«سيف القدس» تهزم «حارس الأسوار»؟ الجديد والمُنتظَر بعد مواجهة فلسطين للعدو مايو 2021

كثيرون لا يعرفون من أين أتت هذه الحرب والانتفاضة الأخيرة، وأكثرنا لا يعرف إلى أين ستمضي؟ وماذا بعدها. لماذا لا نعرف؟ لأن القضية أضحت مملولة وتتراجع بلا جديد منذ أوسلو 1993، والأحداث الكبرى قد تتولد من حادث صغير لكن وراءه حالة كبرى. إن قرار محكمة صهيونية في سبتمبر 2020 بإخلاء أربع عائلات فلسطينية من حي الشيخ جرَّاح بالقدس (عائلات إسكافي والكرد والجاعوني والقاسم)، ثم قرار آخر في أكتوبر التالي بإخلاء ثلاث عائلات أخرى (حماد والدجاني وداوودي)، ثم تحويله لقرار نهائي في فبراير 2021 بإخلاء المجموعة الأولى من العائلات بتاريخ 2 مايو وإخلاء المجموعة الثانية في الأول من أغسطس المقبل[1]. لم يكن لأحد أن يتنبه إليه أو يكترث به؛ لاعتياد مئات الأحداث أمثاله، ولأن ما هو أسوأ منه يجري كل يوم.

لقد كان المراقبون والمعنيون بالقدس وفلسطين يتابعون قصة أخرى تتعلق بإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية لإعادة ترتيب البيت المنقسم؛ وكانت العقبة ماثلة في كيف تُجرى في القدس، في ظل رفض الكيان الصهيوني كما أبلغ السلطة حتى الأسبوع الأخير من أبريل؛ ما حدا بالسلطة الفلسطينية إلى الإعلان عن احتمالات تأجيل الانتخابات[2]. فهل أججت إسرائيل قضية الإخلاء للإجهاز على فكرة انتخابات في القدس تستعيد أنها عاصمة فلسطين لا إسرائيل؟ أم كان الفلسطينيون يضغطون بهذه الورقة لحلحلة وضعية القضية المتجمدة في ظل مُضيّ تطبيع عربي متزايد عُرف بصفقة القرن؟ أم تعمدت المقاومة استغلال الموقف لفك الحصار المنصوب حولها وحول القضية لتصفيتها؟ أم هل انزلق الطرفان إلى الصراع؟ أيًا كانت الإجابة التي يسفر عنها البحث، فإن السؤال الأهم بعد ذلك هو: كيف أدار كل من الطرفين -ومن حولهما من أطراف إقليمية ودولية- الصراع؟ وما الجديد في ذلك بالنظر على الأقل إلى صراع 2014؟ بناء على ذلك: ماذا ننتظر في الأشهر القريبة عقب انتهاء العدوان المسلح وسكون المقاومة؟

بداية المواجهة:

من يراجع الأسبوع السابق على اندلاع المعركة يرى أنه أمام محاولة صهيونية لتنفيذ قرار باغٍ يواجهه رفض ومقاومة من الأهالي، ومع تضامن إخوانهم معهم تطورت الأحداث تطورا ذا دلالة. ففي السادس من مايو الماضي نظم فلسطينيون وقفة تضامنية مع أهالي الشيخ جراح (من أحياء القدس)، فواجهتهم قوات الصهاينة بالقمع والاعتقال. وافق اليوم التالي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان فأدى نحو سبعين ألف فلسطيني صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، تحت تضييقات قصوى من قوات الاحتلال (يتسع المسجد لمائتي ألف)، ووقعت مواجهات بين فلسطينيين ومن يسمون بـ(مستوطنين) صهاينة محميين من قوات الاحتلال أرادوا فض الوقفة التضامنية، ثم اقتحمت شرطة الاحتلال المسجد عِشاءً واعتدت على المصلين وأصابت فوق المائتين في المسجد وعند باب العمود وحي الشيخ جراح. يومها ذكرت شرطة الاحتلال أن سبعة عشر من جنودها أصيبوا. استمرت المواجهات يومي 8 و9 مايو بوتيرة أقل، وأغلق الاحتلالُ الحيّ وحال دون دخول أحد غير ساكنيه. وعقب ليلة السابع والعشرين من رمضان وفي صباح اليوم التالي 10 مايو اقتحم آلاف الأفراد من شرطة الاحتلال المسجد الأقصى، وأطلقوا الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز والصوت، فأحرقوا مصاحف شريفة وهشموا نوافذ وأصابوا المئات وعملوا على الحيلولة دون إسعافهم، وأغلقوا المسجد فصلى عشرات من الفلسطينيين الظُهر عند باب الأسباط في الوقت الذي توافد فيه مستوطنون يهود لاقتحام المسجد وجاء إلى الحيّ وفد من بعض أعضاء الكنيست المعروفين -حتى بين الصهاينة- بالتطرف، وتجدد الاعتداء على المتضامنين مع أهل الحي[3]. فماذا كانت تريد سلطة الاحتلال من هذا التصعيد؟

هنا -وأثناء التطور الأخير الذي كان عصر 10 مايو- اخترقت المقاومة في غزة المشهد؛ حيث نشرت كتائب القسام قبيل الخامسة مساء بيانا تمهل فيه الكيان الصهيوني حتى السادسة مساء (أي نحو ساعة) لسحب جنوده من المسجد الأقصى وإطلاق سراح من اعتقلهم[4]. سرعان ما أعلنت الحكومة الصهيونية فتح مدن وبلدات ما يعرف بغلاف غزة ملاجئها العامة تحسُّبًا لإطلاق صواريخ من غزة، وتغيير مسار رحلات جوية مدنية من مطار بن جوريون بتل أبيب. مع انتهاء المهلة التي أعلنت عنها المقاومة مباشرة أطلقت رشقة صاروخية باتجاه ما يسمى بـ(المستوطنات) الصهيونية، ثم سُمع دوي انفجارات في القدس نفسها، لتعلن كتائب القسام عن توجيهها ضربة صاروخية للعدو في القدس المحتلة ردًّا على جرائمه وعدوانه على المدينة المحتلة، مردفة: (صواريخنا رسالة على العدو أن يفهمها جيدا، وإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا)[5]. ثم أعلنت سرايا القدس مسؤوليتها عن استهدافِ عربة عسكرية صهيونية شرق غزة بصاروخ موجَّه مؤكّدة إصابتها. وتوالت رشقتان أو ثلاثٌ قبل أن تخرج طائرات العدو لاستهداف قطاع غزة وقصف عدة مناطق فيه وتبدأ أخبار القتلى والمصابين الفلسطينيين (مجزرة أولى ببيت حانون سقط فيها تسعة شهداء دفعة واحدة)، على النحو المعتاد في كل عدوان. وأعلن جيش العدو استعداده لعمليات عسكرية واسعة النطاق في القطاع، ونشر المزيد من بطاريات منظومة القبة الحديدية في عدة مناطق وسط كيانه.. كل ذلك مع استمرار المواجهات بين الفلسطينيين العزَّل وقوات الاحتلال في القدس الشريف خاصة في باب العمود، والتي اتسعت في مناطق عدة بالضفة الغربية طوال هذه الليلة. وفي وقفة لافتة -وقبيل منتصف الليل- قرعت كنائس فلسطين أجراسها تأييدا لمقاومة القدس وغزة، في وقت أعلن الاحتلال منع دخول المواد الغذائية والطبيّة والوقود إلى غزة بإغلاق معبر كرم أبو سالم[6].

إطلالة على تطورات المواجهة

لمدة عشرة أيام أخرى (11-20 مايو) وحتى وقف إطلاق النار أدار الطرفان صراعا حاميا؛ حيث بدا الأداء العسكري الأساسي الآتي: من قِبل الصهاينة غارات جوية وقصفات من البحر والبر على قطاع غزة مع تعمَّد تدمير البنية التحتية والاستهداف المعلن للمباني السكنية والمدنية ومحاولة استهداف مواقع المقاومة، والتسبب في مجازر بشرية عدة. هذا في مقابل رشقات صاروخية كثيفة ومتوالية من القطاع تجاه مدن غلاف غزة بالأساس وبعضها تجاه مدن أبعد، ومنها تل أبيب عاصمة الصهاينة، مع توالي الإعلان عن شهداء في غزة وأعداد كبيرة من المصابين في مقابل الإعلان عن إصابات قليلة في صفوف الصهاينة وخسائر لا تقارن بما يقع في غزة وبقية فلسطين.

ويمكن إجمال أهم مراحل المعركة على النحو الآتي:

المرحلة الأولى: استعراض القدرات المتقابلة (العدو بقواته ومستوطنيه وفلسطين بمقاومتها وشعبها): حيث شهد اليوم الأول 11 مايو إعلان جيش العدو إطلاقه عملية عسكرية على قطاع غزة باسم (حارس الأسوار)، ومع الساعات الأولى نشرت كتائب القسام بيانًا بأنّ الضربة التي وُجّهت نحو القدس نُفّذت بصواريخ تحملُ رؤوسا متفجرة بقدرة تدميرية عالية يصلُ مداها إلى 120 كم وتدخل الخدمة بشكل مُعلنٍ لأول مرة، وأطلقت على عملياتها اسم “سيف القدس”[7]. وحين عاودت إسرائيل استهداف برجٍ سكني في غزّة عبر غارة جويّة ما تسبَّب في انهيارهِ بالكامل، ردَّت كتائب القسام بتوجيهِ ضربة صاروخيّة (قالت إنها الأكبر) لتل أبيب وضواحيها بـ130 صاروخًا، وأكّدت القناة 12 الإسرائيليّة إصابة مبنى في ضاحية هولون في تل أبيب بصاروخ أُطلق من غزة، قبل أن تُؤكّد نفس القناة مقتل امرأة إسرائيلية جراء سقوط صاروخ على مدينة ريشون لتسيون شمال تل أبيب[8]. وفيما أقدم مسلحٌ صهيوني على قتلِ شابٍ فلسطيني من مدينة اللد داخل الخط الأخضر وأصابَ آخرين بجروح، اندلعت اشتباكاتٌ بين فلسطينيين وإسرائيليين في أم الفحم داخل مناطق 48؛ في توسعة مهمة لساحة المواجهة. وقد نجحَ المعتكفون في الأقصى في أداء صلاة الفجر بعد انسحاب قوات الاحتلال عقبَ مواجهاتٍ عنيفةٍ، وفي المساء عاودت عشراتٌ من قوات الاحتلال اقتحام باحات المسجد الأقصى عقب صلاة التراويح[9].

المرحلة الثانية: التصعيد المتبادل: اليوم الثاني 12 مايو يوم استهداف أركان غزة والمقاومة والضربات المتبادلة وظهور الدور الخارجي: فاستمر استهداف أبراج غزة: برج الجوهرة ثم برج الشروق، وتدمير جميع مباني مقر قيادة الشرطة، ومقتل القائد الميداني باسِم عيسى أبو عماد قائد لواء غزة وعدد من القادة جراء غارة إسرائيلية. وردت الفصائل بتوجيه ضربة تجاه تل أبيب ومحيطها ومدن أخرى بمائة صاروخ (ليصل الإجمالي لنهاية اليوم الثاني إلى نحو 1050 صاروخًا). وفي مقابل استهداف سيارة مدنية بغزة وقتل من فيها (قيل قيادات من وزارة الصحة) ردَّت فصائل المقاومة سريعًا باستهداف مركبة عسكريّة بقذيفة كورنيت على الحدود مع القطاع وتحدثت وسائل إعلام صهيونية عن مقتل عسكري وإصابة آخرين. واستمرت المواجهات في القدس وفي حي الشيخ جراح، وفي الضفة خاصة الخليل، وفي أراضي 48 في طبريا وحيفا واللد ويافا، وغيرها؛ بسبب انتشار متطرفي المستوطنين يعتدون على الفلسطينيين في كل مكان[10]. في هذا اليوم بدأ يظهر الموقف الخارجي؛ حين أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في اتصال مع نتنياهو (أن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها في وجه مئات الصواريخ التي تطلق عليها من غزة)، مع أمله في تعجيل إنهاء الصراع! فأعلنت حماس على لسان نائب رئيسها صالح العاروري أنهم أبلغوا الوسطاء أن شرط وقف القتال هو كف يد الاحتلال عن الأقصى والشيخ جراح، وأن للفصائل قدرة على مواصلة القتال لشهور طويلة بزخم أكبر[11]. واتصالا بالدور الخارجي فإن أهم تطور في اليوم الثالث 13 مايو هو إطلاق كتائب القسام صاروخ “عياش 250″، الذي دخل الخدمة اليوم مستهدفًا مطار رامون جنوب فلسطين المحتلة”، الذي استطاع إيقاف حركة الطيران المدني نهائيا من وإلى الأرض المحتلة[12]. والتطور الثاني الأهم في اليوم ذاته إطلاق ثلاثة صواريخ من الجنوب اللبناني (وأذيع أنها من داخل سوريا) باتجاه الكيان الصهيوني، وسوف يتكرر ذلك يوم 17 مايو برصد الصهاينة إطلاق ستة قذائف صاروخية من داخل لبنان لكنّها سقطت جميعها داخل الأراضي اللبنانية، وأطلقت المدفعية الصهيونية نيرانها نحو مصادر النيران تزامنًا مع تحليقِ طائرات استطلاع في أجواء المنطقة الحدودية جنوبي لبنان[13]. ثم أعلنت كتائب القسام في 14 مايو أنها استهدفت مصنع كيماوياتٍ في بلدة نير عوز بطائرة “شهاب” المُسيَّرة التي أعلنت عن دخولها الخدمة قبل يومٍ واحدٍ فقط[14].

كان يوم 15 مايو يوم ملحمة بين المجازر والمثابرة: ففي أول ساعة منه ارتكبت طائرات الاحتلال مجزرةً ثانيّة في مخيّم الشاطئ غربي غزة بقتل (10) مدنيين بينهم أطفال، ثم مجزرة أخرى في حي تل الهوى جنوبي غزة. ردا على هذه المجزرة قصفت كتائب القسام تل أبيب بعشرات الصواريخ ألحقت أضرارًا جسيمة وخاصّة في مدينة رمات غان، وأُعلنَ في وقتٍ لاحقٍ عن سقوط قتيلٍ صهيوني. ومن ثم استهدفت طائرات الاحتلال منزلًا ثالثا في جباليا، ورابعا غربي خان يونس (تدمَّر بالكامل)، وخامسًا في حيّ الصبرا، ثم برج الجلاء (يضمّ وكالات أخبار عالمية) بسلسلة غاراتٍ حتى انهار بالكامل، ثم برج (الأندلس) السكني، ثم محالا تجارية في حي الزيتون. واستمر استهداف بيوت لأشخاص محددين كمنزل سامر أبو دقة مسئول الطائرات المسيرة فمنزل خليل الحية القيادي في حماس إلى منزل يحيى السنوار رئيس الحركة بغزة ومنزل أخيه محمد. ردت المقاومة برشقة صواريخ على تل أبيب، وفي العاشرة مساء أعلن أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام بيانا له دلالته: (بأمرٍ من قائد هيئة الأركان أبو خالد محمد الضيف يُرفع حظر التجول عن تل أبيب ومحيطها لمدة ساعتين من الساعة العاشرة وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبعد ذلك يعودوا للوقوف على رجلٍ واحدة)[15].

المرحلة الثالثة: تكثيف العدوان والمقاومة: في 17 مايو كثف العدو غاراته جدًّا على غزة بعشرات الغارات في الساعة الواحدة؛ ليشمل القصف مواقع مدنية وشوارع رئيسية ومؤسسات حكومية، على مشروع الأنفاق العملاق لحماس، وعلى تسعة منازل لقادة في حماس في أنحاء القطاع (نحو 1180 هدفًا في أنحاء القطاع مقابل 3160 صاروخًا وقذيفة من غزة وفق الجيش الصهيوني). ووصفها جيش الاحتلال بالمرحلة الثالثة من عملية “حارس الأسوار”.. في المقابل استهدفت كتائب القسام بارجة إسرائيلية قبالة شواطئ غزة بدفعةٍ من الصواريخ، واستهدفت سرايا القدس مدينة هرتسليا شمال تل أبيب بعددٍ من الصواريخ ما تسبّب في اندلاعِ حريقٍ على مقربةٍ من إحدى البنايات. أصدرت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بيانًا نعت فيه الشهيد حسام أبو هربيد قائد سرايا القدس في لواء شمال غزة. وعقب قصف وتدمير عديد من المنازل وتهديد بناية المهند السكنية في غزة لتدميرها كليًا، ذكر متحدث القسام في مقطع فيديو: “نُحذّر العدو إن لم يتوقف حالًا عن قصف البيوت الآمنة سنعاود قصف تل أبيب“. فأعلنَ المتحدث باسم الجيش الصهيوني أنه سيزيدُ وتيرة العمليات في غزة ويضرب أهدافًا جديدة[16].

استمر القصف برا وبحرا وجوا على غزة مع بداية يوم 19 مايو، وأعلن الجيش الصهيوني أنه استهدفَ ثلاثة قياديين في حماس في شقة سكنية استُخدمت مقرا للقرصنة الإلكترونية. واستمرت فصائل المقاومة الفلسطينيّة في قصفها لمواقع إسرائيلية في غلاف غزة بوابلٍ من الصواريخ وقذائف الهاون، وأعلنت كتائب القسام قُبيل منتصف الليل أنها أدخلت طائرة مسيرة من طراز الزواري نفذت طلعات رصد لأهداف ومواقع للجيش الإسرائيلي ثمّ عادت لقاعدتها[17].

في 19 مايو تقدَّم ديمقراطيون في مجلس النواب الأمريكي بمشروعٍ لوقف صفقة بيع السلاح لإسرائيل، ومع ذلك فقد أعلنَ البنتاغون أنَّ وزير الدفاع أكَّد لنظيره الإسرائيلي دعمه “لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحثَّهُ على وقف التصعيد”. وكانت إدارة بايدن قد أعلنت صفقة سلاح بقيمة 735 مليون دولار لإسرائيل، وصرحت النائبة الديمقراطية في الكونجرس الأمريكي إلهان عمر: فظيع أن تمضي إدارة بايدن قدما في صفقة سلاح بقيمة 735 مليون دولار لإسرائيل، هذه الصفقة ستعتبر ضوءا أخضر للتصعيد وتقوض جهود وقف إطلاق النار[18].

المرحلة الرابعة: التهدئة فوقف إطلاق النار والدور المصري: يوم 20 مايو استمر القصف الصهيوني والرشق المقاوِم حتى أخذت تنتشر أخبارٌ بعد العاشرة مساءً (بتوقيت فلسطين) تتحدثُ عن وقفٍ لإطلاق النار؛ حيثُ نقلت صحيفةُ وول ستريت جورنال عمّن قالت إنّه مسؤولٌ في المخابرات المصرية قوله إنّ هناك عدّة خيارات مطروحة لوقفِ إطلاق النار؛ أحدها هو موافقة جميع الأطراف على ذلك، بينما الخيار الآخر هو وقفٌ مؤقتٌ للقتال أثناء المفاوضات، وأنّ الخطوط العريضة لوقف إطلاق النار جرى وضعها والمفاوضون يركزون على التوقيت. ووافقَ المجلس الوزاري الأمني الصهيوني المصغر بالأغلبية على وقف إطلاق النار، في الوقت الذي أبلغَ الوسيط المصري إسماعيل هنية أن وقف إطلاق النار سيبدأ الساعة الثانية فجر 21 مايو. نشرت بعد ذلك الحكومة الصهيونية بيانًا تحدثت فيه عن قبول وقف إطلاق نار متبادل وبدون شروط بناءً على اقتراح مصري، كما صدر بيان رسمي مصري أكّد التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق نار متبادل ومتزامن في غزة بدءا من الساعة الثانية فجرًا، وأنّ مصر ستُرسل وفدين أمنيين لتل أبيب والمناطق الفلسطينية لمتابعة تنفيذ الاتفاق. أصدرت حركة حماس هي الأخرى بيانًا أعلنت فيهِ أن الأشقاء في مصر أبلغوها بأنه تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل متبادل ومتزامن .. المقاومة الفلسطينية ستلتزم بهذا الاتفاق ما التزمَ الاحتلال. وبالفعل بدأ وقف لإطلاق النار في الساعة الثانية من فجر الجمعة، وذلك بوساطة دولية تتزعمها مصر[19].

جديد المواقف والمآلات المتوقعة

العدو: لقد أراد الاحتلال وقام بتصعيد الصراع في القدس لأغراض عدة؛ منها تفكيك أزمته السياسية الداخلية ومحاولة نتنياهو كسب تأييد شعبي يفتقده في حسم منافسته على رئاسة الحكومة، ومنها تفويت فرصة استعادة الفلسطينيين للقدس ولو صوريا عبر إجراء الانتخابات التشريعية فيها، ولعل من الأسباب أيضًا رغبة نتنياهو في كشف موقف الإدراة الأمريكية الجديدة وأنها على المبدأ الأمريكي الثابت في تأييد الصهيونية. فماذا جنى الاحتلال؟

حصلت إسرائيل على صفقة أسلحة خاصة من الولايات المتحدة، ليس لمواجهة المقاومة الراهنة ومستقبلها وحسب، ولكن للحفاظ على عدم التوازن الاستراتيجي لصالحها في المنطقة في مواجهة إيران أولاً، ثم سياسة تركيا الحذرة لتغيير بعض المواقف الإقليمية تجاهها. فإشكالية إسرائيل الأساسية بعد المقاومة، هي مخاوفها من محاولة إيران اختراق الجدار النووي، وأن تعمل -مثل باكستان- لتفاجئ الجميع في غمضة عين بأنها قد امتلكت قنبلة نووية أو سلاحًا نوويًا يمكن استخدامه، ما يصيب استراتيجية التفوق الاستراتيجي الإقليمي لديها في مقتل. يلي ذلك ما يعانيه الكيان ذاته –وتفاقم منه المقاومة بدرجات- من شقاقات داخلية وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، تحول دون تطبيع وجود الكيان مع ذاته، وفي ذاته.

حصلت إسرائيل بالفعل على تأييد غربي كبير رسمي وغير رسمي، وأعلن معظم رؤساء دول أوروبا عن وقوفهم في صف إسرائيل، ولم تستطِع منظمة الأمم المتحدة بأجهزتها وممثليها أن تخرج إدانة واحدة صريحة لحكومة إسرائيل، وكذلك مطبّعو العرب لم يخرج من أيهم إجراء عملي واحد يؤبَه له، اللهم إلا بيانات لا تسمن ولا تغني. فلم تغير دولة واحدة موقفها العملي من إسرائيل. فقط المقاومة رجّت مكانة العدو ومشروع التطبيع رجّة ننتظر آثارها!

لكن حكومة نتنياهو سقطت وسقط معها ادعاؤه بالانتصار، وجاءت حكومة نيفتالي بينيت الجديدة لتلملم آثار المعركة بدءا بإعادة تحريك عجلة التطبيع، والتدخل المباشر في مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، مع إظهار التشدد تجاه المقاومة.

فلسطين: بالنسبة للمقاومة فقد استغلت التصعيد الصهيوني وواجهته مواجهة باسلة من أجل: إحياء قضية القدس وانتمائها الفلسطيني على خلاف مراد الكيان الصهيوني خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بها عاصمة للصهاينة، كسر الحصار المفروض على القضية وعلى المقاومة عبر تأجيج التضامن الداخلي والربط بين غزة والضفة والقدس، إحراج المواقف الإقليمية والدولية وخاصة العربية والإسلامية ما يمثل التفافا على صفقة التطبيع الجارية ومحاولة لإعادة ترتيب المواقف. ولعل من أغراضها أيضا الرد على مماطلة السلطة في إجراء الانتخابات بالكشف عن الموقف الشعبي بين المقاومة عالية الثمن مقابل التسوية عقيمة الأثر. وكانت الإصابة بالمفاجأة من نصيب الكيان الصهيوني وتمكنت المقاومة من إصابته بها؛ مرة بالرد المباشر من القطاع على الاعتداءات في القدس، ثم إدارة الصراع بصورة صامدة وإطلاق كميات وأنواع من الصواريخ غير مسبوقة واستهداف مواقع لم تكن ضمن قدراتها من قبل مع قدرة عالية على إخفاء مواقعها وأنفاقها وقواتها وأسلحتها؛ ومن ثم إلجائها العدو إلى حالة رد الفعل وغلق معظم مواقعه الحيوية[20]. هذا بينما لم يُظهِر العدو الصهيوني أي جديد عن عدوان 2014 وكرر استراتيجية الضربات عن بعد عبر الجو والبحر والقصف المدفعي وهدم المباني وإحداث مجازر بشرية. وبينما توغل في 2014 في القطاع وخاصة حي الشجاعية فقد ناور هذه المرة ونفذ خطة خداع عن حرب برية لكي يجر المقاومة للظهور لكنها فوتت عليه الفرصة ولم توات العدو الشجاعة للمواجهة البرية.

طورت المقاومة كثيرا من قوتها العسكرية؛ خاصة في تصنيع واستخدام السلاح (الصواريخ، الطائات المسيَّرة، حديث عن غواصة مسيرة اتجهت إلى مواقع التنقيب الصهيونية..) وفي اختراق القبة الحديدية بكثافة نيرانية كبيرة بمعدل 400 صاروخ يوميا وبعض الرشقات وصلت إلى 130 صاروخا متزامنا على تل أبيب، أو في قواعد الاشتباك التي جمعت بين العسكري والشعبي، وبين غزة وبقية فلسطين بما فيها فلسطينيو 48، وأخيرا في تهديد أقصى شمال وجنوب الأرض المحتلة، وتحريك مساندة عبر الحدود اللبنانية. ولا شك أن ذلك أوصل إلى العدو وحلفائه رسائل إنذار خطيرة، وأن الكيد للمقاومة سيكون أشد بعد هذه الجولة.

المقاومة -رغم بسالتها وتقدمها- لا تزال مأزومة بأزمات متراكبة: أزمة الذات الصغيرة، وأزمة الذات الكبيرة، وأزمة العالم المتصهين. فموقف فتح المتكلّس المستعصي على أي نوع من التحريك أو التشبيك مع المقاومة أو الاشتباك مع العدو، مع بقائها ممثلاً للدولة المعدومة والسلطة المهيضة، ومزايدتها على المصالحة وعلى إجراء انتخابات تحسن من الوضع السياسي، رغم تشابكها مع القوى المصهينة .. كل هذه العوامل تخصم من رصيد المقاومين لصالح المقاولين بالقضية.. وتنضح أزمة فتح فمنظمة التحرير على فلسطين كلها. لقد نجحت فصائل غزة في تشكيل حالة “مقاومة غزاوية”، لكنها لم تنجح حتى حينه في نقلها لتكون “حالة مقاومة فلسطينية جامعة”. تأزم التصور والتطور السياسي الفلسطيني يمثل عبئًا ثقيلاً على واقع ومستقبل المقاومة. وقد كانت الانتخابات الفلسطينية، جديرة بتحريك الماء الراكد، ولكن تثاقل فيها عباس وقبيله، حتى واتته الفرصة للانخلاع منها بتأزيم حال القدس والأقصى، فالعدوان الراهن. عقب العدوان سيُحيل عباس وقبيله ملف الانتخابات وإعادة ترتيب البيت السياسي الفلسطيني إلى ترتيبات غير ديمقراطية حتى لا تنكشف الأوزان النسبية شعبيًا بين قوته وقوة الآخرين. (نعرض تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق الشرعية الدولية وتكون مقبولة دوليًّا…جهودنا لإجراء انتخابات عامة متواصلة وسنجريها عندما نتأكد من أنها ستجرى على أرضنا كلها..)، هكذا صرح عباس فعلا أثناء العدوان. هذا هو الجيل القديم من فتح والذي لا يزال يحتكر قرار فتح ومنظمة التحرير، فهل جدّ على حالته شيء مع هذا العدوان؟ إنه لا يزال يحتفظ بمسافة بينه وبين المقاومة، ويتقارب مع الصهاينة وينسِّق لهم أمنيًّا، ويتقرب من الغرب مؤمنا أن الأمر كله للغرب وبأيدي الغربيين وحدهم. ثقته بذاته وشعبه وقوة المقاومة أدنى من حدودها الدنيا وتكاد تختفي إلا من خطبه الرنانة.

بدا الموقف الفلسطيني المنقسم في أداء السلطة الذي لم يعدُ المناشدات للمجتمع الدولي والأطراف المعنية لوقف العدوان، دون أي لون من الدعم للمقاومة ولو خطابيا. وكان هدف السلطة وفتح هو مجرد استغلال الفرصة للحديث عن عودة المفاوضات ومسار التسوية السلمية المجمد منذ سنوات، وأعلن محمود عباس في أتون المعركة أن الانتخابات ستؤجل إلى أجل غير مسمى وأنه سيتم تشكيل حكومة وحدة وطنية (يرضى عنها المجتمع الدولي). هذا بينما اشتعلت معظم فلسطين المحررة والمحتلة بالمواجهات مع الصهاينة شرطة ومستوطنين، ولم تسهم السلطة في أي دعم لهذا الحراك الكبير. واليوم تتأجج الضفة بصراع شعبي-سلطوي نتيجة ممارسات قوات أمن السلطة تجاه الشارع ما أسفر عن مقتل الناشط نزار بنات بعد اعتقاله وتأزم الوضع الفلسطيني الداخلي.

الأمة: الموقف العربي الرسمي اكتفى بإدانة العدوان دون أي دعم للمقاومة، لكن محور التطبيع بدا مختلفا سواء في الإعلام أو الخطابات المؤيدة للمقاومة ظاهريا. وانبرت السياسة الخارجية المصرية تتواصل مع الطرفين وتسعى في وقف إطلاق النار؛ الأمر الذي أثار دهشة الأكثرية نظرا لموقف النظام المصري المعادي لحماس من قبل معاداة مطلقة. ورغم أن الأغلبية الشعبية العربية مع المقاومة، إلا أنها لا تمارس مقاومة ولا دعما إلا رمزيًا، أو عبر وسائل التواصل التي حققت فيها المقاومة العربية والإسلامية والإنسانية نصرا نوعيا. هذا بينما يمارس المتصهينة العرب تصهينهم عمليا: فيحاصرون المقاومة، ويتاجرون مع العدو ويفتحون له البلاد والخزائن والعلاقات الاقتصادية الجديدة. العرب أنفسهم مأزومون بأزمة سياسية كبرى منذ عقد من السنين؛ بين ثورات وثورات مضادة وصلت في بعض الحالات إلى حروب أهلية–إقليمية–دولية دمرت البلاد والعباد، من ورائها أزمة حضارية ممتدة. كثير من الدول العربية أضحت خارج الميدان الفلسطيني وأزاحتها الأحداث وانعدام الإرادة عن أي تأثير في الصراع؛ العراق، سوريا، لبنان، السودان، ليبيا، اليمن، وكثير أراح نفسه من زمن من تحمل عبء لا يرغب أن يدفع فيه أية كلفة، والبعض حاضر حضورًا شرفيا وحسب..! أما عن الموقف المصري القائد دائمًا فقد تحول إلى موقف شديد التعقيد يحمل سمات التأثير السلبي والتأثير الإيجابي، وسمات عدم التأثير!!! وهذا من أعظم ما ابتليت به المقاومة عبر هذا العدوان الراهن ومن قبله. تتضاعف أزمة فلسطين –لا غزة وحدها- بأزمة أمتها العربية.

أما الأمة الإسلامية غير العربية، فلا يخرج منها إلا أصوات متناثرة وقليل من التأثير، وأكثر حكوماتها أسلمت القضية للعرب من قديم وتوارت وراء المسافات الجغرافية. إيران تتاجر بالقضية لبناء محورها الاستراتيجي الدموي وحفظ تماسك شعارها الإسلامي ظاهرا الطائفي واقعا، بينما دمشق وبيروت وصنعاء وبغداد عندها أوْلى من مائة قُدس تؤول إلى أهل السنة ولا يسيطر عليها الشيعة. تركيا الباحثة عن دور إسلامي مأزومة هي الأخرى في ضعف الاستجابة لها عربيا وإسلاميا عبر عقدين من الزمان؛ لتكتفي بتكرار خطابها وتحركاتها الدبلوماسية مع كل أزمة في فلسطين.. ولكن المحصلة التركية ضعيفة وضئيلة الأثر. أزمة سياسية إسلامية كبرى تحيط بأخرى عربية، كلتاهما تضغطان على الأزمة الفلسطينية الذاتية، ومن ثم على مقاومي الصهيونية.

أما الموقف العربي والإسلامي غير الرسمي فقد برز في مشاهد عدة تأييده للمقاومة وتنديده بالعدوان، لكن أهم هذه الساحات كان الفضاء السيبراني الذي اشتعل تأييدا للمقاومة، ومقاومة لمؤيدي الصهاينة بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي نفسها من الفيس بوك والتويتر وغيرهما. نعم، ثمة هبَّة صادقة وأمينة لمؤازرة المقاومة والحق الفلسطيني والإسلامي في القدس عبر الشوارع والبيانات من المنظمات الأهلية وعبر وسائل التواصل، وحققت دفئا معنويا لفلسطين وأهلها، وحققت إنجازات إعلامية وسياسية ضد المتصهينين والصهاينة، لكنها تظل في أطرها المعنوية والإعلامية، ورغم أهميتها، ليست ذات أثر قوي ولا فوري في مواجهة العدوان العسكري من ناحية، وهي معرّضة لكثير من التراجع والخفوت عقب هدوء الغبار من ناحية أخرى، وقد حدث. إن تنوّع روافد هذه الهبّة من الأهمية بمكان، وفيها أدلة على عدالة القضية وإنسانيتها؛ مما ينبغي التنبّه له. لكن الذي ينقص هذه الجهود بشكل واضح حتى الآن هو: تنظيمها وانتظامها، ومن ثم استمرارها.

العالم: لم تنتظر القوى الغربية حتى ينتهي العدوان لتعرب عن مواقفها، بل سارعت لإعلان ولائها ومؤازرتها الحميمة للكيان الصهيوني، وإعلان ازدرائها وبغضائها للحق الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيوخه، بدمائه وأمواله ومعايشه، بأمنه وحريته وكرامته.. فماذا نتوقع أسوأ من ذلك؟!! لا جديد هاهنا: فالكيان الصهيوني مسانَد معنويًا وماديًا من معظم حكومات الغرب وأقواها، والعدوان الراهن لم يغير من ذلك بل أظهر مزيدًا من فجاجته ووقاحته!! نعم، لم تكن المساندة المعلنة مما أثر سلبًا في المقاومة، لكنها دعمت من طغيان الصهاينة في فلسطين لمواصلة عدوانهم والتمادي فيه. واعتبار هذا الأثر مع ما سبق مهمٌّ جدًا؛ لأن تقدم المقاومة –كما هو رهين بإمدادات الذات وأهلها– رهين بإزاحة عقبات المناوئين وتحييدهم على أقل تقدير. ستتمادى القوى الصهيونية الغربية في محاصرة المقاومة والقضية، وستستمر في العمل على الحفاظ على وضعية تبعية العرب والأمة الإسلامية ضمن استراتيجياتها المتكاملة تجاه العالم الإسلامي.

توجد بقية في العالم غير الغربي لا تزال قابلة للعودة إلى مساندة القضية؛ إذ يلزم أكثرها الصمت والتعبير عن مواقف محايدة أو عامة مجملة، ولا تزال هذه القوى قابلة لاستعادتها إلى تأييد الحق العربي والإسلامي إذا بذل المجهود اللازم.

محاذير تتراءى في الأفق

لا يمكننا تصور التفاصيل المستقبلية القريبة، ولا ما يجب في كل تفصيلة، لكن خطوطا عريضة تراءت خلال المعركة وبعدما هدأ غبارها، وفي إطارها ومن منظورنا الحضاري يمكن استشراف عدد من المخاوف التي ينبغي الحذر منها:

كما لا يصح غمط المقاومة الباسلة وصمود الشعب الفلسطيني حقه، لا يصح المبالغة في مقولة “النصر” والتهويل منها بما يعمي عن التحديات الكبرى السابقة واللاحقة. فالمقاومة لم تتجاوز كثيرا حيز الرشقات ضعيفة التأثير، ولم تصل إلى الدرجة الكافية من إيلام العدو أو القدرة على إجباره على تغيير في نهجه العام وسياساته العدوانية اليومية تجاه الشعب والأرض. فبالرغم من وقف إطلاق النار فإن التضييقات والاعتداءات في الأقصى وما حوله من أحياء القدس لم تتوقف لحظة، بل أطلقت شرطة العدو حملة اعتقالات كبرى لا سيما في إطار عرب 48 الذين أدوا دورا بطوليا ومفاجئا في هذه الجولة. وتجب المسارعة إلى تربيط القوى الشعبية المؤازرة للمقاومة في مشروع سياسي جديد.

لا يصح المبالغة في أثر هذا الانتصار المحفوف بالمخاطر على مسار صفقة العار، والادعاء بأن سيف القدس قد قطع رقبتها، فإن التدخلات العربية لم تعرب عن أي من ذلك، وما إن هدأ غبار المعركة حتى عادت دول عربية إلى إعلان تكثيف علاقاتها مع الكيان الصهيوني وفتحت أخرى المجال للحديث عن تبادل التمثيل الدبلوماسي، بل إن بشار الأسد عقب انتخاباته الرئاسية الهزلية ألمح إلى رغبته في الولوج إلى الصفقة. هذه المعطيات لا يصح أن تكون مجالا لليأس أو الوهن بقدر ما توجب استمرار الحذر والتنبه.

موقف السلطة الفلسطينية بات أسوأ مما كان قبل المعركة؛ ما يوجب تنبها خاصا من الشعب والمقاومة. فالسلطة بقيادة محمود عباس لم تحرك أنملة أثناء المعركة، وتعمقت الهوة بين فتح وبقية الفصائل، وها هي الضفة تعاني تضييقا مزدوجا من الاحتلال ومن السلطة. وقد كشفت الأيام القليلة بعد المعركة أن هذا التضييق وتلك الهوة ينذران بمواجهة فلسطينية-فلسطينية ستكون أسوأ مما وقع في 2006-2007 عقب فوز حماس بالانتخابات التشريعية. إن إدارة ما بعد هذا الانتصار المحدود أصعب من إدارة مقاومة محضة؛ حيث يكون تقدم المقاومين دائما محفوفا بالمخاطر والمؤامرات. والأوْلى نبذ الخلافات مع المخالفين في النهج السياسي من أبناء جلدتنا؛ بما في ذلك حسن إدارة مواجهة التصهين الجديد.

إن ملف إعادة الإعمار كان دائما محل مساومة ومقاولة من الأطراف المتدخلة، ويوضع على الطاولة –عادة- الثمن في نزع سلاح المقاومة أو محاصرة نموها. والآن وقد كشفت هذه المواجهة استراتيجية التقدم التقني والتكتيكي الهادئ لدى المقاومة، وركزت الأبواق الصهيونية والمتصهينة في الغرب والشرق على “صواريخ المقاومة”، فلا شك أنها الهدف القادم. ويجب تكثيف الجهود للانتقال بهذا الانتصار المحفوف بالمخاطر إلى ساحة سياسية لكسب مساحات من التأييد وتفويت فرص العدو في تشديد الحصار والتقييد. ومن ثم يجب تنشيط دبلوماسية المقاومة بأشكال متنوعة؛ منها الدبلوماسية الرقمية التي أثبتت قدرة جيدة في تعزيز موقف المقاومة السياسي والأخلاقي، والدبلوماسية العامة والشعبية، ودبلوماسية كسب المجتمع المدني العالمي، والدبلوماسية القيمية والأخلاقية التي تؤكد أن عالما بغير أخلاق عالمية مطبقة لا يمكن العيش أو الأمن فيه، وهكذا.

إن النهج المقاصدي (القيمي الواقعي) في التفكير السياسي من واجبات الوقت وبعده. فالمبدأ السياسي المتعلق بالحركة السياسية النشطة إلى جوار المقاومة العسكرية الصلدة، وزيادة عوامل القوة الناعمة، وتمتين الصلات السياسية فيما يحيط بالعدو الاستراتيجي، وتحييد ما أمكن تحييده من العراقيل والعوامل غير المواتية.. هذا كله من الأهمية بمكان.

_____________________

الهوامش

[1] عهد فاضل، “الشيخ جراح”.. قصة الحي الفلسطيني الذي شغل العالم، العربية.نت، نشر في: 10مايو 2021: متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/hq0gl

وانظر: محمد وتد، الشيخ جرّاح.. القصة الكاملة لحي فلسطيني يحارب التهويد والاستيطان، الجزيرة، 31 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3yls0Tp

وانظر: تسلسل زمني.. من الاعتداء على الأقصى والشيخ جراح إلى العدوان على غزة واحتفال المقاومة بـ”النصر”، الجزيرة، 21 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3hyXxKR

[2] عبير ياسين، تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية: تداعيات وتحديات، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 4 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3dMmP7b

[3] انظر: تسلسل زمني.. من الاعتداء على الأقصى والشيخ جراح…، مرجع سابق.

[4] “كتائب القسام” تمهل القوات الإسرائيلية حتى السادسة مساء للانسحاب من الأقصى وحي الشيخ جراح، تاريخ النشر: 10 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/PaXcM

[5] كتائب القسام: صواريخنا رسالة على العدو أن يفهمها جيدا وإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا، المدينة الإخبارية، 10 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Z6jxu

[6] كنائس فلسطين تدق أجراسها دعما لغزة ونصرة للقدس، تاريخ النشر 10 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/NLhvq

[7] المقاومة ترد على “حارس الأسوار” بـ”سيف القدس”: ليدفع الاحتلال فاتورة الحساب، العربي، 11 أيار 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/G6HqO

[8] قتيلان وتعليق الملاحة الجوية وتعطيل الدراسة.. كتائب القسام تضرب تل أبيب وضواحيها بـ130 صاروخا، الجزيرة.نت، 11 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/qgwu5

[9] مدينة اللد تنتفض.. مواجهات دامية واستشهاد شاب فلسطيني برصاص مستوطن، 11 مايو 2021، شبكة رؤية الإخبارية، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/3qesX

[10] اليوم الثالث للعدوان ..طائرات الاحتلال تدمر برج الشروق في غزة: إصابة 3 مستوطنين..وغزة تزف قيادات عسكرية، وكالة مدار الساعة الإخبارية، 12مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qJPI9i

وانظر: لحظة بلحظة.. آخر التطورات في غزة والقدس، الجزيرة. نت، 12 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3dKAJGF

[11] نضال المغربي ودان وليامز، حماس تضرب في العمق وإسرائيل تقصفها وبايدن يتوقع نهاية الصراع قريبا، وكالة رويترز، 13 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://reut.rs/2SRRQzk

[12] كتائب القسام تكشف عن المشاهد الأولى لإطلاق صاروخ “عياش 250″، 13 مايو 2021، سبوتنيك عربي، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/IkTw1

[13] سقوط 3 صواريخ أُطلقت من جنوب لبنان قبالة سواحل شمال إسرائيل، نشر في: 13 مايو/ أيار 2021، سي إن إن العربية، متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/2SNV1b7

[14] لحظة بلحظة.. تطورات المواجهة بين “سيف القدس” و”حارس الأسوار” (اليوم الثاني)، تاريخ النشر: 12 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/skLDJ

[15] القسام: رفع حظر التجوال بتل أبيب ومحيطها من 10 إلى 12 ليلاً، موقع الغد، 15 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/qoG82

[16] مأمون أبو جراد، أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ “سيف القدس”، 22 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/qkvPN

[17] قطاع غزة.. طائرة “الزواري” المسيرة تنفذ طلعات رصد واستطلاع فوق مواقع الجيش الإسرائيلي، آر تي عربي، تاريخ النشر: 19 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/wR8uw

[18] إلهان عمر تهاجم بايدن بسبب صفقة أسلحة مع تل أبيب: أمريكا تشارك بقتل الأبرياء بغزة، عربي بوست، تم النشر في: 18 مايو 2021 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/36dHflh

[19] إسرائيل وحماس توافقان على هدنة تنهي قتالا مستمرا منذ 11 يوما، موقع swissinfo، تاريخ النشر: 20 مايو 2021 – 23:33، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/XU7bk

[20] لمطالعة ملمح من عظم جهد المقاومة انظر: أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ “سيف القدس”، مرجع سابق.

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى