تطورات الشرق :قوى آسيا الصاعدة والدول والأقليات المسلمة*

شهدت العديد من دول آسيا صعودًا على مستويات عدة: اقتصادية، سياسية، ثقافية؛ وعلى رأسها الصين وروسيا والهند وكوريا الجنوبية؛ بالإضافة إلى دول جنوب شرق آسيا والمنتمية إلى العالم الإسلامي وخاصة ماليزيا التي حققت نموًّا اقتصاديًا لافتًا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحافظت على ذلك النمو رغم تعرضها لأزمات متتالية. ومن جانب آخر، تتزايد التوترات والصراعات في عدة دول وبقاع من آسيا تتصدرها الآن الحرب الروسية ضد أوكرانيا على حواف آسيا وأوروبا، وما سبقها من تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والصعود الطالباني، والانقلاب العسكري في ميانمار، والتوترات المتزايدة في كل من هونج كونج وتايوان مع الصين، والحرب الاقتصادية الصينية-الأمريكية؛ كل ذلك في ظل أزمة اقتصادية عالمية ناتجة عن جائحة كوفيد 19 التي ما زالت تداعياتها مستمرة للعام الثالث على التوالي.

وما بين مؤشرات الصعود ووقائع الصراع ومواطن التوتر، يتجدد الحضور الشرقي، أو الآسيوي في الشئون العالمية، وتؤثر آسيا في بقية العالم كما تتأثر بها. وعلى نحو يمثل ساحة اختبار طبيعة الوجود المسلم في هذه القارة دولًا وأقليات.

فقد كان لصعود العديد من دول آسيا في العقود الأخيرة أثره على التفاعلات العالمية سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية؛ حيث راهن كثير من الخبراء على زوال الأحادية القطبية لصالح عالم متعدد الأقطاب، مما يؤثر بلا شك على القضايا العالمية، فقد شهد العقد الأول من الألفية الأولى على سبيل المثال رغبة من بعض الدول الأفريقية واللاتينية والعربية في إقامة تحالفات استراتيجية مع دول أمثال روسيا والصين والهند نتيجة لذلك البزوغ؛ ومن أبرزها تجمع “بريكس” الاقتصادي الذي يضم البرازيل وجنوب أفريقيا إلى جانب هذه الدول الثلاث.

تفصيلًا، تأتي روسيا الاتحادية في مقدمة الدول الآسيوية أو الأوراسية الصاعدة (فثمة خلاف على آسيويتها من أوروبيتها)، فعلى مدار العقدين الماضيين حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة بلاده إلى مصافّ الدول الكبرى بعد تلاشي الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فكانت التحركات الروسية خلال العقدين الأخيرين  تُراكِم في هذا الاتجاه؛ ما بين استعادة القوة العسكرية وتطويرها بل وتوظيفها في الصراعات الإقليمية كما في القرم، وسوريا، وليبيا، والشيشان وعموم القوقاز من قبل، إلى جانب محاولات استعادة مناطق النفوذ السياسي والأمني السابقة في آسيا الوسطى ودول البلطيق والشرق الأوسط.

ولعل من أبرز التحركات الروسية الحالية غزوها أوكرانيا في 24 فبراير 2022 من أجل التصدي _حسب تصريحات الرئيس بوتين- للتعدي الأوروبي والأمريكي على الحدود الغربية لروسيا؛ وذلك عقب الإعلان عن رغبة أوكرانيا في الانضمام لحلف شمال الأطلسي(الناتو). ولذلك الصراع أبعاد معقدة  إذ يشتمل على عناصر مترابطة من المواجهة الاقتصادية والجيوسياسية، وعناصر أخرى مرتبطة بتدفقات وأسعار الطاقة لاسيما إمدادات الغاز من روسيا وأوكرانيا إلى أوروبا، وكذلك إمدادات القمح، فضلا عن تأثيرها على الممرات الاستراتيجية، بين أوراسيا وأوروبا ومن ورائهما الولايات المتحدة الأمريكية.

إذا كان الصعود الروسي يبدو صداميًا مع الغرب من الناحية العسكرية والسياسية بالأساس خاصة في الوقت الراهن، فالصعود الصيني يعد صداميًا أيضًا لكن من الناحية الاقتصادية، وإن تضَّمن الأبعاد الأخرى من السياسي والعسكري والثقافي (القنوات الإخبارية، الدراما والأفلام، الترجمات…) تنافسًا على المكانة العالمية، ما تجلى في الصراع التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ التسعينات وإبان تأسيس منظمة التجارة العالمية، وصولًا إلى بدايات وتداعيات جائحة كوفيد 19. ومن جانب آخر بدأ النفوذ الصيني في التمدد سياسًيا واقتصاديًا وثقافيًا في أجزاء عديدة من العالم خاصة آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، في منافسة مع القوى التقليدية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، تمددًا يبدو ناعمًا وهادئًا ليس فيه صدام، ولكن فيه إمارات توغل اقتصادي بشكل أساسي؛ ينذر بسياسات هيمنة مستقبلية في ظل عمليات بناء شبكات تحالف مصالح مرنة سواء مع روسيا أو أوروبا أو قوى آسيوية آخرى.

وكما هو الوضع مع روسيا، بدأت الصين في محاولة استعادة مناطق تعدّها جزءًا منها وبالأخص تايوان وهونج كونج (التي انفصلت عنها نتيجة للاستعمار البريطاني)، وعلى مدار العقود الماضية كانت الصين تحاول استرجاع هاتين البقعتين؛ خاصة تايوان التي عرضت عليها الصين تطبيق (نظام دولة واحدة ونظامان) كما هو مطبق في هونج كونج؛ إلا أن تايوان رفضت هذا العرض، ويتجدد التوتر بين الطرفين من حين لآخر؛ الأمر الذي تفاقم مع صعود دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة  والإعلان عن تواصل سياسيٍّ بين الجزيرة التايوانية والولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر من جانب،  ما زاد من التوتر حتى وصل إلى تهديدات صينية باجتياج تايوان، ومن جانب آخر تتجدد التوترات أيضًا بين هونج كونج والصين على خلفية ملف حقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية.

من ناحية ثالثة، تبلور الصعود الهندي على المستوى الاقتصادي منذ بداية الألفية الجديدة؛ حيث أصبحت الهند تُعدّ أقوى خامس اقتصاد على مستوى العالم، متجاوزة العديد من الدول الأوروبية، إلا أنها في السنوات الأخيرة عادت تعاني مشكلات سياسية وثقافية (دينية) نتيجة لسياسات حكومة ناريندرا مودي مما يؤثر على استقرارها الداخلي وعلى وضعية حقوق الإنسان بها والثقة الخارجية في اقتصادها، لاسيما في علاقاتها مع الغرب. ولذلك تلجأ الهند إلى إقامة تحالفات مرنةوأوّلية مع قوى آسيوية أخرى خاصة روسيا مع الاحتفاظ بتحالفها القديم مع الولايات المتحدة الأمريكية، هذا بالإضافة إلى الإشكاليات الخارجية الناتجة عن وضعها الإقليمي من حيث الصراع مع باكستان ومخاوفها المعلنة من تجدد صعود طالبان.

في المجمل، تعد آسيا اليوم مسرحًا للتأثير الأبرز على مستوى العالم من حيث الوضع الاقتصادي والسياسي، حيث تنتقل موازين القوى من الغرب إلى الشرق، ليس فقط في روسيا والصين والهند، ولكن الصعود الآسيوي يشمل قوى صغيرة ومتوسطة مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية ودول الشرق الأقصى مثل ماليزيا وإندونيسيا  وفي القوقاز وفي آسيا الوسطى وفي آسيا الصغرى (تركيا) وغرب آسيا (إيران)، مما جعل بعض المتابعين يطلقون على هذا القرن (القرن الآسيوي)، لذلك يهدف هذا العدد لدراسة الصعود الآسيوي ومؤشراته ودلالات ذلك على النظام العالمي، وقواه الكبرى المختلفة خاصة في العقد الأخير.

ومن جانب آخر، يتجه هذا الصعود الآسيوي نحو المنطقة العربية والعالم الإسلامي بقوة لإقامة تحالفات واستعادة مناطق نفوذ وبسط سيطرة، فالدور الروسي في سوريا يعد من أهم أبعاد صراعها مع الانفراد الغربي بالشرق الأوسط، وبتدخلها ذلك أطالت روسيا أمد الأزمة السورية وفاقمت من آثارها على المنطقة برمتها،  في الوقت الذي تواصل الصين فيه توغلها الاقتصادي خاصة في دول الشمال الأفريقي، وتتنافس القوتان –روسياوالصين- مع أصحاب المصالح مثل فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فما هي حركة التحالفات كل من روسيا والصين في المنطقة العربية؟

وفي القلب في هذا الصعود نجد الدول والأقليات الإسلامية في آسيا تتفاعل وتؤثر وتتأثر بهذا الصعود سلبًا وإيجابًا، فمن جانب تتصاعد إشكاليات العديد من الأقليات في الدول الآسيوية غير الإسلامية خاصة بعد جائحة كورونا والتي فاقمت من تلك المعاناة؛ مثل معاناة الإيجور في الصين، التي مارست سياسات العقاب الجماعي ضد أقلية الإيجور، في منطقة شينجيانغ،  فتعرض ما لا يقل عن مليون من المسلمين إلى الاعتقال في المنطقة، وتم احتجازهم في معسكرات خارج نطاق القضاء أو إرسالهم إلى السجون، وقدم محتجزون سابقون وسكان شينجيانغ مزاعم بشأن تعرضهم للتعذيب والتعقيم القسري والاعتداء الجنسي، فيطرح السؤال نفسه كيف يمكن وقف ما يحدث للإيجور في ظل المنحنى الصاعد للصين؟

وليس ببعيد عن تلك الأزمة، ما يتعرض له المسلمون في الهند منذ عقود لأنواع من الاضطهاد، وتزداد حدة الانتهاكات الجسيمة التي أسفرت عن سقوط آلاف القتلى، يوماً بعد يوم نتيجة التحريض السياسي والإعلامي، خاصة منذ عام 2014 وبدء فترة ولاية ناريندرا مودي، وطرح قانون تعديل المواطنة من قبل الحكومة، فما الذي يواجه المسلمون في الهند في ظل المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية؟

أما فيما يتعلق بالروهينجا في ميانمار بالإضافة إلى تدمير قرى بأكملها وفرار نحو 750 ألفاً منهم إلى بنجلاديش هرباً من الفظائع وجرائم الاغتصاب والقتل خارج نطاق القانون، وعدم الحصول على أي جنسية، فتواجه الأقلية  المسلمة الآن الحكم العسكري بعد الانقلاب الذي وقع في مارس العام الماضي،  وعادة ما يرتبط الحكم العسكري في ميانمار بمزيد من العنف نحو المسلمين في ظل غياب اهتمام أو تدخل  إقليمي أو عالمي حقيقي لمواجهة هذه المأساة.

وفي هذا الإطار تشهد منطقة القوقاز صراعات جيو استراتيجية نتجية توازنات القوى في المنطقة، ومن جانب آخر هناك العديد من الإشكاليات التي تواجهها نتيجة لهوية بعض الدول الإسلامية.

ومن جانب آخر، تعد منطقة آسيا الوسطى (أوزبكستان، طاجاكستان، فيزغيزستان، كازاخستان، تركمستان) ساحة جيوسياسية تتكشف فيها منافسات كبيرة على النفوذ، حيث تعدّ روسيا لاعبًا مهمًا تقليديًا في هذه المنطقة ذات الأغلبية المسلمة، في الوقت الذي يبدو النفوذ الصيني متصاعدًا بقوة من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، وتحاول الهند إقامة تحالفات استراتيجية في هذه المنطقة أيضًا، ما يصب في سخونة واتساع التنافس الدولي والإقليمي في المنطقة، وتتعدد أوجة التعاون والصراع مع هذه الدول ما بين الاقتصادي، والسياسي، والأمني، لاسيما ما يعرف بالحرب ضد الإرهاب.

وتواجه باكستان متغيرات إقليمية عديدة، فمن جهة عودة طالبان إلى حكم أفغانستان وما قد يعنيه من اضطرابات عند الحدود وتغيير في التحالفات الإقليمية، ومن جهة أخرى تواجه باكستان الحكومة الهندية المتشددة التي تؤزم الوضع في كشمير من خلال قرار الضم الأخير، وتوغل كل من روسيا والصين في سياسات وتحالفات المنطقة، كل ما يبق يضع باكستان أمام العديد من التحديات والمناروات للتعامل مع السياقات الإقليمية والعالمية المتغيرة.

إن وضع المسلمين والدول الإسلامية في آسيا يشهد نجاحات جديدة كما في بنجلاديش مثلا البالغ عدد سكانها 160 مليوناً، والتي ظلت لمدة عقود طويلة واحدة من أفقر دول العالم أجمع، ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، برزت بكونها قوة آسيوية ناشئة نجحت في تحقيق معدلات نمو متميزة، حيث يتوقع لها استمرار النمو خلال العقد الحالي، وذلك على الرغم من الكوارث الطبيعية والمعوقات الاقتصادية والسياسية.

فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس والعشرون ـ يوليو 2022

___________________________

* يركز هذا العدد على الدول الآسيوية الصاعدة وملفاتها الساخنة المطروحة على الساحة، لذلك فهناك دول لم يتناولها العدد مثل أفغانستان والذي ركز عليها العدد الرابع والعشرين من قضايا ونظرات، وإيران وتركيا والتي تم تناولهما في العديد من التقارير السابقة، أما باقي الدول فقد صعدت في أوقات سابقة ولا تشهد أزمات حالية مثل اليابان وماليزيا وأندونسيا.

**مراجعة: مدحت ماهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى