طوفان الأقصى والهزة الكبرى لنظرية الأمن الإسرائيلي

ملف متابعة وتحليل سياسي حضاري

في السابع من أكتوبر 2023 قامت المقاومة الفلسطينية بتوجيه ضربة شديدة لدولة الاحتلال؛ ردًّا على استمرار حالة الاحتلال والإذلال وتزايد الاعتداء المستمر على الفلسطينيين وعلى القدس والأقصى وأهلهم، أدَّت هذه الضربة إلى نتيجتين فارقتين: إحداث خسائر بشرية كبيرة في العدو لم يسبق أن حدثت له بهذا الشكل من قبل، كشفت خواء القوة الأمنية والاستخبارية للعدو من وراء الغلاف الدعائي المتجدد عن القوة الفائقة وهيبة الردع والنظام الأمني الحصين. ومن ثم جاء رد الفعل من دولة الاحتلال وحلفائها صارخًا في هلعه ثم غضبه ورغبته في الانتقام؛ ومن ثم اندلعت الحرب (الثامنة) في تاريخ صراع غزة مع دولة الاحتلال و(الثامنة عشر) في تاريخ صراع فلسطين والعرب مع العدو الصهيوني منذ مصادمات البراق 1929 وثورة 1936 وحتى اليوم؛ أي لنحو مائة عام.

لم تأتِ هذه الحرب من فراغ، وليس طرفاها المباشران بجديدين على هذه الحالة، لكن المفارقة التي أحدثتها قوة ضربة الطوفان، تفرض علينا –بالإضافة إلى المتابعة الحثيثة والرصد الدقيق والتحليل العلمي- تبني إطار نظري يتَّسم باللياقة المعرفية والمنهجية والموضوعية. هذا الإطار النظري ينتمي إلى المنظور الحضاري الإسلامي الجامع بين ثنائيات القضية، وأبعادها العسكرية والسياسية والثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والإعلامية والإنسانية، ودوائرها المحلية والإقليمية والدولية، ومراحل ذاكرتها التاريخية، وواقعها ومتوقعها. قد يكون ذلك ثقيلًا، لكنه لا بدَّ منه لتحقيق تكافؤ المنهج مع الموضوع.

ذاكرة تاريخية وسنن المقاومة في الأمة

لقد مَرَّتْ أمَّتنا بنماذج كثيرة لقوى حياة تبتلى بتحديات وتهديدات وحصارات وتعدِّيات، تفرض عليها واجب المقاومة بمختلف مستوياتها، والمدافعة إلى حين يفصل الله تعالى بينها وبين أعدائها. بدأ هذا النموذج في السيرة النبوية الشريفة التي قاد فيها النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً مؤمنةً صغيرةً، ضُيِّقَ عليها واعتُدي عليها وحُوصرت في مكة، ثم تعرَّضت للكيد والحروب في المدينة حتى جاء نصر الله والفتح. وقدَّم النموذج النبوي القدوة جوامع قواعد المقاومة من الصبر والثبات والإعداد والتدرج في المقاومة والمواجهة والبناء على النصر والاستفادة من الهزيمة، فيما يشبه استراتيجية طويلة المدى. في التاريخ الإسلامي تعدَّدت نماذج المقاومة التي حقَّقت النصر أو فازت بقيمة نصرة الحق والمجاهدة. كثير من جهود المقاومة جاءت من تكوينات صغيرة في ظلِّ سُبات وغفلة كبيريْن من عموم الأمة وقادتها. جلال الدين خوارزم شاه قاوم هجمة مغولية بشعة وصبر حتى قضى ثم جنى المماليك ثمار جهاده من بعده وانتصروا. وكذلك عماد الدين زنكي قاد مقاومة ضد الصليبيِّين في ظروف غير مواتية فحقق نصرًا أوليًّا استكمله ابنه نور الدين محمود ثم صلاح الدين ودولته الأيوبية. والسلاجقة قاوموا حتى تسلَّم الأمر منهم العثمانيُّون. وكلهم بدأوا صغارًا ضعافًا مخذولين حتى انتصروا وحتى جرت عليهم سُنة التداول.

في العصر الحديث وفي ظل الاحتلال الأوروبي ظهرت قوى مقاومة أيضًا في ظلِّ أجواء غير مواتية من حيث النصرة من الأمة: حركة الشهيدين أحمد وإسماعيل ضد الإنجليز في الهند، وحركة عبد القادر الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، وحركة عمر التكروري والشناقطة والطوارق، ونموذج عثمان بن فوديو في غرب أفريقيا، والسنوسي في شمال أفريقيا، وحركة أحمد عرابي في مصر، والمهدي في السودان ضد الاحتلال الإنجليزي، وحركة عبد الكريم الخطابي في المغرب ضد الاحتلال الفرنسي، وعمر المختار في ليبيا ضد الطليان، وصولا إلى نموذج عز الدين القسام في فلسطين.

هذه النماذج في إطار المنهج السُّنني تكشف عن محددات ظهور المقاومة في إطار الأمة الإسلامية، وأسبابها، وآليات نموها أو انطفائها في مهدها، وآليات تفاعلها مع عدوها من جهة، ومع تحدياتها الذاتية ومع سياقها في الأمة من الجهة الأخرى. ويمكن تلخيص العبرة السُّننية لنماذج المقاومة عبر تاريخنا في أنها تحرك الأمة الواهنة وتبثُّ فيها روحًا جديدة وجادَّة ومتحرِّكة ثم تنتصر مع نمو الهمة والعزيمة وتجدُّد الانتماء والولاء في قوى الأمة المحيطة بالمقاومة، وما لم يحدث ذلك فإما أن يطول عمر المقاومة داخل الابتلاء والتحديات، أو تنطفئ لتظهر بعدها قوة مقاومة أخرى. فالمقاومة لا تنقطع من هذه الأمة ما دامت التحديات لا تنتهي.

مسيرة المقاومة في الإطار الفلسطيني

في الإطار الفلسطيني تطوَّرت المقاومة من العمل الفدائي الصغير إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية –وفي قلبها حركة فتح- على يد أحمد الشقيري منتصف الستينيات من القرن الماضي. وخاضت المقاومة الفلسطينية نضالا مريرًا، ليس فقط أمام عدوها، ولكن أمام سياقها غير الحاضن واللافظ في كثير من الأحيان. وجاءت انتفاضة 1987 بمثابة نقلة كبيرة للنضال الفلسطيني ومنها ظهرت حركة حماس، كما جاء ظهور حزب الله نتيجة اجتياح العدو الإسرائيلي لجنوب لبنان 1982. وعقب دخول القضية في مسار عملية تسوية سياسية سلمية فيما عُرِفَ بمسار أوسلو منذ 1993-1994، تعرَّضت المقاومة للتراجُع الشديد، حتى تفجَّرت الانتفاضة الثانية عام 2000، ما أدَّى إلى انسحاب العدو من غزة من طرف واحد، ومن ثم أصبحت موضعًا للمقاومة تحت مظلَّة منظمة التحرير بفصائلها المتعدِّدة. وقد آلَ التنافس السياسي والفكري بين هذه الفصائل إلى فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية 2006؛ الأمر الذي رفضتْه حركة فتح بعد ذلك؛ ممَّا أدى إلى انفراد حماس بحكم القطاع منذ 2007، ووقع الانقسام الفلسطيني بين الضفة وغزة حتى حينه.

دخلت حماس من غزة في صراع مع العدو متتالي المراحل؛ فاغتالتْ إسرائيل قادة الحركة الشيخ أحمد ياسين ثم د. عبد العزيز الرنتيسي 2004، ثم تتالت الصدامات العسكرية بين الحركة والفصائل المتضامنة معها من غزة ضد العدو؛ بدءا من صدام 28 يونيو 2006 مع أسر الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط)، ثم نجحت حماس بمبادلته بعدد كبير من الأسرى لدى دولة الاحتلال؛ مما وسَّع شعبيَّتها ومكانتها. وفي 27 ديسمبر 2008 كانت “معركة الفرقان واستمرَّت (23 يوما)، ثم 4 نوفمبر 2012 معركة (حجارة السجيل) بعد اغتيال قائد القسام أحمد الجعبري، وفيها بدأت تظهر قصة المقاومة القادرة على صنع الصواريخ وإطلاقها من غزة حتى تل أبيب. ثم عملية “العصف المأكول” 8 يوليو 2014 عقب اغتيال ستة قيادات من الحركة واستمرَّت سبعة أسابيع، فصدام 11 نوفمبر 2018، ثم عملية “سيف القدس” 10 مايو 2021 التي استمرَّت 11 يومًا وبدت فيها المقاومة عالية الكعب والغاية (الدفاع عن القدس ومرابطي الأقصى)، وأخيرًا الهجمة التي شنَّها الاحتلال على حركة الجهاد وقياداتها في 5 أغسطس 2022 والتي أسْمتها حركة الجهاد “وحدة الساحات”، ولم تستمر سوى ثلاثة أيام.

وقد كشفت هذه المسيرة الفلسطينية وفي قلبها مسيرة المقاومة الحالية في غزة أنها كَّلما ازدادت التحديات أمامها اشتدَّت عزيمتها وقويت شكيمتها وشوكتها؛ الأمر الذي هو اليوم محل اختبار في ظل هجمة غير مسبوقة من العدو، وسياق دولي شديد العداء للمقاومة والتأييد والتفويض المطلق للعدو، وسياق عربي إسلامي ضعيف النصرة وواسع الخذلان للمقاومة وشعبها في غزة وفي عموم فلسطين. هل تستطيع المقاومة الصمود أمام هذه الحرب الشعواء والسياق المعادي والخاذل؟ هل ستنتصر وتغيِّر معادلة القضية والصراع ومن ثم معادلة الاستراتيجية والسياسات في المنطقة برمَّتها؟ أم أن المعركة ستذهب بالمقاومة ومن ثم بالمنطقة إلى طريق آخر؟! هذا ما يسعى هذا الملف للإجابة عنه عبر تقارير للمتابعة والرصد والتحليل الأساسي لمجريات الصراع، ومواقف وخطابات وممارسات أطراف الصراع والقوى المختلفة على جانبي طرفي الصراع الرئيسين.

المعركة الراهنة وترتيب ملفاتها ومواقف أطرافها وقواها

يتجلَّى ذلك في ملفات الحرب الراهنة الأربعة: المعركة العسكرية – التدافعات السياسية – الحرب الإعلامية والدعائية – ثم وقبل كل ذلك “المأساة الإنسانية” المتفاقمة في القطاع عبر الأسبوع الأول ومنه إلى الأسبوع الثاني من هذه الحرب القائمة.

كما يتجلَّى في أحوال المقاومة وفصائلها، خاصة في غزة، وفي مواقف فئات الشعب في الضفة والقدس وموقف السلطة الفلسطينية، وحالة العدو ممثَّلًا في حكومته وقواه الشعبيَّة، ثم مواقف البلدان العربية من الصراع رسميًّا وغير رسمي، وكذلك مواقف الحكومات الغربية، والإعلام العالمي. بالطبع هناك دوائر أخرى تنضمُّ للرصْد والمتابعة ضمن الملف مع تطوُّراته. وهذه هي عناصر الملف وتقاريره التي ستُتابع الصراع بالتدريج حتى يقْضي الله تعالى أمرًا كان مفعولًا.

هذا، وقد عُنِيَ مركزُ الحضارة للدراسات والبحوث من باكورة نشاطه بقضية المقاومة من منظور حضاري بعامة، وبهذه القضية المحورية بالنسبة للأمة العربية والإسلامية بصفة خاصة، وأخرج المركز فيها أعمالا عديدة، يمكن الرجوع إليها لتجديد الوعي والذاكرة بتطوُّرات أساسية في مسيرة القضية والصراع:

بعض أهم نماذج أعمال المركز بخصوص القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي:

  • مجموعة مؤلفين، من أجل القدس والأقصى، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/MuKfv
  • فصلية قضايا ونظرات، ملف العدد عن: فلسطين.. تجدد القضية والمواقف، العدد 22، يوليو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/5uzwJ
  • طارق جلال، تطور صفقة القرن، وآفاق ترتيب الصفوف الفلسطينية، فصلية قضايا ونظرات، العدد 20، يناير 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/c3nav
  • فصلية قضايا ونظرات، ملف العدد عن: القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ومقاومته، العدد 9، أبريل 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/NVpJK
  • فصلية قضايا ونظرات، ملف العدد عن: خرائط الاختراقات والتهديدات الإسرائيلية في المنطقة العربية، العدد 8، يناير 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ky7JD
  • فصلية قضايا ونظرات، ملف العدد عن: مائة عام من وعد بلفور المسار والمآلات، العدد 7، أكتوبر2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/CFv1L
  • ماجدة إبراهيم، أمة في حركة… الرباط في الأقصى بين التحدي والتصدي، فصلية قضايا ونظرات، العدد 5، أبريل 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZO4xa
  • د. بشير أبو القرايا، المقاومة المدنية في الضفة الغربية في مواجهة الاستيطان الإسرائيلي، فصلية قضايا ونظرات، العدد 5، أبريل 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZO4xa
  • مروة يوسف، مقاومة غزة ودلالات عشر أعوام من الحصار، فصلية قضايا ونظرات، العدد 5، أبريل 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZO4xa
  • د. بشير أبو القرايا، تهديدات تهويد الأقصى وآفاق انتفاضة جديدة، فصلية قضايا ونظرات، العدد 2، يونيو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/yZCoM
  • أمجد جبريل، الثقافي والسياسي في الاستراتيجية الإسرائيلية لتهويد القدس: قراءة في تفاعلات الأمة مع قضية القدس عام 2010، (في) د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، حولية أمتي في العالم، العدد العاشر، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2011).
  • د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: غزة بين الحصار والعدوان: قراءة في الدلالات الحضارية، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2010.
  • أمجد جبريل، قضية القدس بين سياسات التهويد وتخاذل عالم المسلمين والصمت الدولي، (في): د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، حولية أمتي في العالم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2000).
  • طارق البشري، عن القدس وفلسطين ووعاؤها الجغرافي، (في): د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، حولية أمتي في العالم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى