في فلسفة تطوير التعليم العالي والرؤى الاستراتيجية الحاكمة له

أولاً- لماذا المداخلة في فلسفة التعليم والرؤى الحاكمة لتطويره؟

يحتل تطوير التعليم العالي في مصر اهتمامًا جماعيًا، تمثَّل على عدة مستويات من المؤتمرات التي انعقدت منذ نهاية التسعينيات؛ من أجل البحث والنظر في هذا الأمر. وهو الأمر الذي يتفق الجميع على أنه في قلب عملية تحديث مصر، من خلال التنمية البشرية والإنسانية، وحيث إن هذا التعليم قد وصل إلى حالة “أزمة” تعبر عنها مؤشرات عدة. ولقد رصد هذه المؤشرات بطريقة كلية وشاملة، مشروع “الخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم العالي” تلك الخطة التي ناقشها المؤتمر القومي لتطوير التعليم 2000.

وعلى رأس المؤتمرات التي درست هذه القضية، المؤتمرُ الذي نظَّمته جامعة القاهرة لتطوير التعليم الجامعي: “رؤية لجامعة المستقبل” (22 – 24 مايو 1999 م)، المؤتمر القومي للتعليم العالي (13 – 14 فبراير 2000): “مشروع الخطة الاستراتيجية لتطوير منظومة التعليم العالي”.
ولقد استغرق الإعداد للمؤتمر الأول 18 شهرًا، ومن واقع الخريطة الكاملة لمحاور المؤتمر، نجد أنها غطت الموضوعات التالية: فلسفة التعليم الجامعي، نظم التعليم الجامعي، الإطار المرجعي للبرامج التعليمية، طرق التدريس، تقويم التعليم الجامعي، المعلِّم الجامعي، إدارة التعليم الجامعي والتمويل، الخدمات الجامعية.
أما المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي 2000، فلقد نظر في مشروع الخطة الاستراتيجية.
وجاء مشروع الخطة الاستراتيجية لتطوير منظومة التعليم العالي حصادًا لجهود عديدة استغرقت عدة مراحل، واشتركت فيها جهات ولجان عدة. فلقد شارك في إعداد المشروع مجموعات عمل تمثلت في: لجنة قومية، وست لجان فرعية، ولجان قطاعات التعليم بالمجلس الأعلى للجامعات، وفرق خبراء مصريين، وخبراء عالميين من البنك الدولي، وشخصيات عامة شاركت في جلسات استماع شارك فيها ممثلو اتحادات مهنية. ويتكون هذا المشروع من البنود التالية.
مقدمة تشير إلى المحدّدات الخارجية والداخلية المؤثّرة، والمبادئ والأسس التي احتوتها تقارير اليونسكو والتي تستند إليها استراتيجية تطوير التعليم العالي، الوظائف الأساسية للتعليم العالي، المنهج، وأيضًا المحدِّدات، الجوانب الإيجابية ومصادر القوة والفرص المتاحة لمنظومة التعليم العالي، ومواطن القوة والضعف فيها، القضايا المحورية للتطوير، الأهداف والتوجهات الاستراتيجية، مجالات ومشروعات الخطة.
ولقد انتظمت هذه المؤتمرات في إطار أكبر من الجهود التي تبلورت على مستويات عدة ابتداءً من صدور قرار وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي 10 /1998 بتشكيل لجنة قومية لتطوير التعليم الجامعي والعالي ووصولاً إلى عقد المؤتمر القومي لإقرار مشروع الخطة الاستراتيجية لتطوير منظومة التعليم العالي، ثم انتقالاً منذ انعقاد هذا المؤتمر إلى مناقشة أبعاد هذا المشروع في محافل ومنتديات عدة ناهيك عن بدأ تنفيذ مشروعات هذه الخطة البالغ عددها 25 مشروع على مستوى الجامعات والكليات والأقسام وذلك عبر ثلاث مراحل متتالية.
والمشروعات التي تضمنتها المرحلة الأولى قصيرة الأجل من التنفيذ (2002- 2007) هي المشروعات التالية:
تقييم الأداء وضمان الجودة، تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس والقيادات الأكاديمية والإدارية، مشروعات نوعية تمول من صندوق مشروع تطوير التعليم العالي، تقنيات المعلومات والاتصالات في منظومة التعليم العالي، تطوير الكليات التكنولوجية (المعاهد الفنية المتوسطة)، تطوير كليات التربية، برنامج الاتحاد الأوروبي لدعم التعليم العالي Tempus-Meda، هذا ولقد تم تشكيل لكل مشروع ومدير تنفيذى لمتابعة العمل به.
هذا ولقد عقدت جامعات عدة مؤتمرات لمناقشة قضايا التطوير في كلياتها وجزئياتها مما يعني أن النقاش حول التطوير مازال مستمرًا، في حين يجري تنفيذ المرحلة الأول منه. وإلى جانب هذه المؤتمرات التي نظمتها قيادات التعليم العالي الرسمية التنفيذية والاستشارية والأكاديمية على حد سواء كان المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا يتابع مهامه الاستشارية ويقدم تقاريره وتوصياته بهذا الشأن.
ومع التغيير الوزاري في صيف 2004 تجدد ارتفاع نبرة خطاب تطوير التعليم بصفة عامة، بعد أن كان قد خفت نسبيا. فلقد تعددت لقاءات الرئيس مبارك مع المسئولين والقيادات التعليمية في مصر وانعقد مؤتمر مكتبة الإسكندرية حول تطوير التعليم، وأصدر د. عمرو سلامة وزير التعليم العالي السابق وثيقة تحت عنوان “منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في مصر”.
إن هذا المسار، الذي امتد من نقاشات تطوير، إلى اتخاذ قرارات وزارية بتكوين لجان ووحدات للتطوير، إلى إقرار مشروعات للتنفيذ مرحليًا، وصولاً -الآن- إلى تجدُّد النقاشات وعقد المؤتمرات مرة أخرى حول نفس الموضوع بقضاياه المختلفة، إن هذا المسار -على هذا النحو الذي يجري عليه منذ 1998- لابد أن يثير سؤالين أساسيين:
السؤال الأول- هل عملية التطوير هي مجرد عملية فنية إجرائية أساسًا تُغرِق في الجزيئات المهنية أم هي تنفيذٌ لرؤية استراتيجية طويلة الأجل تشخّص موضع الخلل وتحدد الهدف وسبل الوصول إليه؟
وهل تستلهم مشروعًا حضاريًا للتطوير والإصلاح ينبى أو ينبثق عن رؤى حضارية لما نريده لأنفسنا. وهل تنطلق من فلسفة محددة وتعكس أجندة أولويات واضحة؟ أم هي عملية متفرعة تنفذ مشروعات وخططًا جزئية فنية متزامنة تتصل بالأعراض ولا تمتد إلى الجذور ولا تستجب إلا لمتطلبات آنية ولا تدشن عملية استراتيجية من التطوير؟
السؤال الثاني- لماذا يتجدد خطاب التطوير وملتقياته الرسمية والأكاديمية مرة أخرى الآن، في حين أنه لم يتم بعد تنفيذ المرحلة الأولى من مشروعات الخطة القومية التي تم إقرارها (2000)، ومن ثم مازال الوقت مبكرًا للحكم على إدارة هذا التنفيذ ناهيك بالطبع عن مخرجاتها بعد تفعيلها؛ أي بعد الانتقال من مرحلة إعدادها إلى تطبيقها فعليًا؟ (نظام الجودة وتنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس مثلاً)؟
إذن ما الجديد الآن بالمقارنة بما بدأ منذ ما قبل 7 سنوات؟ هل هو انتقال من إقرار المبادئ والأسس إلى إقرار آليات الحركة والتنفيذ، أم أن الحديث أو حالة العيش في خطابات الإصلاح والتطوير قد أضحى من الأمور المعتادة.
إن مناقشة هذين السؤالين هما محور مشاركتي في هذا المنتدى. ولقد كانت منطلقًا، من قبل، لمشاركتي في المؤتمر السنوي الثامن عشر للبحوث السياسية الذي نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية في فبراير 2005 تحت عنوان: “التعليم العالي في مصر: خريطة الواقع واستشراف المستقبل” (وصدرت أعمال المؤتمر في كتاب من جزأين من تحرير أ. د. سيف الدين عبد الفتاح).
ويرجع اختياري لهذا المدخل لاعتبارين أساسيين: أولهما يتصل بخبرة المؤتمر المذكور وثانيهما يتصل بخبرة المنتدى الذي نلتقي على صعيده لنمارس مجددًا عملية مناقشة تطوير التعليم العالي في مصر.
(1) فإن أعمال المؤتمر المذكور قد تم تدشينها بشهادتين لعلمين من أعلام فقه الحركة الوطنية في مصر –بأبعادها التاريخية والقانونية والاجتماعية السياسية، وهما المستشار طارق البشري والدكتور يونان لبيب رزق.
ولقد بينت مداخلتا العلمين أن متابعة الخبرة التاريخية لتطور التعليم العالي في مصر تبين أن أزمته الراهنة هي أزمة هيكلية ذات جذور ترتبط بآفتين أساسيتين من ناحية افتقاد رؤية واضحة تحدد هدف التعليم العالي هل هو خدمة العلم والفكر والتثقيف العام للمواطن بثقافة الجماعة أم تخريج موظفين ومهنيين لتلبية احتياجات بناء الدولة الحديثة ثم الاستعمار وأخيرًا استجابة لسوق العمل؟
ومن ناحية أخرى كيف أن هذا التطور قد تأثر بالضغوط الخارجية وبالتغير في فلسفة نظم الحكم المتعاقبة عبر أكثر من قرنين ناهيك عن الازدواجية في التعليم بين المدني والديني نتيجة الفشل في تطوير التعليم الديني.
ولقد أظهرت بحوث المؤتمر –في محاوره الثلاثة- والمناقشات الرصينة حولها كيف أن هاتين الآفتين تتمثل تأثيراتها على صعيد كافة المسائل المعنية التي طرحها المؤتمر. ولقد رسم التقرير الختامي للمؤتمر خريطة هذه التأثيرات.
أما عن الاعتبار الثاني لاختياري هذا المدخل فهو يتصل بمنتدى التعليم العالي في الكلية من حيث خريطة موضوعاته ومآلاته.
فلقد اجتهدت لرصد الموضوعات التي شارك بها الأساتذة والزملاء الأعزاء خلال الأشهر الماضية، فوجدت أنها تقع في نطاق القضايا والمسائل والإجراءات أكثر من وقوعها في نطاق الفلسفة والرؤى الحاكمة. كما لم أتبين جيدًا (نظرًا للاقتصار على تحديد الموضوعات) ما إذا كان المنتدى يساهم مرة أخرى في النقاش “العام” أم في تقييم ما يجري تنفيذه بالفعل من مشروعات تطوير؟ وأين ستصب مخرجات هذا المنتدى بعد أن شهد –عبر عدة شهور- تفاعل خبرات وأفكار المشاركين بالأوراق وبالمدخلات؟

ثانيًا- مضمون المداخلة

إن السؤالين اللذين أطرحهما للنقاش الآن يدوران حول “الأساس” الذي انطلق منه ما يجري حاليًا من عمليات تطوير وخاصة “الجودة” وتنمية أعضاء هيئة التدريس، وعلى نحو يهدف لبيان أن هذه العمليات ليست مناط التطوير المطلوب لعلاج الأزمة المستفحلة لأنها لا تتعامل مع أسباب الأزمة ولكن مع أعراضها، وبإجراءات فنية محددة وتقليدًا لمعايير خارجية.
وكانت دراسات عالمية مقارنة (استعانت بها بحوث المؤتمر المذكور في فبراير 2005) قد أرجعت عجز نظم التعليم في الدول النامية إلى غياب فلسفة التعليم، حيث غدت هذه الدول معرضًا عالميًا لأشتات من النماذج والفلسفات التعليمية الوافدة من كل أنحاء العالم المتقدم، وتحاول هذه الدول تطبيقها كما هي، أو على الأقل مغلفة بشعارات التجديد والتطوير في بيئة تختلف تامًا عن البيئة الأصلية لهذه النماذج والفلسفات المستوردة.
وكان مشروع الخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم العالي (2000) قد ذكر أن من بين مواطن الضعف في منظومة التعليم “عدم وجود فلسفة عامة أو استراتيجية مستقبلية محددة لمنظومة التعليم العالي، وغياب الرؤية الشاملة والنظرة الاستراتيجية لدور التعليم العالي، وتراجع دور القيم الجامعية والمعايير الأخلاقية من حيث التأثير على أداء أعضاء هيئة التدريس بوجه خاص، ومن حيث التأصيل لها والتأكيد عليها في المنظومة التعليمية”.
ومن ثم فإن مداخلتي –تنبني على نتائج القراءة النقدية المقارنة في وثائق عملية التطوير (1998- 2004)، وليس بالطبع تقييم برامج التطوير الجارية.
وهذه النتائج يمكن تقديمها حول مجموعات خمس من الإشكاليات التي تطرحها قضايا هامة تنبثق جميعها عن فلسفة التعليم ورؤيته الاستراتيجية.
أولاً- في فلسفة التعليم ورؤيته الاستراتيجية- عن وظيفة ودور التعليم: إشكاليات العلاقة بين القيمي والمادي (كيف)؟
ثانيًا- في دوافع التطوير وتحدياته: إشكاليات العلاقة بين الداخلي والخارجي (لماذا؟).
ثالثًا- في مصادر خبرة التطوير وتمويلها (من؟): إشكاليات العلاقة بين الاعتماد على الذات وبين المساعدة الخارجية.
رابعًا- في بعض قضايا التطوير ومجالاته وآلياته: إشكاليات تحديد الأولويات لكسر الحلقة المفرغة من التأزم، ومن التأرجح بين علاج الأعراض وعلاج الأسباب.
خامسًا- في تأثيرات بيئة منظومة التعليم الجامعي: إشكالية المدخلات (من منظومة تعليم ما قبل الجامعة، من منظومة القيم والأخلاق المجتمعية، من منظومة اقتصاد الدولة والمجتمع (الفقر والديون) من منظومة السياسة (الفساد، وقيود الحرية).

وسأكتفي الآن ببعض الخطوط الكبرى لهذه النتائج ويمكن الرجوع لتفاصيلها في الدراسة المنشورة في أعمال المؤتمر المذكور.

1- إشكالية وظيفة التعليم الجامعي ودوره: (كيف؟)

بالقراءة في وثائق مؤتمر تطوير التعليم الذي نظمته جامعة القاهرة 1999، وبالنظر في مشروع الخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم التي ناقشها المؤتمر القومي 2000، وبالنظر إلى وثيقة “منظومة التعليم والبحث العلمي في مصر المستقبل التي أعدها د. عمرو عزت سلامة خلال توليه وزارة التعليم استكمالاً لما دشنته وثيقة المؤتمر القومي، كان هدفي البحث عن أمرين: لماذا التعليم العالي، وهل ينطلق من تصور حضاري يستدعي الذات الحضارية والهوية مثل اللغة العربية والموروث الحضاري والقيم الأخلاقية قدر استدعائه مفردات التميز والمنافسة والجودة والعائد والاستثمار الاقتصادي؟
وإذا كانت القراءة في الوثائق قد بينت في جانب منها أن وجه العملة الأول لم يحظَ بنفس القدر من الاهتمام الذي حظي به الثاني، فإن جوانب أخرى من القراءة تبين أيضًا أن القدر المذكور عن الهوية يكون مجردًا ومعزولاً عن بقية الأبعاد سواء على مستويات الفلسفة، الاستراتيجية أو السياسات والإجراءات اللازم اتباعها لتطوير العملية التعليمية. حيث لا تبين الرؤية التي تطرحها التقارير كيفية تفعيل الأمور المتصلة بالهوية والانتماء لتصبح مدخلاً أساسيًا من مداخل التأثير على عملية التغيير المرتقبة، من ناحية، وكيفية تحقيق عملية التغيير في إجراءات التعليم وسياساته تجديدًا ثقافيًا ومعرفيًا وليس مجرد الاستجابة لاحتياجات سوق العمل والالتزام بمعايير الجودة من ناحية أخرى. بعبارة أخرى يتم النظر للهوية أو البعد الثقافي أو البعد القيمي باعتباره منطقة حركة وليس مدخلاً في مناطق حركة أخرى خاصة بالسياسات التعليمية.
بعبارة أخرى من الملاحظ اجتزاء موضوع القيم من إطارها الواسع المتصل بتفاعلات العملية التعليمية وتفعيلها حيث يتضح كون القيم مسارًا موازيًا لا يتقاطع مع العملية التعليمية ولا يصب فيها ولا يأخذ منها ولا يعطي لها. بحيث يظل معنى الأخلاق والدين محصورًا في دائرة ضيقة قاصرة على السلوك الفردي والشخصي للطالب الجامعي ولا يمتد نطاق تفعيلها إلى الأنساق المعرفية والفكرية التي يمكن أن تقدمها النظم التعليمية أو التي يمكن أن تخدم النظم التعليمية في مناطق أكثر التصاقًا ناهيك بالطبع عن أن مفهوم الهوية هو أكثر اتساعًا من مفهوم القيم.
ولهذا قد يتساءل البعض هل مع تزايد المشاكل والتحديات التي تواجهها الجامعات المصرية، وهي في جلها مشاكل مادية خطيرة ناجمة عن تزايد أعداد الطلبة وضآلة الموارد المتوافرة وخطورة المرحلة الانتقالية، هل مع هذا التزايد يصبح هناك محلاً للحديث عن الهوية والانتماء، وجميعها أمور معنوية قيمية، لم تعد تقدر على الاستجابة للتحديات المادية المتراكمة ومن ثم أليس التمسك بها أمرًا من أمور الحماس والانفعال؟ وفي المقابل الا يمكن أن نطرح ساؤلاً مضادًا وهو كيف يمكن أن نجعل من دعم وتنمية الهوية سبيلاً من سبل علاج المشاكل المادية؟ أنها جميعًا تساؤلات تنبع من قلب الجدال بين اتجاهين رئيسيين اللذان تنقسم بينهما كل الجدالات المعاصرة في دائرتنا العربية إلا وهما الاتجاه البراجماتي – الذرائعي الشديد الواقعية والاتجاه القيمي المعياري الذي يرفض إسقاط متطلبات المرجعية والثوابت لصالح المتغيرات ومن ثم يرفض الاعتراف أن اعتبارات الخصوصية والاعتزاز القومي يجب أن تفسح الطريق تمامًا لاعتبارات المصلحة البراجماتية واحتياجات السوق والجودة والمنافسة العالمية بدون ضوابط.
هذا، ولقد أعطت فعاليات أخرى اهتمامًا لهذه الأبعاد القيمية الحضارية، ولو من مداخل متنوعة تقول في مجملها إن الوعي بالذات الحضارية وبصورة متوازنة هو أساس الفعل الحضاري المثمر؛ فعلى سبيل المثال كان هناك الدعوة للاهتمام باللغة العربية، الدعوة لتقديم مقرر دراسي (ثقافة وحضارة إسلامية) كمتطلب جامعي، الدعوة للوعي بالعلاقة بين النسق الفكري والقيمي وبين النسق العلمي أي بالعلاقة بين العلم والقيم والدين والتي تقع في صميم موضع الهوية من التعليم وموقعه من التنمية البشرية، التنبيه لإشكالية هوية أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية ومن ثم انتقاد سلبيات التدريس بلغات أجنبية في كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد والعلوم السياسية.

خلاصة القول فيما يتصل بهذا البعد عن العلاقة بين القيمي/ المادي في فلسفة التعليم، يتضح لنا من الطرح السابق مجموعة من الثنائيات في الأولويات عن وظيفة ودور وأهداف التعليم الجيد ومحدداته وهي تتلخص كالآتي:

مدخل في التنمية الشاملة ووسيلة/ مخرج من مخرجات التنمية، دور تنموي اقتصادي/ دور في الحراك الاجتماعي ومساحة للتنشئة على المواطنة، هدف معرفي (انتاجًا ونشرًا وتوظيفًا)/ هدف إنتاجي، وظيفة خدمية/ وظيفة مجتمعية، إعداد المواطن القادر على خدمة الأمة وحمايتها/ إعداد المتخصص والمنتج البشري ذو العائد الاقتصادي، وظيفة خدمية/ وظيفة إنتاجية ذات عائد اقتصادي، متطلبات واحتياجات سوق العمل/ احتياجات العقل والمعرفة وبناء الأمة بالمعنى الشامل، متطلبات مادية للتطوير/ متطلبات معنوية قيمية أخلاقية، مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية/ مواجهة تحديات العمران الحضاري.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الثنائيات التي تفصح عنها خطابات وثائق التطوير، إنما تشير إلى أن رؤى التطوير إنما تواجه مشكلة استراتيجية؛ وهي عدم الاتفاق على فلسفة للتعليم ناهيك عن أن مشروعات التطوير تعكس فلسفة متحيزة.

2- قضية دوافع التطوير وتحدياته: إشكاليات العلاقة من الداخلي والخارجي (لماذا؟)

حددت الخطة القومية لتطوير التعليم العالي (2000م) 29 من مَواطن الضعف في منظومة التعليم العالي، وهي ليست من مواطن الضعف –وفق تعبير الخطة- بقدر ما هي مؤشرات على حالة الأزمة التي وصل إليها التعليم العالي في مصر. ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، ولكن من المؤكد أنها نتاج تراكم سياسات تعليمية وأوضاع بيئية متنوعة.
ومع ذلك، وبدلاً من تحديد الأسباب الأصيلة لهذه الأزمة وتسميتها بمسمياتها الصحيحة نجد أن وثائق التطوير المشار إليها –إلى جانب العديد من الدراسات التي ناقشتها مؤتمرات الجامعات المصرية حول التطوير منذ 1995 وحتى الآن- تبادر بتبرير الحاجة للتطوير بضرورة الاستجابة للتحديات التي تمثلها العولمة والثورة المعلوماتية والمعرفية والتقنية. حقيقية أن تلك الأخيرة تمارس تأثيراتها، ولكن من المؤكد أن التأثيرات السلبية منها تتضاعف نظرًا لحالة المنظومة التعليمية ذاتها المتأزمة وعدم قدرتها على الاستجابة الفاعلة لهذه التحديات، نتيجة ما تعاني منه مسبقًا من مشاكل تتصل بمكونات المنظومة الكبرى: الطالب، الأستاذ، العملية التعليمية (مواردًا، ومقررات وهياكل وإجراءات ولوائح، سياسات تغيير جذرية في نظم القبول بالجامعات ونظم تعيين أعضاء هيئة التدريس وترقيتهم وتنمية قدراتهم، ونظم تمويل التعليم العالي وتوفير الاستثمارات وغيرها…) كما نشير لاحقًا.
فبعد البدء بإعطاء وزن ملموس للخارجي، باعتبار أن متطلبات عصر المعلومات والتقنية والعولمة هو التحدي الرئيس والمعلم البارز أمام منظومة التعليم الجامعي في مصر، التي أرادت الخطة الاستراتيجية للتطوير (2000) التصدي لها، لابد وأن يثور التساؤل حول مضمون واتجاه هذه الاستجابة: “الخارج”.
وهنا نستكمل ما سبق طرحه في البند السابق من إشكاليات قضية فلسفة التعليم ورؤيته الاستراتيجية، حيث تثور عدة إشكاليات تنبثق أيضًا من حديث العولمة، ولكنها تولد استجابات مختلفة.
ومن أهم هذه الإشكاليات ما يتصل بالهوية الحضارية، سواء على مستوى التوجه العام والاستراتيجية العامة أو سواء على مستوى مقررات ومناهج التعليم على سبيل المثال وليس الحصر.
فمن ناحية: نجد أن خطابات الدوافع والتبرير تحفل بمفردات التعاون الدولي، المعايير الدولية، الانفتاح على والاندماج في ما يحدث في الخارج من تطورات وفي المقابل نجد غياب مفردات أخرى تتصل بالذات الحضارية مثل اللغة العربية والموروث الحضاري والعروبة والإسلام والإرادة الوطنية والاستقلال الفكري، والقيم الأخلاقية والوحدة والترابط.. وهي المفردات التي تعكس تمسكًا بالهوية والشخصية القومية والذات الحضارية، في مواجهة توجهات التذويب والتنميط. وبناء على ذلك فإن تطوير التعليم، والعيون مركَّزة على الخارج، لا يمكن أن يحقق التنافسية الحقيقية بدون مقاومة ومعالجة المشاكل الداخلية التي تعوق التطور الفعال، مثل الفقر والأمية الثقافية، ناهيك عن متطلبات تحصين الهوية المهددة بتأثيرات العولمة السلبية.
ومن ناحية ثانية- فإن تطوير التعليم -في معظمه- إنما يسبح في “مياه وافدة” ويندر أن ينبع من روافد عربية وإسلامية أصيلة، حيث إن جميع العلوم تنطلق من منهجية معرفية غربية بحيث سادت غربة العلوم مما أثر على الطلاب، إذ أن هذه العلوم تربيهم على التبعية الثقافية وعدم الاعتزاز بهويتنا الحضارية المتميزة. ولذا ظهرت الدعوة إلى ما يسمى بالتكامل المعرفي على مستوى مضمون المقررات ومناهجها.
هذا ولم تكن فكرة تعدد المدارس الفكرية والنظرية في الجامعة غائبة من قبل، بل اعتبرها البعض أساسًا للتنوع والثراء الفكري الذي يمثل أحد أهم متطلبات التطوير سواء على مستوى أعضاء هيئة التدريس أو القدرات التي يجب أن يتفاعل معها الطلاب، ولقد اهتمت أقسام وكليات عدة بتقويم هذا الأمر، ونذكر منها على سبيل المثال قسم العلوم السياسية الذي ناقش في مؤتمرين علميين سنويين متتاليين قضيتين في غاية الأهمية وهما تقويم محتوى المقررات الدراسية، وخبرات عالمية مقارنة في مجال تدريس العلوم السياسية. وكانت قضية التنوع أو الخصوصية والعالمية في قلب أوراق ومناقشات هذين المؤتمرين. وجاءت قضية إنشاء شعب التدريس باللغات الإنجليزية والفرنسية في بعض كليات الجامعات المصرية على رأس القضايا موضع الاهتمام ومحل الجدل بين المدافعين عنها والمعارضين لها.
هذا وكان المؤتمر العلمي الذي انعقد على هامش اجتماع مجلس اتحاد الجامعات العربية في (قطر، في أكتوبر 2003)، قد اتخذ موضوعًا له “اللغة والهوية والتعليم الجامعي في الدول العربية”.
ومن ناحية ثالثة: احتلت أيضًا قضية تحديات العولمة لمنظومة التعليم المصرية اهتمام المجالس القومية المتخصصة: المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي.
وتقود القراءة في التقارير (1994- 2004) إلى استخلاص عدة ثنائيات خطيرة تتلخص على النحو التالي:
العالمي/ المحلي، التقليدي/ البديل، احتياجات العقل/ سوق العمل، احتياجات الجودة/ الانتماء، اللغة العربية/ اللغة الأجنبية، الحل من الخارج/ أم من الداخل، حل المشاكل المحلية أم مواكبة متطلبات المنافسة العالمية، الخصوصية المصرية/ الهوية العربية الإسلامية. وهذه الثنائيات تتسم بأنها ليست ثابتة المضمون أو المحتوى كما أنها ليست ثابتة من حيث اتجاه أو نمط العلاقة بين شطريها.
ذلك لأن سياسات التعليم في مصر تأثرت بطبيعة النظام السياسي والاقتصادي وطبيعة البيئة الإقليمية والعالمية. مما لا شك فيه أن أهداف سياسات التعليم وتحدياتها خلال الحقبة الناصرية تختلف عن نظائرها في المراحل التالية.
ومن ثم، وبغض النظر عن القواسم المشتركة بين بعض من مشاكلنا وبعض من مشاكل العالم في هذا الصدد؛ فهل يكفي تشخيص التحديات بأنها تحديات العولمة أو المنافسة مع الخارج فقط؟ أين التحديات الداخلية النابعة من طبيعة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لابد من إدارتها من الداخل أولاً قبل أن نتحدث عن متطلبات مواجهة التحديات الخارجية؟
وهل نظام تقويم الأداء ومعايير الجودة الشاملة تمثل استجابة لتحديات العولمة فقط؟، أم هو في الأصل نظام كان يجب توافره من البداية في جامعاتنا بحيث لا يبدو الآن وكأنه نظام مستورد من أجل التطوير وتحقيق المنافسة والتميز؟ فهو في حقيقته، نظام عمل مستمر، وليس عملية تطوير وآلية من آلياته، لأن الجودة مخرجًا وليس مدخلاً، فهي محصلة ونتيجة.

3- مصدر خبرات التطوير ومواردة المالية: إشكاليات العلاقة بين الاعتماد على الذات وبين المساعدات الخارجية

لكل مشروع تطوير –ذو توجه مستقبلي ووطني وحضاري- فلسفة ورؤية كلية تحدد الوظيفة والدور من ناحية والدوافع والمبررات من ناحية أخرى، كما لابد أيضًا وأن تحدد من الذي يقوم بالتطوير وما هي الموارد المتاحة لهذا التطور.
إذًا من الذي قدم مشروع التطوير الذي تم اعتماده في المؤتمر القومي (2000) والذي بدأ تنفيذ مشروعاته مرحليًا؟ وكيف يتم تمويله؟
حقيقة، شارك قطاع واسع من الخبراء –ولمدة عامين، منذ صدور قرار وزير التعليم العالي 1998 بشأن التطوير، في منافسة المشروع وحتى اقرارة، كما استغرق الإعداد بدأ تنفيذ المرحلة الأول عامين آخرين، ولكن يجدر تسجيل بعض الملاحظات التي أوردتها بعض الدراسات المتخصصة في هذا المجال:
فلقد انتقد البعض الاعتماد على المؤسسات الدولية المالية والخبرات الأمريكية والأوربية منذ بداية العملية في وضع السياسة العام والإطار الاستراتيجي لتطوير التعليم الجامعي، وهو الأمر الذي يمثل ملمحًا من ملامح ضعف الإرادة الوطنية والتعرض لضغوط املاء شكل معين للتطوير ومنهج محدد من التفكير. وبالرغم من الاعتراف باهمية الاستعانة بالخبرات العالمية في هذا المجال، إلا أن هذه الرؤية الناقدة تساءلت عن أسباب عدم الاستعانة بتقارير المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجي، وكأننا لا نعلم كيف نطور التعليم الجامعي، فنعقد الاتفاقيات ونستقبل المنح ونطلب القروض ويتدفق الخبراء الأجانب لتعليمنا كيف نطور؟ في حين أن شعبة التعليم الجامعي في المجلس القومي تداوم –باعتباره بنكًا عقليًا تابع لقيادة الدولة- على التفكير والدراسة والبحث في هذا الأمر ما يقرب من الثلاثين عامًا.
هذا وتبلغ ميزانية تمويل مشروعات التطوير الجاري تنفيذها وفق خطة (2002-2007)، 6 مليون دولار لمشروع الأداء والجودة، 6 مليون دولار مشروع تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس، 12 مليون دولار مشروعات نوعية تمول من صندوق مشروع تطوير التعليم العالي (HEEPF)، وعشرة ملايين ونصف مليون دولار لمشروع تقنيات المعلومات والاتصالات، وسبعة عشر مليون دولار من أجل تطوير الكليات التكنولوجية (المعاهد الفنية المتوسطة) وأربعة عشر مليون دولار: تطوير كليات التربية، وثلاثة وثلاثين مليون يورو: برنامج الاتحاد الأوروبي لدعم التعليم العالي.
وهذه المبالغ تمثل –فيما عدًا صندوق مشروع التطوير- منحًا ومساعدات، في حين تعد ميزانية الصندوق قرضًا وحيث أن بنود ومراحل هذه المشروعات مازالت في قيد الإعداد للتنفيذ، وحيث أن معظمها مازال من المبكر جدًا تقويم مخرجاته ونتائجه بالنسبة للتطوير، فيكفي طرح التساؤل الآتي: كيف يمكن تقييم الإعداد لتطبيق هذه المشروعات؟ وما هو مردود مثل هذه المشروعات على تطوير منظومة التعليم وفق الأهداف والمبادئ والأسس المحددة في الخطة القومية؟ هل هذه المشروعات النوعية في نطاق الجودة أو تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس أو… غاية في حد ذاتها أم وسيلة لتطوير أكثر جذرية في المستقبل؟ ومن ثم ما هي مشروعات المراحل الثلاثة الأخرى حتى (2017م)؟ وهل تتصل بالقضايا الكلية والهيكلية –وسياسات إدارتها: مثل نظام القبول ونظام التعيين، ومصادر تمويل؟
خلاصة القول
فإذا كانت الدولة قاصرة -بذاتها أو بموارد مجتمعها المدني والأهلي- عن توفير موارد تطوير المشروعات الفنية الست، فهل ستكون قادرة على توفير ما هو أكثر الحاحًا أي الاستثمارات الضرورية في مجالات هيكلية؟ وهذا يقودنا إلى المحور التالي.

4- قضايا التطوير ومجالاته وآلياته: إشكاليات تحديد الأولويات: بين استيراد الحلول المدعومة من الخارج وبين ديمقراطية تصميم الحلول، والتأرجح بين علاج أعراض الأزمة وبين علاج أسبابها الهيكلية

حفلت وثائق التطوير الرسمية ودراسات المؤتمرات المتخصصة بقوائم القضايا التي يجب أن تتصدى لها عملية التطويرًا تحقيقًا لمبادئ وأسس وأهداف هذه العملية. وبالنظر إلى قائمة القضايا التي قدمتها الخطة القومية (2000) نجد أنه يمكن تصنيفها إلى 6 مجالات تتصل بمنظومة التعليم وهيكله، والجودة والأداء، والطلاب، وأعضاء هيئة التدريس، والتمويل، والعلاقة بالبيئة الخارجية للمنظومة.
وبالنظر إلى مضمون المشروعات الخمس وعشرين المقترحة للتطوير نجد أن هذه المشروعات تغطي مساحات ممتدة من هذه المجالات ومن خلال آليات متعددة لتحقيق التطوير في كل مجال. فعلى سبيل المثال نجد أن مشروع تطوير نظم الالتحاق بالتعليم العالي، ومشروع إنشاء مركز دراسات ومتابعة توظيف خريجي مؤسسات التعليم العالي، ومشروع التنمية الثقافية والفنية والرياضية، مشروع تنمية برامج التمييز لرعاية المتفوقين والموهوبين، مشروع دعم مراكز التميز العلمي والبحثي في مؤسسات التعليم، جميعها مشروعات تتصل بالطلاب في مرحلة ما قبل التخرج.
وبالمثل يمكن تصنيف بقية المشروعات الخمس وعشرين وتوزيعها بين المجالات الست أو القضايا الثلاثة عشر المحددة للتطوير والتي تضمنتها الخطة الاستراتيجية. ولكن يبقى المجموعتين التاليتين من الأسئلة مطروحة عن الأولويات:
من ناحية: هل يعكس ترتيب هذه المجالات الثلاثة عشر وكذلك المشروعات الخمس والعشرين في الخطة أي نوع من الأولوية اليس هناك أولوية للتنفيذ، حتى يمكن كسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها سياسات التطوير منذ أكثر من عقد وحتى يمكن علاج الأسباب وليس الأعراض؟ بعبارة أخرى: من أين نبدأ؟ وكيف نتحرك ومتى تنتهي عملية التطوير؟ وما مخرجها النهائي المتوقع؟
ومن ناحية أخرى: هل يعني بداية المرحلة الأولى من تنفيذ التطوير بمشروعات ست أن هذه المشروعات هي التي تحوز الأولوية، وهي التي تمثل القاعدة التي تنطلق منها بقية مراحل التطوير وتنبى على نتائجها ومخرجاتها؟
وهنا أستطيع أن أطرح بعض الملاحظات الاستفسارية –وليس التقويمية- عن أربعة قضايا: الجودة، زيادة القدرة الاستيعابية للجامعات (أي إعداد خريطة جديدة لمنظومة التعليم العالي)، وسياسات قبول الطلاب في التعليم العالي وسياسات التمويل. والقضية الأولى يتصدى لها أول مشروع من مشروعات التطوير الجاري تنفيذها والتي يتم تمويلها من المنح الخارجية، أما القضايا الثلاثة التالية، فهي تمثل –من وجهة نظري- أولوية تتطلب التصدي لها وخاصة أنها تثير إشكاليات تتجادل حولها التوجهات المختلفة، من قبيل إشكالية الجامعات الخاصة (خصخصة التعليم)، ومجانية التعليم الحكومي؛ والاستثمارات اللازمة لدعم التعليم العالي بأبعاده المختلفة (الأبنية وتقنية المعلومات والمكتبات، وقدرات الطالب وأعضاء هيئة التدريس، وجميعها أمور لازمة وشروط سابقة لتفعيل عملية تطوير محتوى المقررات وطرق التدريس والتقييم…) فبالرغم من الإيمان بأهمية العنصر البشري وضرورة تنميته، إلا أن الحيز المكاني ومحدودية أعداد الجامعات القائمة بالمقارنة بالمطلوب والأعداد المتكدسة من الطلبة في الحيز الضيق من ناحية، وعدم توافر الموارد المادية لتفعيل العملية التعليمية من ناحية أخرى يمثلان قيودًا شديدة الخطورة على تحقيق نتائج إيجابية من وراء عملية تطوير التعليم الجارية، بحيث لا يصبح هناك مجال للحديث عن نظم تقييم الأداء والجودة في ظل استمرار هذه القيود.

فمثلاً بالنظر إلى ضمان الجودة
1- فإن إعمال نظام الاعتماد وضمان الجودة يفترض أن إدارة الجامعة أو المعهد لها صلاحيات كاملة في الأمور المحورية ذات التأثير على جودة العمل التعليمي ومخرجاته، وأهمها نظم ومعايير قبول الطلاب ونظم وشروط معايير تعيين أعضاء هيئة التدريس وتقويم أدائهم وإنهاء خدماتهم. ومن ثم كيف يمكن تطبيق نظم تقييم جودة وأداء في كليات تفتقد بعضها المقومات اللازمة للدراسة نظرًا لمشكلة الأعداد الكبيرة، حيث لا تسمح هذه الأعداد بقيام عملية تعليمية ذات معنى ترضى عنه أي هيئة للاعتماد وضمان جودة التعليم في أي مكان في العالم.
ومن ثم فلا يمكن تبرير الحاجة لنظام الجودة باعتباره سبيلاً لمواجهة تحديات العولمة وتحقيق التميز والمنافسة، ذلك لأن التحديات الداخلية النابعة من ظروف البيئة المحيطة تفرض قيودها على فعالية بل ومصداقية تطبيقه، ومن ثم تصبح الحاجة ضرورية لإبداع نظم جودة تأخذ في الاعتبار ظروف دول الجنوب، وذلك بدلاً من استيراد المعايير الدولية لتأسيس هذه النظم، وهي النظم التي يتم تطبيقها في الدول المتقدمة للحفاظ بالفعل على مستوى التقدم والمنافسة والتمييز.
في حين نجد أن نظمنا التعليمية ليست بقادرة على المنافسة بل هي في حاجة لإصلاح لتصل إلى مستويات الأداء العادية غير المتأزمة. ومن ثم فهي تحتاج لمعايير جودة تقيس فعالية الخروج من حالة الأزمة، ولتصبح أداة لكسر حلقة سوء الأداء المفرغة في نظم التعليم، أو على الأقل تساعد على إدارة الموارد القائمة بصورة أكثر رشادة وذلك في حال استمرار الظروف البيئية المحيطة على ماهي علية بدون تغيير.
ولعل من أبرز الأمثلة الدالة على أهمية توطين معايير الجودة وتقييم الأداء، وليس التطبيق الحرفي للمعايير الدولية، ما يتصل بلغة التدريس. فمن معايير الأداء الأمثل أن تكون اللغة الوطنية هي اللغة الأولى في التدريس، إذن كيف سيكون موقف الكليات التي تطبق نظام شعب التدريس باللغات الأجنبية؟
وحول القضايا الثلاث الأخرى في ارتباطاتها
في هذا الصدد تثور الأسئلة التالية:
* لماذا التطور في الطلب على التعليم العالي (الحكومي) بالرغم من البطالة وبالرغم من ضعف معدلات الحراك الاجتماعي الناجم عن التعليم العالي بالمقارنة بمعدلات سابقة؟ وهل وضعنا المقارن مع الدول الأخرى –وخاصة الكبرى- من حيث القدرة الاستيعابية للجامعات معيارًا صالحًا ورشيدًا لتبرير الحاجة لدفع هذه القدرة استجابة لتطور الطلب على التعليم؟ وهل هذا “التطور على الطلب” ناجم عن شروط صحيحة وتعبير حقيقي عن “الاحتياجات”؟ وهل هذه الاحتياجات هي “التعليم من أجل العمل أم العلم”؟
* كيف سترفع الحكومة القدرة الاستيعابية في الجامعات الحكومية الحالية (10% سنويًا) في ظل أزمة تمويل الجامعات وفي ظل التداعيات السلبية للأعداد الكبيرة على العملية التعليمية؟ وألن يكون السبيل المقترح لتحقيق هذه الزيادة على حساب “النوعية” المرجو تحقيقها في ظل مشروعات التطوير الجاري تنفيذها؟ أم أن الضغوط الاجتماعية والسياسية –تحت مزاعم الحفاظ على مبادئ الدستور التي تكفل مجانية التعليم أو تحت دوافع الحفاظ على استقرار النظام السياسي- ستتفوق في تأثيراتها بالمقارنة بالحسابات العقلانية الرشيدة؟
* بعبارة أخرى كيف سنواجه إشكالية العلاقة بين التوسع في التعليم العالي وبين إشكالية نوعية مخرجات هذا التوسع أم سنظل ندور في حلقة مفرغة تستحكم معها مؤشرات أزمة مخرجات التعليم نظرًا لسلبيات الأعداد الكبيرة وتدهور قدرات أعضاء هيئة التدريس؟ وهل سيظل بالإمكان التوسع في ظل استمرار “المجانية”؟
* وإذا كانت قضية تمويل التعليم العالي لا تنفصل عن قضية الجامعات الخاصة والأهلية والدولية في مصر، أو عن قضية مستقبل الجامعات الحكومية، وخاصة ما يتصل بالجوانب المختلفة لتطويرها، والتي نصت عليها مشروعات التطوير، فلا بد أن نتساءل أين مشروع تنمية مصادر إضافية متعددة لتمويل التعليم العالي وهو المشروع رقم 23 قي قائمة مشروعات التطوير؟ وما مخرجاته؟ هل نظام التعليم الموازي أم الرسوم الإضافية أم المساعدات الخارجية أم أقسام اللغات في بعض الكليات؟ أم إنشاء الجامعات الخاصة والأهلية؟
وكذلك أين ترشيد المجانية في التعليم العالي الحكومي الذي يستوعب النسبة العظمى من طلبة التعليم العالي بكل أنواعه؟
إن الغرض من طرح هذه الأسئلة هو تركيز الضوء على المخاطر التي تحيط بالتعليم العالي الحكومي (ناهيك عما يجب أن تحظى به الجامعات الخاصة أيضًا من ترشيد لسياسات القبول ومعايير الأداء).
ذلك لأن التعليم –وخاصة الجامعي- هو قضية أمن قومي ومسئولية جماعية، ولكن لا يمكن أن تتخلى الدولة عن دورها فيه، مهما كثر الحديث عن مزايا وضرورات أدوار القطاع الخاص والأهلي. إلا أنه يجب أن تتحدد أدواراً جديدة للدولة.
ومن ثم فإن سبل تفعيل الجامعات الحكومية الوطنية لا تقل أهمية عن السبل الأخرى، ليس للتوسع في التعليم العالي فقط ولكن لتحسين نوعية أدائه ومخرجاته خدمة لأهداف المعرفة والتنوير والتنشئة والعمران الحضاري ومتطلبات السوق، أي خدمة لمتطلبات التنمية الشاملة. والسبيل لذلك لن يكون بالالتفاف على المجانية أو على مشكلة الأعداد الكبيرة (التي تحول دون بروز أو ظهور النخب المتميزة من الطلبة) ذلك الالتفاف الذي يتحقق بأساليب تتعرض لانتقادات شديدة، مثل شعب التدريس باللغات، الرسوم الإضافية تحت مبرر تقديم خدمات إضافية للطلبة (مثل الكومبيوتر)، وأخيرًا ما يسمى نظام التعليم الموازي الجاري النقاش حوله الآن، ولكن يكون بإعطاء الأولوية لمشروعات مثل مشروع تطوير نظم الالتحاق بالتعليم العالي (للتمييز بين الجامعة كساحة لتلقي العلم وإبداع الفكر وإنتاج العلم وبين المدارس العليا لتخريج الموظفين والإعداد لسوق العمل) ومشروع تنمية مصادر إضافية متعددة لتمويل التعليم العالي، وهما من مشروعات الخطة الاستراتيجية لتطوير منظومة التعليم العالي، والتي تتصدى لأسباب أساسية من أسباب الأزمة وليس أعراضها.
ومن ثم فإن زيادة القدرة الاستيعابية للجامعات الحكومية، بوضعها الحالي أو وفق التطوير المقترح، استجابة لزيادة الطلب على التعليم العالي سيكون على حساب إنسانية التعليم وآدميته وفعاليته، حيث يظل الكم -وليس النوع- هو المحك, ويساعد على هذا استمرار التمسك بمجانية التعليم باعتبارها مكسبًا متبقيًا من مكاسب نظام ثورة يوليو 1952،وآخر صمام آمان ضد انفجار اجتماعي ساهم في تشكيله فشل متراكم لسياسات سابقة في مجالات مختلفة.
فإنه مع مزيد من الجامعات الخاصة والأهلية والأجنبية، ومع استمرار مجانية التعليم في الجامعات الحكومية، لن يتحقق إلا وأد هذه الجامعات الحكومية. فلتبقَ هذه الجامعات تحت إدارة الحكومة، ولكن ليصبح لها نظام للقبول يرشد المجانية دون فقدان العدالة والتكافل، من خلال نظم المنح الدراسية ورعاية الطلبة المتميزين. كما ينبني على نظام جديد لقبول الطلاب. ولذا يقترح البعض النظر في الأخذ بنظام مراحل التعليم الجامعي، حيث يتم التمييز بين المرحلة الأولى (سنتين) (والتي يكون بمقدورها الانتشار إقليميًا لاستيعاب أعداد كبيرة وتحقق مزايا مهنية عالية)، وبين المرحلة الثانية التي تأخذ التخصص العريض ويتم القبول فيها وفق معايير ومقاييس فنية ومنهجية؛ فتساعد بذلك على تقليل الفقْد أو الهَدَر في التعليم بسبب نظم القبول القائمة على مكتب التنسيق بوضعه الحالي.
كما ينصَّبُ المشروع السادس من المشروعات المقترحة في الخطة الاستراتيجية للتطوير على تطوير نظم الالتحاق بالتعليم العالي، حيث ينصُّ على مراجعة نظم القبول بحيث تقوم على أساس قياس قدرات الطلاب بجانب معيار مجموع الدرجات وذلك لتحقيق فرص أفضل لاستكشاف الموهوبين والمتفوقين وتوجيه الطلاب نحو التعليم النظري أو التطبيقي وفقًا لقدراتهم وبما يساعد على التفوق.
وفي المقابل فإن المساعدات الخارجية في تطوير وتوسيع التعليم العالي لا يجب أن تكون على حساب استقلالية عملية التطوير وبالمثل فإن: الجامعات الأجنبية وإن كان سبيل للمساعدة العينية العلمية إلا أنها تمثل نفوذًا أجنبيًا جديدًا وازدواجيات متنامية في الانتماءات تنال من المشروع الوطني للتعليم العالي.
وأخيرًا فإن استقلال التعليم العالي لا يتحقق في مواجهة “مراكز التعليم الخارجي” فقط، ولكن تجاه الدولة أيضًا، والمقصود ليس استقلالاً ماليًا فقط، لكن سياسيًا بالأساس لضمان حرية اختيار القيادات وممارسة حرية الرأي والتعبير، والسماح بالأنشطة السياسية للطلبة.

خلاصة القول: يجب التخلص من تسييس فلسفة التعليم العالي التي جعلت منه –بالتدريج- وسيلة لاسترضاء الشعب بالحديث عن حقوقه قبل مطالبته بواجباته؛ ولذا حان أوان المطالبة بالواجبات سواء من جانب الحكومة أو الشعب. والمطلوب من جانب الحكومة هو إنقاذ الجامعات الحكومية، وليس استبدال نظم تعليم موازية أو نظم تعليم خاصة وأهلية بها، في حين تظل الحلول الموضوعة لعلاج الجامعات الحكومية هي حلول ترميمية وليست حلولاً جذرية. إن فلسفة التعليم المثُلى الآن هي أن التعليم العالي حقُُّ لمن يقدر عليه، ليس ماديًا ولكن فكريًا ومعنويًا. فالقدرة هنا تفوق البعُد المادي، لأنه (مقارنة بالقدرة الاستيعابية وليس بالنظر إلى تنامي الطلب) كَمْ هو ضخمُُ عدد الطلبة الذين يدخلون الجامعة -كحق لهم مكتسب- وليس لديهم القدرة عليه. وبالمثل فإن التدريس بالجامعة، ليس هو حقًا مكتسبًا ومستمرًا لمن تم تعيينه من أوائل الدفع، ولكنه مكتسب يتم بالاختبار، وليس وظيفة حكومية يتربع فيها الأستاذ دون محاسبة أو تطوير، كما هو مفترض أن يكون وضع الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس. ومن ثم فإن الأولوية يجب أن تُعطى لأمرين هما من صميم العمل لإنقاذ الجامعات الحكومية، وهما:
من ناحية إعادة النظر الصريح والواضح في مجانية التعليم، وتخطيط وسائل علاج مساوئها بطريقة جِذْرية، وليس بالطريقة التدرجية الجاري تنفيذها (أقسام اللغات، التعليم الموازي…)، فهذه التدرُّجية لن توفر الحلول المناسبة في الوقت المناسب؛ لأن التدهور قد وصل أقصاه فالمجانية حق اسىء توظيفة ولم يعد يؤد الهدف منه نتيجة ضغط الأعداد الكبيرة وغيرها على نفس الأعداد من الجامعات.
من ناحية أخرى: إعادة النظر في نُظُم اختيار وتعيين أعضاء هيئة التدريس، ووضع نظام لمراقبة الأداء والمحاسبة، فضلاً عن وضع نظام جديد للرواتب وللحوافز؛ لتوفير المناخ اللازم للتفرغ الحقيقي لشئون البحث والتدريس في نطاق الجامعة.
وأخيرًا يجب الوعي لحقيقة هامة وهي أن التغيير الجذري للتعليم العالي لإخراجه من أزمته ليس إلا جزءًا مندمجًا من عملية إصلاح شاملة وجذرية، ومن ثم فهو يرتهن بعملية إصلاح سياسية واقتصادية جذرية، ولا يجب أن تصبح قضية تطوير التعليم العالي مجرد ساحة أخرى، إلى جانب الإصلاح الاقتصادي –لجذب الانتباه بعيدًا عن ساحة الإصلاح السياسي المرجو تحت حجة القول أنه لا إصلاح سياسي بدون إصلاح اقتصادي ومجتمعي أولاً وأن متطلبات الإصلاح السياسي (التعديل الدستوري، إلغاء قانون الطوارئ… إلخ) هي من قبل مهددات الاستقرار في مصر الآن. إن السياق السياسي المحيط هو من أهم محددات عملية التعليم وتطويرها؛ فإن طبيعة هذا السياق وما يتوافر له من موارد اقتصادية ومجتمعية ودرجة تعبيره عن رضاء عام، هي التي تؤثر على طبيعة فلسفة التعليم ورؤيته الاستراتيجية والقائمين على وضع سياساته وتوفير مصادر تمويله. فبقدر شرعية النظام السياسي وديمقراطيته بقدر ما تتحقق ديمقراطية صنع وتنفيذ السياسات الوطنية، ليس في مجال التعليم فقط ولكن في كل المجالات الأخرى.

والحمد لله
القاهرة 7/5/2006

نُشر (في): منى البرادعي، وسامي السيد (محرران)، رؤى تطوير التعليم العالي في مصر، جامعة القاهرة، 2007.

للتحميل اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى