعيشية يزيد من ملل المواطن السوداني، ما يجعله في وقت ما يقبل سيطرة العسكر على الحكم كونهم قادرين على فرض النظام والأمن ولديهم قدرة على حلحلة الوضع المعيشي داخليًّا من خلال توظيف الشركات التي يسيطر عليها الجيش والأجهزة الأمنية بعيدًا عن سيطرة وزارة المالية، بالإضافة للدعم المالي المقدَّم من الحلفاء الذين يهمُّهم أن يظلَّ السودان تحت حكم العسكريِّين.

ويمنع حدوث مثل هذا السيناريو درجة الوعي الكبيرة بين الثوار بالعسكر ومخطَّطاتهم وحالة التوافق بين القوى السياسية على الهدف الأكبر المتمثِّل في إزاحة العسكر[16]، وهو ما يجعلها قادرة على تنفيذ عصيان مدني يعيد الأمور للحظات التفاوض الأولى بين المجلس العسكري وقوى الشارع، بالإضافة لصعوبات كبيرة تعترض قدرة العسكر على تجاوز الأزمة المعيشية رغم استحواذاهم على بعض الثروات خارج سيطرة وزارة المالية.

السيناريو الثاني- الفوضى العامة

يحدث سيناريو الفوضى العامة إذا استطاعت القوى المدنية الفاعلة على الأرض التحرُّك ضدَّ سيطرة العسكر على السلطة، بالشكل الذي يصاحب السيطرة عليه من جانب العسكر سقوط شهداء وإسالة دماء يتحرَّك بعدها الشارع بشكل أكبر، فيتقوَّض اتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير وتسقط الوثيقة الدستورية ويتعثَّر اتفاق السلام الداخلي، فتخرج الحركات المسلَّحة من السلطة وتعود الأوضاع لنقطة الصفر في ظلِّ أزمة معيشية خانقة تزيد من هذه الفوضى.

ولكن يعوق حدوث هذا السيناريو أن ثمة عدد من القوى الإقليمية ستدعم العسكر سياسيًّا واقتصاديًّا بالشكل الذي يساعدهم على تجاوز الأزمة والاستمرار والاستقرار في الحكم.

السيناريو الثالث- تسليم السلطة وفق جدولها الزمني

وهو السيناريو الأقرب للحدوث فيما لو استمرَّت الأحداث تسير بنفس الطريقة المتَّفق عليها في اتفاق تقاسم السلطة والوثيقة الدستورية واتفاق السلام الداخلي، ويدعم حدوثه كون القوى المدنية لا تزال تملك العصيان المدني كأداة ضغط في وجه المجلس العسكري، وأن القوى المدنية متَّفقة على هدف أكبر يتمثَّل في إزاحة العسكر عن الحكم بعد المعاناة الطويله من الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال وحتى الآن.

وتعترض هذا السيناريو صعوبتين رئيسيتين: الأولى- اقتصادية تتعلَّق بتجاوز الأزمة الموجودة وإحداث تحسُّن حتى لو جزئي وبسيط، في ظل سيطرة العسكر على الذهب الذي يمثِّل أهم مصادر العملة الصعبة، والأخرى- سياسية تتعلَّق بالضغط على شركاء الثورة لإنجاز الأهداف المرحلية وتقديم تنازلات تقود لتوافقات تسير بالثورة إلى الأمام وتؤمِّن الجبهة الداخلية من أي محاولات للتآمر، وذلك في ظلِّ اتِّساع الخلاف حول الكثير من النقاط، منها على سبيل المثال تأخُّر تشكيل المجلس التشريعي لعام كامل، وفي ظلِّ وجود قوى إقليمية تعادي الثورات ومخرجاتها وعلاقة قوية بين حميدتي والاتحاد الأوروبي بسبب قضية الهجرة غير الشرعية.

السيناريو الرابع- انقلاب من داخل الجيش

العدد الكبير من الانقلابات والمحاولات الانقلابية في تاريخ السودان ما بعد الاستقلال يجعل سيناريو انقلاب عدد من ضباط الجيش على الجيش والسلطة السياسية معًا محُتملًا طوال الوقت خاصَّة في فترات التحوُّل، فقد ينقلب الجيش نفسه خلال الفترة الانتقالية بدعوى الأمن والاستقرار، وعندها سيبحث عن دعم بعض القوى المدنية، وقد ينقلب مجموعة من ضباطه بمشروع سلطوي جديد يبحث أيضًا عن دعم أيٍّ من القوى المدنية، ويدعم مثل هذا السيناريو خبرة الجيش الطويلة في الانقلابات العسكرية فضلًا عن المحاولات الانقلابية، وكذلك القوى السياسية المختلفة التي تلجأ للعسكر لفرض وجودها مرة بعد مرة، إلَّا أنه يبدو من المستبعد طبقًا لنفس الأسباب أن ينقلب بعض ضباط الجيش لحساب البشير، لأن العسكري لا ينقلب لحساب غيره سواء كان مدنيًّا أو عسكريًّا، كما أنها لم تُطرح من قبل في تاريخ السودان فضلًا عن أن تُنفذ، ولكن يمنع وقوع مثل هذا السيناريو تمكُّن قادة الجيش الآن من مفاصل السلطة بشكل جيد، وتمكُّن الشارع من أدواته الضاغطة والتي يمثل العصيان المدني أقواها وأسرعها فاعلية.

السيناريو الخامس- تسليم السلطة للمدنيِّين ثم إفشالهم والانقلاب عليهم

وهنا سيعمل المجلس العسكري على خلق حالة من الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية الفائزة في الانتخابات، وعرقلة تكوين حكومة قوية والعمل على زعزعة التحالف المكوِّن للحكومة بالشكل الذي يجعل الاستقرار السياسي مطلوبًا حتى لو أصبح العسكر هم البديل، ولكن ذلك مرهون بعدم فوز حزب أو مجموعة أحزاب متجانسة بالأغلبية واتِّساع هُوَّةِ الخلاف بين الأحزاب بالشكل الذي يجعل التوافق فيما بينها صعبًا وتبدو ملامح ذلك واضحة الآن، وعندها سيحصل المجلس العسكري على دعم سياسي واقتصادي كبير من محور القوى المعادية للثورات (مصر – السعودية – الإمارات – إسرائيل)، يدعم ذلك تمتُّع العسكر بإمكانيات مالية كبيرة (مصادر الذهب) والقوة العسكرية اللازمة للقمع ودعم بعض القوى الإقليمية لهم.

ويمنع وقوع مثل هذا السيناريو استفحال الأزمة المالية والاقتصادية التي أشعلت الثورة والتي يصعُب على العسكر إنهاؤها وإلَّا كانوا أنقذوا أنفسهم والبشير، وكذلك كون الرجل الأقوى الآن (حميدتي) يأتي من خارج الجيش وبالتالي احتمالات التنازع واردة وحقيقية في حال صعود أحد العسكريِّين للسلطة[17].

خاتمة: ماذا يمكن أن يقوم به المصلحون على مستويات التوعية والإصلاح؟

من خلال ما تقدَّم يمكن أن يقوم المصلحون بعدَّة واجبات، منها:

على مستوى الوعي العام، إبقاء القضايا حاضرة في ذاكرة الناس ومطروحة في أحاديثهم بعيدًا عن شرود الحكومات، عن طريق النشر المتواصل والمتنوِّع والمتعدِّد عن هذه القضايا والتبصير بها، بما يجعل خباياها معروفة لعموم الناس بالشكل الذي يعيق قنوات السلطة عن التضليل بشأنها.

وعلى المستوى السياسي، تطوير أجندة تفاوضية تحفِّز الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسَّسات الدولية ومختلف دول العالم على بناء علاقات عادلة مع السودان، بعيدًا عن ربط ذلك بمزيد من الضغوط التي تجعله يتنازل عن شيء من حقوقه، أو يُقيم تحالفات أو سياسات بعيًدا عن رغبة أبناءه.

وعلى المستوى الاقتصادي: طرح حلول اقتصادية تجعل من مصلحة الغير (دول ومؤسسات العالم) إقامة علاقات اقتصادية كبيرة مع السودان يتحسَّن بها المعاش اليومي للمواطن حتى لو ببطء، وينمو بها اقتصاد السودان، بدون ارتهان بالتطبيع مع إسرائيل، وهذا لن يكون سهلًا أو عابرًا، ولذلك يجب ربط الناس بقيمهم الحضارية وتذكيرهم بإيمانهم الديني، وما يفرضانه من خيارات تستلزم الصبر، حتى يتم إنجاز التنمية بالشكل الذي يكفل حياة كريمة للناس بعيدًا عن التطبيع.

 

*****

الهوامش

[1] خطة ال 200 يوم في السودان.. 10 ملفات تضع “حكومة الثورة” تحت الاختبار، بوابة الشرق، 12 سبتمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/uLz3A

[2] انظر: وزير المالية السوداني يكشف عن برنامجه الإسعافي الاقتصادي، المصري اليوم، 8 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3ovsORd

[3] أسماء الحسيني، وزير المالية السوداني يعتذر عن الفشل بكبح التضخم، صحيفة الاتحاد السودانية، 6 مارس 2020، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/4yBoM

[4] انظر على سبيل المثال: البرهان قال إن هناك فرصة يجب اغتنامها لرفع السودان من قائمة الإرهاب.. حمدوك: التطبيع يحتاج نقاشًا مجتمعيًّا، الجزيرة نت، 26 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 10 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/HOZPg

[5] مزدلفة عثمان، شمل 5 مسارات وغابت عنه حركتان.. 8 أسئلة تشرح بنود اتفاق الحكومة السودانية والجبهة الثورية، الجزيرة نت، 31 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/YLR53

[6] للمزيد حول هذه الاتفاقيات ونصوصها راجع وكالة السودان للأنباء (سونا) من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2XqGmBp

[7] اتفاق جوبا للسلام في السُّودان.. تحدِّياته وفرص نجاحه، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 10 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/QbKzk

[8] اتفاق جوبا للسلام في السُّودان .. تحدّياته وفرص نجاحه، مرجع سابق.

[9] محمد الدابولي، “تفاؤل حذر”.. ماذا بعد توقيع اتفاق السلام في جوبا؟، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، 1 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 7 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://pharostudies.com/?p=5299

[10] مزدلفة عثمان، شمل 5 مسارات وغابت عنه حركتان.. 8 أسئلة تشرح بنود اتفاق الحكومة السودانية والجبهة الثورية، مرجع سابق.

[11] اتفاق جوبا للسلام في السُّودان.. تحدِّياته وفرص نجاحه، مرجع سابق.

[12] عمار عوض، عقبات قانونية تواجه اتفاق السلام في السودان… وتنافس على 3 مقاعد في السيادي، القدس العربي، 12 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/SC0bq

[13] للمزيد انظر؛ الغارات الأجنبية على السودان، الجزيرة، ٩ فبراير ٢٠١٦، تم الاطلاع في 20 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ScI2B

[14] اتفاق التطبيع بين السودان وإسرائيل.. معلومات عن البنود والوسطاء والخطوات اللاحقة، الجزيرة نت، 23 أكتوبر 2020، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/SExYm

[15] التطبيع السوداني – الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية، المركز الفلسطيني للإعلام، 30 أكتوبر 2020، تاريخ الاطلاع: 16 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/EYFJ4

[16] رغم تنوُّع واختلاف القوى السودانية إلَّا أن ثمة توافقًا تامًّا على ضرورة إزاحة العسكر من الحكم ظهر في محطات تاريخية منها ثورة أكتوبر 1964 وظهر بعدها ضدَّ نظام نميري وظهر مجدَّدًا خلال عملية إسقاط البشير وبعدها، فمثلًا الترابي العدو اللدود للحزب الشيوعي عاد وتحالف معه في 2010 ضمن تحالف قوى الإجماع الوطني في إطار مناهضة الحكم العسكري، وكذلك لم يطالب عموم الإسلاميِّين في المعارضة من القوي متصدِّرة المشهد الآن سوى عدم الإقصاء، وكذلك مليونية الشريعة التي شهدها السودان في 19 مايو، والتي رفعت نفس شعار الثورة “حرية.. عدالة.. سلام” ولم تتجاوز العتاب للكراهية وأكَّدت على الشراكة وليس الاستقطاب رغم حجم الاختلاف الكبير مع القوى التي تتصدَّر المشهد، إلَّا أن هذه الحالة من التوافق مرهونة بعدم الإقصاء الذي يوفر قدرة على الاستقطاب من جانب المجلس العسكري ستفسد هذا التوافق بالضرورة وتفتح الإمكانية لوقوع انقلاب عسكري.

للمزيد حول جدلية الاستقطاب والتوافق بين القوى السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتي أحداث الثورة الآن، انظر:

– وسام فؤاد، ثورة السودان بين مشروع الخوف وسياسات الاستقطاب، المعهد المصري للدراسات، 28 يونيو 2019، تاريخ الاطلاع: 27 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/TINAn

[17] للمزيد حول هذا السيناريو، انظر: نبيل علي، السودان: اتفاق تقاسم السلطة الطبيعة وسيناريوهات المستقبل، فصلية قضايا ونظرات، العدد 16، يناير2020، المرجع السابق، ص ص 56 و58.

فصلية قضايا ونظرات – العدد العشرون – يناير 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى