السلطة والمال والمعرفة في توجيه المؤسسات البحثية

من نموذج فورد الأمريكية نحو استعادة دور مؤسسات وقف إسلامية

مقدمة:

تضطلع المؤسسات الخيرية عبر العالم بدور مهم في تمويل النشاطات المدنية والحركة العلمية. فقد بلغ حجم المؤسسات الخيرية الأمريكية 64000 مؤسسة خيرية خصصت 435 بليون دولار في عام 2003 وحده[1]. وبينما تتوسع مؤسسات خيرية أخرى عبر العالم خاصة في أوروبا الغربية، لكن تظل الولايات المتحدة الموجه والمحرك الأكبر من حيث العدد وحجم الأموال في هذا الصدد بما تتيحه من حرية ومساحة عمل لهذه المؤسسات، وفي علاقاتها الوثيقة بأجندة عمل النظام السياسي الأمريكي ودوره عالميًا، الأمر الذي أسهم في نمو دور هذه المؤسسات كفاعل عالمي[2]. ومن ثم تجدر دراسة جوانب أدواره في الاقتصاد السياسي العالمي، ومن هذه الجوانب دور هذه المؤسسات الخيرية في توجيه البحث العلمي والمراكز البحثية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية. ولعل أبرز نموذج أمريكي وعالمي في هذا الصدد هو مؤسسة فورد للأعمال الخيرية.
حيث يمكن القول إن “فورد” هي المندوب الأول للسلطة الأمريكية على دراسة العلوم السياسية في العالم والداعم الأول للمدرسة الأمريكية للعلوم السياسية بتوجهها الوضعي السلوكي؛ فمؤسسة فورد هي ثاني أكبر مؤسسة خيرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتميزت باهتمامها بعلم السياسة تحديدًا؛ باعتباره أحد أهم العلوم الاجتماعية المهمة في الوقت المعاصر. وجدير بالذكر أن فورد ليست المندوب الأوحد للولايات المتحدة في هذا الشأن؛ ففورد تعتبر واحدة من المؤسسات المدنية الثلاث الكبار the “big 3” foundations التي دعمت توجهات السياسة الأمريكية خلال القرن العشرين (كارنيجي وفورد وروكفلر)؛ فمنذ بداية القرن كان توجه العزلة والنزعة القومية الأمريكية للانكفاء على الداخل لاستكمال بناء القوة الأمريكية العالمية، ثم توجه الولايات المتحدة لاحقًا لأن تحل محل بريطانيا في الهيمنة العالمية، ظل دور هذه المؤسسات المدنية والوقفية الأمريكية في دعم سياسة الدولة الخارجية وعلاقاتها الدولية عبر مشروعات وبرامج ومنح ومراكز بحثية جميعها تدعم معرفيًا وأيديولوجيا وسياسيًا واقتصاديا الهيمنة الأمريكية ضد ما يناهضها (Anti Americanism)، ليس فقط خلال فترة الحرب الباردة، وبتركيزه على دور هذه المؤسسات الوقفية في تمويل مشروعات ومؤسسات بحثية لدراسات المناطق؛ ومن النماذج المهمة أدوار كل من: فورد في تمويل شبكة الدراسات الآسيوية في أندونيسيا، ودور مؤسسة كارنيجي ومؤسسة روكفلر في تمويل وتوجيه شبكة الدراسات الأفريقية في نيجيريا، فضلا عن شبكة دراسات أمريكا اللاتينية في شيلي. وهذا الدور قد امتد لما بعد الحرب الباردة[3].
فقد تمكَّنت المؤسسات الخيرية الأمريكية خلال القرن العشرين من توسيع مساحات حركتها الاجتماعية، وتوطيد أركان دورها المؤثر في المجتمع الأمريكي وخارجه، بفضل تبني الحكومة الفيدرالية سياسة غير تدخلية في مجالات الحياة العامة.
وفيما يلي تتناول هذه الورقة تشابك الأبعاد الاقتصادية والسياسية والدولية في دور فورد كمؤسسة خيرية أمريكية أسهمت في توجيه البحث العلمي والمؤسسات البحثية في مجال العلوم السياسية في الداخل والخارج بما يحقق أهداف ودور الولايات المتحدة في العالم وتجاه قضايا العالم الإسلامي تحديدًا، ثم تحاول بعد ذلك استعراض نموذج مقابل من الخبرة الذاتية الحضارية لمجتمعاتنا وهي خبرة الوقف الإسلامي وما يواجها من تحديات ومعوقات من جهة وأفق تطوير أطر عملها وتفعيلها في البحث العلمي في أمتنا. وذلك وفق المحاور التالية:
المحور الأول: السلطة والمال والمعرفة: المؤسسات الخيرية والرأسمالية الأمريكية: نموذج مؤسسة فورد
ويشمل ثلاث نقاط:
– أولًا: تعريف بفورد كمؤسسة خيرية أمريكية: النشأة وطبيعة الدور
– ثانيًا: السلطة والمعرفة: علاقة الحكومة الفيدرالية وسياساتها الخارجية بفورد في إطار تطور دور الرأسمالية الأمريكية في الاقتصاد السياسي العالمي
– ثالثًا: فورد وتوجيه البحث العلمي والمؤسسات البحثية في العلوم السياسية
المحور الثاني: السلطة والهيمنة “ليست اللعبة الوحيدة في المدينة”: المعرفة سلطة… من نموج فورد نحو استعادة نموذج الوقف الإسلامي
وذلك عبر النقاط التالية:
– أولًا: تمويل فورد لمؤسسات معنية بدراسة شئون العالم الإسلامي
– ثانيًا: الدور المنوط بمؤسساتنا البحثية الممَولة من المؤسسات الخيرية الدولية
– ثالثًا: من تبعية المعرفة للسلطة نحو دفع المعرفة لتهميش السلطة
– رابعًا: الوقف في الخبرة الإسلامية: نموذج لدور الأمة في دعم سلطة المعرفة

المحور الأول: السلطة والمال والمعرفة: المؤسسات الخيرية والرأسمالية الأمريكية: نموذج مؤسسة فورد:

أولًا: تعريف بفورد كمؤسسة خيرية أمريكية: النشأة وطبيعة الدور:

يقصد بمفهوم المؤسسة الخيرية في النموذج الأمريكي “منظمة مستقلة تقوم وفقًا لإرادة أحد مانحي الأوقاف الخيرية، والذي تمتلك المؤسسة الخيرية بفضله وقفية تدار بواسطة عدد قليل من الأشخاص” . كما تُعرَّف باعتبارها “منظمة غير حكومية وغير هادفة للربح، تمتلك مصادر تمويلها الذاتية في صورة وقفيات كبرى عادة، وتدار بواسطة مجلس أمناء )أو مديرين( خاص بها، وتهدف إلى المساعدة في تحقيق عديد من الأنشطة الاجتماعية والدينية والخيرية والتعليمية أو أية أنشطة أخرى تبتغي الرفاهية العامة.”[4]
وعليه، فقد أسس هنري فورد وولده إدزيل (مالكا مؤسسة فورد للسيارات) مؤسسة فورد الخيرية عام 1936 بمنحة مبدئية تقدر بخمسة وعشرين ألف دولار*، واقتصر نشاط المؤسسة لما يزيد عن عقد ونصف على دعم العمل الخيري في المناطق المحيطة بمصانع شركة فورد للسيارات داخل ولاية ميتشجان، مخصصة الجزء الأكبر من هذا الدعم لصالح مستشفى هنري فورد ومؤسسة إديسون العلمية. وجاء تأسيس مؤسسة فورد في فترة سارعت فيها عديد من الشركات الكبرى لتكوين مؤسسات خيرية سعيًا وراء الحصول على تسهيلات ضريبية للشركات المانحة للمؤسسات الخيرية في الداخل الأمريكي[5].
وبوفاة فورد الأب والابن، تلقَّت المؤسسة هبات ضخمة من ميراثيهما في أسهم شركة فورد الأم، مما سمح لها بالتطلع نحو توسع أفقي ورأسي في نوعية أنشطتها ونطاق عملها، ودفع أسرة فورد لتكليف روان جيثير- وهو محامٍ مرموق- برئاسة لجنة لبحث مجالات ونطاق التوسع المتوقع. وقد أوصت اللجنة في تقرير أصدرته عام 1949بتحول عمل المؤسسة من المحلية إلى المستويين الوطني والعالمي، وحددت خمسة مجالات لعمل البرامج المقترحة: تأسيس السلام، ودعم الديمقراطية، وتقوية الاقتصاد، ودعم التعليم في مجتمع ديمقراطي، وأخيرًا الاهتمام بالسلوك الفردي والعلاقات الإنسانية المتبادلة، ومثلت المجالات الخمسة محاور عمل المؤسسة لعقود تالية[6].

ثانيًا: السلطة والمعرفة: علاقة الحكومة الفيدرالية وسياساتها الخارجية بفورد في إطار تطور دور الرأسمالية الأمريكية في الاقتصاد السياسي العالمي

مثلت العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والمؤسسات الخيرية قضية محورية في عمل كلا الطرفين. فرغم أن عدم الانخراط المباشر في الأنشطة السياسية ظل سمة ملازمة للعمل الخيري في الولايات المتحدة، وفقًا للقوانين المنظِمة لنشأة وعمل المؤسسات الخيرية، إلا إنه من الصعب قياس مستوى الانخراط غير المباشر لهذه المؤسسات في الحياة السياسية؛ فلا شك أن المؤسسات الخيرية، خاصة الكبرى منها مثل كارنيجي وفورد وروكفلر، كان لديها علاقة ذات وجهين مع السلطة السياسية؛ الوجه الأول يعكس سعي هذه المؤسسات الخيرية لحماية مصالحها الاقتصادية وتحقيق أهدافها الاجتماعية والتعليمية، والوجه الآخر يمثل محاولات الحكومة الفيدرالية وممثليها المحليين لضبط دور المؤسسات الخيرية الاجتماعي، في إطار السياسات العامة للدولة، بل واستخدام تلك المؤسسات من أجل تحقيق هذه السياسات داخليًا وخارجيًا. وكما يعبر روبرت أرفون: “فإن المؤسسات الخيرية، مثل فورد وروكفلر وكارنيجي، قد مارست تأثيرًا قمعيًا في مجتمع ديمقراطي؛حيث قامت بدور وكالات التهدئة، لإرجاء ومنع أية تحولات ثورية وبنيوية في المجتمع، من خلال المحافظة على نظام سياسي- اقتصادي عالمي المنظور، يفيد مصالح النخبة الحاكمة للمانحين والممنوحين[7].” ويمكن دراسة العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والمؤسسات الخيرية من خلال بحث ثلاث دوائر متقاطعة: الأولى هي المصالح الاقتصادية للنخبة، سواء السياسية المرتبطة بالحكومة أو الاقتصادية المرتبطة بالمؤسسات الخيرية، والدائرة الثانية تتعلق بالسياسة الداخلية للحكومة، وتحديدًا في مجالات التعليم العالي، وتركز الدائرة الثالثة على توظيف الدولة للمؤسسات الخيرية في تطبيق سياستها الخارجية[8].
الباب الأمريكي الدوار بين السياسة والأكاديميا والاقتصاد: إن العلاقات بين المؤسسات الخيرية والشركات الرأسمالية والحكومة الفيدرالية لم تقتصر على تبادل المنافع والمصالح، بل امتدت إلى تبادل الخبرات والأشخاص، ضمانًا لاستقرار النظام. فعلى سبيل المثال، تولى روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأسبق ومهندس حرب فيتنام رئاسة البنك الدولي بعد فترة قضاها رئيسًا لشركة فورد للسيارات وعضوًا في مجلس إدارة مؤسسة فورد. علمًا بأن ذلك هذا التعاون (الحكومي- الخيري – الرأسمالي في رسم وتطبيق السياسات) لم يمنع الحكومة الفيدرالية من مراقبة التوجهات السياسية للمؤسسات الخيرية، وانعكاسات هذه التوجهات على السياسات التمويلية[9].
لعبت المؤسسات الخيرية الكبرى، مثل فورد وكارنيجي وروكفلر، دورًا مهمًا في السياسة الخارجية الأمريكية؛ فقد ساعدت المؤسسات الخيرية كلًا من الحكومة الفيدرالية والشركات الرأسمالية، على تأمين وجود أمريكي يحظى بالتقدير، نتيجة لأدوارها الإنسانية في عديد من دول العالم النامي. وضمِن هذا التواجدُ الحصولَ على الإمدادات اللازمة من المواد الخام، بالإضافة إلى فتح أسواق الدول النامية أمام الشركات الأمريكية، وتأكيد هيمنتها عليها[10].
ومن ثم، كان إطار النشأة والتطور لدور المؤسسات الخيرية والوقفية الأمريكية عامة وفي دعم مراكز البحث الخاصة بالعلوم السياسية (وبالأخص في هذا الإطار نموذج فورد)، هو نموذج الرأسمالية الأمريكية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تتضح أبعاده فيما يلي:
تمكنت المؤسسات الخيرية من توطيد علاقاتها مع الحكومات الفيدرالية المتعاقبة، بهدف تأمين مصالحها الاقتصادية، مقابل اضطلاعها بأدوار اجتماعية تخفف من الآثار الاجتماعية للنظام الرأسمالي القائم. وفي هذا الإطار، أسهمت المؤسسات الخيرية، خاصة المعنية بالتعليم والبحث العلمي، في مساعدة الحكومة في صياغة السياسات التعليمية وتطبيقها، كما امتد هذا التعاون الحكومي – الأهلي إلى الأنشطة الإغاثية والتنموية خارج الولايات المتحدة.
فثمة رافد مهم من الأدبيات يركز على الربط بين التغيرات في الطبقة الرأسمالية الغنية في الولايات المتحدة وبين استمرار الازدهار والتدفق في إنشاء المؤسسات الخيرية الأمريكية، باعتبار أن نشأة المؤسسات الأمريكية في بداية القرن قد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بنمو واتساع الرأسماليين الأمريكيين[11]. ويركز هذا الاتجاه، على دور القطاع الخيري وأبعاد سلطته في التأثير على الحركة العلمية والأنشطة الأكاديمية داخل الولايات المتحدة وخارجها[12].
وترصد ريهام خفاجي في هذا الاتجاه كتابات إدوارد بيرمان، أستاذ التربية في جامعة لويزيانا، حول وجود علاقة وثيقة بين رؤية وتحركات المؤسسات الخيرية الدولية وبين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث تطبق هذه المؤسسات سياسات تمويلية تؤثر في بنية الحركة الأكاديمية في العالم النامي، وتحديدًا أفريقيا، بما يخدم مصالح السياسة الخارجية الحكومية.
وتعرضت بعض الدراسات للبحث في دور مؤسسة فورد تحديدًا في الحركة العلمية في الولايات المتحدة، مثل رسالة الدكتوراه لبيتر سيبولد “تطور الاجتماع السياسي الأمريكي: دراسة حالة لدور مؤسسة فورد في إنتاج المعرفة”[13]. حيث أثبت سيبولد أن مؤسسة فورد استطاعت سك مفهوم “الدراسات السلوكية” في فترة الخمسينيات، ووقفت خلف بلورة هذا النوع من الدراسات ونشره في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، بما أحدث نقلة نوعية في منهاجية علم الاجتماع السياسي ونظرياته لفترات زمنية طويلة لاحقة.
وعليه، فقد كانت دوافع بروز دور المؤسسات الخيرية مجتمعيًا وسياسيًا وعلميًا ودعمها لمراكز بحثية بالداخل والخارج في:
– نشأت المؤسسات الخيرية والوقفية الأمريكية ومنها فورد في بدايات القرن العشرين، وفق قواعد الاقتصاد السياسي الرأسمالي؛ حيث حرية الأسواق ونمو المؤسسات الصناعية والاستثمارية الكبرى يصاحبه دور اجتماعي للشركات، فضلا عن وجود أطر قانونية من الدولة الأمريكية لتنظيم ومراقبة دور هذه المؤسسات الخيرية وإعفائها من الضرائب بموجب دورها في تنمية المجتمع ودعم البحث العلمي في الداخل والخارج، فضلا عن جهود هذه المؤسسسات في مكافحة الفقر واللاعدالة التي تنتشر مع توسع الرأسمالية الغربية عالميًا.
– تتراوح الأسباب التي تدفع الشركات الرأسمالية للإسهام في المجالات غير الهادفة للربح بين المصلحة الذاتية والإيثار (حيث لا تخلو أدوارها من بعد رسالي تجاه مجتمعها)؛ وكما قال أحد المدراء التنفيذيين السابقين في مؤسسة فورد، “نحن نحمي أنفسنا، وعملنا، فقط عن طريق جعل مجتمعنا يعمل جيدًا بصورة متساوية لجميع أعضائه، وهذا ما يعني بالنسبة لي، مع أشياء أخرى، العطاء التطوعي، عطاء المعرفة والوقت والمال، حينما نقتنع أن هذا العطاء سيزيد من الكفاءة، ويصحح الشرور، ويوسع من نطاق المساواة. إن حالة عطاء الشركات هي جزء ضروري لبقائها.[14]”
– إن دعم هذه المؤسسات للبحث العلمي ومراكزه يعد أفضل طريقة لاستثمار الثروة الاقتصادية في رأس المال السياسي والاجتماعي والثقافي، بتحويل الأموال إلى سلطة عبر استخدام نسبة ضئيلة من أرباح الشركات الرأسمالية لإدارة العالم.
– وحتى في ظل النيوليبرالية والتوجه نحو الخصخصة والحوكمة وتراجع الدور الاجتماعي لرأس المال والشركات ومؤسساتها “الخيرية”، فعلى الرغم من كل ذلك فحرية الأسواق وخصخصة كل شيء تعني أيضًا صلاحيات أكبر للمنظمات غير الحكومية وعلى رأسها الشركات الرأسمالية العالمية الكبرى التي وضعت أسس صياغة فكرة الحوكمة العالمية، من خلال دور رجالها في المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين (سياسة الباب الدوار الثلاثية سابقة الذكر)، بما يصب بالأساس لصالح المؤسسات الرأسمالية الأم لهذه المؤسسات وصالح الإدارة الأمريكية وهيمنها على العالم كذلك*.
مما يعني أن دور المؤسسات الخيرية عالميًا مستمر مع متطلبات ومقتضيات المرحلة الجديدة للحقبة النيوليبرالية؛ فموازاةً للدور الذي تلعبه الشركات الرأسمالية المالكة لهذه المؤسسات الخيرية في دعم ودفع النيوليبرالية، فإن جناحها الخيري يعمل في المقابل على احتواء آثارها وضبط حركة الفواعل المناهضة لها؛ فالمؤسسات الخيرية لكل من فورد وروكفلر وغيرهما تمول بسخاء الشبكات المناهضة للعولمة وللرأسمالية وكذلك دعاة الحفاظ على البيئة، بهدف التحكم بمحصلة نشاطها وتوجيهه عبر آلية “تصنيع المعارضة” في بيئة مخادعة؛ فعلى سبيل المثال: تدعم فورد “المنتدى الاجتماعي العالمي”WSF (الذي تأسس عام 2001 في البرازيل- بورتو أليغري، تحت شعار: “عالم آخر هو أمر ممكن “Another World is Possible” ويعد مظلة عالمية واسعة لتمثيل المنظمات المدنية المناهضة للعولمة والداعية لتغيير وإصلاح النظام العالمي)؛ فقد قدمت مؤسسة فورد التمويل للمنتدى في سنواته الثلاثة الأولى عبر برنامجها “تقوية المجتمع المدني العالمي” عام 2004، وحين عقد المنتدى في مومباي- الهند، رفضت اللجنة الهندية المستضيفة تمويل فورد. وهذا الإجراء بحد ذاته لم يكن كافيًا لتعديل طبيعة العلاقة بين المنتدى ومانحيه، فبينما انسحبت فورد من التمويل رسميًا، تموضعت مكانها شركات أخرى. والجدير بالذكر أن أجندة أعمال المنتدى 2016 في مونتريال، جاءت متضمنة مأساة الشعب السوري بين مطرقة النظام الديكتاتوري وسندان المعارضة المتصارعة، بينما لم يُشر نهائيًا لدور الولايات المتحدة وحلف الناتو في تدمير سوريا.
وهو ما يدعونا لاستعراض دور فورد في توجيه البحث العلمي والمؤسسات البحثية خاصة على صعيد أمتنا العربية والإسلامية.

ثالثًا: فورد وتوجيه البحث العلمي والمؤسسات البحثية في العلوم السياسية:

تعددت طرق وإستراتيجيات عملها بين منح ومشروعات وشراكات داخل جامعات أمريكية وتأسيس مراكز بحثية مستقلة، وبين دعم قضايا وحقول علمية كاملة بما يخدم دورها المركب في لعبة السلطة والمال والمعرفة، وذلك وفقًا يلي:
اهتمت فورد عامةً بمشروعات مثل: الأمن الغذائي العالمي، والتنمية الاقتصادية، وحقوق الإنسان. وعلى مستوى علم السياسة ومناهجه عامةً اتبعت فورد إستراتيجيات دعم الدراسات السلوكية من خلال: تدريب الكوادر البحثية، وإنشاء وتطوير المؤسسات الأكاديمية ذات التوجهات السلوكية، وتمويل مراكز بحثية مستقلة.
وعلى مستوى حقول العلوم السياسية، قدَّمت فورد إسهامات متميزة في دعم دراسات الأمن الدولي والسياسات الخارجية والعلاقات الدولية، فضلا عن دورها في تمويل دراسات القانون الدولي والمنظمات الدولية ودراسات المناطق؛ فيما يلي تفصيله[15]:
فعلى صعيد دراسات الأمن استخدمت فورد إستراتيجيات ثلاث: تمويل المشروعات البحثية، وتأصيل الدراسات الدفاعية في الجامعات الأمريكية، ودعم المراكز البحثية المستقلة، لدفع الاهتمام بالقضايا الدفاعية والأمنية المتعلقة بالداخل الأمريكي أو الخارج الدولي.
وفي مجال السياسة الخارجية تجاه مناطق بعينها، قدمت فورد عدة منح لتعميق فهم العلاقات الأمريكية الخارجية على نطاق: العلاقات الأمريكية-السوفيتية، والعلاقات الأمريكية-الأفريقية، العلاقات الأمريكية-الأوروبية، والعلاقات الأمريكية مع دول أمريكا اللاتينية، والعلاقات الأمريكية بالنظام الدولي بصفة عامة، والشئون الإسلامية تحديدًا. وذلك كله وفق إستراتيجية متكاملة تجمع بين دعم مؤسسات بحثية، ومشروعات علمية وفق أجندة قضايا موجهة، فضلا عن اهتمام خاص بدراسات المناطق وجاء في قلبها عالمنا العربي والإسلامي. حيث:
1) على مستوى المؤسسات البحثية تحديدًا جاء دورها في إنشاء ودعم مراكز مهمة:
‌أ- دعم فورد للمراكز البحثية المتخصصة في الجامعات الأمريكية:
أسهمت مؤسسة فورد في تأسيس العديد من المراكز البحثية المتخصصة في دراسات الأمن والحد من التسلح في الجامعات الأمريكية، بالإضافة إلى تقديم الدعم السخي للمراكز المهمة الموجودة بالفعل. على سبيل المثال، قدَّمت فورد في عام 1976 منحة بلغت قيمتها مليونًا وثلاثة أرباع المليون دولار، لصالح برنامج العلوم والشئون الدولية في جامعة هارفارد. وفي العام التالي، موَّلت فورد وقفية دائمة للبرنامج الذي تحول إلى مركز العلوم والشئون الدولية، بمبلغ أربعة ملايين دولار. ويُعدُّ المركز من الجهات المهمة في دراسات الحد من التسلح.
اهتمت مؤسسة فورد بتمويل المراكز البحثية المستقلة خارج الجامعات، خاصة المراكز التي لها دور متميز في حقل الدراسات الدفاعية، وركَّزت المؤسسة على دعم المراكز المهمة، وتحديدًا مؤسسة راند ومعهد بروكينجز ومركز هنري ستيمسون، بالإضافة إلى عدد قليل من المراكز الأخرى. وفي هذا الإطار، دأبت مؤسسة فورد على تقديم تمويل عام لصالح الأنشطة العامة للمراكز المدعومة، يعقبه لاحقًا تمويل مشروعات بحثية محدَّدة تجريها هذه المراكز.
‌ب- معهد بروكينجز Brookings Institution:
هو مركز متعدد جهات التمويل؛ بين جهات مانحة وأفراد والإدارة الأمريكية وإصدارات المعهد نفسه والمراكز البحثية التابعة له. وباعتبار الجهات الخيرية والوقفية هي صاحبة الجانب الأكبر من تمويله، وفق التقارير المالية المنشورة سنويا للمعهد، فقد تلقى المعهد من مؤسسة فورد بين عامي 1955 و1978، نحو 37 مليون دولار – باعتباره معهدًا مؤثرًا – للبحث والنشر في قضايا الاقتصاد والحكومة والسياسة الخارجية والعلوم الاجتماعية. حتى أضحى مع مطلع العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين “المصنف رقم واحد كأهم مركز فكر إستراتيجي على مستوى العالم، وأيضًا المصنف رقم واحد على مستوى التخصص في مجال التنمية”[16].
‌ج- مؤسسة راند Rand Corporation:
بدأت فورد دعم مؤسسة راند في عام 1952، حيث قدَّمت الأولى منحة لمؤسسة راند لتقويتها ودعم برامجها العامة. ومنذ نهاية السبعينيات، شرعت فورد في تمويل مشروعات بحثية محدَّدة، تجريها راند، وتركزت حول القضايا العسكرية والإستراتيجية، خاصة المرتبطة بالتعاون الأمريكي – الأوروبي. ومع تغير طبيعة النظام الدولي منذ تسعينيات القرن العشرين وتحول قضايا الأمن نحو القضايا غير العسكرية المباشرة، في مرحلة مابعد الحرب الباردة، ومع بروز مقولات صدام الحضارات والخطر الإسلامي جاء الاهتمام بالإسلام كأحد مصادر التهديد أو التحدي الأمني.
وهذا ما سيلي بيانه ضمن المحور الثاني من الدراسة، ويشمل في جانبٍ منه أنشطة كل من بروكنجز وراند (باعتبارهما نموذجين لأهم المؤسسات البحثية التي تمولها فورد) تجاه العالم الإسلامي تحديدًا.
‌د- مركز هنري ستيمسون Henry L. Stimson Center:
قدَّمت فورد عدة منح لمركز هنري ستيمسون، تمحورت حول الحد من التسلح، خاصة اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية. كما حصل مركز هنري ستيمسون على منحة لصالح الأنشطة البحثية والتعليمية حول السياسة الخارجية الأمريكية.
وبخلاف دعم مؤسسة راند ومعهد بروكينجز ومركز هنري ستيمسون، قدمت مؤسسة فورد عديدًا من المنح لمشروعات بحثية تُعنى بالدراسات الدفاعية والقضايا الإستراتيجية، وأجرى هذه الدراسات عددًا من المراكز البحثية المتفرقة. وتقِّدر تقارير مؤسسة فورد السنوية أنه خلال الفترة (1973-1981)، قدَّمت المؤسسة نحو 18 مليون دولار، لتقوية البحث والتدريب على السياسة الدفاعية وقضايا الحد من التسلح. وذهب معظمها لتأسيس مراكز بحثية في الولايات المتحدة وإنجلترا وسويسرا وأستراليا. وركز الباحثون فيها على التوازن الإستراتيجي بين الشرق والغرب ومنع الانتشار النووي وتجارة السلاح، فضلًا عن تكاليف تكنولوجيا التسلح وسماتها وإستراتيجية الحد من التسلح.
2) تدريب الكوادر البحثية المؤهلة:
اهتمت مؤسسة فورد بإعداد الكوادر البحثية المتميزة في مجالات الدراسات الدفاعية، وركزت تحديدًا على تأهيل الباحثين للعمل في المؤسسات الدفاعية الفيدرالية، وكذلك تدريب باحثين متخصصين في قضايا الأمن والتسلح في مناطق بعينها. وتميزت جهود فورد بمحاولة تحقيق التكامل بين التأهيل الأكاديمي والخبرة التطبيقية، بالإضافة إلى الجمع بين الباحثين المهتمين بالسياسة الدفاعية الأمريكية وغيرهم من المتخصصين في شئون الدفاع في المناطق الأخرى من العالم.
3) تمويل مشروعات بحثية وأجندة قضايا معينة:
اتجهت مؤسسة فورد نحو تمويل مشروعات بحثية مرتبطة بقضايا معينة مثل: الإنفاق العسكري الأمريكي، وإدماج الأقليات في إدارة وصنع السياسات الأمنية، واقتصاديات الدفاع وقضايا الصراع والحد من التسلح. وعكست طبيعة هذا الدعم وقضاياه المدروسة إدراك فورد لتحقيقها نجاحًا نسبيًا في مرحلة الدعم البنيوي، واهتمام المؤسسة باستثمار هذه البنية التحتية لتطوير الجوانب البحثية في حقل الدراسات الأمنية. ركَّزت مؤسسة فورد على الجوانب الاقتصادية في السياسات الدفاعية الأمريكية، وما يرتبط بها من قضايا جودة الإدارة الدفاعية والعلاقة المتبادلة بين السياسات الاقتصادية والتخطيط الدفاعي. وحاولت المؤسسة تطوير اقترابات جديدة حول قضايا الميزانية والإنفاق العسكري، والاستفادة من الخبرات المقارنة في الدول الغربية الأخرى في اقتصاديات الدفاع.
4) مؤسسة فورد ودراسات المناطق[17]:
أولت مؤسسة فورد دراسات المناطق اهتمامًا كبيرًا، مما جعل إسهامات المؤسسة في دعم هذا الحقل الأكاديمي بالغة الأهمية، وربط تطور دراسات المناطق بدعم المؤسسة لها. ويرجع ذلك لعاملين رئيسيين؛ ضخامة تمويل فورد لتطوير دراسات المناطق، واستمرارية دعم فورد لهذا الحقل بدون انقطاع منذ توسعها الوطني والعالمي. واعتمدت فورد في دعمها لدراسات المناطق على إستراتيجية شاملة تشمل: تدريب كوادر بحثية لدراسات المناطق المختلفة، وبرامج للمنح الدراسية تحت إدارة مؤسسة فورد، وإيجاد مادة علمية وقواعد بيانات عن المناطق المختلفة من العالم. فضلا عن دعم الدوريات الأكاديمية في دراسات المناطق، ودعم التبادل الأكاديمي بين الجامعات الأمريكية ونظيراتها في الخارج. والتركيز على أجندة قضايا تخدم الدور الأمريكي في العالم.
وتنوعت القضايا المدعومة لتناسب المنطقة محل التركيز والظروف التاريخية المرتبطة بها. فكان الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا موضع بحث في القضايا الأمنية والصراعات الإقليمية منذ أوائل الثمانينيات. وفي التسعينيات، عاد التركيز لينصب على دول شرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ووجود حالة من الفراغ الأمني والسياسي. ومع بدايات الألفية الثالثة، طوَّرت فورد برامجها لتركز على القضايا العالمية، مثل حقوق الإنسان والأقليات والمجتمع المدني، مما أسقط جانبًا من الحواجز بين دراسات المناطق الخارجية والدراسات عن الداخل الأمريكي، لتحل محلها القضايا عابرة القارات وأبعادها في مختلف الثقافات وآثارها العالمية؛ ففي عام 2001 وجهت فورد اهتمامها في دراسات الشرق الأوسط نحو قضايا المرأة وحقوق الإنسان واللاجئين والإرهاب. فقدمت منحة لمجلس العلاقات الخارجية لتطوير قوة عمل عن الإرهاب، وعقد مائدة مستديرة لمناقشة التحديات التي تواجه المجتمع الدولي، ومنحة أخرى لعقد حلقات نقاشية وإجراء أبحاث ونشرها عن دور المرأة في الشرق الأوسط.
المحور الثاني: السلطة والهيمنة “ليست اللعبة الوحيدة في المدينة”: المعرفة سلطة .. من نموج فورد نحو استعادة نموذج الوقف الإسلامي
يتناول هذا المحور كيف انصب اهتمام فورد التمويلي بمؤسسات بحثية معنية بدراسة العالم الإسلامي حمايةً ودعمًا للمصالح الأمريكية، وما دور مؤسسات أمتنا حيال ذلك؟ وفي المقابل، نموذج الخبرة الإسلامية للوقف مع إشارة لما عليه من قيود ونحو التعامل مع إشكاليات عمله في ظل الدولة القومية وسلطاتها المهيمنة وغير الداعمة لدور مجتمعي في دعم المعرفة. وذلك عبر النقاط التالية:
– أولًا: تمويل فورد لمؤسسات بحثية معنية بدراسة شئون العالم الإسلامي
– ثانيًا: الدور المنوط بمؤسساتنا البحثية الممَولة من المؤسسات الخيرية الدولية
– ثالثًا: من تبعية المعرفة للسلطة نحو دفع المعرفة لتهميش السلطة
– رابعًا: الوقف في الخبرة الإسلامية: نموذج لدور الأمة في دعم سلطة المعرفة
و
تفصيل هذه النقاط على النحو التالي:

أولًا: تمويل فورد لمؤسسات بحثية معنية بدراسة شئون العالم الإسلامي

برز اهتمام فورد والمؤسسات البحثية التي تسهم في تمويلها – وعلى رأسها راند وبروكنجز – بالعالم الإسلامي ضمن سياقات ومساحات عدة: ضمن دراسات الأمن والتنمية، وضمن دراسات المناطق خاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضمن العناية بمداخل تسوية وحل الصراع العربي الإسرائيلي، فضلا عن عنايتها بتحديد برامج ومشروعات بحثية خاصة بالعالم الإسلامي في العلاقات الخارجية الأمريكية. وقد تقاطعت هذه المساحات جميعًا وتم توظيف كل جانب منها في الآخر. وهو ما تظهره الدراسة في الجزئيات التالية:
1) على صعيد الشئون الإسلامية في العلاقات الخارجية الأمريكية وفي دراسات المناطق: قدَّمت فورد في عام 1995 عددًا من المنح لدراسة دور الدين في العلاقات الدولية، خاصة لتعميق الفهم الأمريكي للاختلافات في المجتمعات الإسلامية، وتقوية شبكة الباحثين وجماعات المرأة المهتمة بالمجتمعات الإسلامية ودورها في السياسات الدولية. وبعد أحداث سبتمبر عام 2001، حصل معهد “أسبين” على تمويل لصالح برنامج الكونجرس عن السياسة والدين في المجتمعات المسلمة، هذا وعقد مؤتمر وكتابة ملخصات قانونية عن الإسلام والسياسة الخارجية الأمريكية[18].
ومن ذلك مساهمة فورد إبان الحرب الباردة في تمويل برامج الحوار العربي السوفيتي في إطار منتدى الفكر العربي، وكذا حوارات بين العرب وكل العالم (وفق تصريح لدكتور سعد الدين إبراهيم).
وعلى الرغم من أن تقديرات حجم تمويل ومنح المؤسسات الخيرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنها فورد، قد قدر متوسطه بنحو 100,000 دولار سنويا ما بين 2007-2009، وأن إجمالي إنفاق هذه المؤسسات الخيرية خلال 2012 وحدها بلغ 4,5 بليون دولار، لكن يبدو أن نقلةً نوعية جديدة في توجهات من المؤسسات الخيرية الأمريكية ومنها فورد نحو دراسات المناطق ما بعد ثورات 2011؛ حيث تشير إحدى الدراسات إلى ضرورة تحويل اهتمام هذه المؤسسات من إطار المنطقة المعروفة تقليديًا بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا(MENA) (Middle East and North Africa Region) إلى منطقة تشمل المنطقة العربية الإسلامية الشرق أوسطية وجنوب آسيا(AMEMSA) (Arab, Middle Eastern, Muslim, and South Asian Communities)؛ ذلك لما عكسته أحداث ما بعد 2011 من تشابك التأثير والأبعاد بين أطراف وأحداث هذه المنطقة[19]. لكني لست أدري لماذا لم تقل الدراسة أن هذه المنطقة هي “العالم الإسلامي”؟!
2) على صعيد دراسات الأمن والتنمية: ويلاحظ أن مؤسسة فورد التي تُحسب ضمن مؤسسات “تيار الوسط” الفكري والسياسي في الولايات المتحدة؛ فهي ليست مؤسسة يمينية محافظة ولا يسارية بل ليبرالية “معتدلة”، فإن ثوابت السياسة الأمريكية وثيقة الصلة بالمؤسسة أطرت لأحد ثوابت عملها تجاه العالم العربي والإسلامي كمحدد عام للسياسة الأمريكية في المنطقة ومنها وإن كانت فكرة دعم إسرائيل وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي كمدخل للتنمية ودحض الإرهاب. ويظهر توجهها لتجفيف منابع “الإرهاب” في مبادرتها الذاتية بإضافة قيود على شروط المنح الخاصة بها؛ حيث أكدت على سحب تمويلها من أي منحة جامعية تنفق اعتمادها المالي من أي مصدر لنشر العنف والإرهاب والتعصب، أو تدمير أي دولة[20].
3) على صعيد دعم برامج ومشروعات في مؤسسات بحثية: بروكنجز وراند والعالم الإسلامي
‌أ- أنشطة بروكنجز تجاه العالم الإسلامي:
دشن معهد بروكنجز مشروع بحثي عنوانه “العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي”، عام 2001 ثم في 2002 وافتتح فرعًا إقليميًا له في الشرق الأوسط هو “مركز سابان”، واستمرت أنشطة المشروع؛ ففي السنتين الأولَيَين منه تم التركيز على عدة موضوعات هي: العامل والمشكلة الديموغرافية في العالم الإسلامي، وإمكانية تصدير النموذج السياسي التركي لبقية العالم الإسلامي، وأهمية تركيز الولايات المتحدة على جهود إنجاح وتفعيل دبلوماسيتها العامة في العالم الإسلامي. وخرجت عدة أوراق بحثية في إطار المشروع منها: ورقة “”Peter Singer حول معضلات العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي[21]، وورقة أعدها الصحفي المصري “عزت إبراهيم” حول إمكانات وآفاق التعاون بين مراكز البحث الأمريكية ومراكز البحث في العالم العربي والإسلامي[22]. كما سعى المشروع إلى مد جسور التعاون بين صناع الرأي والنخب الحاكمة في الجانبين الأمريكي والإسلامي عبر تواتر انعقاد مؤتمراته؛ نظم معهد بروكنجز مؤتمر الدوحة حول علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي بشكل دوري لعدة سنوات: بدأت بالمؤتمر الأول في 19 – 22 أكتوبر 2002، ثم في يناير 2004، ثم في مارس 2005، ثم في 17 فبراير 2007 نظم مركز سابان مع وزارة الخارجية القطرية مؤتمرا لمنتدى أمريكا والعالم الإسلامي بالدوحة. وتدشين فرع جديد لمركز سابان في الدوحة ليُعنى بالعلاقات بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة. وقد جاءت فكرة قيام هذا المنتدى بقرار اتخذه معهد بروكينجز عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في محاولة للتوصل لتفاهم أكبر بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
علما بأنه طالما كان موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي ومدى تأثيره على العلاقات بين العالم الإسلامي وأمريكا موضعًا لنقاشات المنتدى ولقاءاته. ومع مستجدات الثورات العربية 2011، جاءت مناقشات المنتدى في لقائه السنوي صيف 2011 على “التغيير السريع المضطرب في الشرق الأوسط وآثاره على المسلمين”. وعُقد اللقاء السنوي للمنتدى عام 2013 تحت عنوان “عقد من الحوار” احتفالًا بعام المنتدى العاشر مناقشًا المشهد المتغير في باكستان وأفغانستان وآثاره الإقليمية، والصراع في سوريا وآثاره المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط. وجاء لقاء 2014 تحت عنوان “الإسلام والدمج”، وركز على المؤسسات الدينية والمجتمع المدني. ومن خلاله تم تدشين مسعى جديدًا تمثل في مجموعات تنفيذ في مدينة تمبكتو بدولة مالي من خلال إحياء ميراثها الثقافي المتنوع بهدف تعزيز الدمج والمصالحة والتطور الاقتصادي المستدام هناك. وفي لقاء المنتدى لعام 2015، كانت الموضوعات التالية على جدول أعماله: الأولويّات الإستراتيجية للولايات المتحدة والشرق الأوسط، والتعدّدية في العالم الإسلامي، ودور إيران في المنطقة، وإنهاء الحروب الأهليّة، وتطوير دور المرأة في شرق أوسط مضطرب، والجيل الجديد من الإسلاميين مع الانتفاضات العربيّة، ومُكافحة شبكات الدعاية الخاصة بـ”داعش”.
أما مركز بروكنجز الدوحة (BDC) وهو الفرع الإقليمي بالوطن العربي لمركز بروكنجز العالمي، الذي تمّ افتتاحه رسميًا في 17 فبراير 2008، ويهتم بقضايا السياسات العامة المتعلقة بالمجالات المحورية الثلاثة التالية: الديمقراطية والإصلاح السياسي، والقوى الناشئة في الشرق الأوسط، والصراع وعمليات السلام في المنطقة[23]. ومن آليات دعم وتوجيه البحث العلمي في العالم العربي بفرع بروكنجز الدوحة، نجدها متمثلة في برامج الزمالة بأشكالها التالية: برنامج الزمالة غير المقيمة، وبرنامج مركز بروكنجز الدوحة وجامعة قطر للزمالة الزائرة، ومسابقة مقالة مركز بروكنجز الدوحة[24].
ب-أنشطة راند تجاه العالم الإسلامي:
جاء أشهرها مشروع مؤسسة راند حول الإسلام والديمقراطية بعد 11 سبتمبر وخرج عنه تقرير في 2004 شيريل بينارد: “الإسلام المدني الديمقراطي” الذي دعا إلى إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية عن طريق تشجيع ما أسموه “الإسلام المدني الديمقراطي” بتمكين دعاته من أداء أدوار نموذجية تقود هذه المجتمعات، والترويج لهم ونشر أعمالهم وتوزيعها وتشجيعهم على الكتابة لأجيال الشباب، وتوفير منابر علنية لهم، وإدخال آرائهم في مناهج التعليم الإسلامي. وفي عام 2008م صدر كتاب بعنوان “صعود الإسلام السياسي في تركيا”، وفي عام 2009 صدر كتاب بعنوان “الإسلام الراديكالي في شرق أفريقيا”، وفي 2010 أُعِد تقرير من نحو250 صفحة حول رصد وتقييم برامج نزع النزعة المتطرفة في بعض الجماعات الإسلامية عبر العالم: في الدول العربية (مصر والسعودية وليبيا واليمن)، وفي جنوب شرق آسيا وحتى تجاه مسلمي أوربا، وجاء التقرير تحت عنوان: Deradicalizing Islamist Extremists، وهو الأمر نفسه الذي عكسته موضوعات وعناوين التقارير والدراسات المنشورة من راند حتى حينه بتركيزها الراهن على دراسة ما يتعلق بداعش ونمط تطرفها كمرتكز لتناول العلاقة الأمريكية مع العالم الإسلامي*.

ثانيًا: الدور المنوط بمؤسساتنا البحثية الممَولة من المؤسسات الخيرية الدولية

إن الدور الموازي والمكمل للأبعاد السياسية والثقافية لدور الشركات الرأسمالية الاقتصادية الأم للمؤسسات الخيرية كفورد، الذي لم ينشأ مع العولمة والنيوليبرالية؛ بل هو من أسس عملها عالميًا؛ يعكس ليس فقط ثنائية السلطة والمعرفة بل “السلطة والمال والمعرفة”، وكذلك الهيمنة الفكرية والسياسية بأدوات مالية من جهة وهيمنة سياسية بأدوات فكرية ومعرفية من جهة أخرى عبر دورها في تمويل برامج بحثية مهمة حسب طبيعة المرحلة الزمنية في السياق العالمي وطبيعة ورؤية موضع الولايات المتحدة الأمريكية فيه.
فلا بد من الإحاطة بأبعاد عملية إنتاج المعرفة، وضبط مدخلاتها وصيرورتها، ضمانًا لحريتها، وتأكيدًا على انتمائها لحضارتها. وتعد المؤسسات الممَولة من أهم محددات هذه العملية، لقدرتها على التحكم في مدخلات العملية وتوجيه حركتها، باستخدام الإمكانيات المالية، مما يطرح عديدا من التساؤلات حول استقلالية المعرفة المنتجة وفعاليتها المتوقعة في بيئتها. وفي هذا الصدد، يبرز الدور الأكاديمي للمؤسسات الخيرية وتأثيرها في دراسة العلوم الاجتماعية. إلا إن الدراسات العربية درجت عند ربط المؤسسات الخيرية بالحركة العلمية، أن تذكر تمويلها للمؤسسات التعليمية، من حيث امتداده التاريخي وآثاره الاجتماعية، فضلًا عن مقداره وأهميته النسبية مقارنة بمصادر التمويل الأخرى. ولا يحدث تقصي للأهداف العلمية لهذا التمويل وآثاره على حركة العلم وتدريسه، وهذه مساحة فراغ تنظيري. وقد أصبح التمويل المدني للمؤسسات التعليمية، في الأزمنة المعاصرة، أداة لتنفيذ سياسة وتحقيق أهداف تتعدى مجرد الإنفاق في أوجه الخير. وبطبيعة الحال تنعكس هذه الأهداف والسياسات على الحركة العلمية ذاتها. فعلى سبيل المثال يمكن اعتبار أن دور الأوقاف الخيرية، كمرادف للمؤسسات الخيرية الأمريكية، في إنشاء الجامعة المدنية في مصر في أوائل القرن العشرين – بدلًا من توجيه الدعم لتنمية العملية التعليمية في الأزهر – أثَّر بشكل واضح على دراسة مختلف العلوم في مصر آنذاك ولاحقًا[25].

ثالثًا: من تبعية المعرفة للسلطة نحو دفع المعرفة لتهميش السلطة

يصدق طرح ميشيل فوكو حول السلطة والمعرفة[26] على موضوع ونطاق هذه الدراسة إلى حدٍ كبير؛ ففي تحليلاته النقدية التي اتجهت نحو المسكوت عنه في توجيه “السلطة” “للمعرفة”؛ يؤكد على أن بنية المجتمعات الحديثة والرأسمالية تهدف لإخضاع الأفراد وتطويعهم لخدمة الرأسمالية العالمية بنظمها ومؤسساتها وقواها الكبرى.
وذلك على ثلاثة مستويات في سياق عمل مؤسسات الخيرية الأمريكية ونموذج فورد تحديدًا من جهة، وعلى مستوى هيمنة السلطة الحاكمة في دولنا على المعرفة والبحث العلمي:
– المستوى الأول هو إسهام مؤسسة فورد في توجيه البحث العلمي السلوكي الوضعي بما يتماشى مع حركة ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العالم.
– والمستوى الثاني: هو سياق أثر عمل وتوجيه هذه المؤسسات للبحث في دراسات المناطق ومنها المنطقة العربية والإسلامية والشرق أوسطية والأفريقية، وربطها بأجندة الخارج وقضاياه ومصالحه وقطيعتها عن أطرها الذاتية والحضارية.
– والمستوى الثالث: عملية الإقصاء والعزل التي تمارسها السلطة الحاكمة في مجتمعاتنا بما يحول دون دور حقيقي لمؤسسات مدنية ومجتمعية موجهة لبحث علمي ومعرفة من شأنها التحرر من إسار الاستبداد. أو إعادة قوة المجتمع في مقابل الدولة القومية بنموذجها الداخلي المشوه، أو التحرر من عمليات التنميط التي تفرضها المنظومة العالمية ومؤسساتها.
فلا سبيل إذن من ضرورة التخلص من كافة صور التموضع التي سجنتنا بين حدود الخطاب الوضعي باسم “علم” هو في الأصل نتاج تاريخ حُوِّل زورًا إلى مقياس موضوعي لكل تاريخ وباسم معايير متغيرة أقيمت أساسًا ومرجعًا لكل تغيير[27].
فكما يقول المستشار البشري: “منذ الصدمة الحضارية الحديثة وذروتها في اللحظة الاستعمارية لم تُصَّدر لنا علومًا كنا بحاجة عملية إليها .. ولكن صُدّرت لنا الأسس الفلسفية والمعرفية للعلوم؛ لتقوم بدور إعادة تأسيس العقل العربي والإسلامي الحديث على المنهجية الفكرية العلمانية الغربية، وبالتالي يصير هذا العقل تابعًا لما يريده ذلك الآخر من حدود الاستفادة من تقدمه!”[28].
فحالنا هذه في دائرة التبعية الحضارية والعلمية لسلطة قوى كبرى تتحكم في المعرفة من جهة، ونظم حكم تكرس فينا تلك التبعية -حيث المجتمعات والدول التسلطية، وفق “ستيفن وولت”، لا يعنيها تشجيع البحث العلمي؛ فهي تتباهى بالنخب الديكورية من المتعلمين والمهنيين، لكنها أبدًا لا تسعى مسعًى حقيقيًا لتأسيس أجيال من العلماء، خاصة في العلوم الاجتماعية، لأن ذلك من شأنه تطوير المجتمع وخروجه عن النطاق الذي تسير تلك النظم التسلطية في فلكه الضيق[29]. ومن ثم، فلا بد للخروج من هذه الدائرة المفرغة وكسرها بإعادة دور المجتمع في توجيه المعرفة وخلق سلطتها.

رابعًا: الوقف في الخبرة الإسلامية: نموذج لدور الأمة في دعم سلطة المعرفة

اعتادت الحضارة الإسلامية، لقرون طويلة منصرمة، على خلق مؤسسات أهلية داعمة لإنتاج الفكر والمعرفة، مستقلة ماديًا عن مؤسسات الدولة، بحيث توظف قدراتها المالية لتمويل الحركة العلمية والبحثية، دون تدخل الدولة المباشر في صيرورة عملية الإنتاج المعرفي. وبناءً على ذلك، تجلت الحرية الأكاديمية في الحضارة الإسلامية، منتجة معرفة منتمية ومستقلة وفعالة. ويلاحظ أن مؤسسة الوقف الإسلامي قد تمتعت في مراحل تاريخية سابقة باستقلالية إدارية عالية، مكَّنتها من تنويع أنشطتها الاجتماعية، مما سمح لها بممارسة دور ريادي في مجتمعاتها. إلا إن تقّلُّص هذه الاستقلالية تدريجيًا لصالح هيمنة الدولة على نشاط مؤسسة الوقف تحديدًا، والأنشطة الاجتماعية بصورة عامة، قد أضعف الدور الريادي لهذه المؤسسة[30].
يطرح د.البيومي عددًا من الإجراءات والتوصيات الخاصة بإعادة إحياء دور الوقف الإسلامي لنهضة المجتمعات[31] والدفع به كسلطة للمعرفة، أولها بيان ما يعتريه من إشكاليات ومعوقات تفعيل:
أدتْ كثافةَ تدخلات الدولة الحديثة في قطاع الأوقاف وفي استثمار موارده وتوظيف عوائده؛ إلى تقويضِ الفعالية الاجتماعية لهذا النظام، وأفقدته أهم وظائفه التي تمثلت تاريخيًا في تحقيق التوازن بين المجتمع والدولة، وبناء مجال تعاوني مشترك بينهما. وبعد عقود طويلة من تلك التدخلات تأكدَ أن الدولة الحديثة قد مارست أسوأ أنواع التحيز ضد الذات الحضارية للمجتمعات الإسلامية عبر سياسات الدولة العربية الحديثة تجاه نظام الأوقاف.
على صعيد الحالة المصرية، فثمة مشكلات عدة أعاقت الدور التنموي الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الوقفية الوطنية في دعم البحث العلمي نتيجة مجموعة الإجراءات والأطر القانونية الحاكمة والتي حجمت دور الوقف عامة في الحياة المدنية منذ ثورة يوليو 1952.
الأمر الذي كانت أبرز ثماره على الجانب السياسي وحتى ما بعد ثورة يناير حينما أثيرت قضية التمويل الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني ومنها المراكز التي تقوم بتدريب أو تأهيل للعمل السياسي. فضلا عما لعبته الأذرع الإعلامية من تشويه كافة أشكال التعاون بين مؤسسات مدنية داخلية بحثية كانت أو غير بحثية ومؤسسات التمويل الخارجي. وعلى الرغم من أن مؤسسة فورد تحديدًا لم تكن من المنظمات الممولة أو المانحة المدرجة كمؤسسات لعبت دورًا سياسيًا مشكوكًا فيه خلال فترة ثورة يناير وما تلاها من أزمة التمويل الخارجي، وفق ورقة عمل قدمها د.محمد العجاتي[32] في هذا الشأن، فإن مما أثاره الموضوع ضمن ما أثار ضرورة عودة دور قوي لمؤسسات وقفية وطنية تدعم البحث العلمي عامة وفي مجال العلوم السياسية بشكل خاص.
– حولت التقنينات الحدثيةُ نظام الوقف الإسلامي في كثير من البلدان الإسلامية إلى قطاع من قطاعات الإدارة البيروقراطية الحكومية؛ قد أدى إلى تغيير هوية نظام الوقف برمته؛ إذ غيرت هويته من كونه “صدقة جارية” إلى ما يشبه “وصية بالمنافع”. كما أدت تلك التقنينات إلى نقله برمته من النسق الفقهي المفتوح ذي المرونة العالية، إلى النسق القانوني المغلق ذي المرونة المنخفضة. وعليه فإن عملية تقنين فقه الوقف يتعين أن يعاد النظر فيها، وأن يتم تعديلها وفق المعايير الذاتية لنظام الوقف من حيث استقلاليته، وانفتاحه واستيعابه لمختلف الفئات الاجتماعية، وخدمته للمجتمع والدولة معًا. مشيرًا في هذا السياق إلى عدد من التقنينات الوقفية العربية الحديثة.
– فرض السيطرة الحكومية على نظام الأوقاف في أغلب البلدان الإسلامية، وتفكيك أصوله المادية، وتشويهه في الوعي الاجتماعي العام؛ كل ذلك أدى إلى فصل هذا النظام عن مؤسسات المجتمع المدني، وتجفيف منابع تمويلها المحلي، ومن ثم انفتحَ البابُ واسعًا أمام التمويل الأجنبي لكثير من مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته. والعبرةُ من هذا الدرس هي أن نجاح الجهود الرامية إلى تقوية المجتمع المدني في البلدان الإسلامية سيظل مرهونًا بتجديد الوعي الصحيح بنظام الوقف وإعادة وصله بمختلف مؤسسات المجتمع المدني؛ والمجتمع المدني هو في الوقت نفسه المجال الحيوي الأصيل لعمل نظام الوقف. وقدم د.البيومي بعض الاجتهادات من أجل تصويب العلاقة بين نظام الوقف، والمجتمع المدني، والدولة، في مجالات مختلفة، ومنها مجال التعليم على سبيل المثال، لا يسع هذه الورقة الدخول في تفصيلها.
– بالإمكان كذلك تطوير نماذج وقفية حديثة؛ حيث إن نظام الوقف وفق الخبرة الإسلامية ما قبل دولة الاستقلال الحديثة كان ولا يزال نسقًا فقهيًا ومجتمعيًا مفتوحًا على مختلف الفئات الاجتماعية. وكان، وللأسف لم يعد، نظامًا استيعابيًا لمختلف التجارب الإنسانية الناجحة في مجالات العمل الخيري، وفي تعزيز مؤسسات المجتمع المدني.

خاتمة:

بات الوضع الراهن للوطن والأمة يدفع بضرورة الالتفات والتوجه نحو دعم وتشجيع دور المؤسسات المدنية والوقفية في تمويل ورعاية البحث العلمي ومؤسساته، بل والمؤسسات التعليمية كذلك؛ لاسيما في ظل تحول الاقتصاد المصري والعربي عمومًا نحو الاقتصاد النيوليبرالي الذي تكف الدولة ومؤسساتها فيه من القيام بالأدوار الاجتماعية والتعليمية من جهة، وحاجتنا إلى دور البحث العلمي في حل المشكلات الهيكيلية في المجتمع والاقتصاد.
وقد جسَّد دعم المؤسسات الخيرية للمشروعات والمراكز البحثية في الجامعات الأمريكية، أهمية دور المجتمع المدني في دفع الحركة العلمية. ففي ظل الارتفاع المطرد في نفقات الجامعات مقابل الانخفاض المستمر في مواردها – فضلًا عن آثار التضخم الاقتصادي – بات البحث عن التمويل الخارجي ضرورة لتسيير الحركة الأكاديمية في هذه الجامعات. فقد واجهت الجامعات الأمريكية صعوبات مالية متفاقمة بسبب التزايد المطرد في أعداد الطلاب والنفقات الجارية لتمويل العملية التعليمية، بجانب ارتفاع نفقات البحث العلمي. وقد أخفقت إدارات الجامعات في سد هذا العجز المتزايد بين المصادر والاحتياجات في ميزانياتهم السنوية، مما دفعهم نحو الاهتمام بتفعيل التمويل المدني[33].
مع ضرورة وضع ضوابط للاستعانة بالمؤسسات الدولية في تمويل خطط تطوير البحث العلمي وأجندة قضايا المشروعات البحثية المحلية، ومن أهم هذه القواعد الضابطة أن يبلور صناع السياسات العلمية والتعليمية رؤى مستقلة، فضلًاا عن أهداف مرحلية وسياسات تنفيذية للحركة البحثية والتعليمية.
وفي هذا الشأن، يشير الباحث الهيثم زعفان في دور التمويل الغربي في العالم الإسلامي إلى مجموعة توصيات مهمة[34] حول دعم الوعي لدى المعنيين بالبحث العلمي من إشكاليات التمويل الخارجي والدفع بوقفيات إسلامية بديلة في هذا الصدد:
– العمل على ترجمة الأعمال البحثية والدراسات الغربية التي تكشف مفاسد مؤسسات التمويل الدولية وسقطاتها وسوءاتها، وعلاقاتها بأجهزة المخابرات الدولية، والعمل على توفير هذه الترجمات في سلاسل صغيرة يسهل تداولها والاهتمام بها.
– عقد مجموعة من الدورات التدريبية للباحثين والمفكرين والكتَّاب والإعلاميين الوطنيين الذين يرفضون التمويل الغربي، ومدِّهم بكافة المعلومات المرتبطة بحركة التمويل الغربي وما يشوبها من سوءات؛ وذلك حتى يتم توجيه الرأي العام لرفض هذه الظاهرة ولفظ المتعاطين معها.
– السعي لعمل وقفية إسلامية تكون بمثابة مظلة تمويلية للمراكز البحثية والفكرية الحاملة لهمِّ الأمة وأزماتها ومشكلاتها ومشروعاتها النهضوية، ومن خلال هذه الوقفية يمكن تحصين الباحثين، والمفكرين، والإعلاميين المسلمين الأكفاء من الوقوع في براثن التمويل الغربي وأسر المؤسسات التمويلية ومشروعاتها التغريبية والاستخباراتية.
– محاولة جذب رجال الأعمال وأصحاب الأموال لتمويل المشروعات البحثية التي تخدم الأمة الإسلامية ونهضتَها وتقدُّمَها، ويمكن في هذا الصدد استحداث وظيفة اختصاصي تسويق المشروعات البحثية داخل المراكز البحثية؛ بحيث تكون مهمته فتح قنوات اتصال مع الشركات ورجال الأعمال لتقديم الدعم الشفاف للمشروعات البحثية والفكرية.
– السعي لعمل شبكة أو ائتلاف للمراكز البحثية الساعية لنهضة الأمة الإسلامية وصد المشروعات التغريبية، على أن يُصحَب الائتلاف بصندوق مالي لرعاية الباحثين والمشروعات البحثية، ودعوة قوى المجتمع العربي والإسلامي للمساهمة المالية والعينية في هذا الصندوق.
– كما لفتت خبرة بعض المواقع الإلكترونية القائمة على فكرة منصات التمويل الجماعي (crowdfunding) كنوع من التكافل التشبيكي بين الأفراد لتمويل مشروعاتهم بعيدًا عن سلطة رأس المال عامة وسلطة المؤسسات الدولية المانحة وما وراءها من أطر هيمنة .. بيد أن حالة الفجوة الرقمية في مجتمعاتنا تعد أحد أبرز معوقات انتشار هذا النمط التمويلي “الأهلي”.
*****

الهوامش:

* طالبة دكتوراة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، باحثة بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
[1] Helmut K Anheier and Siobhan Daly, Philanthropic Foundations: A New Global Force?, Global Civil Society Report 2004, CHAPTER 7, p.158.
[2] Ibid, p. 158-159.
[3] Inderjeet Parmar, Foundations of the American Century: The Ford, Carnegie, and Rockefeller Foundations in the Rise of American Power, New York: Columbia University Press, 2013.
[4] ريهام أحمد محروس خفاجي، دور المؤسسات الخيرية في دراسة علم السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية: دراسة حالة مؤسسة فورد (1950-2004)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2006، ص 25.
وفق المرجع السابق، ص 25-26: تتعدد تصنيفات المؤسسات الخيرية والمانحة، ويتقاطع مفهوم المؤسسات الخيريةPhilanthropy مع مفهومي الوقف Endowment والائتمان Trust: فمن جانب، تتشابه المؤسسات الخيرية مع “الوقف الأمريكي” في حبس أموال نقدية أو عقارات عينية والاستفادة من عائدها لصالح أهداف خيرية، إلا أن الوقف الأمريكي يُعهد فيه بإدارة الأموال المحبوسة إلى الجهة الموقوف لصالحها، مثل الجامعات أو المستشفيات، بخلاف المؤسسات الخيرية ذات الإدارة المستقلة عن المانحين والممنوحين. ومن جانب آخر، يقترب نموذج المؤسسات الخيرية من نموذج “الائتمان”، ويقصد بالأخير وضع أموال أو عقار في حيازة شخص أو جهة ما، يطلق عليها “مجلس الأمناء” الذي يقوم باستثمار الأموال أو العقارات لصالح أهداف صاحب المال، سواء أكانت أهدافًا شخصية أم أهدافًا عامة. ففي كلا النموذجين يعهد بإدارة الأموال المحبوسة إلى مؤسسة مستقلة عن شخص المانح، إلا إنه لا يشترط خيرية أهداف الائتمان، فمن الممكن أن يدار لصالح شخص المانح وعائلته.
وحول بيان مفصل لتصنيفات مؤسسات العمل الخيري بين الوقفي والتطوعي والائتماني مع إحصاءات وأشكال بيانية مفصلة لطبيعة وحجم إنفاقها وتمويلها للقطاعات المدنية ومنها البحث العلمي، راجع:
Helmut K Anheier and Siobhan Daly, Op. Cit., pp. 160-168.
* علما بأن أصول المؤسسة قُدرت في عام 2014 بحوالي 13 مليار دولار، ودخل سنوي تخطى 6 مليار، وفق موقع ويكيبديا.
[5]ريهام أحمد محروس خفاجي، مرجع سابق، ص 79.
[6]المرجع السابق، ص 57.
[7] المرجع السابق، ص 32.
[8] المرجع السابق، ص 32-34.
[9] المرجع السابق، ص 34. وحول الجانب الرقابي على هذه المؤسسات راجع: ص 36 وما بعدها.
[10] المرجع السابق، ص 39.
[11] المرجع السابق، ص 23.
[12]ومن أهم المراجع في هذا الصدد:
Robert Arvone (ed.), Philanthropy and Cultural Imperialism: the Foundations at Home and Abroad, Boston: G. K. Hall & Co., 1980.
[13]وثقت ريهام خفاجي، مرجع سابق، الدراسة المذكورة في هامش ص 25 وهي:
Peter Seybold, The Development of American Political Sociology: A Case Study of the Ford Foundation’s Role in the Production of Knowledge, Ph.D. Dissertation, State University of New York-Stony Brook, 1978.
[14] المرجع السابق، ص57.
* إذن فمنطلق وأساس عمل هذه المؤسسات الخيرية الأمريكية وفق المنظور الرأسمالي للاقتصاد السياسي ودورها العالمي المترافق والمكمل لدور الولايات المتحدة نفسها كأكبر دولة في العالم، لا يتناقض أيٌ من ذلك مع المنظور النيوليبرالي للاقتصاد السياسي العالمي؛ بل ظلت هذه المؤسسات (برافديها الرأسمالي والخيري) تكمل الدور الأمريكي وتسهم فيه كأكبر اقتصاد وأكبر سلطة تقود الاقتصاد السياسي العالمي للنيوليبرالية.
[15] تم الاعتماد في هذا الجزء على المرجع السابق، ص ص 113: 158بتصرف. مع محاولة الباحثة تحديث بعض المعلومات في الفترة التالية على رصد المرجع السابق (2004) بحسب ما توفر من مصادر في هذا الشأن.
علما بأن المرجع السابق قد فصَّل في هذا الشأن عبر الفصل الرابع: مؤسسة فورد والعلاقات الدولية ويشمل: المبحث الأول: دراسات الأمن الدولي، والمبحث الثاني: دراسات السياسة الخارجية الأمريكية، والمبحث الثالث: دراسات القانون الدولي والمنظمات الدولية. ص ص 113: 162.
[16] وحول بيان برامجه البحثية التنموية عبر العالم راجع:
نادية مصطفى وآخرون، إعداد الخبراء والاستشاريين… رؤى وآليات، بالتعاون بين: مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة ومركز التأصيل للدراسات والبحوث بالرياض، ص ص 50-51.
[17] حول مزيد من التفصيل لدور فورد في دعم دراسات المناطق ومنها دراسات الشرق الأوسط والدرسات الأفريقية والآسيوية، ريهام أحمد محروس خفاجي، مرجع سابق: الفصل الخامس، ص ص 158- 222.
[18]المرجع السابق، ص 141-142.
[19]Molly Schultz Hafid, Nadia Roumani, and Archana Sahgal, U.S. Foundation Funding in the Middle East and North African (MENA) Region, Paper is based on a Report Commissioned by Asian Americans/Pacific Islanders in Philanthropy (AAPIP) with Support from the Rockefeller Brothers Fund (RBF), without date. P. 155.
[20] أحمد محرم، رؤى مراكز التمويل البحثي في الغرب لإصلاح الأمة، في: أمتي في العالم، العدد السابع: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج 2005-2006، كتاب غير دوري يهتم بقضايا العالم الإسلامي، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2006، ص ص 261-283.
[21] Peter W. Singer, Time for Hard Choices: The Dilemmas Facing U.S. Policy Towards the Islamic World, Brookings Institution Analysis Papers, October 2002, on:
http://www.brookings.edu/views/papers/singer/20021001 htm
[22]Ezzat Ibrahim, “Arab and American Think Tanks: New Possibilities for Cooperation? New Engines for Reform?”, The Saban Center for Middle East Policy, at The Brookings Institution, The Brookings Project on U.S. Policy Towards The Islamic World, Working Paper, October 2004.
[23] نادية مصطفى وآخرون، مرجع سابق، ص 84.
[24] حول تفصيل طبيعة والفرق بين كل منها، راجع:
http://www.brookings-tsinghua.cn/sitecore/content/Home/doha/projects.aspx?sc_lang=ar
* فمع الثورات العربية وتأكد توقع صعود الإسلاميين للسلطة تم تركيز الدراسات المعنية بحركة الإخوان المسلمين، ومن ذلك إعداد سلسلة تقارير موثقة بشهادات حية للمعنيين بالحركة ومن هذه التقارير: تقرير عن جماعة الإخوان المسلمين في الغرب صدر في أبريل 2011 تحت عنوان:
The Muslim Brotherhood in the West: Characteristics, Aims and Policy Considerations.
ومع تعثرات الديمقراطية الوليدة بُعيد الثورات، أعدت راند في 2013 دراسة عن الدمقرطة في العالم العربي:
Democratization in the Arab World: A Summary of Lessons from Around the Globe.
ويبدو أن الحديث عن الإسلام المعتدل الذي يجب دعمه قد تم تجاوزه عبر رؤية أمريكية جديدة تعكسها طبيعة التقارير والدراسات التالية لمراكز الفكر والمؤسسات البحثية القريبة من الإدارة الأمريكية؛ فقد حملت العناوين التالية لبعض التقارير والدراسات المنشورة على الموقع الإلكتروني لمؤسسة راند (www.Rand.org) تحول هذه الرؤية بالتركيز على الحركات المتطرفة كداعش والتعامل معها، ومن هذه العناوين:
ومؤخرا في أبريل 2016 صدرت دراسة عن المرتكزات التي انطلقت منها داعش:
Foundations of Islamist State: Management, Money, and Terror in Iraq (2005–2010(.
[25] ريهام أحمد محروس، مرجع سابق، ص 26-27.
[26] ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، ترجمة عبد العزيز العيادي، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1994.
[27] محمد علي الكردي، نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، د.ت.، ص 12-13.
[28]من نص كلمة المستشار طارق البشري خلال احتفالية مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة بمناسبة مرور خمسة عشر عامًا على تأسيسه بتاريخ 22 نوفمبر 2012، متاح على الموقع الرسمي للمركز:
www.hadaracenter.com
وحول هذا المعنى بشكل مفصل راجع: طارق البشري، ماهية المعاصرة، سلسلة المسألة الإسلامية المعاصرة، القاهرة: دار الشروق، ط3، 2007، ص 7-14.
[29] Stephen M. Walt, Is IR Still an American Social Science?, June 6, 2011, available at:
www.foreignpolicy.com/posts/2011/06/06/is_ir_still_an_american_social_science
[30] ريهام أحمد محروس خفاجي، مرجع سابق، ص 25.
[31] إبراهيم البيومي غانم، تجديدُ الوعي بنظام الوقفِ ومقاصدِه، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار البشير للثقافة والعلوم، 2015، ص ص 5-7. وراجع بيانها المفصل عبر فصول الكتاب.
[32] Mohamed Elagati, Foreign Funding in Egypt after the Revolution, Working Paper, Cooperation between: European Think Tank for Global Action (Fride), Arab Forum for Alternatives (AFA), and International Development Organization Based in the Hague (Hivos), 2013.
[33] ريهام أحمد محروس خفاجي، مرجع سابق، ص ص222-223.
[34] الهيثم زعفان، التمويل الغربي بين الجاسوسية والتغريب، 2010/12/15، موقع البيان:www.albayan.uk.co
ولمزيد من التفصيل راجع كتاب لنفس الباحث بنفس العنوان: الهيثم زعفان، “التمويل الغربي وشراء الفكر في العالم العربي”، القاهرة: المركز العربي للدراسات الإنسانية، 2011.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى