لماذا الفصل بين السياسي والحضاري؟

مداخلة مكتوبة في مؤتمر: العدوان، المقاومة الحضارية في حرب لبنان.. الدلالات والمآلات، (القاهرة 2006)

لقد كان مفهوم “الحضاري” منطلقَ تعقيب د. محمد السيد سعيد، ثم تعقيب المستشار طارق البشري. ولقد سبق وحددت ورقة عمل الندوة المقصود بالدلالات الحضارية التي تهدف القراءة في الخطابات إلى استكشافها من ناحية، كما حددت ورقة العمل –من ناحية أخرى- موضع هذه الندوة من أنشطة برنامج حوار الحضارات والتراكم الذي تحقق على ضوء أهداف هذا البرنامج الأكاديمية والعملية على حدٍ سواء.
ومن ثم، لابد أن أبدأ تعقيبي بتوقف محدد عند مفهوم “الحضاري: والدلالات الحضارية”. يتلخص في النقاط التالية:
1- ضرورة عدم الخلط بين الحضاري وبين الديني (العقيدي). حقيقة، يمثل الدين (الإسلام) المكوِّن الأساس في الحضارة الإسلامية، بكل ما يُثيره هذا من إشكاليات للنقاش مع المدارس التي لا تعتبر الدين المكوَّن الأساس في التشكيل الحضاري، إلا أن الحضاري يظل أشمل وأوسع نطاقًا من الديني. ومن ثم، فإن “الحضاري” بالمعنى الإسلامي يمتد ليشمل إنجازات المنتمين إلى أديان ومذاهب أخرى ولكن في نطاق حضاري واحد؛ ولذا فالأمة الإسلامية –على سبيل المثال- هي مفهوم عقدي ومفهوم حضاري في نفس الوقت.
2- التمييز بين الأبعاد الحضارية (التي تتضمن في سياقها الثقافي والديني) باعتبارها –أولًا- متغيرًا مستقلًا أي دافعًا ومحركًا في حد ذاتها ومُفسرًا للعلاقات والتفاعلات الدولية (تعاونيًا أو صراعيًا)، وبين الأبعاد الحضارية باعتبارها –ثانيًا- إطارًا وبيئة تشكل الوعي والسلوك وباعتبارها أداة توظف في خدمة “السياسي الاستراتيجي”، وباعتبارها أيضًا عوامل مؤثرة لا تنفصل عن العوامل السياسية. وفي الحالة الأولى، تبرز مقولات “الصراع الحضاري” بوصفها قانونًا تاريخيًّا، لابد أن يستثير كل التحذيرات من أن يقود مصطلح “الحضاريّ” إلى الوقوع فريسة القول إن سبب الصراعات والحروب هو اختلاف الأديان والثقافات والحضارات؛ ومن ثم الاعتقاد أن كل حديث عن “الحضاري” هو حديث عن “صراع حضاري” بالضرورة.
أما الحالة الثانية، فهي تستثير التحذير من خطورة الفصل بين كل ما هو مادي (باعتباره المصلحيّ) وبين كل ما هو قيمي باعتباره مثاليًا غير واقعي لا يرتبط بالمصالح والسياسات.
وبناءً عليه، فإن الحديث عن الدلالات الحضارية للحرب في لبنان (عدوانًا ومقاومة) لا تعكس منطق الحالة الأولى، ولكن تعكس منطق الحالة الثانية. مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أنه إذا لم يكن من الصواب أن يستدعي مصطلح “الحضاري” إلى الذهن مباشرة “صراع الحضارات والأديان”، وإذا كانت ثمة رؤيةً إسلاميةً للعلاقة بين الحضارات لا تقوم تأصيليًا –مثل رؤية هنتنجتون للواقعية؟- على قاعدة الصراع، إلا أن هذه الأبعاد التأصيلية المقارنة لا يصح أن تحجب عن أنظارنا وعن خطاباتنا –مهما كانت الأسباب- أن الآخر الذي يدير صراعًا ضدنًا الآن بكل الأدوات لتحقيق مصالح استراتيجية عليا (تتصل بالمكانة والهيمنة والبترول والاقتصاد وغيرها) لا يتورع عن توظيف “الحضاري – الثقافي – الديني” على نحوٍ صراعيّ يدفعنا إلى القول: إذا كانوا هم الذين يقودون ضدنا صراعًا حضاريًا: فلماذا ننكره على الإطلاق؟
3- ومن ثم، فإن الدلالات الحضارية المقصودة في ندوتنا –وكما أقدم قراءتي بصددها- إنما تستهدف اختبار هذا القدر “الصراعي” ونمطه في خطابات الأطراف المعنية، كما تهدف إلى بيان أمر آخر؛ وهو كيف أن الأبعاد القيمية الإنسانية الأخلاقية –المرتبطة بنموذج حضاري (إسلامي)- لا تنفصل عن الأبعاد السياسية والاستراتيجية في تشكيل وأداء نموذج المقاومة اللبنانية (الإسلامية والوطنية).
ومن هذه النقطة، فإن منطلقي في التعليق على ما قدمه الباحثون الشُّبَّان المتميزون من قراءات في الدلالات الحضارية للخطابات، هو كالآتي:
إن نموذج حزب الله –بوصفه تنظيمًا شعبيًا وسياسيًا وعسكريًا- للمقاومة في لبنان بصفةٍ عامة، وجولته الأخيرة مع العدوان الإسرائيلي ومع مخططات التآمر الداخلية، بصفةٍ خاصة، يمثل ساحة حيّة وخصبة لبيان كيف أن الأبعاد القيمية الأخلاقية الإنسانية المنبثقة عن عقيدة دينية (إسلامية) إنما تمثل ركيزة من ركائز حسابات إعداد القوة وتوازناتها؛ ركيزة لا يجب إغفالها، بعد ذلك، على صعيد دراسة السياسات والتفاعلات العربية والإسلامية.
فلقد نجح حزب الله –بقيادة حسن نصر الله- في تجسيد مشروعٍ حضاري للبناء –ابتداءً من الإنسان- قاده إلى مشروع ناجح للمقاومة المسلحة والشاملة.
ولذا؛ فإن هذا المشروع وإنجازاته حتى الآن، سواء خلال تحرير جنوب لبنان أولًا (1982- 2000) ثم في الصمود أمام العدوان الإسرائيلي الأمريكي (بمساندة عالمية وعربية أيضًا 2006)، هذا المشروع يساعد في الخروج من مأزقين:
المأزق الأول: هو مأزق الانفصال لدى تيار واسع من الطلبة ومن الزملاء الباحثين بين “الديني” وبين “المجتمعي والسياسي والاستراتيجي” (فكرًا وممارسة، واقعًا وتاريخًا، تفاعلاتٍ ومؤسسات)، ومن ثم الحاجة إلى جهود للتدليل (من منظور حضاري) على أن العلاقة بينهما تآزرية تفاعلية وخاصةً مع اعتبار أن (الإسلامي) ليس مجرد (الديني) بالمعنى الضيق أي العقيدي فقط، ولكن أيضًا ما ينبثق عنه ويمتد من قيمٍ وسُنن ومن ثم من ثقافة وحضارة بالمعنى الشامل.
ومن ثم؛ فحين الاقتراب من دراسة الظواهر، من مدخل قيمي حضاري (إسلامي) كان يبدو في نظر طلبتنا مثاليًا، لا وجود له في الواقع، وهو الأمر الذي كان يفرض الاجتهاد في شرح كيف أن “القيم” ليست مثاليات مجردة ولكن هي منطلق لتحديد أوجه الحركة وغاياتها، وهي ميزان للتقييم ومن ثم معيار لإحداث التغيير المطلوب؛ وبالتالي فإن “القيم” هي إطار مرجعي ممكن لتحديد السياسات وتنفيذها وتقييمها. كما أنها تقع في صميم الدلالات الحضارية لكل فعل.
أما المأزق الثاني: فهو مأزق اليأس والإحباط الغالبيْن على الأمة لغياب النماذج التي تبعث على الأمل على صعيدها؛ أي النماذج التي تحقق نجاحات داخلية وخارجية، وخاصة ما يتصل باستخدام القوة العسكرية لحماية الأمن الوطني ومصالح الأمة، حيث يبدو من تاريخ تجارب إعداد القوة العسكرية واستخداماتها من جانب النظم العربية والإسلامية، أن ثقافة القوة العسكرية لم تقُد إلا إلى الهزيمة والاستبداد، أو تبدو –وخاصةً في حالات المقاومة- كما لو كانت (في نظر البعض) ثقافة موتٍ بلا طائل أو إرهاب يهدد أمن وسلام العالم، أو تبدو كما لو أن استعدادات القوة العسكرية تتم على حساب أهداف “التنمية” بدلًا من أن تنطلق من نتائجها وترتكز على دعائمها.
وهذه الأمور أفرزت ما يُسمى “ثقافة السلام” و”ثقافة القوة المرنة” التي تتجه بالرفض إلى كل ما يُسمى “عنفًا” أو قوةً صلدة دون تمييز كما لو أن أمتنا أضحى مكتوبًا عليها دون غيرها أن تنزع أسنانها وأن تتخلى عن كل استخدامات القوة العسكرية لحماية أمنها ومصالحها وكرامتها الوطنية، كل ذلك باسم حسابات المصالح الاقتصادية ومتطلبات التنمية التي تتطلب “سلامًا”. باسم هذه الأمور جميعها تم بيع القضايا الوطنية على نحوٍ أثار تهديدًا للأمن الوطني والقومي باسم الذرائع البراجماتية المدعية الخوف على المصالح الوطنية التي هي بالأساس مصالح اقتصادية لنخب حاكمة ونخب متحالفة، ومن ثم هي في الأصل مصالح مصابة بكل أمراض الفساد الداخلي والتدخل الخارجي؛ ولذا فهي ليست مصالح تصب في عافية الوطن بأكمله، ولا تمثل إلا قشور التنمية الظاهرية.
ولقد وجدتُ في حالة المقاومة الإسلامية في لبنان نموذجًا يكسر تابوهات المأزقين السابقين. فإن سيناريو (12/7- 14/8/2006) كان مليئًا باللقطات الحية، التي بينت أنها ليست وليدة تخطيط قصير الأجل؛ لأن التخطيط استمر بعد التحرير (2000) ولم ينقطع، كما بيَّنت أن حزب الله هو مشروع مقاومة حضارية وليس مقاومة عسكرية فقط، هو مشروع محمل بالقيم وليس بالسلاح فقط، فقوة القيم كانت بمثابة الذراع الثانية وكانت قيمة القوة هي الذراع الأولى. ومن ثم، قدم أداء حزب الله، قيادةً وأهلًا ومقاتلين، نموذجًا لمفهوم “قيمي” حضاري للقوة وللحرب استطاع أن يحقق الانتصار أو على الأقل الصمود وردّ المعتدي. وفي نفس الوقت، قدمت الأطراف الأخرى: إسرائيلية، أمريكية، أوروبية، وعربية نماذج أخرى على عدوانية القوة وشراسة التفوق التكنولوجي العسكري وغطرسة القوة الدبلوماسية، ومنزلقات ما تم من حذف نظم عربية لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن الكرامة والأرض ومن ثم استمرار الوقوع أسرى للتفوق الإسرائيلي والمساندة الأمريكية وأوهام “السلام كخيار استراتيجي”، في وقت لم تُعِدُّ هذه النظم عناصر قوتها الشاملة التي يمكن أن تكون –إذا تحققت- عاملَ مكانة ووزن على الساحة الدولية، بل تكون أيضًا عامل ردع وركيزة للتفاوض السلمي الذي يكون –في هذه الحالة فقط- سبيلًا فعالًا للحفاظ على المصالح الوطنية وحمايتها.
لهذا كله؛ كان مشهد الأيام الثلاثة وثلاثين؛ أي مشهد المقاومة والصمود، ساحةً تساعد على الخروج من المأزقين الأكاديمي والعملي على حدٍ سواء، حيث تقدم هذه الساحة مصدرًا متجددًا للأمل والثقة بالنفس من جديد، كما تقدم مجالًا لاختبار العديد من المقولات التي تعيد للأبعاد القيمية–الحضارية مكانتها ووضعها (حضورًا أو غيابًا) في تحليل وفهم السياسات العربية والإسلامية، وعلى نحوٍ يثبت أن الفعالية لن تعود لهذه السياسات إلا إذا وجدت جذورها في نماذجها الذاتية وليس المفروضة من الخارج.
وفي محاولة للشرح، اقتصر على ثلاثة محاور تفصل فيما سبق وأوجزت عاليًا.

المحور الأول: المقاومة–الجهاد: مشروع حضاري متكامل مبتدؤه الإنسان، وإحدى أدواته القوة العسكرية، والحرب خاتمته عند الضرورة

الإنسان هو المبتدأ، التكليف لحماية الوطن فرض عين على الجميع، القيادة ليست شرفًا ومكانة ولكن واجبًا ومسئولية، القوة ليست بناءً عسكريًا مجردًا منفصلًا عن محيطه، الحروب عند الضرورة مصلحة وفرض مهما كانت خسائرها وكُرْهنا لها، وإدارة المعارك لها قواعدها وأصولها في حماية الإنسان والجماد، ومن ثم الجهاد ليس قتالًا فقط، ولكن هناك جهاد الإعداد والبناء وجهاد القتال ثم جهاد إعادة بناء ما دمرته الحرب. هذه هي منظومة القيم المنبثقة عن تأصيل إسلامي لقواعد وأسس الجهاد، والتي جسسدها أداء حزب الله على نحوٍ بين أن المقاومة الإسلامية اللبنانية: هي مقاومة تقوم على ثقافة عمران وليس ثقافة موت.
ومن بين اللقطات المعبرة عن هذه الدلالة الحضارية، ما جاء في الخطاب السابع للسيد حسن نصر الله بمناسبة إصدار القرار 1701 في 14/8/2006. فهو خطاب مفصليّ مثل غيره من خطاباته السابقة خلال الحرب واللاحقة على هذا القرار، إذ إنه: يجسد فلسفة مقاومة حزب الله التي تجسدت في معاركه العسكرية والسياسية، التي تبدأ من الإنسان وتصل إلى –السلاح- ثم تعود إلى الإنسان.
ومن واقع قراءتي لهذا الخطاب حين صدوره، أشير إلى ما يلي: المقاومة ليست مقاومة خاصة عسكرية، ولكنها صعود وتضامن أهل الوطن وراء مجاهديه. هكذا قال حسن نصر الله في خطابه السابع الذي استهله بالحديث عن “الإنسان”. وكانت كلمات “الأهل” “الأحباء الأعزاء”، “أبناء الوطن الصامدون”، “المحتضنون”، “الصابرون”، “الأشداء” بمثابة ومضاتٍ إنسانية –ولا أقول كلمات- وصف بها حسن نصر الله في طليعه خطابه أحد وجهي المقاومة: أهل لبنان وخاصةً أهل الجنوب. فالمقاومة لديه ليست مقتصرة على جنوده المقاتلين فقط ولكن –وكما بيَّن خطابه- فإن أعمال هؤلاء هي نتاج ومحصلة جهود كلية أكثر اتساعًا من جهود التسليح والتدريب.
ولذا؛ لا عجب أن بدأ كلمته بتحية صادقة ومعبِّرة وجَّهها إلى أهل الجنوب لصمودهم وبمناسبة عودتهم إلى أراضيهم، والأهم كان إعلان السيد حسن نصر الله بداية جهود إصلاح المنازل، وإعادة بناء ما دُمِّر وذلك تحت رعاية ومساندة حزب الله. وجاءت هذه التحية وهذا الإعلان في وقتٍ تدافعت حشود أهل الجنوب عائدة إلى قراهم وبلداتهم، ولم يزل العدو الإسرائيلي موجودًا في بعضها. أي في نفس الوقت الذي فاض عقل القائد وقلبه ولسانه تجاه أهله وأحبائه كان هؤلاء يفيضون حبًا وامتنانًا وحمايةً للأرض وشوقًا إليها، يعودون إليها سريعًا محمَّلين بكل الزهور وكل الأمل، يهرعون بلا تكاسل ودون مخافة من عدو أو لغم وقذيفة كامنة أو دون اعتبار لعدم توافر مياه أو كهرباء أو سبُل الحياة الاعتيادية على الأقل. ولذلك؛ كان هذا التزامن بين ما تبثه الفضائيات من مشاهد الحماسة والفرح خلال عودة النازحين لديارهم، ولم يمر بعدُ يوم كامل على بدء تنفيذ القرار 1701، وبين مشهد تلاحمهم مع قائدهم يتحدث إليهم أولًا وقبل أي شيء، عن تقديره وحبه وعن رعايته، هذا التزامن بين هذه المشاهد لهو أكبر دلالة على قدر التلاحم بين القيادة وبين أحد جناحي المقاومة؛ أي الجناح المدني الشعبي.
فإذا لم تكن تغطية وقائع وأحداث أيام الحرب الثلاثين قد مكنتنا من متابعة نمط العلاقة بين القيادة والجناح العسكري للمقاومة؛ فإن نجاحاتها وإنجازاتها كانت خير معبر عن هذا النمط للعلاقة، ومن ثم، فهذا التلاحم الذي عبَّر عنه ذلك التزامن بين خطاب حسن نصر الله وبين عودة النازحين، لهو اللحمة الأساسية لتفسير فعالية هذه المقاومة حتى الآن؛ فإذا كانت الكتابات قد أفاضت من قبل في توصيف خبرة حزب الله فلسفة ومؤسساتٍ وحركةً وسياسةً… فإن هذه الأيام من تاريخ المقاومة الإسلامية اللبنانية قد جسدت بوضوح وللعيان ركائز فلسفة هذه المقاومة؛ فإن نجاحاتها وإنجازاتها كانت خير معبر عن هذا النمط للعلاقة، ومن ثم؛ فهذا التلاحم الذي عبر عنه ذلك التزامن بين خطاب حسن نصر الله وبين عودة النازحين، لهو اللحمة الأساسية لتفسير فعالية هذه المقاومة حتى الآن؛ فإذا كانت الكتابات قد أفاضت من قبل في توصيف خبرة حزب الله فلسفة ومؤسساتٍ وحركةً وسياسةً… فإن هذه الأيام من تاريخ المقاومة الإسلامية اللبنانية قد جسدت بوضوح وللعيان ركائز فلسفة هذه المقاومة؛ فهي قيادة تجد جذورها في أهل الجنوب وتمتد فروعها وتثمر ثمارها في مقاتليها. فالأهل والناس هم الإطار الذي يحتضن الجهد العسكري، منهم ينبثق وبينهم ينتشر فيضمن النماء والحماية والعطاء. هذه هي خصوصية المقاومة الإسلامية في الجنوب، ثلاثية متفاعلة: (قيادة + أهل + جنود) يغلفهم جميعًا إيمان عميق ينبثق عن عقيدة قوية.
ولذا؛ يمكن القول إن خطاب حسن نصر الله وما أعقبه من خطاب “نبيه بري”، داعيًا أيضًا إلى سرعة عودة النازحين لديارهم، لهو تعبير عن سياسة واعية تقدر حجم ووزن المدني والشعبي في عملية المواجهة العسكرية والسياسية، فكما كان أهل الجنوب سندًا للمقاومة العسكرية وحاضنًا لها –في وقت اعدادها ووقت صمودها خلال العدوان- فإنهم أيضًا سيكونون ركيزة وسندًا لإثبات الصمود والاستمرار في المقاومة –على صعيد إعادة البناء وحماية خيار المقاومة خلال المفاوضات السياسية التالية على وقف إطلاق المدافع.
بعبارة أخرى؛ إن مفردات خطاب حسن نصر الله في شقه الأول الخاص بالأهل وإعادة البناء تحمل -ضمنًا وصراحةً- كل قيم “العمران” التي تنطلق من الإنسان؛ فإن هذه المفردات عامرة وفياضة بالمودة والرحمة والطمأنة وبعث السكينة في النفوس بعد أجواء الهول والدمار، والتي ما زالت قائمة حتى بعد وقف النار.
ومن هذا الشق الأول للخطاب الخاص بالإنسان وإعادة بناء ما دمره عدو الإنسان –نفسيًا وماديًا- ينتقل حسن نصر الله إلى الشق الثاني الخاص بالسلاح محذّرًا –بلغة الواثق من صموده، القوى في إيمانه- من اللعب بورقة النقاش حول “نزع سلاح المقاومة”، لما لها من آثار سلبية على الوحدة الوطنية والتضامن من ناحية، وكذلك لما يحمله توقيتها (منذ ما قبل قرار وقف النار) من مغزى سلبي على الصعيد الأخلاقي والنفسي بالنسبة إلى أهل الجنوب الذين تحملوا ما تحملوا بسبب العدوان، والذين حمت المقاومة أرضهم وكرامتهم؛ فإذا بمن يجدد الدعوة –وفي الآونة المبكرة قبل وقف إطلاق النار- إلى نزع سلاح المقاومة.
هذا، ويبين خطاب حسن نصر الله –من ناحية أخرى- وربما لأول مرة بهذا الوضوح منذ اندلاع الحرب أمرين أساسيين:
أولهما- التلميح بأن أهل الجنوب والضاحية الجنوبية هم الأكثر تضررًا من بين اللبنانيين بالعدوان الإسرائيلي الذي ركز على هاتين المنطقتين بالأساس.
ثانيهما- التلميح بأن المقاومة وليس الحكومة هي التي قامت بدورها في صد المعتدي وحماية الوطن.
ولذا؛ ها هي الآن تبادر بالتحرك من أجل إعادة البناء قبل الدولة أو على الأقل إلى جانبها، وخاصةً فيما يتصل بمنازل أهل الجنوب والضاحية.
ومن ثم، جاء التصريح بأن حزب الله وإن كان يوافق على بسط سلطة الدولة والجيش في الجنوب إلا أنها يجب أن تكون دولة قوية وقادرة على حماية الوطن، وهنا فقط لن يصبح هناك حاجة إلى مقاومة شعبية، وحتى يتحقق هذا الوضع لا محل للحديث عن نزع سلاح حزب الله وحال الدولة والجيش بهذا الضعف.
وعلى ضوء هذين الأمرين اللذين أوضحهما –ضمنًا وصراحةً- خطاب حسن نصر الله، فيمكن القول إنه وجَّه رسالةً تعني أن حزب الله وإن لم يكن موازيًا أو بديلًا للدولة اللبنانية –حيث إنه مكون من مكوناتها التنفيذية والبرلمانية- إلا أنه صاحب مسئولية وسلطة فاعلة مقارنة بغياب مسئولية وسلطة الحكومة –على الأقل تجاه الجنوب وخلال الحرب. وبذا، تصبح المسئولية الإنسانية والأخلاقية هي تدعيم للمسئولية السياسية والعسكرية التي يتحملها حزب الله. هذا هو موجز الرسالة التي حملها خطاب نصر الله عن إشكالية العلاقة بين “الدولة” و”المقاومة”، التي يرى البعض أنها –أي المقاومة- هي سبب ضعف الدولة، في حين توضح رسالة حسن نصر الله أن المقاومة هي نتاج غياب الدولة القوية القادرة على حماية كل اللبنانيين.
مفاد القول: إن الانتقال من حديث الإنسان إلى حديث السلاح إلى حديث الدولة؛ هو حديث متسلسل يترجم فلسفة حزب الله باعتباره حركة مقاومة وحزبًا سياسيُا، والتي مفادها أن القوة تبدأ من القاعدة الشعبية وتعتمد عليها وتستند إليها؛ فتفرز قوة عسكرية، ويتلاحم الجميع في ظل قيادة، فيصبح الصمود والتضامن من ناحية، والسلاح من ناحية أخرى هما ذراعا المقاومة، والقيادة رأسها، والدولة هي محيطها وإطارها.
وإذا كانت توقيتات خطابات حسن نصر الله الستة السابقة ذات مغزى بالنسبة إلى مسار تطور الحرب والمواقف؛ فإن هذه الثلاثية في مضمون الخطاب السابع في توقيته هذا تحمل مغزى كبيرًا بالنسبة إلى طبيعة المرحلة الراهنة بعد توقف القتال العسكري وبداية القتال السياسي. وكم من نجاحات عسكرية أجهضتها السياسة، وكم من نجاحات عسكرية خدمت السياسة. هذا هو ما يدركه حسن نصر الله، وكما راهن ولكن بحسابات مسئولة، حين قام بعمليته العسكرية التي أسر خلالها الجنديين الإسرائيليين اللذين احتجت بهما إسرائيل لتشن عدوانها وتنفذ خطتها المعدة مسبقًا لتصفية حزب الله ونزع سلاحه، فلابد أن نصر الله يحسب حساباته جيدًا ويعد رهاناته لخوض معركة سياسية لن تقل شراسة عن المعركة العسكرية، وإذا كان حزب الله قد صمد في مواجهة قوى 14 مارس وخلال الحوارات الوطنية واللعبة السياسية الداخلية والضغوط الدولية والإسرائيلية والعربية عليه منذ مقتل الحريري، فكيف سيصمد –بإذن الله- مرة أخرى على صعيد الساحة السياسية، ولكن هذه المرة في ظل نتائج الصمود العسكري للمقاومة الإسلامية اللبنانية أمام إسرائيل من ناحية وفي ظل متطلبات تنفيذ القرار الدولي الجديد 1701 من ناحية أخرى؟ ذلك؛ لأن ما فشلت إسرائيل والقوى الخارجية المساندة لها في تحقيقه عسكريًا –ألا وهو تصفية المقاومة ونزع سلاح حزب الله- ستسعى إلى تحقيقه بالفتنة الداخلية.
ولقد بدأ هذا المسعى منذ الجولة الأولى في الحرب؛ حيث استهدفت إسرائيل بالدمار الذي ألحقته بأهل الجنوب والضاحية تقليب البيئة الداخلية (الشيعية)؟ على حزب الله. وحين فشل هذا المسعى، حيث ازداد الالتحام والصمود بين المقاومة العسكرية والصمود المدني والشعبي، استهدفت إسرائيل (خلال الجولة العسكرية الثانية التي اتسع فيها نطاق العدوان الجوي والبري والبحري) البيئة الداخلية اللبنانية برمتها محاولة قلبها على حزب الله. وحين فشل هذا العقاب الإسرائيلي للصمود الوطني اللبناني برمته والذي أكد الوحدة الوطنية وراء خيار المقاومة للعدوان على الوطن، وبعد وقف إطلاق النار (أو ما يُسمى في القرار الدولي بالأعمال العدائية) ها هي السجالات تتجدد من جديد –في الداخل اللبناني- حول نزع سلاح المقاومة، بل لقد تجددت –كما قال نصر الله- في الكواليس قبل أن تخمد نيران العدوان الإسرائيلي، وهذه السجالات هي استمرار لمعركة إسرائيل وأمريكا ضد حزب الله ولكن بالأدوات السياسية وبادعاء الاستناد إلى قرارات دولية من جديد، وباستخدام الداخلي السياسي، وهذا هو ما توقف عنده نصر الله ووجه بشأنه رسالة واضحة.
ولا أدلَّ على ذلك من المؤتمر الصحفي الذي عقده بوش عقب ساعات قليلة من إذاعة حديث حسن نصر الله. ولقد غمر حديث بوش مفردات وصف حزب الله بالإرهاب والتطرف في مواجهة قوى الحرية والديمقراطية، مستمرًا في تحميل حزب الله وإيران مسئولية تدمير لبنان ومستمرًا في تجاهل حقيقة العدوان والاحتلال الإسرائيلي ومستدعيًا حديث الديمقراطية في لبنان التي لا تستقيم ووجود جماعات مسلحة تعمل باستقلال عن سلطة الدولة، ومشيرًا إلى هزيمة حزب الله في الحرب وأن القرار الدولي كان نتاج نجاح الدبلوماسية الأمريكية الساعية لإصداره على نحو يتصدى للقضايا الأساسية ألا وهي –من وجهة نظره- نزع جذور مشكلة عدم الاستقرار في لبنان والمنطقة ألا وهي إرهاب حزب الله.
وبناء عليه، تتجدد مرة أخرى عبقرية توقيت خطابات السيد حسن نصر الله طوال الحرب، وتوقيت الخطاب السابع هذه المرة يعكس عمق الاستجابة للتحديات المحيطة لحظة وقف إطلاق النار، فهذا الوقف ليس النهاية، ولكن البداية لمعركة جديدة، إذ يعرف حسن نصر الله خيوط الخطة التي تحيكها تحالفات أمريكا وإسرائيل والقوى المساندة لها –داخل وخارج لبنان- في حربها ضد حزب الله؛ ولذا كان خطابه حاملًا رسالة التوعية بأهمية الوحدة الوطنية في هذه المرحلة، وكانت نغمة الخطاب شديدة الوعي والمسئولية الحضارية؛ فلم يتضمن الخطاب أي اتهام لأية قوة سياسية لبنانية بالتواصل مع القوى الخارجية فيما يتصل بنزع سلاح المقاومة. وهذه دلالة حضارية أخرى من دلالات هذا الخطاب. هذا، وستصبح معركة نزع سلاح حزب الله في مقابل معركة تدعيم سلطة الدولة القوية القادرة على حماية لبنان، والتي تقوم على استراتيجية عسكرية جديدة تأتي نتاجًا لحوار وطني فاعل، ستصبح نتائج هذه المعركة المزدوجة هي المحك الحقيقي عن الانتصار اللبناني على إسرائيل وأمريكا أو انتصار هاتين القوتين المعتديتين ليس على المقاومة الإسلامية في لبنان فقط، ولكن على كل صور المقاومة الحضارية في العالم العربي والإسلامي.
هذه الملامح العامة في تلك المرحلة المفصلية، 14 / 8 / 2006 توالت بتصاعد وقوة، مع احتدام المعركة السياسية الداخلية من جديد ضد سلاح حزب الله، ولكن هذه المرة في أجواء جديدة، حيث تتوافد على أرض لبنان القوات الدولية لتطبيق القرار 1701 من ناحية، وحيث تستخدم قوى 14 مارس (14 فبراير أم آذار) من ناحية ثانية، خسائر لبنان –المادية- في الحرب ذريعة إضافية للهجوم من جديد على حزب الله باعتباره دولة داخل دولة وباعتبار سلاحه انتقاصًا لسيادة الدولة اللبنانية، وأخيرًا حيث تتناثر جهود دولية –محدودة- باسم إعادة إعمار لبنان ملوحة بأوراق مساعدة هزيلة توظفها في نفس الوقت للضغط على الحكومة اللبنانية اللاهثة وراء مساعدة هؤلاء الذين مازالوا يتضافرون وراء إسرائيل –سرًا وعلانية- وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، من أجل استكمال ضرب حزب الله وتصفيته، لا أقول: في معركة سياسية بعد أن فشلت المعركة العسكرية (الأولى) في تحقيق هذا الهدف، ولكن أقول: في معركة حضارية لأنها لا تستهدف حزب الله في حد ذاته ولكنها تستهدف توجه لبنان العروبي والإسلامي، وتستهدف استقلال لبنان في ظل وحدة وطنية، كما تستهدف وحدة أرض لبنان، وهي معركة حضارية أيضًا لأنها شاملة وليست عسكرية فقط حيث تتضافر فيها أوراق عديدة منها الضغط الداخلي بورقة الطائفية والمذهبية وبورقة المساعدات الخارجية لإعادة الإعمار وبورقة الحصار البحري والجوي، ناهيك بالطبع عن ورقة الاستخدام المباشر للقوة العسكرية التي استهدفت الإنسان والأرض وليس الجيوش فقط، وما زال يثور التهديد بجولة جديدة منها.
وفي مواجهة هذه الأوراق، استطاع لبنان كله –خلال الحرب- أن يحيد ورقة تسييس الخارج للتنوع المذهبي والطائفي، وقد لعب حزب الله دورًا أساسيًا على هذا الصعيد على نحوٍ بيَّن كيف أن التحدي المشترك والخطر المشترك الذي يواجهه الوطن يجعل من الممكن –بل من الضروري- تجاوز صدام المصالح والتوجهات حول أسباب الحرب وعواقبها. إلا
أن هذه القدرة على هذا التجاوز لم تكن أبدية؛ حيث بدأت تطل بعد القرار 1701 رؤوس الصدام المذهبي والطائفي –باسم اختلاف الرؤى حول مستقبل لبنان السياسي الداخلي وتوجهه الخارجي، وكم حاول حزب الله التعامل معها باسم الوحدة الوطنية والدعوة إلى حوارات وطنية جديدة، متجاوزًا الاتهام الموجَّه له بالمسئولية عن تدمير لبنان(*).
ومن ناحية أخرى، كشفت معركة إعادة البناء والإعمار –خاصة الضاحية الجنوبية والجنوب كله- عن وجهٍ آخر لمشروع المقاومة الإسلامية، باعتبارها مقاومة حضارية وباعتبارها ثقافة عمران وليس ثقافة موت.
فعلى سبيل المثال، أتوقف عند إعلانٍ في قناة المنار في 29/ 8/2006 أصدرته جمعية تُسمى “جهاد البناء الإنمائية”، طالبت بالتبرع ولقد حددت أهدافها بثلاثة: المشاركة (للمتبرع) في شرف الانتصار، دعم صمود المقاومة اللبنانية، استكمال إزالة آثار العدوان الصهيوني الأمريكي. وبين الإعلان أن ثلاث هيئات تتضافر في هذا الشأن، وهي: المقاومة العسكرية، إعادة البناء والعمران، كفالة عوائل الشهداء.
إن القراءة في اسم الجمعية، وفي أهدافها، وفي هيئاتها بين قدر التضافر بين العسكري والاقتصادي والإنساني. فالمتبرع ليس إلا مشاركًا في شرف الانتصار العسكري، وكفالة عوائل الشهداء تأتي على قدم المساواة مع المقاومة العسكرية… وهكذا, فإن صعود هذا الجانب الإنساني في هذه الرؤية ليبين لنا كيف أن اسم الجمعية يحمل كل الدلالات الحضارية التي تصحح من التشويه الشائع الذائع –لدى الغرب- عن مفهوم “الجهاد”.
ومن ناحية ثالثة، فإن للكرامة الوطنية والعزة وعدم الهوان أمام حلفاء إسرائيل مكانة واضحة في تحديد حسن نصر الله لمواقفه. فعلى سبيل المثال. رفض اتخاذ الاعتبارات المادية (المعونات الخارجية لإعادة الإعمار) مبررًا أساسيًا لاستمرار العلاقة مع حلفاء المعتدي. وكان رفض حسن نصر الله –بل وإدانته- لاستقبال الحكومة اللبنانية لتوني بلير من أوضح الأدلة على ذلك، على أساس أن الذين ساندوا الاعتداء الإسرائيلي على لبنان وسكتوا عليه أملًا أن يحقق أهدافه، يعودون ليتحدثوا عن المساعدة الإنسانية وإعادة بناء ما دمرته الحرب كما لو كانوا لا يتحملون مسئولية عن هذا التدمير، بل إنهم يلوحون بهذه المساعدات بوصفها أوراقًا ضاغطة على الحكومة اللبنانية حتى تتعاون في المعركة السياسية لتحقيق ما لم تحققه المعركة العسكرية ضد المقاومة والصمود والتوجه العروبي والإسلامي للبنان.

المحور الثاني: يتصل بالدلالات بالنسبة إلى النظم العربية ومستقبل علاقاتها بشعوبها وبأعداء الأمة

فإن دلالات ثلاثية “الإنسان –السلاح- الدولة” في خطاب حسن نصر الله الأخير، إنما لا تنطبق على الحالة اللبنانية فقط ولكن يجب أن نعي دلالاتها أيضًا بالنسبة إلى مآلات مسارات عدة في العالم العربي والإسلامي. ومن أهمها ما يلي: من ناحية، أن الخوف من خيار الحرب -أو المقاومة العسكرية- في ظل ما يُسميه الحكام خيار السلام كخيار استراتيجي، وفي ظل ما يُسمى ثقافة السلام (لدى الشعوب وليس النظم فقط)- هذا الخوف إنما يعني نزعًا فعليًا لأسلحة النظم التي أضحت عاجزة عن الدفاع عن أوطانها وشعوبها (ولو من خلال استخدام القوة العسكرية بمعنى الردع).
ومن ثم؛ فإن “العودة للسلاح” بمعنى نزع الخوف من الخيار العسكري ونزع فكرة أبدية السلام كخيار استراتيجي (في وقتٍ تستمر فيه المشروعات الصهيونية التوسعية والعدوانية) لا تعني تبني ثقافة الموت والإرهاب، ولكن تعني تبني “ثقافة المقاومة الحضارية” التي لن تتحقق إلا بالإنسان الصامد والقيادة الحضارية التي لا تجعل من استعدادات القوة العسكرية واستخداماتها مغامرات غير محسوبة كما حدث 1967، و1990، ولكن تجعل استعدادات القوة العسكرية مكونًا من مكونات استعدادات حيازة القوة الحضارية التي هي في صميم “المقاومة الحضارية”.
ومن ناحية أخرى، إذا كان البعض يقول إن ثقافة حزب الله هي ثقافة موت وكُرهٍ وإرهاب وحقد وليس ثقافة سلام، فإن الموت نوعان: دفاعًا عن الأرض وفداءً للكرامة والحقوق ومنعًا للعدوان، ونوع آخر هو إرهاب لأصحاب الحقوق. وإذا كانت إسرائيل وأمريكا قد مارستا النوع الثاني؛ فإن لبنان تَحَمَّل الأول وحوَّله إلى زهو وفخر وصمود، ويا للفجوة بين الثقافتين، ثقافة العمران –من خلال المقاومة الحضارية والصمود والاستشهاد- وثقافة الإرهاب والقتل لأصحاب الحقوق باسم مقاومة التطرف وحماية الحرية والديمقراطية. وللأسف، ما زال بوش يردد هذا الخطاب بالرغم من هزيمة إسرائيل –باعتراف قادتها- في هذه الحرب ضد لبنان.
وبالمثل، فإن السلام نوعان: تتويجًا لحماية الحق وفي ظل توازن قوى ورعب متبادل تلاحمت القيادة والشعب لتحقيقه واتفقتا على التمسك به، ونوع ثان هو سلام الاستسلام والخنوع والذي لا يقترن بمقاومة حضارية من أي نوع وفي حين تسعى إسرائيل وأمريكا لفرض النوع الثاني؛ فإن حزب الله ضرب المثل على ضرورة النوع الأول، وبذا لم يكن إضافة لخبرة لبنان فقط ولكنه درس لكل النظم والشعوب العربية، أي النظم التي قبلت السلام ولم تعدّ له العُدة الحضارية اللازمة لحمايته، والشعوب التي ما زالت لا تقبل السلام بهذا المعنى، ولا تجد من يأخذ بيدها لإعداد المقاومة الحضارية والوصول إلى السلام العادل للجميع.
ومن ناحية ثالثة؛ فإن ثقافة هذه المواجهة الحضارية –التي تستدعي كل مقومات القوة وتخطط لتوظيف كل منها –بما فيها العسكرية- بحسبان ووفق ما تقتضيه ظروف المواجهة- هذه الثقافة لتتولد ولتتدعّم تحتاج لعناصر ثلاثة: إيمان بعقيدة ونموذج حضاري، الثقة بالقدرة البشرية في مواجهة تفوق القدرة المادية، التلاحم بين القاعدة الشعبية والقيادة الحضارية ذات الرؤية الاستراتيجية؛ وهي القيادة التي تقول ما تفعل وتفعل ما تقول، وبصورة عقلانية إيمانية وليس عقلانية براجماتية قد تضحّي بالثوابت باسم المصالح والمتغيرات.
المحور الثالث: الدلالة بالنسبة إلى أسس وقواعد التحالف: ما بين قاعدة النُّصرة وقاعدة عدم الموالاة.
ُتثير هاتان القاعدتان من منظور قيمي حضاري –مقارنة بقواعد المصلحة وتوازنات القوى من منظور الواقعية- نقاشًا حول مدى مصداقيتهما باعتبارهما أساسًا لعقد التحالفات مع الأصدقاء والمواجهة مع الأعداء. ومن أهم أبعاد هذا النقاش: هل عدم موالاة غير المسلم قاعدة مطلقة؟ وهل النُّصرة بدورها لا انحراف عنها فيما بين المسلمين؟ وكيف تحقق هاتان القاعدتان المصلحة في كل الحالات؟ ومما لا شك فيه، أن مشهد الحرب في لبنان قدم دلالة ذات مغزى بهذا الشأن –وخاصةً أن موضوع تحالفات حزب الله مع سوريا وإيران كان محل جدال بين أطراف الحرب الداخلية والخارجية. فلقد اعتبر البعض أن الحرب هي نتاج المغامرة غير المحسوبة لحزب الله حين أسر الجنود الإسرائيليين، وعلى نحو نفذ خلاله حزب الله استراتيجية إيرانية من خلال أذرع سورية، وذلك بهدف تشييع لبنان والسيطرة عليها دعمًا للنفوذ الإيراني والسوري في المنطقة في وقتٍ تتعرض فيه الدولتان لحصار ومواجهة وضغوط من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والعرب.
وفي المقابل، فلم يكتف حسن نصر الله بتأكيد تحالفه مع سوريا وإيران –باعتبارهما مصادر دعم سياسي وعسكري لحزب الله- ولكنه، وفي سياق تأكيده على منطلقه الوطني خدمة للبنان ثم الأمة العربية والإسلامية، أعلن عن افتخاره بالتحالف مع سوريا وإيران، واعتبر أن هذا التحالف وإن كان يحقق مصالح وظيفية فهو أيضًا اختيار أخلاقي وديني، حيث لا يمكن لحزب الله أن يتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل سواءً لأسباب مصلحية أو أخلاقية ودينية أيضًا.
إلا أن تحالف حزب الله مع قوى مسيحية داخلية مثل التيار الوطني برئاسة عون وحركة المردة بقيادة طوني فرنجية، وكذلك مواقف بعض الدول العربية المناهضة لسياسة حزب الله ومواقفه، يبينان كيف أن حسابات المصالح تدخل في صميم تطبيق قواعد النُّصرة والموالاة، وعلى نحوٍ يلقي الضوء على حقيقة هذه القواعد وتطبيقاتها حيث تتنوع بتنوع الحالات زمنًا ومكانًا. وهنا، يجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت التحالفات والتحالفات المضادة العربية قد تكونت على ركائز سياسية وأيديولوجية طوال ما يقرب من الخمسين عامًا، فإنه يبدو الآن بعد موجة التفكيك الجارية على امتداد المنطقة على أسس قومية وعرقية ودينية، أن هناك شبح إعادة تشكيل التحالفات تحت دوافع مذهبية، فنجد الحديث عن محور مصري –أردني- سعودي (بمباركة تركية) باعتباره محورًا سُنّيًا في مواجهة تحالف إيراني –سوري- حزب الله باعتباره تحالفًا شيعيًا يرتبط بامتدادات النفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
ومن ناحية أخرى، وبالرغم من أن عددًا من الدول “الإسلامية” مثل ماليزيا وإندونيسيا وبروناي قد أبدوا استعدادهم للمشاركة في قوات دولية، إلا أن مباحثات تشكيل القوات الدولية تنفيذًا للقرار 1701 اقتصرت أساسًا على نطاق الاتحاد الأوربي، سواء لتحديد الدول المشاركة أو تكييف دورها وسلطاتها وأهدافها (مع من؟ أو ضد من؟)؛ ولذا ثارت الأسئلة: هل من بينها نزع سلاح حزب الله؟ هل ستقوم نيابة عن إسرائيل بحصار أجواء وبحار لبنان؟…
ومن ثم، إذا كان من المفترض حيادية دور الأمم المتحدة خلال عمليات صنع السلام أو حفظه، فمن الواضح أن السياق الذي أفرز القرار 1701 وأحاط بتطبيقه لم يؤكد هذا الحياد، بل على العكس أبرز انحيازات عديدة للمواقف الأمريكية والإسرائيلية وخدمةً لأهدافهما بالوسائل السياسية التي عجزت العسكرية عن تحقيقها. وهو الأمر الذي يطرح التساؤل: ما هي معايير تشكيل هذه التحالفات الدولية ضد لبنان المعتدّي عليه والمنتهكّة سيادته والمحتلُة أرضه والمدَّمرة أبنيته وشعبه لأن يرفض الدخول في نطاق مخططات السياسة الأمريكية والإسرائيلية لما يُسمى بشرق أوسط جديد؟
فإذا كان قد أُخِذَ على حزب الله انطلاقه من قاعدتي النصرة وعدم الموالاة، ألا يؤخذ على الأمم المتحدة تخليها عن قوة “القيم” أمام غطرسة قيمة القوة الغاشمة؟
خلاصة القول: ربما تكون الحرب بحسابات المكسب والخسارة المادية -كما قال البعض- قد أعادت لبنان خمسة عشر عامًا إلى الوراء، ولكن للعملة وجهًا آخر بلغة أخرى غير لغة الاقتصاد والمال فقط. وإذا كانت قراءتي في الدلالات الحضارية على محاور ثلاثة: طبيعة مشروع المقاومة، التحالفات، الانعكاسات على النظم العربية، قد ألقت ببعض الضوء على هذا الوجه الآخر للعملة، إلا أن المعركة السياسية ما زالت مستمرة ولابد أن تحمل تفاعلاتها نتائج بالنسبة لمدى مصداقية هذه الدلالات الحضارية.
ولذا؛ فالسؤال الحتمي الذي يطرح نفسه: ماذا بعد هذا الصمود الحضاري لهذه المقاومة الحضارية؟
ويتفرع هذا السؤال لأكثر من مستوى؛ على الصعيد اللبناني: هل سيصبح سلاح حزب الله وإنجازه في الصمود تدعيمًا أكبر للورقة التفاوضية للحزب في مواجهة محاسبة القوى اللبنانية الأخرى له على مسئوليته عن اندلاع الحرب وما ترتب عليها من دمار؟ أم أن العدوان الإسرائيلي قد أثبت للقوى اللبنانية حُجّية موقف الحزب عن استمرار مخاطر العدوان مما يستلزم استمرار بقاء سلاحه حتى ولو في شكل جديد في سياق دولة قوية قادرة على حماية وحدة أرضها واستقلالها وسيادتها؟
وعلى الصعيد العربي والإسلامي: هل ستشيع روح المقاومة من جديد لدى الشعوب؟ وكيف؟ إن نموذج مقاومة حزب الله لا يمكن أن يتكرر بحذافيره في سياقات مختلفة كما أنه يتطلب العقلانية –إلى جانب الحماسة والإيمان- لفهم مغزاه، فهو ليس مشروع إرادة فقط ولكن مشروع إعداد وتدريب وإبداع جيد لسنواتٍ ممتدة. وفي المقابل، فإن حكومات المنطقة في حاجات لمزيد من الرؤية الاستراتيجية عن كيفية إدارة الصراع لإبعاد أخطار الحروب ولكن دون الخضوع والاستسلام والهزيمة في أوهام حرب الدبلوماسية والتسوية السلمية.
*****

الهوامش:

(*) وبالطبع كان خطاب حسن نصر الله في احتفالية الانتصار (بعد أسبوع من انعقاد الندوة) حاسمًا فاصلًا وضع النقاط على الحروف بوضوح شديد تجاه كل القضايا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى