قراءات في الدلالات السياسية لإعلان كوبنهاجن ولقاء شيخ الأزهر مع ساسة ورجال دين إسرائيلين

وصف ما حدث:

أ – إعلان كوبنهاجن:

تم في العاصمة الدانمركية كوبنهاجن وتحت رعاية الحكومة الدانمركية والاتحاد الأوروبي عقد مؤتمر موسع يومي 29،30 يناير 1997 للعمل من أجل السلام في الشرق الأوسط، شاركت فيه وفود من مصر وإسرائيل والأردن وفلسطين والاتحاد الأوربي، وانتهي المؤتمر إلى إصدار إعلان كوبنهاجن والتحالف الدولي من أجل السلام، حيث تعد هذه أول مرة يعقد فيها مثل هذا التحالف الشعبي في تاريخ صراع الأمة مع الاحتلال الإسرائيلي.

وشارك في الاجتماعات أطراف مختلفة، فمن الجانب الأوربي شارك دييجو دي أوجين ممثلاً عن الاتحاد الأوربي والسفير ميجيل مارتيرنوس الممثل الأوربي في مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية، كما شارك فيها كلاً من هليوبج بيترسون وزير الخارجية الدانمركي وبول بيتروسون وزير التعاون والتنمية.

أما الوفود العربية فكانت مصرية وأردنية وفلسطينية، وقد تشكل الوفد المصري من لطفي الخولي وحسن الحيان ود.عبد المنعم سعيد، وعلى الشلقاني، ورمسيس مرزوق، ود.مراد وهبة وأحمد شوقي والسفير صلاح بسيوني ود.رضا محرم.. وشارك من الجانب الأردني عدنان أبو عودة الوزير السابق ورئيس الديوان الملكي، واللواء إحسان شردوم رئيس سلاح الجو الأردني السابق، ومروان دردين رجل الأعمال، وتيسير عبد الجابر الوزير السابق ورجل الأعمال وزيادة صلاح رجل أعمال وجورج حواتمة رئيس تحرير “جوردان تايمز” ورامي ضرري المذيع التليفزيوني الأردني. أما الوفد الفلسطيني فقد ضم من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني كلاً من مروان برغوثي وجواد طيبي وحامد عبد القادر، ومن المعارضة الفلسطينية الشيخ جميل حمامي (عضو سابق في حماس، وباحث بجامعة القدس، ومن الذي طالبوا حماس بالكف عن “أعمال العنف” حرصاً على مسيرة السلام!!) ورياض المالكي (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيس مركز تنمية الديمقراطية) ومحمد جاد الله (عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية). ومن الشخصيات العامة ورجال الأعمال زكريا كمال ومحمد عبد القادر ومنحنا سنيوت وخالد العسلي وسري نسيبة ومحمد الحوراني وغسان الشكعة، ويلاحظ أن الوفدين الأردني والفلسطيني يغلب عليهما الطابع الرسمي، أما الوفد المصري فهو وإن كان غير رسمي فإنه على صلة وثيقة بالحكومة المصرية، ويتضح ذلك من التأييد السريع من قبل السيد عمرو موسى وزير الخارجية المصري للإعلان.

في حين ضم الوفد الإسرائيلي أربعة من أعضاء الكنيست الإسرائيلي اثنان من حزب جيشر هما مكسيم ليفي – يهودي الأنكري (وحزب جيشر أحد أعضاء تكتل الليكود الذي شكل الحكومة الحالية بقيادة نتانياهو) واثنان من حزب العمل (يائيل دايان وسكوموين عامن) بالإضافة إلى شخصيات عامة ورجال إعلام ورجال أعمال مثل ديفيد كيمحي (رجل مخابرات سابق)، ونادية هيلو، أوري برنستين، أموس إيلون، أديث فويرتال، مايكل مالكي أور، إيهود يائيري، ورون بونديك، ويورام كينوك.

وقد وافقت الحكومة الدانمركية على أن تبدأ السكرتارية الدائمة للتحالف أعمالها من كوبنهاجن، كما تشكلت لجنة تحريك لأعمال التحالف تتكون من لطفي الخولي، وديفيد كيمحي، وساري نسيبة، وحسنى شاردم، وقد طرحت الوفود العربية في الاجتماعات إنشاء لجان لمراقبة تنفيذ الاتفاقات، وأخري للتحقق ومراقبة بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي والعمل على اتخاذ خطوات لإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.

وقد كان من المقرر أن يشارك ثلاثة من الشخصيات الثقافية المصرية في التوقيع على الإعلان إلا أنهم اعتذروا في اللحظات الأخيرة لأسباب مختلفة: فالكاتب محمد سيد أحمد اعتذر عن المشاركة بل هاجم الإعلان قبل توقيعه في جريدة الحياة يوم 28/1/1997، لأسباب تتعلق بمضمون الوثيقة والتوقيع عليها دون نقاش، ولاختلاف رؤيته لدور المثقف المشارك في الحوار، حيث يرفض قيامه بدور المفاوض الذي يوقع وثائق، وتأتي هذه المعارضة بالرغم من أنه بالأساس يعتبر من رواد الدعوة إلى الحوار واستغلال التناقضات داخل إسرائيل.

كما اعتذر د.أسامة الغزالي واللواء أحمد فخر عن الذهاب لكوبنهاجن (رغم أنهما شاركا في لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو أثناء زيارته للقاهرة في مارس 1997). وعلل د. أسامة الغزالي عدم ذهابه بسبب الظروف التي أحاطت بالموضوع، وانقسام المثقفين المصريين المنادين بالحوار والاتصال مع الإسرائيليين.

أما اللواء أحمد فخر فعلل عدم مشاركته في اللحظات الأخيرة بسبب صدور وثيقة “إيتان – بيلين” التي تعد مؤشراً على التنسيق بين العمل والليكود، بالإضافة إلى أن وثيقة إعلان كوبنهاجن لم تشر إلى موضوع أسلحة الدمار الشامل والتخلص منها إلا في سياق أن ذلك سوف يتحقق بعد الوصول إلى السلام الشامل.

ولقد ترتب على الإعلان ردود فعل ثقافية واسعة تراوحت بين أغلبية منددة ورافضة للفكرة، فكرة الحوار مع إسرائيليين، وأقلية مؤيدة ومحبذة لعقد مثل تلك الاجتماعات والحوارات. وتتمثل في المشاركين في التوقيع على الإعلان وبعض المثقفين الآخرين المؤيدين للفكرة مثل عبد العظيم رمضان وعلى سالم في حين وجدت نسبة صغيرة متحفظة فلم تبد موافقة كاملة أو معارضة كاملة.

فعلى صعيد جبهة الرفض تأتي مؤسسات ونقابات وأحزاب وقوى سياسية مثل اتحاد كتاب مصر، والاتحاد العام للفنانين العرب، ونقابة الصحفيين، وحزب التجمع، وحزب العمل، والرابطة المصرية لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.

كما صدرت وثيقة وقعها مئات من المثقفين المصريين والعرب، رداً على إعلان “كوبنهاجن”، وقد كشفت الأسماء التي وقعت على وثيقة الرد هذه، وهي أسماء مثقفين مصريين وعرب يحتلون مواقع مرموقة في مجالات السياسة والفكر والأدب والفن، أن “إعلان كوبنهاجن” لم يكن يمثل – كما ادعى مؤيدو الإعلان – الإرادة الشعبية الواسعة، بل تؤكد الشواهد أن معارضي “الإعلان” هم الذين يمثلون هذه الإرادة.

توابع إعلان كوبنهاجن:

على هامش الضجة المثارة حول إعلان كوبنهاجن جرت ثلاثة تطورات هامة على الصعيد الثقافي:

1 – تنظيم لقاء لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو مع مجموعة من المثقفين والصحافيين المصريين، وفي حين أعلن عدد كبير من المثقفين رفضهم حضور الاجتماع، ولم يحضره كل من لطفي الخولي وعبد المنعم سعيد أبرز أعضاء الوفد المصري في كوبنهاجن، فقد ضمت قائمة الحضور كلاً من د.أسامة العزالي حرب، ود.طه عبد العليم ود.هالة مصطفى (باحثين من مركز الدراسات السياسة بالأهرام)، ود.صبري شبراوي عضو الحزب الوطني وأستاذ التنمية البشرية، واللواء أحمد فخر، ود.محمد رضا العدل رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة عين شمس، وعبد الستار الطويلة، وشوقي السيد صحفي، ود.محمد عبد اللاه (رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب). ود.حسن الحيوان وأيمن المهدي صاحب دار نشر.

2 – تجدد لقاء حلف كوبنهاجن في أحد فنادق نويبع في منتصف مارس 1997، حيث التقى بعض المثقفين من مصر وفلسطين والأردن بوفد إسرائيلي سراً، وذلك بدعوة من جامعة “ميرلاند” الأمريكية، واستمر اللقاء ثلاثة أيام وقد حضره د.عبد المنعم سعيد، ود.سعد الدين إبراهيم، في حين رفضت د.منى مكرم عبيد تلبية الدعوة. وأشار د.عبد المنعم سعيد إلى “أن المؤتمر كان أكاديمياً وليس سياسياً كما كان إعلان كوبنهاجن”.

3 – سافر مجموعة من المثقفين المصريين إلى القدس في 21/3/1997 للمشاركة في مظاهرة دعا إليها تحالف كوبنهاجن ضد مستوطنة “هارحوما” في جبل أبو غنيم في القدس وقد عقدت المجموعة المصرية لقاءات مع إسرائيليين من جميع الأحزاب السياسية بما فيها حزب الليكود، وقد ضم الوفد المصري كل من لطفي الخولي، ود.مراد وهبة، وصلاح بسيوني، وصلاح منتصر، وعلى الشلقاني، ود.محمد رضا محرم، ورمسيس مرزوق.

وفي حين أعلن تحالف كوبنهاجن إدانته لبناء مستوطنة جبل أبو غنيم، فقد أدان أيضاً حادث الباقورة الذي قتل فيه جندي أردني مجموعة من الطالبات الإسرائيليات في الأردن.

4 – التقدم إلى وزارة الشئون الاجتماعية لإقامة “جمعية القاهرة للسلام” التي وافقت الوزارة على إنشائها.

اتجاهات الجدل بشأن إعلان كوبنهاجن(*):

أحاول في هذا الجزء رصد المسوغات والحجج التي قدمها كل طرف من أطراف الجدل، والتي أسس عليه موقفه، قبولاً أو رفضاً:

مسوغات الأطراف المتقبلة للإعلان:

كانت أولى الحجج التي قدمت هي أن الإطار الإقليمي والبيئة الدولية قد تغيرتا بما يفرض إحساساً بالتطلع إلى منهج جديد في التعامل مع قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي(1). كما يرى الدكتور عبد المنعم سعيد(2) أن وجهة نظر الفريق الرافض والتي انصرفت فقط لتعزيز الصراع وتوحيد العرب وتثوير دولهم لم تؤد إلى نتيجة، وأن النتيجة الوحيدة التي تحققت أتت على يد الفريق التفاوضي الذي أيقن أن الحل في الحوار والتفاوض وأن العمل العسكري إن هو إلا أداة لتعزيز الموقف التفاوضي. كما أشار إلى أن الحوار كان مبادرة فريق من الموافقين على الموقف التفاوضي لتحريك الموقف الراكد بسبب عدم فاعلية الأدوار الراعية لعملية السلام. كما أشار أن هذه المبادرة تعبئ قطاعات واسعة ورئيسية وفاعلة في الرأي العام الإسرائيلي ممتدة في أوساط اليسار واليمين بدأت تدرك بعد بدء العملية السلمية أن مستقبل إسرائيل في المنطقة سيتوقف على قدرتها على التوصل إلى حل وسط تاريخي مع العرب. وأشار إلى أن هذه المبادرة نجحت في أن تجعل هذه القطاعات تلتزم أمام الرأي العام العالمي، وبخاصة الأوربي، بالتزامات تتوافق مع التفسير العربي للقرارات الدولية واتفاقيات أوسلو من حيث النص على حق تقرير المصري للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في إنشاء الدولة …إلخ. كما أشار د.عبد المنعم سعيد إلى ضرورة الاستفادة من التناقضات الحادثة بين الرأي العام الإسرائيلي، حيث تنقل هذه المبادرة قطاعا واسعة من الرأي العام الإسرائيلي إلى مواقف لم تلتزم بها من قبل، وأن هذه المواقف أرقى وأعلى من كل ما تم الاتفاق عليه من قبل. كما أشار إلى أن إعلان كوبنهاجن لا يعنى نهاية الطريق، بل هو اتفاق على الحد الأدنى للأرضية المشتركة التي من خلالها تتعاون قوى السلام العربية والإسرائيلية لتعطى دفعة للموقف العربي أكثر تقدماً من القرار 242.

وفي نفس السياق يشير السفير صلاح بسيوني(3) إلى أهمية اللقاءات بغرض تحريك مواقف عتاة مؤيدي إسرائيل، فضلاً عن القوى الأقل راديكالية، نحو بعض الإيمان بحقوق الفلسطينيين. وقد أشار إلى أن ذلك النهج هو نهج الرئيس المصري مبارك ووزير خارجيته السيد عمرو موسى في سعيهما لتفهيم هؤلاء الساسة – بما في ذلك ساسة أوربا والولايات المتحدة – حقيقة القضية، ولتحريك مواقفهم ولو نسبياً في صف السلام الشامل والعادل والمتكافئ. وهو يرى أيضاً أن المواقف الرافضة للحوار سبق أن ضيعت جانباً كبيراً من حقوق العرب.

ويشير الدكتور أسامة الغزالي حرب(1) مجدداً إلى أن هذا الحوار أسلوب من الأساليب الخلاقة والمبدعة لإدارة الصراع، وأن هذا الحوار أداة من أدوات الحرب السياسية التي لا بد أن نخوضها لعدم طرح الخيار العسكري، ولأن إسرائيل تجني جل مكاسبها من خلال توسيع دائرة الحرب السياسية، ولأن ثورة الاتصالات تخدم هذا النوع من أنواع الحروب. وفي هذا الإطار تحدث عن جبهات ثلاث لهذه الحرب هي: الجبهة الدولية، والجبهة العربية، وأخيراً الجبهة الإسرائيلية التي لابد من اختراقها لاكتساب مزيد من القوى المتفهمة للمشاعر العربية. كما أشار الدكتور أسامة إلى أن العرب أنفسهم يدركون خطورة السلاح السياسي إذا ما أُحسن استخدامه. وأخيراً فقد ذكر أن الرافضين لمبدأ الحوار والمشاركة فيه كأنهم يقولون لمبارك ورجاله ما قاله قوم موسى له: ]أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون[.

مسوغات الأطراف الرافضة للإعلان:

بداية يرى الأستاذ صلاح الدين حافظ(2) أن هذه الوثيقة تخرق حصار التطبيع وتؤدي حتماً إلى إضعاف المفاوض العربي، كما موقعيها ليس لهم صفة تمثيلية وإن ادعوا لأنفسهم تمثيل أغلب شعوب المنطقة، وفي هذا تجن على الشعوب العربية، هذا فضلاً عن سرية الإعداد للإعلان، وكتمان جريانه، وخلسة عقده وإشهاره. كما أشار إلى أن أغلب مواد الإعلان غامضة وملتبسة بصدد المسائل الرئيسية المعلقة. ويرى أن هذا الإعلان بالونة اختبار هدفها اختراق جدار المقاطعة الشعبية العربية الرافضة لأي تطبيع مع إسرائيل طالما لم يتحقق السلام الشامل. كما يرى أن هذا التطبيع قفزة نحو المجهول لن تدعم المفاوض العربي بقدر ما ستدعم تشدد اليمين الإسرائيلي بمثل هذه القفزات. كما يرى أن هذا الإعلان نقل الانقسام حول سياسات السلام من المجتمع الإسرائيلي إلى الصفوف العربية لكي تشتعل به معارك طاحنة ومفتوحة بين أنصار التطبيع من ناحية وجهات عدم التطبيع من ناحية أخرى.

وأشار الأستاذ فهمي هويدي(3) إلى أن عدم اعتناء حكومة الليكود بهذه الحركة يعنى إدراكها لحجم الهزل والإدعاء في مسألة الاختراق المزعوم، كما يرى أن المعاملة بالمثل معناها تحرك قوى إسرائيلية لاستغلال تناقضات المجتمع المصري وإثارة قضايا مثل الأقليات في إطار وجود جهات مصرية “قابلة للاختراق”. كما أشار إلى هشاشة حجج فريق التحالف مثل: التناقضات الصارخة داخل الرأي العام الإسرائيلي (التي يراها تناقضا بسيطة لا تخل بالإجماع الإستراتيجي)، ووجود قوى للسلام (حيث يراها تقف خارج المعسكر الذي تحاور معه الكوبنهاجيون)، وأشار إلى أن القضية هي قدراتنا لا تناقضاتهم. كما يرى أن الدعوة وضع للعربة أمام الحصان، فهي تدعو إلى تحطيم أسوار المقاطعة السياسية والاقتصادية لإجبار السياسيين على استكمال مسيرة السلام بينما الأساس هو أن استكمال مسيرة السلام العادل والشامل هو شرط التطبيع العربي. كما أشار إلى أن الإعلان تضمن عدم استخدام أو تشجيع أو قبول العنف بأية صورة، وهو المقصود به مقاومة الاحتلال بالطبع، ويرى في ذلك تضامناً مع الإسرائيليين ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية، في حين تغض الوثيقة الطرف عن الإرهاب الذي يمارس ضد الفلسطينيين واللبنانيين في الأراضي المحتلة. كما أشار إلى أن الوثيقة ليكودية الخطاب إذ أنها تشير إلى تسوية بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان بما يحقق الأمن المتبادل كل الأطراف، من دون الإشارة إلى الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان(1).

ويرى الدكتور محمد السيد سليم(2) أن الإعلان أعطى إسرائيل حقوقاً تتجاوز كل ما أعطته إياها قرارات الأمم المتحدة والاتفاقات الفلسطينية – الإسرائيلية. وأشار إلى أن هذه التنازلات العربية المسبوقة ستؤدى إلى مزيد من التشدد الإسرائيلي. كما أشار إلى أن الإعلان قد لا تتوافر له صيغة إلزامية حيال الحكومات، لكنه قابل للتوطيف في آلة الدعاية الإسرائيلية مع ما حفل به من تنازلات. وهو لم يرفض الحوار، بل يرى أن الحوار ينبغي أن يتم على أرضية عدم التسليم بالحقوق قبل أن تبدأ المفاوضات وعلى الالتزامات، كما أشار إلى أن الإعلان يشيع روح التراجع عن الأسس المتفق عليها في قرارات مجلس الأمن والاتفاقات الفلسطينية – الإسرائيلية.

أما الدكتور حسن نافعة(3) فيرى أن نجاح اليسار الإسرائيلي في تفتيت وحدة الكتلة الرافضة للتطبيع هو نوع من إسداء الخدمة لإسرائيل وليس للسلام. كما أشار إلى أن القول بأن تنشيط الاتصالات غير الرسمية يخدم عملية السلام هو قول يعوزه الدليل؛ ويفترض ضمناً أن غياب مثل هذه الاتصالات هو الذي أشاع جواً من عدم الثقة في عملية السلام ومهد السبيل أمام وصول اليمين للحكم، وهذا غير صحيح لأنه ما كان بوسع هذه الاتصالات أن تمنع متطرفين مثل باروخ جولدشتاين أو إيجال عامير من ارتكاب جرائمهم، أو تقنع أي حكومة إسرائيلية بالسماح بعودة المستوطنين أو بالامتناع عن توسيع المستوطنات.

ويرى الدكتور رفعت سيد أحمد(4) كمسوغ لرفضه أن جمعية السلام التي أسسها الكوبنهاجيون تستهدف اختراق وتفتيت جبهة المثقفين المصريين المعادين للكيان الصهيوني، وهي الجبهة التي أثبتت فاعليتها ضد عمليات التطبيع السياسي والثقافي وأحالت التعامل مع التجمعات الصهيونية إلى فعل فاضح. كما يرى أن إسرائيل ليست إلا ثكنة عسكرية لا فرق حقيقي بداخلها بين مدني وعسكري، ولا وجود مؤثر فعلي لما يسمى بقوى السلام أو معسكراته.

مسوغات الأطراف المتحفظة:

ونختار له موقف محمد سيد أحمد(1) بالذي لا يمانع في إجراء حوار، لكنه يعرض أسباب عدة لعدم مشاركته في الإعلان أولها أن الإعلان معد سلفاً ومطلوب من المشاركين توقيعه بلا مناقشة، وكان ذلك بالطبع قبل إعلانه. وهو يرى أن الوقت الذي تم تخصيصه لمناقشة الإعلان (80 دقيقة) لا تكفى لإتاحة الفرصة لأربعين مشاركاً في إبداء الرأي في كل جوانب “النـزاع”. كما يرى أن هذه القفزة من المقاطعة إلى “التحالف من أجل السلام” لا يمكن أن تخدم السلام، بل ستسبب مردوداً عكسياً سيفضي إلى تعميق الانقسام في الصفوف العربية وحسب. كما أشار إلى أن الإعلان يتجنب مجرد الإشارة إلى مصطلحات تعتبر مفاتيح الموقف العربي مثل مصطلح “الدولة الفلسطينية” و”اللاجئين” أو “الانسحاب من الجولان”…إلخ. كما أشار إلى أن الأطراف الإسرائيلية تتجاوز من يوصفون بالهامشيين. وأن المثقفين العرب المشاركين قبلوا بما هو أدنى مما تقبل به الحكومات العربية، ناهيك عن جماهير الشعب العربي، وهذا ليس من مصلحة المفاوض العربي. كما يرى أنه دعا إلى دور للمثقفين في إدارة الصراع ولكنه دور يختلف عن مهمات الدبلوماسية المكلفة بالتواصل إلى اتفاقات تعاقدية بين الفرقاء. وهو يرفض دمغ هذا الحوار بصفة التطبيع، لأنه يرى أن التطبيع والمقاطعة وسائل لا غايات. ويرى أن سرية بحث هذه الإعلانات غير مقبولة، وأنها سمة لعمل المفاوضين لا لحوارات المثقفين. وهو في هذا الإطار يرى أن سبب عدم الشفافية إزاء الإعلان يعنى أن منظميه اعتبروه جزءاً من عملية التفاوض، لا لقاء من أجل حوار حقيقي بين مثقفين.

ب – لقاء شيخ الأزهر مع ساسة ورجال دين إسرائيليين:

قامت هيئات إسرائيلية مختلفة بتوجيه الدعوة إلى الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق ثم الشيخ محمد سيد طنطاوي من أجل زيارة إسرائيل، وإجراء حوار مع الزعماء الدينيين اليهود، تمهيدًا للاتفاق على الدعوة لمؤتمر ديني شرق أوسطي يجمع بين الزعماء الدينيين للديانات السماوية الثلاثة، بهدف التغطية على الممارسات العنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وكذلك لمحاولة استصدار قرار يدين المقاومة الشرعية ضد الاحتلال ووصمها بالإرهاب.

وقد رفض الشيخ طنطاوي تلك الدعوة التي جاءت من الحاخام الأكبر للمرة الثالثة، وكانت المرتان السابقتان من وزير الأديان الإسرائيلي والحاخام الأكبر، حيث أكد طنطاوي “أن الزيارة لن تتم قبل إقرار السلام الشامل والعادل والدائم الذي يعيد الحقوق المغتصبة” “الأهرام العربي 2/9/1997”.

من ناحية أخرى كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أن الحاخام الأكبر الياهو دورون البكاشى “حاخام الطائفة السفاردية” قد التقى في مكتبه بالقدس في سبتمبر بالسفير المصري محمد بسيوني وطلب منه إرسال خطاب لفضيلة شيخ الأزهر يتعلق بصلاحيات منصبه الدينية، حيث طالب بإلغاء الفتوى الخاصة بإباحة العمليات الفدائية في فلسطين. وحسب صحيفة هاتسوفيه التي يصدرها “الحزب الديني القومي الصهيوني” (المفدال) فإن نص الرسالة يقول : ( إن الفتوى التي ستصدرها ينبغي أن تقول فيها” إن الدين الإسلامي يعارض قتل الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن، وأن الله سوف يعاقب منفذي العمليات الانتحارية، ولن يدخلهم الجنة”)، وأكد الحاخام أن مثل هذه الفتوى ستمنع إراقة الدماء وستجعل السلام يحل في المنطقة والعالم. “الأسبوع 22/9/1997”.

وفى منتصف أكتوبر 1997 ترددت أنباء عن عقد قمة إسلامية – مسيحية – يهودية بين كل من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان يوحنا بولس، وإلياهو الباكشى حاخام إسرائيل الأكبر “الوفد 15/10/1997”.

وفى تتابع غريب التقى شيخ الأزهر في 12 أكتوبر مع السفير الإسرائيلي في مصر تسيفي ميزئيل في مشيخة الأزهر لتسليم رسالة من الحاخام اليهودى إلياهو دورون أبدى فيها رغبته في فتح حوار بين الأديان لخدمة عملية السلام، وجدد الدعوة لطنطاوي لزيارة إسرائيل. ثم كان عقد اللقاء بين شيخ الأزهر وإسرائيل لاو الحاخام الأكبر لإسرائيل “حاخام الطائفة الإشكنازية” في 15 ديسمبر بالقاهرة، وجدد دعوته لفتح حوار بين الأديان لمصلحة عملية السلام.

وأكدت تصريحات إسرائيل لاو حقيقة الأهداف التي يسعى إليها وتتمثل في:

أولاً: تطبيع العلاقات و”كسر الجمود بين الشعبين المصري والإسرائيلي” حيث “ربط بين تحقيق سلام حقيقي ومناخ أفضل من وجهة النظر الدينية”.

ثانيًا: إدانة أعمال المقاومة حيث قال : “لابد أن يتحدث رجال الدين عن السلام ويدينوا الإرهاب بكل أنواعه في هذه المنطقة الحساسة، وأن تتبنى وسائل الإعلام وجهات النظر المختلفة بشأن السلام”، وندد “بمقتل الأبرياء تحت ستار الدين”.

ثالثًا: الترويج لمواقف وسياسات الحكومة الإسرائيلية حيث قال: “إنني لست سياسيًا، لكنى رجل دين، ورغم ذلك فإنني فهمت من الاجتماع المطول أمس للحكومة الإسرائيلية أنها ستسير مع عملية السلام طبقًا لاتفاقات أوسلو”.

وعن قتل المتطرفين اليهود للأبرياء من الشعب الفلسطيني قال: “إنني أقول الشيء نفسه في كل مكان، ووعدت الرئيس مبارك بأنه لن يسمع أبدًا عن زعيم ديني في إسرائيل يدعو إلى الإرهاب، وهذا الوعد نيابة عن جميع المتدينين في إسرائيل”.

ولقد تبع بثلاثة أشهر لقاء شيخ الأزهر مع رجال دين وساسة إسرائيليين، لقاء الشيخ فوزي الزفزاف وكيل الأزهر لرجال دين إسرائيليين (الحاخام دورون) في مؤتمر لحوار الأديان في الرباط.

اتجاهات الجدل حول لقاء شيخ الأزهر مع رجال دين وساسة إسرائيليين(*):

في هذا الجزء سيتم رصد ثلاثة مواقف: أولها موقف شيخ الأزهر نفسه من جهة المسوغات والحجج التي يسوقها فضيلته لتبرير لقائه بالحاخام الأكبر لطائفة اليهود الشرقيين في دولة الاحتلال الصهيوني الحاخام مائير لاو. ويتبع هذا إيراد حجج فضيلة الشيخ فوزي فاضل الزفزاف – وكيل الأزهر – في محاولته تسويغ لقائه بالحاخام “دورون”. وبعد ذلك أعرض أنماط الحجج المختلفة التي قدمها عدد من الفرقاء حول مقابلة الإمام الأكبر لحاخام اليهود، وهي من القضايا لتي أثارت استقطاباً حاداً في مصر في ختام عام 1997م، أي منتصف العام الهجري 1418.

1 – المسوغات التي ساقها شيخ الأزهر لتبرير موقفه:

بداية قبل التعرض لقضية الحاخام نجد شيخ الأزهر قد التقي في أواخر شهر نوفمبر 1997 السفير الإسرائيلي في الجامع الأزهر. وفي الاحتفال الذي عقدته جمعية التعارف الإسلامي برر شيخ الأزهر فعلته بقـوله(1): “إن مقابلة السفير الإسرائيلي في أي مكان لا يعرضنا للمساءلة أو للخطر لأننا لا نرتكب خطأ”. كما رأي شيخ الأزهر أن “مقابلة السفير الإسرائيلي عمل شجاع مثل زيارة الرئيس السادات لإسرائيل”، وأشار إلى أنه رد على السفير طلبه بمواجهة حرب الإرهاب التي تشنها الجماعات الفلسطينية بقوله: “أنتم إرهابيون وظالمون”.

وأما عن مقابلته مع الحاخام الإسرائيلي فيرى أنها جاءت انطلاقاً من شريعة الإسلام التي تأمر اتباعها بالمواجهة والمكاشفة لأعداء الله”. وذكر شيخ الأزهر أنه “عندما فعل هذا فإنما فعله متأثراً ومتأسياً بالرسول الكريم r، الذي ذهب إلى بني قينقاع وذهب إلى يهود بني النضير الذين حاولوا قتله، كما استقبل أحبار اليهود الذين جاءوا للمجادلة والمكابرة”. وأشار أيضاً ضمن حججه إلى أن الرسول r علمنا أن المسلم الصادق هو الذي يذهب إلى الأعداء لدعوتهم إلى الحق”(2). وفي رده على انتقاد الدكتور محمد سليم العوّا، قال شيخ الأزهر: “إنه لا مانع من مقابلة الأعداء ومقابلة الحاخامات ومقابلة غيرهم، فإن كان كلامهم حسناً فمرحباً به، وإن كان غير ذلك رددنا عليه بالرد المناسب لزجرهم وتأديبهم وفضح أكاذيبهم”. وأن ” النبي r لم يمتنع عن مقابلة أعدائه من المشركين واليهود”. وهو يرى أن “هذه المقابلة ليست تطبيعاً، فالقرآن في ثلثه يتحدث عن اليهود، وهذا ليس بالتطبيع”(3). ويرى شيخ الأزهر أن منطق من يرفض مقابلة اليهود على اعتبار أن ذلك تعبير عن هزيمة روحية للمسلمين هو منطق “الجبناء الأذلاء العاجزين”، ويرى أن “منطق الشجعان هو فتح القلوب لكل من يريد أن يقابلهم”(4).

وأما الشيخ فوزي فاضل الزفزاف وكيل الجامع الأزهر ففي أعقاب مقابلته مع الحاخام دورون خلال مؤتمر عقده الملك الحسن الثاني – عاهل المغرب – تحت عنوان “الحوار بين الأديان”، صرح بأنه قد قابل الحاخام كما قابل كل رجال الدين الذين حضروا المؤتمر”، وأنكر الشيخ الزفزاف أن “يمنع الدين أن يقابل رجل دين أي من رجال الدين أمثاله”. كما ذكر أنه “رجل دين وليس رجل سياسة، ومن ثم يبتعد عن تأثيرات السياسة ولا علاقة لمقابلته هذه بالتطبيع أو بالاعتبارات السياسية التي تثير مشاعر الناس”(1) .

 

2 – مسوغات الأطراف التي قبلت المقابلة:

فيما يتعلق بالأطراف القريبة من الدوائر الدينية الرسمية نجد فضيلة الدكتور أحمد عمر هاشم – رئيس جامعة الأزهر – يصرح بأن شيخ الأزهر ما لم يلتق بالحاخام الإسرائيلي جديراً بعقاب السماء للأزهر وشيخ الأزهر الذي قام بتحميل اكبر قيادة دينية في إسرائيل برأي الأزهر صراحة ورفضه للممارسات الإسرائيلية كلها”(2) . وأما الشيخ سامي محمد متولي الشعراوي – الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية – فقد أشار إلى البيان الذي أصدره مجمع البحوث الإسلامية الذي أيد شيخ الأزهر في مقابلته، وكانت حجته الوحيدة في هذا الصدد أن “الظروف التي تحيط بالعرب والمسلمين، إذ فيها مواجهة للمخالفين في الدين إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل وبياناً لسماحة الإسلام”(3) . كما أضاف الشيخ سامي الشعراوي أن “مقابلة الشيخ للحاخام أدت إلى مزيد من حصار السفارة الصهيونية، وليس كسر الحصار المضروب حولها، حيث أعلم الشيخ الحاخام بأن هذا الحصار سيدوم وسيزداد يوماً بعد يوم مادام الصهاينة يغتصبون الأراضي الفلسطينية ويبنون المستوطنات على أرض غيرهم”(4) .

ويرى الكاتب محمد وجدي قنديل أن مسوغات هذه المقابلة هي أولاً اجتهاد الشيخ طنطاوي الذي رأي في سماحة الإسلام ما يفسح المجال ويفتح الباب للقاء الحاخام. كما كان من الحجج المبررة أيضاً حجة تاريخية تخص منصب شيخ الأزهر حين تحدث عن تأييد الشيخ عبد الحليم محمود لزيارة الرئيس للقدس في عام 1977 أثناء وجوده في الولايات المتحدة حيث عقد مؤتمراً صحفياً أيد فيه موقف الرئيس وأعلن فيه أن الإسلام دين السلام(5) . ويميز الكاتب أحمد حمروش بين نوعين من الحوار؛ أولهما: حوار يتم فيه تبادل الرأي ومحاولة التعرف على الحقيقة، وثانيهما: حوار يلغى الفواصل ويقيم العلاقات التجارية أو الثقافية أو الاجتماعية. وانطلاقاً من هذه التفرقة أيد الكاتب أحمد حمروش موقف شيخ الأزهر وكانت حجته الأساسية أن “الحوار هو سبيلنا للتعريف بالحق العربي وتوضيح الصورة الصحيحة للإسلام الذي يعيد الأمن والهدوء إلى المنطقة”. وكانت حجته الثانية أنه ما من أحد يتصور أن المتحاورين وبخاصة شيخ الأزهر، يمكن أن يفرطوا في حقوق وطنهم أو أمتهم خلال هذا الحوار، بل يُتصور أنهم سيكونوا خير مدافعين عن قضايا شعوبهم”(1) .

أما الدكتور عبد العظيم رمضان فكانت قنبلـته الأولى هي أن ما فعله شيخ الأزهر هو الطبيعي الذي لا يحتاج لحجج أما المناهضون لرأيه فمزايدون عليه في الوطنية مدَّعون لها، ويرى أن شيخ الأزهر إن سافر لإسرائيل لا يكون قد فعل شيئاً محظوراً ولا يكون قد خالف قانوناً ولا تشريعاً(2) .

وأما الكاتب محمد عبد المنعم فأولى حججه تتمثل في أن من رجال الدين اليهودي من وصلت بهم الأمور إلى حد معارضة قيام دولة إسرائيل أو أي دولة يهودية، كما قال أيضاً: “إن الأديان شيء والسياسة شيء آخر مختلف تماماً، وأن خلط الأديان بالسياسة هو لعبة وبدعة وخديعة الفكر الإرهابي الذي سفك دماء الأبرياء باسم الله” كما يرى أن “رفض شيخ الأزهر لهذه المقابلة كان سيعد مأخذاً سلبياً على رجال الدين الإسلامي الذي هو دين السماحة والعصرية”(3) .

ويرى الكاتب لطفي الخولي – قائد تحالف كوبنهاجن – أن الأساس في فحص هذه المقابلة لا يجب أن ينصب على مبدأ المقابلة بقدر ما يجب أن ينصب على مضمون المقابلة وما جرى فيها بعيداً عن الشعارات الجامدة التي رآها لا تؤدى إلى تقـدم مسيرة الصراع، بل تجمده. كما أن حجته الأخرى انصبت على أن التزام التعددية يقتضي أن يكون الجميع أرحـب صدراً في قبول كل الآراء(4) .

وأما الدكتور ميلاد حنا فلم تكن حجته المتميزة سوى أن شيخ الأزهر علم بزيارة الحاخام لرئيس الجمهورية من دون أن يسفر ذلك عن نقد للرئيس فأقدم على قبول المقابلة، وهو يرى في ذلك أن الإمام الأكبر ليس رجل سياسة، ولكنه يستلهم السياسة من رجال السياسة، وهو ما كان(5) .

وأما الأستاذ إبراهيم القرضاوي الكاتب في صحيفة الوفد فكانت حجته الوحيدة كبعض حجج سابقيه، وهي أن علماء الدين يحملون أمانة الجهاد بالكلم الطيب والعلم النافع والدفع بالتي هي أحسن في سبيل إعلاء كلمة الحق(6) .

3 – مسوغات الأطراف التي رفضت المقابلة:

إذا كانت المؤسسة الدينية الرسمية وجماعة كوبنهاجن قد مالت لمساندة موقف شيخ الأزهر فهناك ثلاثة جهات رفضت هذه المقابلة؛ أولها: شريحة عريضة من علماء الدين الإسلامي، وثانيها: التيار الناصري، وثالثها: الأطياف الإسلامية المصرية بتنوعاتها.

أما الوجهة الأولى فهي لعملاء الأزهر. وفي هذا الإطار نجد ثلاث علماء برزوا في إطار حملة الرفض التي شنتها شرائح عريضة من علماء الأزهر. وكان أبرز من كتب الدكتور إبراهيم الخولي – أستاذ البلاغة بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر. وكان من حجج  رفضه: أن هذه المقابلة منحت اليهود مكاسب سياسية ما كانوا ليحلموا بها ولو ساومهم أحد في مقابلها لانتزع منهم في مقابلها كل ما يبتغيه من مكاسب. كما يرى أن هذا الفعل غير المطلوب تم في غيبة ضرورة تبيح اللجوء إليه. كما كان من حججه أن موقف الأزهر ليس كموقف غيره لأن للأزهر مكانته، فوحدة الفعل لا تلغي خصوصية الفاعل. كما ذكر أن اليهود أعدي أعداء الأمة وعداوتهم مستمرة ولن تتوقف مهما تسامحنا معهم. كما ذكر أن واجب الأزهر التعبئة للجهاد من أجل تحرير فلسطين وليس مهادنة وممالئة من يحتلونها. كما كان من حججه الشرعية قول الله تعالى: ]إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم… [(1) .

كما كان من العلماء أيضاً الدكتور يحي إسماعيل حبلوش – الأمين العام السابق لجبهة علماء الأزهر – الذي كان من حججه أن طباع اليهود طباع إجرام وسوء وعنصرية كما أخبر بذلك ربنا تعالى، وكما هو بائن من الكتب التي شرحوا بها التوراة، وأن الشرع أنذرنا بأنه ما خلا يهودي بمسلم إلا حدَّث نفسه بقتله. كما كان من حججه أن فعل الشيخ طنطاوي يخالف الفتاوى التي صدرت بتوقيع كبار علماء الأمة الرافضة للتعامل مع اليهود والتي تعتبر الصلح معهم تفريط في الحق وعون للغاصب(2) .

كما عارض الدكتور يوسف القرضاوي موقف شيخ الأزهر، وكانت أولى حججه في ذلك أن الشيخ يشكك في ما أجمعت عليه الأمة من رفض التطبيع، كما كانت ثاني حججه أن المقاطعة بكل صورها سلاح مهم من أسلحة الحرب بيننا وبين دولة الاحتلال وأن مقابلة شيخ الأزهر للحاخام فلَّت هذا السلاح وأضعفت المقاومة الصلبة والمقاطعة الحاسمة. كما كان من حججه أن الحوار هذا يجب أن يكون في مسألة الدعوة للعقيدة وليس بصدد الأرض والأقصى والعرض والدم الذين يبتذلهم العدو ويرخصهم ويريد ابتلاعهم. كما أشار إلى أن الـسيرة تبين لنا أن النبي r ذهب لليهود حينما كان بينهم عهد يحترمونه، فلما أخلوا بالعهد ونقضوه فارقهم وتـبرأ من العلاقة بهم. كما أشار إلى أن النبي r كان يلقاهم لأنه سياسي يلتقي بساسة وليس من منطلق منصبه كنبي. كما أشار إلى أن الحاخام سيستغل هذه الزيارة لصالحه وصالح قضيته(3) .

كما كان من المعارضين الأستاذ فهمي هويدي الذي كانت أولى حججه أن لقاء حاخام إسرائيل وعلماء المسلمين فيه اختراق لجدار المقاطعة الشعبية العربية. كما استشهد بموقف الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق في قوله: “إن الأزهر إذا سمح لنفسه بالتعامل مع إسرائيل وهي ما زالت تحتل الأرض العربية والقدس في مقدمتها، فإنه بذلك يخون رسالته أمام الله ويفقد مصداقيته أمام جماهير المسلمين”. كما كان من حججه الإشارة لحرص اليهود على اختراق المؤسسات الدينية الإسلامية من خلال استدراج علماء المسلمين إلى ساحات تتذرع بالحوار البريء، وهذا الاختراق يمكن الصهاينة من ضرب المقاومة الإسلامية من الخلف. كما أن الأستاذ فهمي أشار إلى أن الحاخامات يوجهون خمسة أحزاب دينية متطرفة في إسرائيل تنادى برفض تسليم أي جزء من أرض إسرائيل إلى سلطة أو سيادة غير يهودية. كما ساق الأستاذ فهمي مجموعة فتاوى لعدد من الحاخامات يبيحون فيها أرض فلسطين ودماء الفلسطينيين وأعراضهم لليهود(1) .

كما كان من أولئك أيضاً الدكتور محمد سليم العوّا الذي كانت أولى حججه أن هذه المقابلة ستقتل مشاعر المقاومة الوطنية للتطبيع الذي يستميت العدو الصهيوني في سبيل توسيع نطاقه. وإن شيخ الأزهر رمز للإسلام السني والتطبيع معه هو رمز للتطبيع مع الإسلام السني. وكان من حججه أيضاً أن اضطرار الساسة لمقابلة العدو لا يعنى اضطرار الأمة لذلك، فللحكومات ضروراتها وللشعوب خياراتها، وشيخ الأزهر كان ينبغي عليه أن يراعي أنه رمز للأمة لا للحكومة. كما أن لقاء رجل دين يدعو للتسامح غير لقاء رجل دين يحرض أتباعه على قتل المسلمين أطفالهم وشيوخهم واستباحة أعراضهم ونهب أموالهم واحتلال أراضيهم(2) .

وأما المستشار مأمون الهضيبي – المتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين – فكان رافضاً وكانت حجته أن موقف شيخ الأزهر شايع موقف الحكومة باعتبار الشيخ أحد موظفي الحكومة(3) .

وأما مجدي أحمد حسين – رئيس تحرير جريدة الشعب – فكانت مسوغات رفضه أن مقابلة الحاخام مسألة يرفضها الشارع الإسلامي والوطني. كما كان من هذه المسوغات تذكير شيخ الأزهر بمقاطعة كل من المهنيين ورجال الأعمال والفنانين بل وبعض مواقف الحكومة وموقف البابا شنودة من عملية التطبيع. وكان من مسوغاته أن حسم القضية لا يحتاج إلى أحاديث، بل إلى امتلاك القوة والعزة والمنعة. وللعدو الصهيوني مكائده التي جعلت الجميع، بما في ذلك الحكومة المصرية، تتحفظ إزاء التطبيع معه وشيخ الأزهر يخالف ذلك كله. ويرى مجدي حسين أن محاصرة السفارة الإسرائيلية فرض عين لا يجب أن يتخلى عنه شيخ الأزهر. كما ميز مجدي حسين بين اليهود المعاهدين واليهود المحاربين في خطوة لدحض حجة شيخ الأزهر(4) .

ويرى الدكتور صلاح عز في حجج رفضه أن الصهاينة يستهدفون من لقاء شيخ الأزهر زرع بذور فتنة جديدة بين مصر وسائر الدول الإسلامية، وضرب المقاومة الإسلامية في فلسطين. كما أشار إلى أن هدف الصهاينة اختراق صف الرفض المصري والعربي والإسلامي، فضلاً عن اختراق جدار المثقفين المصريين، وهو ما حدث في إعلان كوبنهاجن(1) .

وأما الوجهة الثالثة فهي وجهة الناصريين. حيث نجد جلال عارف يؤكد أن حجته الأولى هي أن رجال الدين لا شأن لهم بالسياسة، وما كان ينبغي لشيخ الأزهر لهذا أن يتحاور مع هذا الحاخام اليهودي في هذا الشأن السياسي (القضية الفلسطينية). كما كانت حجته الثانية هي عدم الرغبة في الإساءة لمقام الأزهر الشريف ورمزيته. وكانت حجته الثالثة أن حاخام إسرائيل الأكبر هو الذي أمر قائد القوات التي احتلت القدس في 1967 بهدم المسجد الأقصى وها هو ذا يقابل خليفته والأرض لا تزال محتلة(2) .

وأما حسنين كروم فكانت حجته الأولى أن شيخ الأزهر خالف غالبية الأمة التي أصرت على رفض التطبيع ما لم تعد كافة الحقوق العربية لأصحابها. كما كانت حجته الثانية هي أن الدور السياسي الذي يمارسه سيصبح خطيراً إزاء ما أضيفت عليها القداسة التي لمنصب شيخ الأزهر – فعندئذ – نكون بصدد تجلى للحكومة الدينية. والحجة الثالثة كانت تتمثل في أن تدخل رجال الدين في السياسة لمساندة الحكم بالفتاوى وضع مرفوض ويؤدى لتبرير دوافع الساسة(3) .

وأما عبد الله السناوى الكاتب بصحيفة العربي فيرى في تصرف الأزهر سابقة خطيرة لتبنى الشيخ عملية التطبيع الديني بين المشايخ والحاخامات. كما يرى أيضاً أن فعل شيخ الأزهر هو تنكر للمشاعر الوطنية والقومية والإسلامية لم يحدث من قبل حتى في أسوأ عهود الأزهر وأقلها ارتباطاً بالهموم والقضايا الوطنية. كما يرى أن شيخ الأزهر ليس رجل دولة يخضع لمقتضيات موازين القوى، أو حسابات المصالح المتغيرة. وهو يرى أن شيخ الأزهر لا يدرك أن الأزهر مسؤولية ضمير تجاه القضايا والحقوق العربية والإسلامية، وبخاصة في مواجهة الاستيطان والتهويد(4) . وأما عبد الحليم قنديل فيرى أن ثمة تدبير لجر الشيخ طنطاوى إلى حقل التطبيع وهذا ما كان يعلم به قادة الصهاينة في إسرائيل(5) .

في الدلالات الفكرية والسياسية للحدثين:

لا يمكن بحال فصل “إعلان كوبنهاجن” عن مسألة حوار شيخ الأزهر مع رجال دين وساسة إسرائيليين، فهما في الحقيقة تعبير عن المحاور الجديدة، والقضايا المستحدثة التي بدأت تبرز ويزداد ثقلها في الصراع: أولهها: ازدياد الدور الأهلي، وثانيا: ازدياد البعد الديني في الصراع.

أولاً: ازدياد الدور الأهلي في صراع الأمة مع الاحتلال الإسرائيلي:

المطَّلع على تاريخ صراع الأمة مع المشروع الصهيوني خلال العقود الماضية، يجد إغفالاً واضحاً للأدوار الأهلية وأدوار القوى غير الرسمية، بالرغم من إثباتها فعالية كبيرة في التعامل مع المشروع الصهيوني، وانصب الاهتمام الأكبر في هذا الشأن على دور الحكومات والدول أو الدور الرسمي، وإذا تم التطرق إلى الدور الأهلي، فإنه يتم في حيز ضيق، وضمن إطار أوسع هو إطار الحكومات، على الرغم من أن هذا الدور المعبر عن أكثر لحظات الصراع حيوية ونضجاً.

ويعود غلبة الاهتمام بالدور الرسمي إلى عوامل متعددة، ليس مجال ذكرها هنا، أبرزها غلبة مفهوم السلطة على الخطاب السياسي العربي، وطغيان “الدولة” على الفعل وقد أدت هذه الغلبة وذلك الطغيان إلى اختزال الإدارة – إدارة الصراع – إلى مكونات محدودة تدور أساساً، وتتمحور حول السلطة، وترتبط بها.

إن إعلان كوبنهاجن وما ترتب عليه وأثاره من ردود أفعال ثقافية وفكرية يطرح بقوة أهمية البعد الأهلي في الصراع، ذلك البعد الذي اكتسب – وسيكتسب في المستقبل – أهمية متزايدة في الصراع بحكم بواعث متعددة، وتطورات هيكلية لا تتعلق فقط بالصراع، ولكنها تمتد لتشمل وقائع عالمية لها تداعيات إقليمية ومحلية أبرزها:

1 – تراجع دور الدولة العربية في الصراع:

يلاحظ أن الدولة العربية قد بلغ دورها التوسعي، باعتبارها أداة تحقيق وإنجاز التنمية، منتهاه في السبعينيات من هذا القرن، بعد أن كان قد بلغ ذروته في الخمسينيات والستينيات، فمنذ السبعينيات أدت مسيرة الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخلياً وخارجياً، إلى إجبار الدولة العربية على التراجع عن العديد من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية، بل حتى السياسية والثقافية التي ادعتها في الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات.

ويبدو أن هذا التراجع قد طال أو انسحب على دور الدولة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني، ففي الخمسينيات والستينيات “أممت” أو صادرت الدولة العربية – إلى حد كبير – الدور الأهلي في الصراع حين سيطرت على الساحات جميعاً، ووأدت المبادرات الشعبية، خشية أن تعوق – هذه القوى – مشروع بناء الدولة، أو أن تورط الدولة في صراع مع كيان العدو وهي غير مستعدة له.

في هذه الفترة التي امتدت إلى منتصف السبعينيات، كانت الدولة أو الحكومات هي الطرف الأساسي في مواجهة قوى الاحتلال، وهذا بالطبع لا يعني عدم وجود دور شعبي أو أهلي في الصراع، ولكن هذه الحكومات كانت تلجا للرصيد الشعبي فقط من أجل التعبئة والحشد خلف مشروعها، على الرغم من أن الشعوب هي التي تحملت العبء الأكبر في مواجهة كيان العدو.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل وهي: أن تخلي الدولة والحكومات عن دورها يحفز قوى الأمة لمحاولة ملء الفراغ الذي نتج أو ترتب عن هذا التخلي، وهذه تكاد تكون سنة جارية على مدار تاريخ أمتنا الحضاري والسياسي، وهو ينطبق على تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، كما ينطبق على وضعية الصراع الآن؛ ففي الوقت الذي عجزت فيه الحكومات العربية عن إيقاف غزو إسرائيل للبنان واحتلال عاصمته، نجحت القوى الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية (التي كانت وقتها “شعبية” ولم تتحول إلى “سلطة”) في إيقاف العدو. وفي الوقت الذي تخلت فيه الحكومات عن الحفاظ على ثوابت الأمة في صراعها مع المحتل الإسرائيلي بدخولها إلى مشاريع “التسوية”، لازالت القوى الشعبية العربية هي التي تقف أساساً في مواجهة المشروع الصهيوني (حماس – حزب الله – الجبهة الأهلية في مقاومة التطبيع).

ما أحب أن أؤكد عليه في هذا الصدد، أن المعطيات التاريخية تثبت مدى قدرة الأمة – ممثلة في قواها الأهلية وغير الرسمية – على الفعل واتخاذ المبادرات حين تعجز الحكومات والأنظمة؛ فالمواقف الرسمية تخضع لقيود النظام الدولي وموازين القوى فيه، بما يفرض عليها سلوكيات معينة أو يمنعها من العمل بصورة معينة، بخلاف القوى غير الرسمية التي لا تخضع لمثل هذه الضغوط، لذلك فمقولة “للحكومات ضروراتها وللشعوب خياراتها” ينبغي أن تدرك على أنها تفعيل لقوى ومؤسسات تلبي حاجات الأمة، تعجز عن تلبيتها الحكومات القائمة، وألا تدرك في إطار علاقة تناقض بين الطرفين: فقد كان يمكن للحكومات على سبيل المثل أن تتحجج بقوة المعارضة غير الرسمية لعملية التسوية، من أجل الحصول على تنازلات من الخصم لو أنها أحسنت التعامل مع تلك القوى، ولم تنظر إليها في إطار صراعي؛ كما أن القوى غير الرسمية لم تكن على درجة من الوعي لتدرك الضغوط الخارجية على الحكومات في بعض الأزمات.

2 – البواعث الدولية:

لا شك، أن التطورات الدولية التي أحاطت بالمنطقة قد دفعت لانتشار التفكير في “الفعل الأهلي” في واقعنا العربية. في هذا السياق يمكن رصد عدد من التطورات كانت بمثابة قوة دفع لإبراز إمكانات الفعل الأهلي: أولها – سقوط الاتحاد السوفيتي الذي تم بـ وعلى يد قوى “المجتمع المدني” وقتها، وقد أدى هذا السقوط إلى توهم كثير من المثقفين العرب على اختلاف اتجاهاتهم بقرب تكرار التجربة في واقعنا العربي. وتواكب مع سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية تدشين مفهوم “النظام الدولي الجديد”، وهذا النظام تطلب أيديولوجية يروج بها لممارساته، فكانت مقولات حقوق الإنسان، والديمقراطية، “والمجتمع المدني”، باعتبار الأخير أداة إنجاز التحول الديمقراطي.

أما ثاني التطورات الدولية المهمة، فكان مؤتمرات الأمم المتحدة الكبرى التي عُقدت حول القضايا المصيرية في العالم. كان أول هذه المؤتمرات هو مؤتمر ريو المدعو بقمة الأرض سنة 1992، وثانيها – مؤتمر فيينا المدعو قمة حقوق الإنسان سنة 1993، وثالثها – مؤتمر السكان بالقاهرة 1994، ورابعها – مؤتمر التنمية الاجتماعية بكوبنهاجن 1995، وخامسها – مؤتمر المرأة في بكين 1995، وآخرها – مؤتمر المستوطنات باستنبول بتركيا 1996.

هذه المؤتمرات جميعاً تأتي نتيجة الإحساس بالحاجة إلى رؤية جديدة للعالم يشارك فيها الجميع، وكان من ضمن الجميع الذي دُعي للمشاركة هي مؤسسات ومنظمات العمل الأهلي، حيث عقد في بعض هذه المؤتمرات الست مؤتمران في وقت واحد، الأول للوفود الرسمية، والثاني للوفود غير الرسمية، وكان الثاني يعقد قبل الأول بأيام قليلة حتى يخلص المؤتمرون إلى رؤيتهم بشأن الوثيقة التي ستصدر عن المؤتمر الرسمي، وكانوا يسعون إلى لعب دور في صياغة الوثيقة الرسمية.

وهكذا، فإن مؤتمرات الأمم المتحدة قد دشنت بحق منظمات ومؤسسات العمل الأهلي، باعتبارها شريكا في صياغة مستقبل البشرية، وتواكب مع ذلك أيضاً، وهذا هو التطور الدولي الثالث، أن العالم بات يشهد عدداً من الفاعلين الدوليين الذين يصوغون العلاقات الدولية  بخلاف الدول. في هذا الصدد يمكن أن نشير إلى الشركات متعدية الجنسية، ومنظمات الإغاثة العالمية مثل أطباء بلا حدود، وأجهزة الإعلام، ومنظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية.

وقد ترتب على ذلك زيادة الحديث عن “المجتمع المدني العالمي”، و”التحالف العالمي لمشاركة المواطنين”، و”دعم المجتمع المدني في العالم”. هذا التطور انتقل من التبشير بفكرة العمل الأهلي والدعوة إليها إلى إنشاء مؤسسات وتدشين مشاريع بحثية، وتوفير تمويل ضخم أخذت به الفكرة قوة دفع جديدة.

إن فكرة البواعث الدولية تطرح أبعاداً جديدة يمكن أن يتطلع إليها العمل الأهلي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يأتي في مقدمتها محور حقوق الإنسان، وذلك بحكم الانتهاكات الشديدة التي يمارسها الاحتلال في هذا المجال، بالإضافة إلى قضايا اللاجئين.

3 – العمق التاريخي للدور الأهلي:

لعل الصفحات الأكثر بياضاً في تاريخ صراع الأمة مع الاحتلال الإسرائيلي تتعلق بالقوى الشعبية، ابتداءً من المقاومة الفلسطينية الشعبية، كما تمثلت في انتفاضة 1929، وثورة القسّام، والحرب الشعبية التي استمرت في 1947 – 1948 ضد الاحتلال الصهيوني، والتي حققت نجاحاً نسبياً حتى تدخُّل الجيوش العربية. من جهة أخرى قامت الشعوب العربية والإسلامية بدور مهم في دعم كفاح الشعب الفلسطيني، حيث شارك العديد من المتطوعين من سوريا ومصر ولبنان وتركيا في ثورة القسّام، وقام الإخوان المسلمون بتنظيم كتائب للجهاد أثناء حرب 1948، وحققت نجاحات بارزة، كما ضغطت الشعوب على حكوماتها من أجل التدخل العسكري عبر تنظيم المؤتمرات والمسيرات الضخمة لدعم القضية الفلسطينية.

ويمكن القول: إن القوى الأهلية (غير الرسمية) تحركت على جبهتين: الأولى المقاومة المدنية القائمة على سلاح الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات وجميع أشكال العمل السياسي السلمي والمقاطعة، وأبرز إيجابياتها أنها تعمل على تحريك جميع فئات الشعب وإبقائها في حالة تعبئة وتحفز واستنفار. أما الجبهة الثانية، فتقوم على إرداف المقاومة المدنية بأنماط المقاومة العسكرية بحسب المكان والزمان المناسبين.

 

فهناك سؤال يحتاج قدراً من التأمل ألا وهو هل يمكن اعتبار وصف تحرك أصحاب إعلان كوبنهاجن ومؤيدوه بأنه “عمل أهلي”؟

إن الإجابة على هذا السؤال تطرح قضية على جانب كبير من الأهمية لأنها تتعلق بمستقبل العمل الأهلي في الوطن العربي، وهي قضية العلاقة بين العمل الأهلي وبين الحكومات، حيث يلاحظ أن المنظمات أو الجهود الأهلية لم تصل إلى درجة من الشراكة في العمل بينها وبين الحكومات، بل هو سعي من الحكومات لتوظيف هذه الجهود خدمة لسياستها، وهذا هو عين ما جرى في إعلان كوبنهاجن، فالخطوة تمت دعماً لجهود الحكومات العربية في مسألة التسوية، ومحاولة للضغط على الحكومة الإسرائيلية للسير في عملية التسوية والاستمرار فيها. إن عدم انطلاق إعلان كوبنهاجن من أرضية “أهلية حقيقية” جعله عرضة لعدم الاستمرار، فباستثناء الخطوات التي أعقبت الإعلان والتي سبق رصدها، لا نلاحظ أي ذكر لهذا الإعلان الآن.

ثانياً: ازدياد البعد الديني في الصراع:

يلاحظ على تطورات صراع الأمة مع الاحتلال الإسرائيلي حدوث نقلة نوعية مختلفة في الصراع على المستوى غير الرسمي منذ أواخر الثمانينيات، تمثل ذلك في تطورين هامين:

الأول: أن فلسطينيو الداخل في مقابل فلسطينيو الخارج أصبحت لهم الغلبة في تحريك المقاومة والصراع مع المحتل، وقد تجسد ذلك بالانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت منذ 1987.

الثاني: بروز قوى وجماعات مثلت الوقود الأساسي في مواجهة المحتل الإسرائيلي، وقد حلت هذه القوى التي هي إسلامية أساساً (حزب الله وجماعتي حماس والجهاد الإسلامي) منذ أواخر الثمانينيات محل القوى القومية واليسارية التي كانت وقود الصراع في الخمسينيات والستينيات وإلى حد ما السبعينيات.

وتضافر مع هذه القوى الجديدة وساندها تحرك القوى الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي مستفيدة من جـو الصحوة الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات والثورة الإيرانية 1979 لتحريك الرأي العام بمقولات وخطاب إسلامي أساساً لمواجهة تطورات القضية وخاصة منذ دخولها مرحلة “التسوية” مع مؤتمر مدريد 1990.

هذا على صعيد الأمة أما على صعيد كيان الاحتلال ذاته، فيلاحظ بروز “القوى الدينية” وازدياد دورها في صنع السياسة الإسرائيلية على المستويين الداخلي والخارجي،  فقد بلغ عدد مقاعدها في الكنست 23 مقعداً في انتخابات نوفمبر 1996. [لمزيد من التفاصيل انظر في نفس التقرير بحثي: أ.جلال الدين عز الدين عن: الأزمة الداخلية في إسرائيل، وما بعد الصهيونية].

ثالثاً:دور كلاً من العالم والمثقف وعلاقتهما بالسياسة والسياسي:

ليس مجال الحديث هنا تحليل البنية التاريخية والتكوينية لكلاً من العالم والمثقف في التاريخ الحديث وخاصة في علاقتهم بالسياسة والسياسي التي اتسمت – أي السياسة – في واقعنا المعاصر بالتمدد والتضخم وإعادة التعريف لبقية مكونات الجسد الاجتماعي والثقافي، خاصة إذا كان وجهتها هي “السلطة” وليس “الأمة” وجوهرها “المصلحة” وليس “التربية والقيام على الشيء بما يصلحه”.

إن العلاقة بين كلاً من السياسي وبين الديني والثقافي كانت دائماً وأبداً علاقة توظيف واستلاب لصالح الأول، ولم يستطع العلماء ولا المثقفون – إلى حد كبير – بناء موقف مستقل وفاعل في مواجهة السياسة في ظل الدولة الحديثة التي جعلت الشرعية داخلها، واصطدمت مع أية شرعية تحاول أن تخرج عليها أو تؤسس وجوداً فاعلاً ومستقلاً إزاءها.

إن موضوع الدور المنشود للمثقفين في واقعنا العربي الإسلامي يثير العديد من الملاحظات والإشكالات:

1 – أول ما يثار في هذا الصدد هو قضية “المصطلح”، فبالإضافة إلى مصطلح “المثقف” الذي قد لا تتجاوز بداية استعماله وذيوعه في الخطاب العربي نصف قرن من الزمان، هناك مجموعة كبيرة من المصطلحات التي شاعت في حضارتنا وتدل على بعض الدلالات التي يشير إليها مصطلح “المثقفون”. فهناك العلماء والفقهاء والمحدثون والمتكلمون..إلخ.

وهذه المصطلحات – وخاصة مصطلحي العلماء والفقهاء – تكتسب أهميتها من اعتبارين:

الأول: أن مفهوم المثقف في الخطاب العربي المعاصر مفهوم ضبابي، فهو لا يشير إلى شيء محدد، ولا يحيل إلى نموذج معين، ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الإسلامية الماضية والحاضرة، وقد ارتبط أساساً – على عكس مفهومي العلماء والفقهاء – بمن لهم قدرة على التواصل مع الثقافة الغربية بعقيدتها وعلومها.

الثاني: إلا أن الأهم فيما نحن بصدده أن مفهوم المثقف باعتباره منقولاً عن الخبرة الحضارية الغربية ، لم يكتسب فعالياته في خبرتنا الحضارية، وذلك أن الجماهير أو الأمة لم تستطع أن تتواصل معه، كما أن المثقفين لم يستطيعوا أن يتواصلوا معها؛ لافتقادهم الأساس المرجعي الذي يمكن به أن يتواصلوا به مع الجماهير.

وهذا يجرنا إلى الحديث عن الدور الذي كان يقوم به العلماء في خبرتنا الحضارية؛ خاصة من جهة علاقتهم بالأمة، فقد كان هؤلاء “العلماء” – خاصة المشتغلين منهم بعلوم الشريعة المختلفة – على وعي بأن فعالياتهم الأساسية تُستمد من ارتباطهم “بالأمة” ونأيهم عن السلطة، وشاع في أوساطهم أنه “إذا رأيتم الرجل يعتاد قصر السلطان فلا تسمعوا له”.

وهكذا، نشأت علاقة متميزة بين العلماء في الخبرة الحضارية العربية الإسلامية، وبين كل من “الأمة” و”السلطان”، ونتج عن هذه العلاقة المتميزة علاقة أخرى ذات طبيعة خاصة بين كل من “الأمة” و”السلطان” وبين “العلماء”، فالعلماء هم المعبرون عن مطالب الأمة إزاء السلطة، كما أن هذه الأمة هي التي تعطي لاجتهادات الفقهاء فعالياتها الواقعية عبر حركة القبول الاجتماعي لاجتهادات هؤلاء الفقهاء وفتاواهم. ولعل هذا يفسر أنه على الرغم من تعدد المدارس الفقهية في خبرتنا الحضارية العربية الإسلامية، فإنها استقرت – وعبر سنوات وقرون متطاولة – على القبول بوجود أربعة مذاهب فقهية فقط.

والعلاقة بين العلماء والسلطان اتخذت في أحيان كثيرة سمت “المحنة”، حيث تنشأ محنة -كما يرى د.عابد الجابري- ثم يكون الانتقام للمحنة بممارسة محنة أخرى.

2 – وإذا كان العلماء في خبرتنا الحضارية العربية الإسلامية قد أدركوا أن قوتهم الحقيقية إزاء السلطة مستمدة من مدى تقبل الأمة لهم، فإن هذه الحقيقة التاريخية تلقي بظلالها على واقعنا القائم. وما يجب أن نؤكد عليه بداية هو أن جهود الإصلاح تحقق نجاحات كلما اتجهت إلى الأمة، ويلحقها الإخفاق كلما اتجهت إلى السلطة. ويلعب “العلماء” – أو “المثقفون” تجاوزاً – دوراً خطيراً إزاء تحقيق النهضة في أمتهم، فهم يقومون بوظيفة اجتماعية خطيرة تتمثل في إنتاج المجتمع نفسه، أو ما يمكن أن أعبر عنه بـ”بناء الأمة” من حيث إيجاد الآليات التي تختص بتجميع وتوجيه الأجزاء والعناصر، وبث الروح الجماعة فيها، وتحويلها إلى كائن حر قادر على الحركة والتنظيم والتحسين والإصلاح. ويتحدد وضع المثقف لا بنوع علاقته بالفكر والثقافة فقط، بل بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمبشر بمشروع، أو يربط النظر بالممارسة، أو على الأقل كصاحب رأي وقضية، إذ يصبح ضمير المجتمع المعبر عن مرجعيته الحضارية والحافظ لها.

وهكذا، كان يجب أن يدرك مثقفونا أنه بدلاً من الحديث والانشغال “بتجسير” العلاقة مع السلطة أو الأنظمة وخدمتها، كان يجب بحث كيفية اكتساب الشرعية والقبول في وسط الأمة، إن أولى الخطوات في اكتساب هذا القبول هو المقدرة على التعبير عن آمال الأمة وطموحاتها وثوابتها التاريخية، لأن دور المثقف أو العالم هو التعبير عن ضمير الأمة، والحارس اليقظ لذاكرتها التاريخية، وبتخليهما عن هذا الدور فإنهما يفقدان الشرعية ويتحولان إلى مجرد شكل في جوهره مرتبط بأجهزة القرار في الدولة يعبر عن سياساتها، ويستخدم لتنفيذ قراراتها، وهذا يقلل من تأثيرهما في صياغة المناخ العام والتأثير الإيجابي في بلورة القرار خدمة لمصالح الأمة.

رابعاً: الخطاب العربي في زمن متحول:

نحن نتحدث كثيراً عن التحول والتغير الآن، وأظن أن هذا راجع إلى أن الفترة التي نشهدها الآن فترة انتقالية – بكل معاني كلمة انتقالية – في جميع المجالات، وعلى كل المستويات، هي فترة انتقالية لأنها تشهد تحولات كبرى في المجالين السياسي والاقتصادي، كما في المجالين الاجتماعي والثقافي..إلخ، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، كما على المستوى المحلي، وفي جانب الحركات والقوى السياسية والاجتماعية، كما في جانب كيان الدولة القومية والواقع المحيط بها.

هذه الفترة الانتقالية تشهد “ميلاداً جديداً” أو “طوراً جديداً” مختلفاً بالكلية عن الطور السابق (نوعاً وكماً)؛ فمن المتوقع أن تشهد “نقلة نوعية” كبرى، هذه النقلة  تعنى أن الماضي بحلوه ومره، وخيره وشره، وتنظيماته وشيوخه، وأحزابه وقياداته، وأنظمته ونخبه ومؤسساته – قد آذن بالرحيل مخلياً الأرض لواقع جديد، لا ندرى حتى الآن ما شكله، وإن بدت بعض ملامحه!

وهكذا، فإن “الواقع الذي نعرفه مرتحل”، وهناك “واقع جديد” الآن تتحدد ملامحه، وتبرز تضاريسه، وتستقر فيها “مراكز ثقل” مختلفة عن سابقتها، وهذا الواقع الجديد تطرح “أسئلة جديدة” على العقل العربي منها ما يرتبط بالتطورات والتحولات التي شهدها صراع الأمة مع الاحتلال الإسرائيلي، ويلاحظ أن الخطاب السياسي العربي لم يستطع أن يكون استجابة صحيحة مكافئة لمقتضيات المرحلة الجديدة التي شهدتها القضية منذ مؤتمر مدريد، وقد أدى غياب الاستجابة المكافئة للمرحلة الجديدة إلى حدوث تطور في اتجاهين:

الأول: انزلاق إلى الواقعية الشديدة والبراجماتية في التعامل مع المستجدات، وقد مثل ذلك خطاب المؤيدين لإعلان كوبنهاجن.

الثاني: وقوف عند “الثوابت التاريخية” دون الانتقال بها ومنها إلى “ثوابت جديدة” ترتبط بالمرحلة الجديدة، وقد أدى الوقوف عند الثوابت، إلى معرفة ما لا ينبغي فعله وعدم معرفة ما ينبغي فعله إزاء تطورات القضية، إلى أن أصبح خطاب الرفض لكوبنهاجن خطاباً غير فاعل وغير واقعي، والواقعية لا تعنى هنا تبرير الواقع والقبول به، ولكن تعنى القدرة على الفعل.

هذه الملاحظة تثير مشكل على جانب كبير من الأهمية هو ثبات الرؤية على الرغم من تغير المواقف واختلاف الواقع الذى صيغت له هذه الرؤية، فالخطاب العربي بشأن الصراع – في جزء كبير منه – يقف عند أواخر السبعينيات حين عقدت مصر صلحاً منفرداً مع كيان العدو، وقد أدى هذا الخطاب إلى عدم القدرة على تحويل معارضته لمسألة التسوية إلى مطلب شعبي ممانع، ومطلب سياسي ممكن التحقق في توازنات الصراع، وقد قاد ذلك إلى اتجاه الخطاب نحو تسجيل المواقف العمومية فقط، ولم ينتقل إلى عرض بدائل مقنعة للجمهور في مواجهة التسوية المتفاوض عليها.

خامساً: الصراع المفهومي:

تكتسب قضية المفاهيم أهمية بالغة في حياتنا الثقافية والفكرية، بل والمعيشية الحياتية، ويمكن الحديث في هذا الإطار عن “معركة مفهومية” تتم في مجال المفاهيم وعلى أرضها – خاصة أن المفهوم في جوهره عبارة عن شحنة مركزة من المعلومات والأفكار والتداعيات والمشاعر والمعاني والظلال التي يتم استدعاؤها تلقائياً عند سماع الألفاظ أو قراءتها.

وتعود أهمية المفاهيم، ليس فقط للمعركة الدائرة على أرضها، وإنما لاعتبارات عدة، فالمفاهيم حجر الأساس في البناء المعرفي للعلم، أي علم، كما تسهم المفاهيم ثانياً بدور بالغ في تثبيت الهوية الحضارية لأية أمة، لأن المفاهيم في نهاية الأمر، تعبير عن الإطار الفلسفي، أو خصائص التصور الذي تنطلق منه كل حضارة في نظرتها للإنسان والكون والحياة. وثالثاً فإن المفاهيم تلعب دوراً بالغاً في ضبط حدود الخلاف بين البشر، لأن عملية الاتصال في جوهرها تتم من خلال مجموعة من المفاهيم والمدركات. وأخيراً فإن المفهوم يعد مقدمة للحركة ووسيلة للدفع والتدافع، فهو في جوهره لا يعد كلمة بسيطة، وإنما يحمل من المضامين والمعاني ما يفوق كثيراً إطارها اللفظي. الكلمات نفسها أداة للتعبير وإطار للمعاني تحمل مدلولات نفسية تلقي بظلالها على ذهن وروح السامع أو القارئ فتحركه أو تقعده، أو تؤثر عليه في أي اتجاه، فالمفهوم له آثاره في الحياة الواقعية وخاصة إذا ما وضع موضع التطبيق.

وكل اعتبار من الاعتبارات السابقة يحتاج إلى تفصيل وشرح، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن قضية المفاهيم تقع في قلب عملية الصراع الحضاري والسياسي الدائر الآن في قلب عالمنا العربي والإسلامي. فالمفهوم أو المصطلح، في نهاية الأمر، تعبير عن مصالح صاحبه ووجهة نظره ورؤيته لذاته والآخرين، ومن هنا تأتي أهمية المفاهيم والمصطلحات في إدارة – ليس فقط الصراع الحضاري – بل والصراعات السياسية والمعارك المصيرية لأية أمة.

لقد دار جزء كبير من الجدل حول الحدثين على أرضية “الصراع المفهومي”، واستخدمت في هذه المعركة عدداً من الآليات أهمها:

1 – إعادة تحديد مدلولات الألفاظ وبيان معانيها، فلفظ “التطبيع” قد تم تحديد معانيه وبيان دلالته على نحو مختلف باختلاف الموقف الذي يتبناه المثقف تأييداً أو رفضاً لإعلان كوبنهاجن.

2 – استبدال الألفاظ والمصطلحات السلبية بألفاظ ومصطلحات تحمل معنى إيجابياً في ذهن السامع: “فالتطبيع” يصبح “حواراً”.

وكان الوجـه الآخر لهذه الآلية هو استبدال المعاني الإيجابية في ذهن السامع بمعاني سلبية: فالعمليات الاستشهادية وعمليات المقاومة المشروعة تصبح نوعاً من ألوان “الإرهاب”.

3 – فك الارتباط بين المفهوم وبين مقتضياته ولوازمه، فإذا كان الحوار مقبولاً، فإن تحديد أهداف الحوار، وأطرافه، ومكانه، ومن يقوم به تعد من مقتضيات أي حوار يجري.

والوجه الآخر لهذه العملية هو إحداث ترابط بين المفهوم وبين لوازم ليست بالضرورة من طبيعته، فهناك افتراض ضمني يشكل خلفية “إعلان كوبنهاجن” وهو أن “السلام” مع كيان العدو ملازم “للتطبيع” وأن هذين المفهومين مترابطان ويستدعى أحدهما الآخر، ومن ثم فالتطبيع ضرورة حتمية تبحث عن السلام مع كيان العدو.

_____________________

الهوامش

(*) ساهم في كتابة هذا الجزء أ.وسام فؤاد – الباحث بالمركز الدولي للدراسات، وليس غرض هذا الجزء هو تتبع كل الجدل أو الحوار حول الموضوع، وإنما تقديم أمثلة دالة على اتجاهات ومواقف أطرافه.

(1) أسامة الغزالي حرب، التحدي الإسرائيلي، صحيفة الأهرام، 21/9/1996.

(2) انظر مجمل حججه في: عبد المنعم سعيد، إعلان كوبنهاجن…لماذا؟، صحيفة الأهرام، 5/2/1997.

(3) صلاح بسيوني، هل المطلوب تأسيس جمعية القاهرة للحرب، صحيفة الأهرام، 10/6/1998.

(1) أسامة الغزالي حرب، الحرب السياسي ضد إسرائيل، صحيفة الأهرام، 21/4/1997.

ومجمل الحجج التي أوردتها هذه المصادر الأربعة تضمنتها أيضاً سلسلة مقالات الكاتب لطفي الخولي المكتوبة بعنوان “كوبنهاجن: الفكرة، الإعلان، الحركة، المنشورة بصحيفة الأهرام خلال شهري مارس وإبريل من عام 1997.

(2) صلاح الدين حافظ، تحالف عربي في مواجهة تحالف كوبنهاجن، صحيفة الأهرام، 5/2/1997.

(3) فهمي هويدي، أوهام وأكاذيب، صحيفة الأهرام، 26/5/1998.

(1) فهمي هويدي، خطاب مراوغ وملغوم، صحيفة الأهرام، 19/2/1997.

(2) محمد السيد سليم، إعلان كوبنهاجن؛ رؤية نقدية، صحيفة الأهرام 26/2/1997.

(3) حسن نافعة، النخبة المصرية وعملية السلام، صحيفة الأهرام، 11/12/1996.

(4) رفعت سيد أحمد، التطبيعيون الجدد وجمعية القاهرة للسلام، صحيفة الأهالي، 13/5/1998.

(1) محمد سيد أحمد، تصور بديل عن إعلان كوبنهاجن، صحيفة الحياة اللندنية، 28/1/1997.

(*) ساهم في كتابة هذا الجزء أ.وسام فؤاد.

(1) روز اليوسف، 1/12/1997.

(2) صحيفة الرأي العام الكويتية، 29/12/1997.

(3) محمد سيد طنطاوى، إلى من قال: يا سيدي شيخ الأزهر ليتك لم تقابله ولم تقل له، صحيفة الشعب، 23/12/1997.

(4) حوار مع شيخ الأزهر، أجرته السيدة سناء السعيد، مجلة المصور المصرية، 26/12/1997.

(1) حوار مع الشيخ فوزي فاضل الزفزاف، أجرته الصحفية نشوى الديب، صحيفة العربي المصرية، 9/3/1997.

(2) صحيفة الرأي العام الكويتية، 29/12/1997.

(3) صحيفة الشعب، بتوقيع الشيخ سامي محمد متولي الشعراوي، 3/2/1998.

(4) المرجع السابق. وفي هذا المرجع كرر الشيخ سامي الشعراوي حجج الشيخ طنطاوي كاملة، كما كرر تهجمه على جماعة العلماء المعارضين.

(5) محمد وجدي قنديل، المواجهة بين الشيخ والحاخام، صحيفة الأخبار المصرية، 10/1/1998، وفي هذا المقام كرر الكاتب اعتذارات شيخ الأزهر، كما ذكر حجة عدم اقتناع الرسول r عن الذهاب بنفسه لزعماء يهود المدينة – بني قنقاع وبني النضير.

(1) أحمد حمروش، أوراق شخصية، مجلة روز اليوسف، 5/1/1998.

(2) عبد العظيم رمضان، شيخ الأزهر والتضليل السياسي، مجلة أكتوبر، 4/1/1998.

(3) محمد عبد المنعم، يؤثر ولا يتأثر.. يأمر ولا يأتمر، الأهرام، 28/12/1997.

(4) لطفي الخولي، اجتهادات، الأهرام، 11/1/1998.

(5) ميلاد حنا، باب الإمام الأكبر مفتوح لكل من يطرق، مجلة روز اليوسف، 19/1/1998، وكان من ضمن حجج ميلاد حنا في هذا المقام أيضاً الحديث عن سماحة الدين التي تتيح للشيخ من خلال العمل على سجيته إحداث تغيير في النفوس.

(6) إبراهيم القرضاوي، ثلاثية لقاء الإمام الأكبر والحاخام الإسرائيلي.

(1) إبراهيم الخولي، بيان إلى الأمة: كسر حصار السفارة الصهيونية على يد شيخ الأزهر.. حادث جلل، الشعب، 16/1/1998.

(2) يحيى إسماعيل، نزهوا الأزهر عن دنس اليهود، صحيفة آفاق عربية، 23/10/1997.

(3) يوسف القرضاوي، حول لقاء شيخ الأزهر وحاخام إسرائيل، صحيفة الشرق الأوسط، 7/1/1998.

(1) فهمي هويدى، لا مجال للحوار مع حاخامات إسرائيل، صحيفة الشرق الأوسط، 2/3/1998.

___     ، لقاء الشيخ والحاخام 1، الوفد، 1/1/1998.

___     ، لقاء الشيخ والحاخام 2، الوفد، 2/1/1998.

(2) محمد سليم العوا، يا سيدي شيخ الأزهر: ليتك لم تقابله ولم تقل له، الشعب، 19/12/1997.

(3) صحيفة الأسبوع، 21/10/1997.

(4) مجدي أحمد حسين، ليس معقولاً أن تراجع الحكومات عمليات التطبيع مع العدو ويقوم الأزهر بتنشيطها، الشعب، 26/12/1997.

(1) صلاح عز، يا شيخ الأزهر: كن عوناً لنا لا حرباً علينا، الشعب، 30/12/1997.

(2) جلال عارف، أخطأت يا مولانا، العربي، 5/1/1998.

(3) حسنين كروم، الأزهر والسياسة، الأسبوع، 29/12/1997.

(4) عبد الله السناوى، عارنا في الأزهر، العربي، 22/12/1997.

(5) عبد الحلـيم قنديل، إسلام الشيخ، العربي، 27/10/1997. وفي هذا الإطار أكد قنديل على حجة أن الأزهر رمز الإسلام وما كان ينبغي له أن يتورط في مثل هذا الفعل، كما أشار لحجة السعي لطعن المقاومة الإسلامية (حماس) من الخلف من خلال تطويقها بفتوى من الشيخ طنطاوى، كما كانت حجته أن المعلوم من الدين بالضرورة أن نقاتل الذين أخرجونا من ديارنا حتى آخر قطرة دم.

  • نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى