بين احتفالات ثلاث : الاحتفال المخذول والاحتفال بالاحتلال والاحتفال بالتفعيل على أرض الواقع

الاحتفال بمرور أربعة عشر قرنا على الفتح الإسلامى لمصر: الاحتفال المنسى والذاكرة المخذولة:

“أصبح القبط بعد الإسلام فى مأمن من الخوف، وعادت الحياة إلى مذهب القبط فى الجو الجديد – جو الحرية الدينية”

(من كتاب الفريد. ج .بطلر: فتح العرب لمصر).

“إن الأقباط الذين كانوا بالفرما عاونوا الجيش الإسلامى ورحبوا به”

(ابن الحكم. فتوح مصر وأخبارها).

“رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة أميرهم كواحد منهم ما يعرف  رفيعهم من وضيعهم ، ولا السيد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف منهم أحد ، يغسلون أطرافهم بالماء ويتخشعون فى صلاتهم”

(من كلام رسل المقوقس للصلح مع عمرو بن العاص).

“بسم الله الرحمن الرحيم  ، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم ، وبرهم وبحرهم ، لا يدخل عليهم شىء من ذلك ولا ينتقص..”

(ديباجة الصلح وعهد الأمان الذى أعطاه عمرو بن العاص ، فى تاريخ الطبرى).

الاحتفال بمرور قرنين على الحملة الفرنسية لمصر : الاحتفال بالاحتلال :

“سأستعمر مصر… سأستعمر مصر ، وأستورد الفنانين والعمال من جميع الأنواع والنساء والممثلين. إن ست سنوات تكفينى للذهاب إلى الهند لو سارت الأمور سيراً طيبا”.

(من مذكرات نابليون التى كتبها عن الحملة وهو معتقل فى جزيرة سانت هيلانة.)

“وفى عصر الواحد والعشرين من شهر أكتوبر 1798 أمر باقتحام الجامع الأزهر فقد ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت  والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر وحرروا عليه المدافع والقنبر…. وبعد هجمة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل ومروا فى الأزقة والشوارع ولا يوجد لهم ممانع… ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول. وتفرقوا بصحنه ومقصورته ، وربطوا الخيل بقبلته ، وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل…. وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأوانى والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ، ودشتوا الكتب والمصاحف ، وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها. وأحدثوا فيه وتغوطوا ، وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه ، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه”

(من تاريخ الجبرتى.)

“كان هدف حملة بونابرت على مصر ، تحويل مصر إلى مستعمرة لفرنسا تجنى من ورائها كسبا ، ولتحقيق هذا الهدف لم تكن اللجنة العلمية أقل أهمية من الجيش ”

(كريستوفر هيرولد فى كتابه : بونابرت فى مصر. )

“.. أن تغريب مصر أو فرض الحضارة الغربية عليها يطفئ طابعها ويكتم تألقها ويقلل من قوة إبداعها وإلهامها”

(بييرلوتى فى “موت فيلة”.)

“فى كل ليلة نقطع نحو ثلاثين رأساً أكثرها لزعماء الثورة ، وفى اعتقادى أن هذا درسا نافعاً” ”

(من مراسلات نابليون إلى رينييه.)

“ومنذ الحملة الفرنسية على مصر لم يعد لفرنسا أى وجود عسكرى إلا أنها قد استطاعت من خلال لجنة العلوم والفنون والمجمع العلمى أن تبذل قصارى جهدها لإدارة أعمالها السياسية والاقتصادية فى مصر على أكمل وجه”

(جاك بانقيل ، الحملة الفرنسية على مصر).

بعد حملة نابليون على مصر ، وهو على أبواب عكا ، دعا اليهود “إلى الاستيطان فى فلسطين لخدمة مصالح فرنسا…”. (دعوة نابليون لإقامة وطن لليهود فى فلسطين قبل قرن من ولادة الحركة الصهيونية. )

الاحتفال بمرور مئة عام على الصهيونية :

الاحتفال على أرض الواقع :

“أننى فى مؤتمر بازل (المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل السويسرية) قد خلقت الدولة اليهودية… ولكنى لم أجرؤ أن أقول ذلك علناً، وإلا ضحك العالم ساخراً منى، بما فى ذلك أغلبية اليهود، ربما فى خلال خمس سنوات وبالقطع خلال خمسين سنة سيدرك العالم، وأغلبية اليهود، أننى لم أكن أهزل… ولن يضحك علينا أحد، وإنما سينظر الجميع إلينا إما معجبين أو ساخطين، وليسوا ساخرين”.

من أقوال تيودور هرتزل فى اليوم الأخير

للمؤتمر الصهيونى الأول 31/8/1897م.)

“تسعى الصهيونية لإنشاء وطن للشعب اليهودى فى أرض إسرائيل مكفول فى ظل القانون العام ، ويقترح المؤتمر الوسائل التالية لتحقيق هذا الهدف : توفير السبل المناسبة لتوطين الفلاحين والحرفيين والصناع اليهود فى أرض إسرائيل (Ertz – Israel) ، تنظيم وتوحيد اليهود فى كل مكان بالوسائل ومن خلال المؤسسات المناسبة محليا ودوليا وطبقا للقوانين السائدة فى كل بلد يوجدون فيها. تقوية ورعاية المشاعر اليهودية القومية والوعى القومى بصفة خاصة ، واتخاذ الخطوات الملائمة ، حيث يتطلب الأمر لموافقة الحكومات المعنية لتحقيق أهداف الصهيونية ”

(برنامج ودستور عمل المنظمة الصهيونية العالمية).

إنشاء الدولة اليهودية بمقتضى قرار التقسيم رقم 181 الصادر من مجلس الأمن فى عام 1947 ، والذى يقضى بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين أحدهما “يهودية” “إسرائيل” ، والثانية لأهل البلاد من العرب “وعربية”.

“المؤتمر الصهيونى الأول هو أهم حدث فى تاريخ الشعب اليهودى منذ طردهم من فلسطين.. إلى الشتات قبل ألف سنة…….. ”

(القاضى برانديز ، أول يهودى يصل إلى منصب قاضى بالمحكمة الدستورية العليا فى الولايات المتحدة.)

فى إطار تلك الكلمات المختارة التى تشير إلى التعرف بماذا نحتفل ؟ يبرز الوعى بعالم الرمز وما يرتبط به من ذاكرة وهوية ووعى بعالم الرموز لهذه الأمة تقع الاحتفالات فى القلب منه.

نحن فى الحقيقة أمام ثلاث احتفاليات كل منها يعبر عن معنى ويحتوى على مغزى ومعانى الاحتفال “الاهتمام” “والتذكر” فى إطار يحرك عناصر الذاكرة القومية فيحفر فيها الحدث التاريخى ، وكأنه يعيش اليوم ويحفز الفعل الحضارى ليشكل رموز الفاعلية الحضارية.

والمعنى يكمن فى قدرات الدولة الرمزية، هذه القدرة الرمزية واستثمارها فى صياغة الوعى والذاكرة ، ومن المفروض حتى تؤتى القدرة صحة وعافية فى الكيان أن تكون نابعة ، لا تابعة.

ومن أهم قدرات الدول تلك الاحتفالات الرمزية لأنها تعبر عن الذاكرة الحضارية للوطن والمواطن. إلا أن الاحتفالات كقدرات نابعة ورموز حافزة تتطلب منا أن نتأمل “المعنى” و “المغزى ” فى هذه المقام.

“احتفال مخذول” طالب به البعض ، وأكد على حفزه للذاكرة الحضارية وضرورته وهو “الفتح العربى الإسلامى لمصر” ، وهذا الاحتفال أريد له أن يُطمس. وقد تعود العرب أن يتناسوا بعض مأثوراتهم. إلا أن الأمر الأخطر كان “بالاحتفال بالاحتلال” الحملة الفرنسية على مصر يمر عليها قرنان ، ومؤسسة رسمية كرست جهدها للاحتفال بالحملة النابليونية كعلامة رمزية… على ماذا ؟ على العلاقات بين مصر وفرنسا ؟! رمز لأية  علاقة ، علاقة أكدها المرسوم النابليونى الذى يهدف كلما حطّ فى بلد أن يلبس لبوسها لتحقيق هدفه فى إطار “الإمبراطورية العالمية” ولعله رأى أن مصر مفتاح الشرق ، يالهول الاحتفال : الاحتفال بالاحتلال : كيف ؟ ولماذا ؟

أما الاحتفال الثالث فإنه احتفال ” بفاعلية” “واحتلال” معا ، إنه الاحتفال بمرور مئة عام على الصهيونية ، احتفال بحلم دولة إسرائيل الذى تحقق مثلما أعلن عنه هرتزل. وصار الحلم الإسرائيلى والأساطير المرتبطة به واقعا ملموسا وأكيدا ، بينما صار الممكن العربى مستحيلاً ، إنها احتفالات ليست إلا تتويجا لعمل على الأرض. عمل تراكم أكد على معنى الفاعلية ولو بالاحتلال وصار الحق العربى مضيعاً ، والوهم الإسرائيلى واقعاً.

فهل رأيت أمة حتى فى التعامل مع عالم رموزها :

تحتفل بأضرارها ورموز ذلك (الحملة الفرنسية) ، وتغفل عن الاحتفال بما يصب فى كيانها وعافيتها (الفتح الإسلامى لمصر) ، ولا تتعلم معنى ومغزى الاحتفال من أعدائها (الاحتفال بمئة عام على الصهيونية) ؟! إنها القدرات حينما تكون تابعة : الإرادة التابعة والعقل المغيّب.

فهل غاب عنا كيف نتذكر ونعتبر بأيام الله ؟!

ففى السابع من إبريل عام 1998م.الموافق العاشر من ذى الحجة فى العام 1418هـ يكون قد مضى أربعة عشر قرنا كاملة على الفتح الإسلامى لمصر. فالبداية الأولى للمجىء الإسلامى لمصر كانت يوم 10 من ذى الحجة عام 18هـ الموافق 12 من ديسمبر عام 1639م. وفى 29 أغسطس 1997 يكون قد مّر مائة عام على انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل السويسرية. وقبل أن تكتمل المدة الزمنية القصوى التى حددها هرتزل، وهى خمسون عاماً كانت الدولة اليهودية قد ولدت بالفعل حيث أعلن هذا الميلاد رسمياً فى قرار التقسيم لفلسطين بواسطة الأمم المتحدة عام 1947 (القرار 181).

وفى 1798 ميلادية طرحت فكرة غزو مصر كبديل لغزو إنجلترا ، وفى 19 مايو 1798 بونابرت يبحر إلى مصر على رأس جيش الشرق.

أزمنة ثلاث تقاطعت ، كل منها عُبر عنه باحتفال والاحتفال بالأيام المجيدة فى حياة الأمة هو أحد وسائل بناء قوتها المعنوية وتثبيت هويتها الذاتية ، وبقدر عظمة الذكرى يكون أثرها الإيجابى فى بناء قوة الأمة ودعم شبكة النسيج الاجتماعى والسياسى والثقافى بين أبنائها.

وفى ضوء ذلك سنرى فى يوم الفتح الإسلامى لمصر يوما مطموسا مغيبا ، يراد للذاكرة أن تنساه ،والإشارة إلى ضرورة الاحتفال بذلك يعنى تنشيط الذاكرة الحضارية للأمة وموضع الإسلام فى هويتها.

وسنرى احتفالا بالحملة الفرنسية على مصر ، احتفال بالاحتلال ، يأتى على الهوية فيموه عليها ،وعلى الذاكرة فيدلس عليها باسم التنوير ومع ذلك ظل هؤلاء ومن يعتقدون أن هويتهم وقيمتهم لا تكون إلا عبر الغرب أو العلاقة معه ، فى إطار مسخ الهوية يأتى احتفال التغريب والتمويه على الذاكرة.

أما الزمن الثالث فهو احتفال إسرائيل بمئة عام على الصهيونية ، كمؤشر على أن الجدية التى أخذ بها الصهيونيون الأوائل حلمهم – تخطيطا وعملا وتنفيذاً ، كان يقابلها غفلة عربية – إسلامية عامة ، كانت أغلبية العرب والمسلمين إما تغط فى نوم عميق أو كانت تشغلها أمور أخرى ، فلم ينتبه العرب والمسلمون للمخطط الصهيونى إلا مع وعد بلفور البريطانى فى نوفمبر 1917 ، للحركة الصهيونية العالمية بمساعدة اليهود بإنشاء وطن قوى لهم فى فلسطين ، وكانت رحلة العرب من الغفلة والإذعان ، بينما كانت رحلة الصهيونية من الفعل إلى التفعيل.

ثلاث لحظات كاشفة وفارقة تعبر عن المعانى الرمزية الاحتفالية وتحرك الذاكرة إلى مقاصد تختلف من طرف إلى طرف ، وتعبر عن معنى ومغزى مختلف يؤكد كيف تبنى الذاكرة الحضارية وعياً وسعياً.

أين نحن من هذه الاحتفالات والمعانى الكامنة فيها والمغزى القاصد لها ؟!.

ما بين الاحتفال المخذول الذى يراد له أن يطمس “الاحتفال بالفتح الإسلامى لمصر” ، واحتفال العدو “بمرور مائة عام على الصهيونية” الذى عبر عن احتفال جعل الوهم والحلم واقع على الأرض فى إطار حركة فاعلية مخطط لها ، يقابلها وهم عربى أضاع حقا ومكن بضعفه لواقع مفروض. وبين الاحتفال المنسى المطموس فى الذاكرة ، واحتفال تُوج على أرض الواقع (للدولة الإسرائيلية) التى تفرض منطقها ، يقع احتفال غريب يحتفل فيه “بالاحتلال” ، هذا الاحتفال يستحق منا رصد توجهات الحوار حوله ضمن متابعة لعالم الرموز ، عالم رموز ينتمى إلى غيرنا أكثر مما ينتمى إلينا ، وهو رمز يمثل غزونا واحتلالنا أكثر مما يكون لنا أو يعبر عن استثمار الطاقات الرمزية([1]).

“الجدل حول الحملة الفرنسية ، وآليات الحوار على الساحة الفكرية”

“بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله لا ولد ولا شريك له فى ملكة ، من طرف الفرنساوية المبنى على أساس الحرية والتسوية السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته : يعرف أهالى مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون فى البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار فى حق الحملة الفرنساوية.. فحضر الآن ساعة عقوبتهم يا أيها المصريون… قولوا للمفترين أننى ما قدمت وإليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين.. أيها المشايخ والقضاة والأئمة قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا فى رومية الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا الذى كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين”([2]).

“سياستى هى أن أحكم كما تريد الأغلبية… لقد انتصرت فى حرب الفانديه لأننى أعلنت أننى كاثوليكى ، واستقريت فى مصر لأننى أصبحت مسلما ، وكسبت النفوس فى إيطاليا لأننى أصبحت من أتباع البابا ، ولو كان علىَّ أن أحكم يهودا ، لأعدت بناء معبد سليمان”([3]).

بالرسالة الأولى بدأ نابليون حملته  العسكرية على مصر عام 1798 ، تلك الحملة التى كان الجدل حول الاحتفال بمرور مائتى عام على حدوثها باعتبارها بداية للعلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا هو الجدل الفكرى الأكبر على الساحة الثقافية المصرية -والعربية أيضاً- خلال العام المنصرم ، وقد وفر نابليون على المشاركين فى الجدل محاولة استشفاف غرضه الحقيقى من الحملة ومقصده من الرسالة التى افتتح بها وجوده فى مصر حينما أقر بعد نحو عشر سنوات فى خطابه أمام مجلس الدولة الفرنسى بأن سياسته هى التلون حسب المكان الذى يقصده كما يتضح من الرسالة الثانية.

إلا أن هذا الإقرار لم يمنع من زيادة سخونة الحوار الذى تحول يمضى الوقت إلى ما يشبه الصدام الثقافى ، وتكاتفت عوامل عديدة لكى تزيد من المساحة التى شغلها الجدل.

بدأ الأمر حين أعلن عام 1997 أن عام 1998 سوف يشهد ترسيخا للتعاون بين مصر وفرنسا ، وبهذه المناسبة أعلن عن عقد احتفاليات متعددة ما بين معارض فنية، وندوات مشتركة وغيرها من أشكال التعاون الثقافى.

وحينما أعلن أن مناسبة تلك الاحتفاليات ستكون مرور مائتى عام على حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 باعتبار الحملة بداية للالتقاء المباشر بين مصر وفرنسا ارتفعت بعض الأصوات ذات النبرة الخافتة – فى البداية- تعترض على اتخاذ الحملة مناسبة للاحتفال حتى مع الاعتراف بالفوائد الحضارية التى كسبتها مصر ، وأكدت على أن التقدير المفترض لكفاح المصريين ضد الحملة يفرض تأجيل الاحتفالات عاما ليوافق ذكرى مرور مائتى عام أيضاً على العثور على حجر رشيد والذى أدى فك رموزه بعد ذلك إلى فهم أسرار اللغة المصرية القديمة مما أعاد اكتشاف هذه الحضارة العظيمة وقدم للعالم الوجه المبهر لها.

وسرعان ما وُجِهت تلك الأصوات بنبرة حادة من وزارة الثقافة – التى أشرفت على إعداد الاحتفالات. وأكد وزيرها على أن الاحتفال لصالح مصر أساسا وأن لمصر مكاسب اقتصادية وإعلامية من وراء هذه الاحتفالات ، وبينما كان الوزير يواصل عرض وجهة نظره فى برنامج مصور أذيع بالتلفزيون المصرى صدَّق على وصف المذيع لمعارضى الاحتفال بالجهل !

وسرعان ما تعالت الأصوات وكثر المتصدون للرد على الوزير ، وأتخذ الأمر منحى جديداً حينما كتب أحد المفكرين مقالاً بصحيفة الأهرام المصرية يتحدث فيه عن الأثر الحضارى والثقافى للحملة مشابها بينها وبين الوجود العسكرى  المصرى باليمن إبان الثورة اليمنية الذى أمتد من 1962-1967. وتلى ذلك تكرار وزير الثقافة المصرى لنفس الكلمات تقريبا فى جلسة عقدها مجلس الشعب المصرى. وبادر العديد من المتواجدين بمن فيهم عدد من أقطاب الحزب الوطنى الحاكم بالتصدى للوزير والتأكيد على عدم جواز المقارنة وعلى نبل الأهداف المصرية فى مساعدة الثورة اليمنية ، ليبادر الوزير بالاعتذار ويؤكد أن الأمر لم يتعد كونه “زلة لسان”.

ووجدها الجميع فرصة لاعادة فتح ملف الحملة الفرنسية برمته وتتبع الأسباب والآثار التى خلفتها سواء فى المصادر العربية أو حتى الفرنسية. وكثر المتكلمون من كافة الاتجاهات وفى كافة الصحف المصرية وبعض الصحف العربية وصدرت العديد من الكتب بهذه المناسبة وأعيد طبع البعض الآخر ليتحول الأمر بحق إلى “معركة” فكرية لم ينقشع غبارها إلا منذ وقت قصير.

وفى استعراضا لما حدث يجدر بنا التعرض لمحاور عدة

أولاً : رصد الاتجاهات التى شاركت فى الحوار.

ثانياً : محاولة الإجابة عما إذا كانت سعة الحوار تتناسب مع حجم القضية المثارة أم لا ؟ بصيغة أخرى… لماذا اتسع الحوار؟.

ثالثاً : دور الحوار فى الكشف عن آليات التحاور على الساحة الفكرية فى مصر.

 

أولاً : اتجاهات الحوار.

يمكن التمييز بين فريقين كبيرين شاركا فى الحوار.

الأول : يؤكد على أن الحملة كانت عسكرية بالأساس إلا أنها خلفت آثاراً حضارية وثقافية لا يمكن إنكارها.

الثانى : ينكر وجود أى آثار إيجابية للحملة ويؤكد أن الآثار الثقافية التى يدور الحديث عنها هى أوهام زائفة ، ويتفرع عن هذه الفريق اتجاه يرى تحقيق “بعض” المكاسب الثقافية لمصر ولكن ليس بسبب الحملة وإنما بسبب الخبراء الفرنسيين الذين جاءوا إلى مصر أثناء حكم محمد على وشاركوا فى نهضتها.

وفيما يلى نستعرض – باختصار – خطاب الفريقين…

الاتجاه الأول

طرح أنصار هذا الاتجاه حججا عديدة لتبرير الاحتفال.

فعلى سبيل المثال حذر المؤرخ يونان لبيب رزق من الوقوع فى الأحكام السهلة من قبيل “القمع الدموى” عند الحديث عن مساوئ الحملة الفرنسية ، ويؤكد على أن المظالم الاجتماعية قبل قدوم الحملة كانت كبيرة للغاية. وأنه رغم أن سليمان الحلبى قاتل كليبر قد لقى حتفه على الخازوق فإن دلالة انتداب السلطات الفرنسية أحد المحامين للدفاع عنه ينبغى ألا تغيب عنا”([4]).

ودعى الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى إلى التمييز بين الحملة الفرنسية وبين العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية ؛ فالحملة عدوان استعمارى قاومه المصريون حتى أجبروا الفرنسيين على الرحيل ، أما العلاقات الثقافية فقد بدأت أثناء الحملة وكانت ركنا أساسيا من أركان النهضة المصرية التى لمعت فيها أسماء الطهطاوى ومحمد عبده وعلى مبارك ، وطه حسين وهيكل والسنهورى والحكيم ، والتوافق فى التاريخ يجب ألا يمنعنا من الاحتفال بهذه العلاقات الثقافية والذين يهاجمون هذه الاحتفالات مجموعة من المعقدين الذين يفضلون أن ننكر ونتجاهل هذا الحدث([5]).

ويشير حجازى لأن هناك أشياء عظيمة فى العالم حدثت من خلال الغزو ، ويذكر الاحتفال بتجديد مكتبه الإسكندرية رغم أنها تنتمى للعصر البطلمى الذى ينبغى اعتبار حكامه وطنيين لأنهم أقاموا حكومة مستقلة فى مصر وفقدوا علاقتهم بوطنهم الأصلى ويشابه بينهم وبين العرب بقوله” وكذلك الأمر بالنسبة للولاة العرب ، وغير العرب منذ فتح مصر.. هل نعتبرهم غزاة ؟ طبعا هم غزاه ، ولكنهم بالنسبة لنا الآن -وقد تعربت مصر واعتنقت الإسلام- يختلفون عن الرومان مثلاً ، رغم أن هؤلاء غزاة وأولئك غزاة”([6]).

وطرح الكاتب عاصم دسوقى فكرة تغيير مدخل التفكير فى الحملة مؤكدا أن المدخل الأخلاقى الذى يستخدمه من يعارضون الاحتفالات لا يصلح للتفكير إذ لا يصح أن نحكم عليها بهذا المعيار لأن كل ما حدث من مآسى يمكن وضعه فى إطار الأعمال الاستثنائية التى تصاحب عمليات الحرب والغزو”([7]).

وأكد الكاتب أن للاحتفال قيمه إيجابية لابد أن ندافع عنها هى قيمة العقل ودعا إلى توسيع منهج النظر إلى نابليون وعدم التعامل معه على أنه عسكرى دخلت خيوله الأزهر “فالعثمانيين أيضاً عندما جاءوا مصر دخلوا المساجد وتعقبوا المماليك الذين قاوموهم ، وذبحوهم فى المساجد”([8]).

ويعدد أحد الكتاب فضل الحملة الفرنسية على مصر – قديما وحديثا- بقوله” لا يجب أن ننسى إنارة القاهرة ، وبحوث العلماء وغيره إن ذلك كان عملا لا يمكن أن يؤديه المماليك أو الأتراك ونحن الآن نحزن ونكتئب لأن الإرهابيين يخربون السياحة ويدمرون الاقتصاد ، وهؤلاء السياح لم يكونوا ليوجدوا من الأصل إلا بفضل شامبليون الذى كشف لنا عن تاريخنا، أما حكاية الغزو فقد انتهت كما ينتهى أى غزو أحيانا بلا ثمار لا يخلف إلا كثيرا من المجازر ويسجل صفة سوداء فى التاريخ لكن الحملة الفرنسية سجلت إلى جوار الصفحة السوداء صفحات بيضاء كثيرة”([9]).

ولعوامل عديدة – سنتعرض لها لاحقا- اتسع نطاق الجدل ووصل الأمر إلى أن يربط الداعون للاحتفال موقفهم بمهاجمة التاريخ المصرى ما قبل الحملة ويعتبرونه عصر إظلام تام. ويشككون فى أغراض من يعارضون الاحتفالات فنجد أحمد عبد المعطى حجازى يشن هجوماً حاداً على من يعارضون الاحتفالات وأتهم من يعارضونها بأنها جماعة تتاجر بالدين وتعتبر نفسها أكثر وطنيه من غيرها وتسعى للقطيعة مع الحضارة الغربية وتنتهز الفرصة لركوب الموجة زاعمة لنفسها غيرة على الوطن والدين ، وربط بين رفض هؤلاء الاحتفال بالحملة وبين الحكم العثمانى لمصر وشبه هذا الحكم بالاحتلال البريطانى واعتبره كارثة كبرى على مصر وأن العثمانيين كانوا أجلافا متبربرين تحولت البلاد على أيديهم إلى ولاية فقيرة مستعبدة منحطة وأن البريطانيين الذين احتلوا مصر لم يكونوا أقسى عليها من العثمانيين وربما كانوا أخف وطأة”([10]).

وأنه رغم مقاومة المصريين للفرنسيين إلا أنهم كانوا أكثر تحضرا من تلك “الحثالة” صاحبة الحق الشرعى وأقرب منها إلى التسامح والعدل والإنسانية وهذا ما لا نشهد به نحن الآن ، وإنما يشهد به معاصروهم من المثقفين المصريين كالجبرتى الذى يمدح الفرنسيين لإبطالهم السخرة ، وعدلهم فى تقدير أجور العمال وقتلهم الكلاب الضالة ، ودقتهم فى صرف العملة… حتى ينتهى للقول إن جميع معاملة الكفار سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين”([11]).

ويعدد المؤرخ يونان لبيب رزق ثلاثة آثار هامة للحملة الفرنسية تبرر اتخاذها نقطه بدء مناسبة لتحقيب تاريخ مصر الحديث.

الأول : أن الحملة الفرنسية نجحت فى إشعال روح المقاومة الوطنية التى خمدت بامتداد الحكم العثمانى الثلاثة.

الثانى : أن الحملة الفرنسية أسقطت الشرعية التى ظل يلتحف بها العثمانيون والمماليك.

الثالث : كانت البداية لاعادة اكتشاف المصريين لوطنهم الذى كانت الرمال قد طمرت أغلب أثاره وعلى اعتبار أن مصر هى طليعة الثقافة العربية والإسلامية لم يكن ينقصها سوى استخدام أدوات العصر بما وفرته المطبعة الفرنسية والحقيقة أننا لا يمكن أن نجارى المؤرخ الكبير يونان لبيب رزق فى مجال اختصاصه ولا نملك القدرة على سوق الدلائل والحجج التى تجارى حججه ، ورغم ذلك يمكن القول أن: روح المقاومة الوطنية لم تخمد بامتداد الحكم العثمانى بل إن مصر شهدت تحركات عديدة قادها العلماء وسارت وراءهم فيها جماهير الشعب للاحتجاج على تعسف المماليك والعثمانيين فى الحكم وكان عام 1795 عام وقفه شجاعة ضد المماليك تحديداً تعهدوا بعدها بالحكم العادل ودفع المظالم ، إضافة لذلك فإن الروح التى تخمد لثلاثة قرون لا يمكن لها أن تقوم فى ساعات ، إذ بدأت مقاومة المصريين للحملة فى الإسكندرية لحظة نزولها الشواطئ المصرية.

أما المطبعة الفرنسية ، فالثابت أنها لم تظل فى مصر وإنما أخذها الفرنسيون معهم وهم راحلون ، كما أنها لم تستخدم فى إثراء الحياة الثقافية والعلمية فى مصر بل كانت وسيلة للجيش الفرنسى يعلن فيها عن معارك نابليون التى قادها وعن الأوامر الجديدة التى ينبغى على المصريين تنفيذها وإلا تعرضوا الأقسى أنواع العقاب بما فيها الإعدام ومصادرة الأموال. ولم تكن المطبعة فقط هى ما يعتمد عليه نابليون فى إبلاغ أوامره والترهيب من عصيانها بل  كانت الوسيلة الأنجح من وجهة نظره هى ما ورد فى رسالة إلى (زايونشك) قومندان المنوفية فى 30 يوليو 1798 قائلاً “يجب أن تعاملوا المسلمين بمنتهى القوة ، وإنى هنا أقتل كل يوم ثلاثة أفراد يطاف برؤوسهم فى شوارع القاهرة فهذه هى الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس”([12]).

الاتجاه الثانى :

شن أنصار هذا الاتجاه حملة مكثفة على الدعوة للاحتفال بالآثار الثقافية للحملة ، وشاع الربط عند بعضهم بين الدعوة لذلك وبين انعدام الوطنية للداعين لهذا ، وتصدى بعض أنصار الاتجاه لتفنيد أية آثار إيجابية محتملة للحملة وقرنوا ذلك بالتأكيد مرات عديدة على الفظائع التى ارتكبها جنود الحملة فى مصر مستعينين بنصوص فرنسية مترجمة ، بالإضافة لكتابات المؤرخين المسلمين الذين عاصروا الحملة مثل الجبرتى.

والحق أن الاستعانة بتلك النصوص المترجمة يعد نقطه إيجابية فى صالح أنصار هذا الاتجاه إذ مكنت المتابعين للجدل من الإطلاع على رؤية فرنسية “من الداخل” للحملة وإن كانت كافة تلك النصوص تتحدث عن الفظائع التى ارتكبها الجيش الفرنسى وهى وإن كانت هامة إلا أنها لم تخدم نقطة الاختلاف الأساسية وهى هل كانت هناك آثار ثقافية للحملة أم لا ؟

ويناقش الدكتور سعد ظلام مسألة الأثر الثقافى للحملة ويقيم من وجهة نظره ما عد آثارا كبرى  أحدثتها الحملة.

ففيما يتعلق بإنشاء دار الكتب يقول : هذا عمل جيد ، ولكن ألم تكن مصر تعرف المكتبات ، إن مصر عرفت قيمة المكتبة والكتاب قبل قدوم الحملة والمكتبات لا تزال قائمة فيها مثل مكتبه الأزهر ، ومكتبة المدرسة المحمودية ، وغيرهما.

أما المطبعة ، فهذا عمل جيد لو حسنت فيه النوايا فالمطبعة كانت تخدم أغراض الحملة ، وكانت تطبع المنشورات التى تدعو الشعب إلى الاستكانة … ولم يؤثر عن مطبعة الحملة أنها طبعت كتابا عربيا واحداً ، ولقد أخذوها عند رحيلهم.

أما أمر الديوان فكانت مهمته جمع الضرائب والغرامات وحصر الأموال والمصادرة وتهدئه الناس وحثهم على الامتثال لأوامر سارى عسكر”([13]).

ويصف المستشار طارق البشرى الدور الفرنسى بأنه غزو استعمارى أنتج بعض الآثار الإيجابية دون قصد منه “فالفرنسيون لم يأتوا إلى مصر ليحدثوها أو لينهضوا بها ، ولم يكونوا رسل العناية الإلهية ، بل جاءوا للسيطرة على مصر والشام ، والنهضة والتطور ليس لهما علاقة بالحملة الفرنسية مباشرة بل ربما كان الدافع إليهما هو الاحتكاك بالغرب عموما… فالخطر يوقظ ويدفع إلى الوعى بضرورة الحفاظ على النفس ، وقد تكون هنا بداية النهضة : أى الاستعداد للمواجهة على كل المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت الحملة حافزا على النهوض على الرغم من الفرنسيين وليس بمساعدتهم فقد قامت النهضة غصبا عنهم”([14]).

ويرى رجاء النقاش أن الحملة الفرنسية فى جملتها كانت “فضيحة تاريخية” ولم ير المصريون فيها ذلك الوجه الحضارى الجميل الذى زعمت الحملة أنها جاءت به إلى الشرق لتنشر فيه النور والتقدم وحكم القانون”([15]).

بينما وصف فهمى هويدى الاحتفال بأنه “فضيحة ثقافية” ومع ذلك أكد على عدم الدعوة إلى مخاصمة الفرنسيين أو العداء لهم “لكننا ندعو فقط إلى احترام الذاكرة الوطنية للأمة ، والفصل بين توقيت احتلال فرنسا لمصر عام 1798 وبين أى جهد آخر لتنمية وتنشيط العلاقة بين البلدين”([16]).

وقد أتسع الجدل ليشمل المؤسسات الدينية فى مصر ففى ندوة بمناسبة الموسم الثقافى لجامعة الأزهر علق الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر على الاحتفال بقوله “إننا نرفض تماما الاحتفال بالحملة الفرنسية لأن هذا يتعارض مع الشريعة الإسلامية التى لا تقبل أن يحتفل بمن جاء غازيا للإسلام ، وأضاف : لكننا مع العلم والثقافة ، العلم الذى أمر به الإسلام والسنة النبوية والقرآن ، العلم الذى لا يعرف وطنا ولا ملة “([17]).وقد فسرت العبارة الأخيرة بأنها موافقة على الاحتفال بالعلاقات الثقافية دون الجانب العسكرى للحملة.

ويبدو أن الحملة الداعية لعدم الاحتفال أثمرت فى نتيجتين :

الأولى : صدور إشارات وصفت بأنها (تطمينية) من الجانب الفرنسى تؤكد أن هدف فرنسا هو توحيد العلاقات الثقافية وليس تمجيد ذكرى الغزو ، من بين تلك الإشارات : اختيار القاهرة أخيراً للانضمام إلى الجمعية الدولية للعواصم والمدن الناطقة – كليا أو جزئيا- باللغة الفرنسية والتى يشغل الرئيس الفرنسى شيراك منصب رئيسها الفخرى كذلك اختيار مصر لتكون ضيف الشرف فى مهرجان (تاليزو) للأفلام التاريخية والعلمية الذى أقيم فى فرنسا فى شهر يوليو 1998 وعرض فى افتتاحه وختامه فيلمان مصريان هما المومياء ، والبحث عن توت عنخ أمون.

 

الثانى : تغيير عنوان الاحتفاليات إلى مصر وفرنسا : آفاق من التعاون المشترك دون الإشارة إلى الحملة.

إلا أن ما حدث بعد ذلك كان غريبا..

إذ صدرت المنشورات الرسمية لمعرض القاهرة الفاطمية الذى أقيم فى باريس ضمن الاحتفالات لتؤكد على أن المعرض يقام فى إطار احتفالات فرنسا بالذكرى المئوية الثانية لغزوة بونابرت لمصر بعلمائه وجنوده…!([18]).

وهذا ما يشير لأن الجانب الفرنسى وافق على تغيير اسم الاحتفالات إلى الاسم الذى اقترحه المصريون ، إلا أنه تصور أن ذلك مطلب للاستهلاك المحلى المصرى نظراً للضجة التى أثارها بعض المثقفين المصريين واستمر فى طريقته للاحتفال بذكرى الحملة.

لماذا اتسع الحوار ؟

يمكن إرجاع ذلك إلى سببين :

الأول : تخبط وزارة الثقافة المصرية فى تحديد موقفها بشأن الاحتفال ففى ندوة عقدت بمعرض الكتاب فى بداية العام نفى وزير الثقافة أن يكون للاحتفال صلة بمرور مائتى عام على حملة نابليون على مصر وأكد أن الاحتفالية كان مقرراً لها أن تبدأ عام 1994 وأن الإشارة  إلى الحملة أو التاريخ لم ترد أصلا ، وقال أن القصد من الاحتفالية اقتصادى وإعلامى  ومعنوى خاصة بعد الحادث المؤسف فى الأقصر.

أما هدى وصفى مديرة مسرح الهناجر وأحد المسئولين عن الاحتفالات فقد أكدت على أن فرنسا تقيم كل سنة عاما من الاحتفالات مع إحدى الدول ، فقد احتفلت من قبل بعام مع تونس وعام مع المغرب ، وكان المقرر أن يكون عام 97 للسودان وعام 98 لمصر ولما وجدنا أن الموعد يتوافق مع ذكرى الحملة طالبنا بأن تبدأ الاحتفالات خلال يونية 1997([19]).

إننا إذن أمام تصريحين لمسئولين كلاهما يفترض أنه على إطلاع واسع على سياسة وزارته وعلى مخطط الاحتفال الأول يؤكد أن الموعد الأصلى للاحتفال هو عام 1994 ، وأنه من غير الممكن تعديل موعد الاحتفال.

الثانى : يؤكد أن عام 98 كان العام المحدد للاحتفال وأنه أمكن تقديم موعد الاحتفال 6 أشهر كاملة والسؤال ألم يكن ممكنا إذن تأخيره عشرة أشهر ليوافق ذكرى ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين؟

وحينما تأكد أن الاحتفالات كانت مخططه لإحياء الحملة الفرنسية أدلى وزير الثقافة بتصريح أكد أن الاحتفالات ترتبط بالحملة وهو عكس ما صرح به من قبل ! إذ صرح “نحن لا نحتفل بالحملة ولكن بآثارها التى استمرت ، نحتفل بالمطبعة ، بوصف مصر ، بحل رموز الهيروغليفية ، لماذا نتذكر ثلاث سنوات من الاحتلال. ننسى كل هذه الآثار العظيمة. ثم متى برزت العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا، شئنا أم أبينا بدأت مع الحملة الفرنسية”([20]).

ونحن بدورنا نتساءل.. ألم يكن من الأفضل توضيح ذلك الأمر فى مواجهة الكتاب والمثقفين أثناء الندوة التى عقدت بمعرض الكتاب فى أول العام بدلاً من فرض  سياسة الأمر الواقع ومواجهة الكتاب بالأمر على طريقة “الفأس وقعت فى الرأس” كما وصفها الناقد على الراعى.

الثانى : ربط المفكر فؤاد زكريا الحملة الفرنسية بالوجود العسكرى المصرى فى اليمن فى مقال له بعنوان “الحملة الفرنسية ودهاء التاريخ” ورغم أن الكاتب أوضح أن موضوع اليمن لم يكن إلا مثالاً توضيحيا وأن الجانب المشترك بين الحملتين هو التشابه فى فكرة دهاء التاريخ أى أن كلا منهما حملة عسكرية لابد أن تجر وراءها حربا بكل ما تؤدى إليه الحرب من ويلات وخسائر ومع ذلك ترتبت عليها نتائج حضارية وثقافية إيجابية بالنسبة إلى البلد الذى وقعت هذه الخسائر على أرضه. إلا أن ترديد وزير الثقافة لنفس الكلمات تقريبا فى مجلس الشعب المصرى بعد صدور المقال بفترة وجيزة قد استثار الكثيرين وبدا الأمر وكأن الاحتفال بالحملة يتعارض كلية مع المعايير الوطنية وينال من رموز مصرية وطنية كالرئيس الراحل عبد الناصر.

ولابد أن نشير أيضاً إلى رغبة البعض فى تشويه الحقائق ولى الكلام حسب أهواءهم لكى يجدوا فرصة للدلو بدلوهم وتسفيه من لا يشاركونهم الرأى.

وهذا ما ينقلنا إلى تناول آليات الحوار.

رغم أن الحوار بدأ هادئا إلا أنه أنتهى بغير ذلك ويمكن رصد العديد من الملاحظات حول آليات الحوار :

1- أن معظم المشاركين فى الحوار ممن يعارضون فكره الاحتفال أجهدوا أنفسهم فى التنبيه إلى أن الحملة الفرنسية كانت جزءا من مشروع استعمارى وهذا شئ يعرفه الجميع حتى من يؤيدون فكرة الاحتفال وإذا كان لابد من التذكير فليس هناك داع لأن تزداد مساحة التذكير هذه لتشغل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع السطور التى كتبت.

2- الإيحاء بأن القابلين لفكرة الاحتفال يريدون الاحتفال بذكرى الاحتلال الاستعمارى لمصر وهو ما أجهد الموافقون على الاحتفال أنفسهم أيضاً فى نفيه.

3- إقحام الآخرين فى الحوار والرد عليهم بما لم يرد على ألسنتهم والمثال الواضح هنا هو مقال د. فؤاد زكريا إذ يؤكد على ذلك بقوله “إننى لم أكن فى الأصل طرفاً فى النزاع حول الاحتفال أو عدم الاحتفال بل كتبت ما كتبت بنية طيبة وبدوافع موضوعية خالصة هى أن أثبت لطرفى النزاع أن التعارض بينهما يمكن إزالته بحيث يعد الموقفان معاً وجهين لحقيقة واحدة ، وكانت النتيجة أن طرفى النزاع نسيا خلافهما وأمسكا بتلابيبى”([21]).

4- استخدام عبارات السخرية والتصغير من شأن المخالفين من جميع الاتجاهات التى شاركت ويمكن رصد بعض هذه التجاوزات :

أ- وزارة الثقافة : وصف المعارضين للاحتفال بأنهم جهلة ومتخلفون.

ب- المؤيدون لفكرة الاحتفال : وصف الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى لمن يعارضون الاحتفال بأنهم “معقدون”.

كما وصف د. فؤاد زكريا من تولوا الرد عليه بصفات لا يصح استخدامها فى النقاش العلمى فوصف أحدهم بأنه : كويتب “تصغير كاتب” مغمور وأخر بأنه شخص يحترف الاحتيال على الأوساط الثقافية.

كما قام بالتشكيك فى الألقاب العلمية لبعض معا رضية.

واختزل من يعارضونه فى تيار وحيد هو تيار الإسلام الذى ينظر إلى عملية الاحتكاك الثقافى مع فرنسا على إنها كارثة الكوارث.

جـ- المعارضون : شنت جريدة العربى لسان حال الحزب الناصرى هجوماً حادا على وزير الثقافة وعلى د. فؤاد زكريا.

فقد وصفت وزير الثقافة بالجهل والأمية السياسية “فاروق حسنى يكذب ويغالط ويحاول أن يلبس قناع البراءة ، ويقدم تبريرات ساذجة مما يفقده احترام الجماهير، إن هذا الوزير الجاهل بتاريخ مقاومة الشعب المصرى وبطولاته لا يستحق أن يبقى فى موقعه يوما واحداً”([22]).

كما وصفت د. فؤاد زكريا بأنه “يكتب مقالاته بمداد من النفط بعد أن ترك مصر مكاناً للعمل وتنكر لها ولما فيها ” وواصلت القول بأن

“تلميذ المدرسة الإعدادية فى مصر يدرس الحملة الفرنسية على مصر ولا يختلف أحد على أنها استعمارية ، وعملية غزو لمصر. ويمكن للدكتور أن يطلب من أى تلميذ صغير كتاب التاريخ ليقرأ فيه أهداف الغزو الاستعمارى الفرنسى لمصر”([23]).

________________

إشراف أ.د.سيف الدين عبد الفتاح

الهوامش

([1]) انظر فى هذا :

* عبد الحليم عويس، أربعة عشر قرنا على الفتح الإسلامى : الفتح الإسلامى لمصر بين سياسة الدولة ومسيرة الدعوة ، مجلة المنار الجديد العدد الثالث ، صيف 1998.

* كمال حبيب  ، أربعة عشر قرنا على الفتح الإسلامى لمصر.. قراء معاصرة لأوراق الفتح ، مجلة المنار الجديد، العدد الثالث ، إبريل 1998.

* إبراهيم اليومى غانم ، مشروع إحياء ذكرى الفتح الإسلامى لمصر ، ورقة غير منشورة ، 1997م.

* ليلى عنان ، الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير ، القاهرة : دار الهلال ، مارس 1998م.

* د. سعد الدين إبراهيم ، علم النكبات العربية فى إدارة الصراع العربى الإسرائيلى ، القاهرة : مركز ابن خلدون للتنمية 1998م.

* ندوة مائة عام على الحركة الصهيونية 1897-1997 : دروس للحاضر والمستقبل ، من أعمال المنتدى الثقافى لمعهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة 29 نوفمبر 1997. مستلة من العدد 28 ، معهد البحوث والدراسات العربية ، ديسمبر 1997.

* برهان غليون ، مصير الصهيونية بعد قرن من ولادتها ، شئون الأوسط ، بيروت : مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق ، سبتمبر 1998.

([2]) الحياة 17/7/1998.

([3]) ليلى عنان ، الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير، القاهرة ، دار الهلال ، العدد 567 الطبعة الأولى ، مارس 1998 ، ص 135.

([4]) الأهرام العربى 6/12/1997.

([5]) الأهرام العربى 6/12/1997.

([6]) المرجع السابق.

([7]) المرجع السابق.

([8]) المرجع السابق.

([9]) حسن طلب ، المرجع السابق.

([10]) الأهرام 25/2/1998.

([11]) الأهرام 8/4/1998.

([12]) د. زينب عبد العزيز ، مائتا عام على حملة المنافقين الفرنسيين ، القاهرة ، دار النهار ، 199 ،ص13.

([13]) سعد ظلام ، خرافة الأثر الثقافى للحملة ، الأهرام 17/3/1998.

([14]) طارق البشرى ، الوسط 29/6/1998.

([15]) الأهرام 23/2/1998.

([16]) الأهرام 17/3/1998.

([17]) الأسبوع 6/4/1998.

([18]) محمد سلماوى ، الأهرام 6/7/1998.

([19]) المصور ، 6/4/1998.

([20]) المصور ، 6/4/1998.

([21]) الأهرام ، 18/3/1998.

([22]) العربى ، 16/2/1998.

([23]) العربى ، 9/2/1998.

*نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى