العنف في المنطقة العربية

بدأت الحلقة النقاشية حول العنف في المنطقة العربية بمجموعة من الأسئلة المطروحة حول تزايد ظاهرة العنف، فعادة ما يتم ربط ظاهرة العنف المتزايد بالتحول الديمقراطي والاجتماعي والسياسي مع بدايات الربيع العربي، وتردد في العديد من الأوساط أن العلاقة بينهما سببية، ولكنها في الحقيقة علاقة معقدة ومتشابكة مع تشابك وتداخل النتائج بالأسباب، كما أنها في الأساس علاقة تزامنية.

فمع بدايات مطالب التحول الديمقراطي اندلعت موجات العنف من قبل النظم السياسية للحفاظ على نفسها، ثم تصاعدت موجات من العنف والعنف المضاد له لعدة من الأسباب؛ أهمها: سنوات الاستبداد التي عاشتها المنطقة، فكل نظام سلطوي أنتج العنف المشابه لنوعية وكيفية السلطوية التي عاشتها الدول العربية المختلفة، هذا على الجانب السياسي؛ أما على الجانب الاجتماعي فحملت المجتمعات العربية عنفًا كامنًا داخلها نتيجة للاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كنتيجة لطول عهد الاستبداد.

وبقدر ما العلاقة بين التحول الديمقراطي والعنف تزامنية في واقعها إلا إنها سببية لما بعدها، فالعنف هو أحد أهم العوامل التي ستشكل مستقبل المنطقة، ومن ثم فاستخدام العنف يطرح العديد من الأسئلة على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي، وعلى المستوى القطري والإقليمي والدولي.

أما على الصعيد الفكري، فالصراع الشيعي-السني يطرح العديد من الإشكاليات الفكرية للتعايش بين الاثنين في المنطقة خاصة في كل العراق وسوريا واليمن هذا على الرغم من كون الصراع في الدولة الحديثة صراع سياسي واجتماعي بالأساس إلا أنه اتخذ مظاهر فكرية عميقة، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر تطرح إشكاليات أخرى من قبل التحدي الفكري لمجموعات العنف المحلية والعابرة للدول مثل تنظيم الدولة وفكرها المبني على العنف وتشريعه وشرعنته خاصة في مواجهة عنف الأنظمة أو العنف الخارجي المتمثل في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

أما فيما يتعلق بالجانب السياسي، فأهم تلك الأسئلة: إلي أي مدي يمكن شرعنة عنف الدول ضد مواطنيها؟ وما هي المسارات التي أمام الدول العربية التي لم تدخل في نطاق الحرب الأهلية خاصة مع استمرار عنف الدولة وزيادة معدلات العنف المضاد؟ وكيف يمكن العودة إلى المسار الديمقراطي مع استمرار عمليات تضييق المجال العام والمظالم المستمرة منذ الربيع العربي؟ كيف يمكن وضع خطة للعدالة الانتقالية تمهيداً للعودة إلي المسار الديمقراطي؟ وكيف يمكن الدخول في مفاوضات بين الأطراف المتصارعة في الدول التي شهدت حروبًا أهلية مثل العراق وسوريا واليمن؟ وهل في حالة هزيمة تنظيم الدولة سيتم إدخاله في مفاوضات من أجل مستقبل المناطق التي يسيطر عليها أم الوضع سيكون كما في العراق 2006؟ وهل الانتصار العسكري هو الحل الوحيد أمام الأطراف المتصارعة في الدول التي تشهد حروبًا أهلية؟ وما الذي سيحدث في الدول التي تنتصر فيها أحد الأطراف، فما هى كيفية مستقبلها السياسي؟

أما على الجانب الاجتماعي والثقافي، فالسؤال الأهم: كيف ستتعامل المجتمعات مع هذا العنف؟ خاصة في الدول التي تشهد حروبًا أهلية؟  وكيف تتقبل المجتمعات فكر العنف سواء من قبل الجماعات أو من قبل الدولة؟ وكيف تتعامل المجتمعات مع حالة تلبيس المفاهيم الخاصة بالإرهاب والعنف والقتل والاعتقال؟ وكيف تتعامل المجتمعات مع مشكلات اللجوء والنزوح وتزايد أعداد القتلى والمصابين في حوادث العنف المتنوعة؟ وماهية تلك المجتمعات التي يشكلها العنف في المستقبل؟

فزيادة مستويات العنف يخلق ثقافتي الخوف والعنف معا؛ فثقافة الخوف تفرض حالة من عدم الأمان في التعايش والتعامل مع النظم القمعية وتحاشي مواجهتها، أما ثقافة العنف فنتيجة لزيادة مستويات العنف تتولد أفكار ونظرات تبرر العنف والعنف المضاد وتجعل منه حلًا مقبولًا للصراع السياسي والمجتمعي وذلك يؤدي إلى خلق كل الرغبة والفرصة في ممارسته؛ الرغبة نتيجة لزيادة مستوياته وتقبل تلك المستويات مما يخلق رغبة أخرى متزايدة ومتصاعدة في استعمال العنف ويوفر فرصا أكبر لممارسته، وفي ظل حالة الاضطراب السياسي التي تشهدها الدول وفقدان السيطرة على بعض المناطق يتم خلق فرص جيدة لممارسة العنف دون الخضوع لأي مساءلة. ومن جانب آخر، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيفية فهم حراك المجتمعات في ظل هاتين الثقافتين المتناقضتين والتي تغذي إحداهما الأخرى، والمرتبطتين بمستويات العنف الزائدة؟

أما على المستوى القطري، فيطرح العنف داخل الدولة العديد من الأسئلة؛ أهمها: عن تطورات المشروعية التي تتخذها الدول غطاء لعنفها مع تصاعد جماعات العنف، هذا بالإضافة إلى واقع المسئولية؛ أي التبعة التي تتحمله الأنظمة أو الدول نتيجة ممارسة العنف ضد المجتمع، والأثر الجانبي الكبير المتعلق بإهمالها للعديد من وظائفها نتيجة لتورطها في ممارسة العنف أو مواجهته، وأيضا مستقبل الشرعية مع ارتفاع عدد المظالم المترتبة على استخدام الدول للعنف خارج إطار القانون. ومن ثم فما هو التعامل المناسب للدول مع جماعات العنف؟ وكيف تتعامل أنظمة الدول-القومية مع الجماعات التي لها رؤى إقليمية أوسع من الدولة القطرية؟ وكيف تتعامل مع مفهوم العدو الداخلي الذي قد تصنعه خاصة تلك الدول التي بها حروب أهلية؟ وما هو مستقبل الدول القطرية في ظل تلك الحالة المتفاقمة من العنف والعنف المضاد؟

وعلى المستوى الإقليمي، فتخلق رؤى دول مثل المملكة السعودية وإيران والإمارات وتركيا العديد من الإشكاليات نتيجة لتدخلها لفرض تلك الرؤية على المنطقة، خاصة مع القبول العالمي بالتدخل السعودي في اليمن، والتدخل الإماراتي لضرب الربيع العربي، والمواقف المتباينة من المحور الشيعي الذي تديره إيران في العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان.. فضلا عن الدور التركي والقطري في مؤازرة قوى الثورة العربية هنا وهناك، فتفاعلات تلك القوى مع الربيع العربي تخلق مزيداً من العنف بأنماطه المختلفة، وبطرق مباشرة وغير مباشرة، وتطرح العديد من الأسئلة حول شكل المنطقة في المستقبل، هذا من جانب، ومن جانب آخر يشكل تنظيم الدولة أحد أكبر التحديات الإقليمية من حيث مستويات العنف التي يتبعها أو صناعة الصورة الوحشية التي يتعمدها، ورؤية ذلك التنظيم للمنطقة ومستقبله هو أو بقاياه داخل المنطقة حال سحقه عسكريا كما يتوقع البعض.

أما على المستوى الدولي، فتطرح رؤى الدول الكبري مثل روسيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي العديد من الإشكاليات؛ أهمها: ما حقيقة رؤى هذه القوى الكبرى للصراع والتحولات الاستراتيجية التي تمر بها المنطقة؟ وإلى أي حد هي ضالعة في تصنيعها أو تأجيجها؟ أو هي حريصة على تهدئتها وإخمادها؟ وإلى أي حد تتسبب مصالحها القومية في تطورات مسلسل العنف في كل البقاع ومن كل الأطراف؟ والسؤال المقابل: هل ستخضع المنطقة لتلك الرؤى الدولية خاصة مع وجود العديد من المؤيدين لها في الداخل ومع حجم المساعدات التي تقدمها تلك الدول لفرض تلك الرؤى فيما يتعلق بشكل المنطقة والعنف الدائر فيها؟ أم أن ثمة مقاومة إقليمية يمكن أن تشارك في إعادة إنتاج المشهد؟ وهل تتمثل رؤية الولايات المتحدة وروسيا في سحق تنظيم الدولة في خلاص المنطقة من دائرة العنف أم أن ذلك يجدد دوائر العنف المختلفة؟ وهل الحل العسكري الدولي هو الحل وحسب خاصة بعد مباركة العالم لإجهاض ثورات التغيير والتحول الديمقراطي ومشاركته في العنف ضد الشعوب العربية والمسلمة؟!

هذه تساؤلات من وحي طوفان العنف الذي يجتاح المنطقة على خلفية صراعات متداخلة بين الثورات والثورات المضادة، وبين المشاريع الإقليمية (صراع المحاور والأوزان والأدوار) والمشاريع الدولية (خاصة إعادة تشكيل المنطقة ضمن ما يعرف استراتيجية تفتيت المفتت كما وصفها من قبل د.حامد ربيع).. والسؤال الأكبر والأول في هذا كله هو: ماذا نحن فاعلون؟

المناقشات

بناء على هذا الاستعراض وتلك الأسئلة جاءت المناقشات، ففي البداية  يري البعض أنه لابد من التعرف على الواقع ومساراته وما يجب أن تمضي عليه الأمور. فبالنسبة إلى طبيعة الظاهرة فهي معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى تفكير مصفوفي نعدد فيه المتغيرات ونصُفُّها لمعرفة أيها أكثر تفسيرًا وتأثيرًا على الواقع، وذلك يحتاج إلى عمل بحثي على المستويات والأصعدة المذكورة، مع التركيز على: ما الذي يؤجج العنف في المنطقة؟ وما الذي يمكن فعله لتغيير ذلك المسار؟ أما فيما يتعلق بالمسار الثاني  فيجب تحديد رؤية الأطراف المشاركة في الظاهرة، وهل هناك رغبة في المزيد من اسخدام العنف أو القوة على المستوي الداخلي والإقليمي والدولي؟ وهل تزداد الفرص والقدرات على استخدام القوة أو العنف؟ وما هي احتمالات المستقبل القريب؟

ومن أجل تحديد الواقع فيجب دراسة ظاهرة العنف في المنطقة العربية على عدة مستويات:

  • مستوي المفاهيم:

يلفت البعض النظر إلى الجانب اللغوي في استخدام مفهوم “العنف”. فالعنف في الأصل عكس الرقة، والاشتقاق اللغوي يستخدم للزجر والعتاب، ولا يستطيع الاستخدام اللغوي للكلمة أن يتحمل الآن ما يحدث على أرض الواقع مما يتطلب أن نستخدم كلمة أخرى تعبر عن الظاهرة.

بالإضافة إلى أن استخدام لفظ “عنف” يوحي بعدم الشرعية في جميع الأحوال حتى ولو كان عنفًا مشروعًا، وهو لفظ غير معبّر بالشكل الكافي عما تحتويه المنطقة من تغييرات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن العنف يحتوي على العنف الهيكلي -وهو الخاص بالقيم والأخلاق- وهو استراتيجية للبقاء. هذا بالإضافة إلى أن الدولة تستخدمه أيضًا كاستراتيجية، لذلك يمكن استخدام كلمة القوةforce ، ففي أحد استخدامتها: القوة المسلحة، ولكنها ليست الـ power.

ويرى البعض أنه يجب إدخال مفهومين إضافيين؛ وهما: “القتل” و”الحرابة”، فالعنف الذي تمارسه الدولة الآن هو حرابة، وليست حربًا -كما هو معروف- على الإرهاب، فإذا كانت كذلك لاستخدمت القوانين المتعلقة بالحرب في المناطق التي تحارب فيها الدولة، إلا أن الواقع الآن يوضح أن: الدولة تستخدم مفهوم “الحرابة”، وذلك يساعد على زيادة حركات العنف، ويشرعن مزيدًا من العنف مما يدخلنا في دائرة مفرّغة.

وأيضًا من المفاهيم التي تحتاج إلى ضبط مفهوم “الجهاد”، فتنظيم الدولة رغم أنه يمارس “الحرابة” إلا أن الناس تختلف حوله وحول مفهوم “الجهاد”.

أما فيما يتعلق بمفهوم “الدولة”، فيرى البعض أننا كان لدينا محاولة لإنشاء الدولة القومية ولكنها فشلت منذ بدايتها واتضح فشلها فيما قبل الثورات العربية؛ إما لعوامل داخلية أو عوامل خارجية، فمفهوم “الدولة” المتعارف عليه الآن لا يعبر عما هو موجود على أرض الواقع في المنطقة العربية. لذلك نحن نحتاج إلى نموذج معرفي يشرح الواقع الممارس الآن بكل تغييراته وإشكالياته ومفاهيمه، خاصة في إطار انفجار العنف بين الدولة والمجتمع في المنطقة العربية.

  • مستوى الداخل: علاقة المجتمع بالدولة:

ومن أجل الخروج من ذلك المأزق يجب أن نفهم كيفية حدوث تلك الظاهرة الواسعة من العنف، فرسم خرائط العنف ومعرفة مصادره وإعادة حالة التمدن هو التحدي الحالي. ومن أجل رسم تلك الخريطة ينبغي فهم الاختلالات الكامنة في المجتمعات نتيجة للطبيعة الاستبدادية للأنظمة العربية، والتي جعلت المجتمعات تتعايش مع العنف الحالي وتمارس عنفًا أشد ضد أفراد المجتمع وضد الآخرين، حيث تعددت مظاهر ذلك العنف حتى وصل إلى حد التوحش، فعلى سبيل المثال: في مصر زادت نسبة التحرش بالنساء خاصة المهاجرات واللاجئات –من السودان والعراق وسوريا- على مدار خمسة عشر عامًا ما قبل الثورة، بالإضافة إلى أزمة العشوائيات وما ينتج عنها من مشاهد عنف داخلها وخارجها.

فالعنف –كما يؤكد البعض- ليس مشاهد منفصلة عن بعضها البعض، إنما اختلالات متصلة ومترابطة تظهر للعيان وتحتاج المزيد من النظر والتحليل، ولقد عبرت الدراما -بشكل أو بآخر- عن تلك الاختلالات في مناسبات متفرقة، فعلى سبيل المثال أفلام (عبده موته، وإبراهيم الأبيض) ومسلسلات مثل (البلطجي) تظهر حالة العنف داخل العشوائيات وكيفية تصدير العنف خارجها مع تمجيد حالة العنف تلك.

بالإضافة إلى أن التغييرات المساحية والجغرافية سهلت عملية الانتقال إلى مرحلة التوحش خاصة في المناطق شبه الحضرية والعشوائيات، وجعلت من مناطق بعينها مجتمعا داخليا داخل المجتمع؛ وذلك يؤدي إلى تغيير القيم، وما ينتج عن ذلك من تغييرات سياسية. وهذا من جانب المجتمع.

أما فيما يتعلق بالدولة، فنلاحظ التعامل بالمنطق الثأري داخل الدولة من قبل الأجهزة الأمنية، حيث تتحول الأجهزة الأمنية إلى قبيلة تتعامل مع المواطنين بمنطق العدو الخارجي، فنرى -على سبيل المثال- أن وزارة الداخلية تحاول الانتقام لقتلاها دون الأخذ بالاعتبار مفهوم (سيادة أو هيبة الدولة) التي من المفترض أن تحميها بالقانون، فتطلق حملات أمنية تحت شعار (حق الشهيد) دون الأخذ بالاعتبار الإشكاليات التي يطرحها ذلك التعامل على العلاقة بين المجتمع والدولة.

وكل ذلك أنتج بؤرًا صديدية في المجتمعات تبعث على المزيد من العنف؛ مما أدى إلى تآكل رصيد التمدن في المجتمعات، فالمجتمعات ذات الرصيد العالي في التمدن تستطيع أن تحتوي العنف وتخففه.

  • مستوى الخارج: علاقة الدولة بالإقليمي والدولي:

حيث نشهد مرحلة جديدة من شرعنة الدولة لاستخدامها للقوة لرفض أي تغيير سياسي ممكن، فيرى البعض أنه بعد قيام الثورات استخدمت الدولة القوة المفرطة لمنع مطالب التغيير، ليس على مستوى قطري فقط ولكن أيضًا على مستوى إقليمي.

حيث استخدمت الدولة-القومية القوة المفرطة للدفاع عن نفسها رفضًا لأي محاولة لتغيير فلسفتها وهياكلها، والأخطر تغيير فلسفة كل من أدوات قوتها سواء الشرطة أو الجيش، فلم تعد الجيوش تعتبر العدو خارجيا ولكنها أصبحت تراه داخليا، والعدو هو: مطالب التغيير من داخلها ومن ينادي بذلك التغيير، فالدولة تقود المجتمعات نحو مزيد من التوحش ونحو مزيد من العنف ونحو مزيد من الاقتتال الأهلي، وذلك للعديد من الأسباب منها: اختلال رؤية الأنظمة للإرهاب داخلها، وتضمين مطالب التغيير داخله؛ ومن ثم مطالبة الخارج في ظل الحرب العالمية لمحاربة الإرهاب بمساندتها في حربها ضد الإرهاب المتصور (في الداخل)، مع اختلاف الوضع حاليا: فالخارج لم يعد يساعد بقواته العسكرية إنما بالاستشارات والمعونات العسكرية ويطالب الأنظمة بمحاربة ذلك الإرهاب المتصور. فأصبح الخارج يحض على الاقتتال الداخلي برعاية الدول والجيوش، فلم تعد الجيوش تابعة للدول ولكنها أصحبت هي الدول، ففي مصر وسوريا: الجيش هو الدولة.

ففي الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية، استخدمت الأنظمة أدوات قوتها من جيش وشرطة لقهر الناس ومنعهم من المطالبة بالتغيير؛ وذلك على مدار أكثر من 60 عاما، ولكن في الفترة من (14 ديسمبر إلى 14 فبراير) تلك لحظات فارقة في تاريخ الشعوب العربية وتاريخ علاقتها مع الدول وتغيير في علاقة الدولة بالمجتمع، فمنذ هذه اللحظة دخلت النظم في مواجهة مع شعوبها باستخدام أدوات قوتها، فالنظم تعتقد أنها في معركة حياة أو موت؛ ولذلك فهي تفرِط في استخدام القوة بشكل كبير سواء في سوريا أو العراق أو مصر أو ليبيا أو اليمن؛ وذلك من أجل إعادة الشعوب إلى ما قبل تلك الانتفاضات، ومع رفض الشعوب للعودة خاصة كل المجموعات العقيدية والفرعية التي كانت ترزح تحت ضغط الاستبداد؛ مما أدي إلى انفجار العنف الطائفي.

وتم إقصاء ونفي من كان يريد إصلاحًا سلميًا في كل التجارب سواء في اليمن أو في تونس وفي مصر، فلم يعد أمام المجموعات والجماعات إلا العنف، فتم إغلاق بدائل التغيير من جانب الأنظمة واستخدام المفرِط للقوة على مستوى شامل؛ فأدى إلى تدمير الدول أو تفكيك المجتمعات تحت مقولة الإرهاب، أو أنه شر تحت قوة قيادة الاقتتال الأهلي. وكل ذلك في قلبه: عملية التغيير السياسي من أجل الحرية ومن أجل التغيير ومن أجل القضاء على الاستبداد الذي ساعد في تجذير العنف في المجتمعات بين مختلف المجموعات المختلفة.

السؤال المطروح هاهنا: هل ليس لدينا خيار إلا التدخل الخارجي الذي يساعد الأنظمة المتهالكة لتصمد أمام مطالب التغيير كما حدث في سوريا، فكاد النظام أن يسقط ثلاث مرات لولا التدخل الخارجي لحماية الأسد؟

فتلك الحلقة المفرغة تحتاج إلى تحليل أكبر وتركيز على أسباب صعود العنف الداخلي متصلا بالخارجي، فالعنف ليس داخليا فقط ولكن الدائرة تتسع إلى الإقليمي بشكل كبير؛ لذلك يجب أن ننظر لها من مدخل نظمي إقليمي عالمي وليس من مدخل جزئي داخلي: اجتماعي اقتصادي سياسي فقط.

  • مستوى توظيف الدين في تبرير استخدام القوة أو العنف:

دار هذا المستوى عن توظيف الدين سواء من قبل الغلاة في المنطقة فيتم إسناد الأفعال التي يفعلونها إلى الدين، بالرغم من أن الإنزال لها في هذا المستوى من الواقع خاطئ وذلك للتبرير وإثبات الطهرية واتباعهم صحيح الدين، أو توظيف الدين على الجانب الآخر من قبل المعسكر الاستبدادي حيث يتم لي النصوص وتنزيلها في غير موقعها لتبرير استمرار الاستبداد وتبرير وجوده.

وتوظيف الدين في كلا الجانبين يؤثر بشكل خاص على  رؤية الناس الذين ليس لديهم علم شرعي وديني ، وكان ذلك يحل على مدار التاريخ بالعودة للشيوخ والعلماء، وفي ظل تفكك البنى الفوقية من هؤلاء فأصبح الناس في حيرة من أمرهم.

وذلك يدخلنا في السؤال التالي؛ ألا وهو: ما هى رؤية التيار الإسلامي للعنف في المنطقة وهل ينادي باستخدامه أم لا؟

فالتيار الإسلامي يرى أن العنف أو استخدام القوة ليس قضية دينية، فهو يتعامل مع العنف كرد فعل سيكولوجي ضد عنف الأنظمة وليس كتوجه إيديولوجي والتفكير فيها ليس تفكيرا رشيدا. والسؤال المطروح هاهنا: هل المرحلة الحالية مرحلة مواجهة الدولة مع الإسلاميين والتي بدأت منذ ما قبل عشرة أعوام قبل الثورات؟ بحيث اصطف مع الدول ومع العسكريين كل ماهو غير إسلامي بالرغم من وجود عدد قليل من بعض التيارات التي تقف أمام الدولة العسكرية،فجزء ممن يطلق عليهم الحركة الإسلامية يرون أنه يجب الحفاظ على السلم فوق العدل وفوق الحقوق ولذلك فينبغي محاربة الغلاة الذين يفسدون حالة السلم، أما فيما يتعلق بمحاربة الطغاة الذين يهيئون البيئة لظهور الغلاة هي ليست في أولوياتهم.

وأخيرًا: من نخاطب؟ ومن نتوجه إليه بكل تلك الأسئلة والإجابات عن تلك الظاهرة التي تتمدد في المنطقة العربية؟

يرى البعض أن القوى الحالية في المنطقة العربية تتحرك في ثلاث رغبات: الأولى- رغبة في نجاح الثورات والتغيير، والثانية- رغبة في الحفاظ على الدول والجيوش مع عدم إعطاء الفرصة للخارج للانقضاض عليهم، والرغبة الثالثة تبحث عن مصير المشروعات الفكرية. فهناك من هو مستعد للتضحية بكل شيء من أجل مشروعه، وعلى سيبل المثال: يضحي تنظيم الدولة بالدول والمجتمعات من أجل تحقيق مشروعه، بالإضافة إلى أن الدول تضحي بالمجتمعات ومطالب التغيير من أجل الحفاظ على الأنظمة القائمة. مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يوجد ما يسمى المشروع الليبرالي واليساري. لذلك فنحن أمام خطابين: خطاب مع الاستبداد بأشكال متعددة، وخطاب ضد الاستبداد أيضًا بأشكال مختلفة؛ وذلك له ثلاثة مسارات: المستعدون للحفاظ على الثورات بصرف النظر عن نتائج ذلك ولو كانت الاقتتال الأهلي، المستعدون للقبول بعودة الاستبداد أيا كانت ويلاته ومآسيه ومآلاته، أما المستوى الثالث فهو المتسائل: ما هو مستقبل الخطابين السابق ذكرهما؟ وما هو مستقبل المشروع الإسلامي بشكل خاص وبالأخص ضمن الوضع الحالي؟

ومن ثم نعود للسؤال: من المخاطب بتلك الأفكار؟ الأفراد أم الدول أم الحركات؟

والجواب أنه خطاب عام ينطلق من مكونات فكر إسلامي حضاري، وهو مجموعة من التحذيرات حول الوضع الراهن، يحذر من الاستبداد، ويحذر من الاقتتال الأهلي، ويحذر من المشروعات التي تفعل أي شيء لبقائها، ويحذر من ضياع المشروع الإسلامي. ومن ثم يتوجه إلى كل ذي رشد، فردًا كان أو دولة، وفي جانب منه هو موجه إلى الشعوب بصفة عامة والمنتمين إلى الأمة الإسلامية بصفة خاصة.

وفي الختام فالعنف (القوة) في المنطقة العربية يطرح العديد من الأسئلة والاشكاليات  بشكل أكبر مما قد يجيب هو عن الأسئلة التي تطرحها التغييرات التي تحدث في المنطقة، فالعنف يخلق واقع جديد ومتغييرات جديدة حتي وإن كان في نطاق رد الفعل، لتضاف تلك المتغيرات الجديدة في رصيد حجم التغيير في المنطقة؛ ليزيد العنف(القوة) التعقيد الذي يحدث في المنطقة، لتدخل الأخيرة في مشاهد جديدة دائرية وحلزونية من العنف و مشاهد التغيير المتشابكة والمعقدة .

ليكون العنف (القوة) بذلك أحد أهم الفاعلين والمؤثرين في تشكيل المنطقة العربية في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد سواء من الناحية الفكرية وأثر ذلك على الاسئلة الأساسية المطروحة أمام المواطن والمفكر العربي بداية بما هو مصير أطروحة الدول القومية؟ ونهاية بكيف يمكن الخروج من تلك الدوائر التي بدأت المنطقة  تدور بها بأشكال مختلفة؟، أو من  الناحية السياسية من حيث تغير القوى السياسية في الدول المختلفة وصراعها مع بعضها البعض، أو سقوط وصعود العديد من القوى، أو من حيث مسار الحروب الأهلية التي تخوضها بعض الدول العربية، وهل نحن مقدمون على حرب إقليمية شاملة وكيفية تجنب ذلك؟ أو من الناحية الاجتماعية مع تأثير مشاهد العنف تلك على المجتمعات وتفاعل تلك الأخيرة معها، سواء في دول التي خاضت محاولات ومطالب للتغيير وتحول ذلك سواء إلى حروب أهلية أو عودة إلى الاستبداد نتيجة للعديد من الاسباب الداخلية والخارجية.

إن المسارات التي تخوضها المنطقة بأشكالها المختلفة تستلزم رؤية تختلف وتتعمق فيما تحت السطح لرؤية التشابك والتعقد في سبيل وضع رؤية أو استراتيجية للخروج وذلك يستلزم بالضرورة المزيد من الحذر والتحليل والتفكر بشكل كلي في الإشكالات المطروحة أمام المنطقة سواء داخليًا أو خارجيًا.

 

هوامش

[1] – عقد مركز الحضارة للدراسات السياسية حلقة نقاشية بعنوان  “العنف في المنطقة العربية” 17 أكتوبر 2015، أدارتها: أ.د.نادية مصطفى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى