مواقف الليبرالية العربية من القضية الفلسطينية: مصر نموذجًا

مقدمة

تُعَدُّ القضايا الأساسية داخل كل منظومة فكرية محورًا مهمًّا لفهم أُسُسِ هذا الفكر وتطوُّراته، والابتعاد عن الأطر النظرية المؤسِّسَة والغوص بدلا منها في كيفية تفاعل هذه المنظومة الفكرية في سياق معين، تلقي ضوءًا خطيرًا وكاشفًا لواقع حال هذه المنظومة بدلا من الاكتفاء بتصوُّراتها عن نفسها وما تقدِّمه من مقولات. وفي السياق المصري والعربي، فإن كثيرًا من الجدالات النظرية تدور بين المنظومات/التيارات الفكرية المختلفة حول مقولاتها في إطار من الجدل الثقافي غير المسيَّس؛ أي الذي لا يرتبط بقضايا الواقع وما يحمله من أسئلة؛ ومن ثم تنكشف حقيقة مقولات كل منظومة تبعًا لاستجابتها للواقع وأسئلته. والقضية الفلسطينية تُعَدُّ إحدى القضايا الأساسية التي تكشف كيف تتفاعل منظومات الفكر في البلدان العربية مع واقعها، بل تكشف طبيعة التيارات التي تحمل هذه المنظومة مروِّجة لها بين الشعوب العربية.
من هذه المنظومات الفكرية تعتبر الليبرالية أحد أكثر التيارات ذيوعًا على مستوى الفكر والثقافة والإعلام، وتفاعلاتها مع الواقع مدخل مهم لفهم الحالة الليبرالية في بلادنا؛ لذا فإن إلقاء الضوء على تفاعل القوى الليبرالية مع القضية الفلسطينية سيسهم في فهم طبيعة التيارات الليبرالية في بلادنا وخاصة في مصر، كمعقل مهم للتيارات الليبرالية العربية.
في هذا التقرير سنسرد تاريخيًّا خلال المئة عام الأخيرة بعضًا من مواقف القوى والشخصيات الليبرالية المختلفة من القضية الفلسطينية، ثم نحاول أن نحلِّل طبيعة هذه المواقف وأنماطها الكامنة.

أولا- المواقف التاريخية لليبرالية المصرية

سنسعى في هذا الجزء لتتبُّع عدد من مواقف أهم الليبراليين والمؤسسات الليبرالية المصرية من القضية الفلسطينية، وقد قسمنا هذا التتبُّع لفترات تاريخية تبعًا لمدى التفاعل مع القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية.
أ) مرحلة الصمت (1900 – 1925):
تشمل هذه المرحلة الفترة ما قبل 1925م، والتي شهدت صمتًا تجاه القضية الفلسطينية من قبل الليبرالية المصرية؛ وذلك نظرًا لأن تلك الفترة لم تشهد على الحقيقة توسُّعًا في النشاط الصهيوني، وبالتالي يصعب إيراد تفاعل حقيقي بين الليبرالية المصرية من جهة والقضية الفلسطينية من جهة أخرى، فضلا عن أن تلك الفترة تعاصر مرحلة نشأة الليبرالية في مصر بالكلية؛ ومن ثم فإن التواجد الفكري الليبرالي في مصر، كمفكرين أو كمؤسَّسات، لم يكن قد تبلور بعد، فيما ظهرت فقط بعض الإرهاصات للفكر الليبرالي في الوسط الثقافي المصري؛ سواء من خلال بعض المفكرين مثل: قاسم أمين، أو من خلال تناول بعض المفكرين والمثقفين والعلماء، مثل: محمد عبده، لبعض المفاهيم الليبرالية في خطاباتهم الثقافية ومنتجهم الفكري. بينما اتجهت الليبرالية المصرية نحو التبلور (مثل تأسيس حزب الدستوريِّين الأحرار في 1922م) وغير ذلك، لم تكن القضية الفلسطينية ظاهرة في تلك المرحلة على خارطة الحالة الليبرالية المصرية.
ب) مرحلة التذبذب (1925 – 1952)
في تلك المرحلة التي عُرفت في العديد من الكتابات بالمرحلة الليبرالية، انتشرت الأفكار الليبرالية في الوسط الثقافي المصري، فضلا عن ظهور عدد من المؤسَّسات التي تحمل الفكر الليبرالي، مثل بعض الأحزاب السياسية والصحف والمجلات وغير ذلك. وقد عاصرت تلك الفترة (1925 – 1952م) المزيد من تقدُّم الحركة الصهيونية في مسعاها نحو إقامة الدولة الصهيونية؛ مما استدعى تفاعل الوسط الثقافي المصري عمومًا، ومن ضمنه الحالة الليبرالية للتفاعل مع القضية الفلسطينية. ونحن نبدأ هذه الفترة بسنة 1925م؛ حيث شهدت أوَّل تفاعل مباشر بين التيار الليبرالي المصري والحركة الصهيونية، حسبما سيأتي.
وقد شهدت هذه الفترة تذبذبًا في المواقف من القضية الفلسطينية، تأييدًا وحيادًا ورفضًا، كما سيتَّضح. ونبدأ بمواقف الشخصيات الليبرالية، ثم نلحق بها مواقف الأحزاب السياسية والجرائد والصحف.
1- الشخصيات الليبرالية:
– أحمد لطفي السيد: كانت زيارة أحمد لطفي السيد لفلسطين لحضور حفل افتتاح الجامعة العبرية(1)، في الأول من أبريل 1925، هو أول موقف مباشر من الليبراليِّين المصريِّين تجاه القضية الفلسطينية، وقد جاء موقفًا مناصرًا للحركة الصهيونية في إرهاصتها الأولى بتكوين المؤسَّسات والكيانات الصهيونية في فلسطين، من أجل الوصول لحلم الدولة الصهيونية. ورغم أن أحمد لطفي قد برر موقفه(2) حينما عاد بأنه قد زار المجلس الإسلامي الأعلى في القدس بعد زيارة الجامعة العبرية، مما يُعَدُّ انتباهًا للمشاعر الوطنية تجاه القضية الفلسطينية والحرص على عدم المعاداة الصريحة لها، إلا أنه يوضِّح كيف أن رؤية “أبي الليبرالية المصرية” تجاه القضية الفلسطينية كانت في أفضل التحليلات غير مكترثة لمصير فلسطين، في ظلِّ رؤيته لأوَّلِيَّة مصر وقضيَّتها بمنظور “وطني” شديد الضيق، أثْبت فشله بنفس منطقه حينما احتلَّ الكيان الصهيوني سيناء بعد ذلك بسنين عدَّة.
– طه حسين: كان افتتاح الجامعة العبرية علامة بارزة في بداية تفاعل طه حسين مع القضية الفلسطينية؛ حيث أرسل برقية تهنئة بهذه المناسبة(3). فيما يوجِّه البعض(4) سهام النقد لطه حسين حينما كان رئيسًا لتحرير مجلة “الكاتب المصري” التي ظلَّتْ لفترات طويلة لا تهتم بما يدور في فلسطين من أحداث، فيما اعتبر أنه دعم غير مباشر للحراك الصهيوني. في المقابل يذكر إسحاق فانون، الرئيس الإسرائيلي، في زيارته لمصر عام 1980م أن طه حسين قد زار القدس وصحبه فانون لزيارة أحد الكيبوتسات، وهو الأمر الذي نفته(5) بنت طه حسين بعد تصريح فانون، قائلة بأن الزيارة كانت لبضع ساعات في طريقه لزيارة لبنان.
من ناحية أخرى يمكن رصد(6) عدد من المقالات التي كتبها طه حسين، خاصة في الأربعينيات، يؤيد فيها الحق العربي والفلسطيني ضدَّ المستعمر الصهيوني وينتقد المشروع الاستيطاني الذي يسعى لطرد الفلسطينيِّين وإقامة وطن لليهود الصهاينة.
هذه العلاقة الغائمة بين طه حسين والقضية الفلسطينية تعدُّ نموذجًا على حالة التذبذب التي وسمت تلك المرحلة، حيث تأرجحت بين الدعم للحركة الصهيونية وبين الحياد والرفض، لتشكِّل تركيبة تكتنفها عدَّة عوامل وأسباب، نفصِّلها فيما بعد.
2- المؤسسات الليبرالية:
– الأحزاب السياسية:
● حزب الوفد: في فترة العشرينيات، مع بداية تأسيس الحزب وتولِّي سعد زغلول لرئاسته، لم يكن هناك موقف واضح تجاه القضية الفلسطينية؛ حيث انصبَّ خطاب الحزب بشكل أساسي على مضمون قومي مصري فقط(7). إلا أنه ومع حادثة البُراق في نهاية العشرينيات، ومع تولِّي النحاس باشا رئاسة الحزب، وكذلك تبلوُر الحزب كمعبِّر أول عن الشعب من خلال شعبيَّته الطاغية وفوزه بشكل ساحق في كل الانتخابات النزيهة التي أقيمت في تلك الفترة، نتيجة كلِّ ذلك، فقد بدأ الحزب وعلى رأسه النحاس باشا في اتخاذ العديد من المواقف الإيجابية من القضية الفلسطينية، فأعلن النحاس عن تأييد مصر لمطالب الشعب الفلسطيني عقب ثورة 36، وكانت له تصريحات موجَّهة للسفير البريطاني في مصر أعرب فيها عن تخوُّفه من قيام دولة لليهود على الحدود مع مصر قد تطالب فيما بعد بسيناء(8).
وعندما ازدادت التوجُّهات العروبية لدى الوفد، وسعى النحاس باشا في إنشاء الجامعة العربية، كانت للوفد -من خلال النحاس باشا- مطالبات لدى القوى الدولية مثل الولايات المتحدة لدعم القضية الفلسطينية(9)، ثم كان أن طالب بقبول ممثِّل عن فلسطين في لجنة التحضير للجامعة العربية(10). وبعد حرب 48 رفض النحاس باشا -سنة 1950م- عبور ناقلات النفط إلى إسرائيل من خلال قناة السويس (المحتلة آنذاك من قبل بريطانيا)(11).
● حزب الدستوريين الأحرار: بدا حزب الدستوريين الأحرار أبعد اهتمامًا بالقضية الفلسطينية، خاصة في فترات العشرينيات والثلاثينيات، مع وجود مواقف لبعض رموزه مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين تميل لصالح الحركة الصهيونية (كما سبقت الإشارة)، في مقابل مواقف لبعض رموزه الآخرين مؤيدة للقضية الفلسطينية، مثل مواقف محمد علي علوبة ومحمد عبد الله عنان. في تلك الفترة كانت مواقف الحزب تميل بوجه عام نحو تبنِّي موقف شبه حيادي من القضية الفلسطينية، يرى في التفاهم بين العرب واليهود مدخلًا لحل القضية الفلسطينية(12)، فدعا محمد حسين هيكل -القيادي بالحزب ورئيسه فيما بعد- إلى تشكيل لجنة من العرب واليهود لبحث مسألة التفاهم بينهم(13)، فيما أشادت صحيفة “صوت إسرائيل” بهذه الدعوة واصفة إياها بأنها “خير ما كتب إلى الآن باللغة العربية بأسلوب بريء من الهوى وروح الإخلاص والصراحة في مشكلة فلسطين”(14).
ومع تطوُّر القضية الفلسطينية في الثلاثينيات ثم الأربعينيات، بدأت مواقف الحزب تجاه القضية الفلسطينية في التبلور ناحية الحق العربي، فيما بدأ بعضُ رموزه الانشغال بالقضية الفلسطينية مع تحوُّلهم نحو الاهتمام بالقضايا العربية، مثل: محمد علي علوبة الذي سافر إلى فلسطين للدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين في ثورة البراق، وكذلك للمشاركة في المؤتمر الإسلامي في القدس(15).
فيما كان لقيادات الحزب في الحكومة والبرلمان عدَّة مواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية، مثل افتتاح محمد محمود باشا -رئيس الحزب- قائمة اكتتاب للمجاهدين في فلسطين، وإرساله رسالةَ تضامن لأمين الحسيني يعرب فيها عن رفض ما جاء بلجنة التقسيم الملَكية(16). وفي مؤتمر لندن (1939م) اشترط الحزب أن يتمَّ الإفراج عن القادة الفلسطينيِّين المنفيِّين لكي يشاركوا في المؤتمر(17). فيما دافع محمد حسين هيكل، حينما كان رئيسًا لوفد مصر في الأمم المتحدة، عن القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني مطالبًا بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين(18). وحين صدر قرار التقسيم من الأمم المتحدة، رفضه الحزب داعيًا البلاد لمقاومته(19).
ومع نشوب الحرب في فلسطين، عام 48، أيَّدَ الحزب -حيث كان مشاركًا في حكومة النقراشي في ذلك الوقت- دخول القوات المصرية إلى فلسطين، رغم أن بعض المؤرِّخين يُلقون بتَبِعَة هذا القرار على عاتق الحكومة -ومن ضمنها حزب الدستوريِّين الأحرار- كونها المسؤولة عن عدم جاهزية الجيش المصري للحرب ثم اتِّخاذ قرار الدخول للحرب مع العلم بعدم الجهوزية(20).
– الجرائد والصحف:
● البلاغ(21): صحيفة البلاغ هي لسان حال حزب الوفد، ولكونها صحيفة فقد تحرَّرَتْ أكثر من القيود السياسية التي توجِّه الأحزاب السياسية، فكانت مواقفها من القضية الفلسطينية منذ العشرينيات في مجملها مواقف داعمة للقضية، فاضحة للانتهاكات، محذِّرة من العواقب التي يمثِّلها المشروع الصهيوني. فضلًا عن تغطيتها، سواء من خلال الأخبار أو التعليقات على الأحداث اليومية في فلسطين، فكانت الوحيدة التي تناولت المؤتمر الإسلامي (1931م) بشكل يومي. فضلًا عن ذلك فقد أفردت مساحة للكُتَّاب الفلسطينيِّين للتعبير عن موقفهم على صفحاتها، التي خصَّصَتْ إحداها (الصفحة الثانية) بعنوان “رسالة فلسطينية” لمتابعة أحوال القضية الفلسطينية. وقد تمثَّل توجُّهها نحو القضية في بُعد قومي إسلامي يرى في المشروع الصهيوني خطرًا أشدَّ من المشروعات الاستعمارية التقليدية؛ وهو مشروع يشمل عدَّة أبعاد؛ ومن ثم فالحل (كما تقدِّمه الصحيفة) لا يكمن فقط في النضال السياسي ولكن أيضا في البعد الاقتصادي.
وقد اتَّبعت صحيفة “كوكب الشرق”(22)، القريبة من حزب الوفد أيضًا، نفس نهج “البلاغ” في تغطيتها واهتمامها بالشأن الفلسطيني وقضيَّته وعمِلت على دعم القضية الفلسطينية بالطرق الإعلامية والصحفية.
● السياسة اليومية(23): كما في صحيفة “البلاغ”، فإن صحيفة “السياسة اليومية” كانت لسان حال حزب الدستوريِّين الأحرار، وقد اتَّبعت نفس خطِّه السياسي، فعندما كان اهتمام الحزب بالقضية الفلسطينية ضعيفًا في العشرينيات، كان اهتمام الصحيفة على نفس المستوى، إلا أنه ومع الثلاثينيات (كما الحزب) تزايد اهتمام الصحيفة بالقضية الفلسطينية، حيث عالجت الموضوعات المختلفة للقضية من منظور قومي علماني، يرى أن التفاوض والتفاهم هما سبيل حلِّ النزاع الدائر؛ لذا فإن موقفها من الحركة الوطنية الفلسطينية كان ناقدًا لدعوات الثورة المسلحة والسياسات العنيفة، ومؤيدًا لدعوات التفاهم والتفاوض.
من جهة أخرى كان اهتمام الصحيفة بالبُعد الدولي للقضية أساسيًّا، حيث اهتمَّت بتناول الدور البريطاني الساعي لتمكين اليهود من فلسطين، لتحقيق مصالح بريطانيا الاستعمارية. إلا أن الصحيفة -كما الحزب- كانت تؤيِّد المسعى الخاص بالتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين.
ج) مرحلة التطبيع والتمايز (1979- الآن):
بعد فترة الملَكيَّة دخلت الليبرالية -مثل الكثير من التيارات الفكرية- في ما يشبه التجمُّد، في المرحلة الناصرية؛ حيث لم تكن هناك مساحة من الحرية تسمح سواء بتكوين كيانات سياسية ليبرالية (أو غيرها) أو بتواجد ليبرالي في مساحات الفكر والثقافة إلا لو كانت مؤيِّدة للنظام السياسي آنذاك(24).
ثم كان أن تولَّى السادات الحكم فبدأت بوادر انفراجة في المجال العام، سمحت باستعادة التيَّارات السياسية لفُرصها في التواجُد في المجال العام المصري، وقد ترافق ذلك مع الخطوات الجذرية التي اتَّخذها السادات في مجال القضية الفلسطينية والتي جاء على رأسها اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، وما تبِعها من خروج مصر بشكل ما من الصراع العربي-الإسرائيلي، ومن موضع المعادي للكيان الصهيوني، لموضع المحايد (رسميًّا على الأقل) تجاه الكيان الصهيوني، والوسيط بينه وبين الفلسطينيِّين.
انقسمت القوى الليبرالية تجاه هذه التطوُّرات إلى تيارين أساسيَّيْن، تبنَّى الأول وجهة نظر السادات بشكل حاد، بحيث تطوَّر الأمر بعد ذلك بالدعوة للتعاون -وأحيانا التحالف- مع الكيان الصهيوني بدعوى المصلحة المصرية “الوطنية”. فيما اتخذ التيَّار الآخر طريق القوى الوطنية الرافضة للاتفاقية، ثم المتعامل معها بمنطق الأمر الواقع، الذي لا يزال يرى في الكيان الصهيوني عدوًّا؛ ومن ثم فإن مواقفه كانت بوجه عام رافضة لعمليات التطبيع التي تقوم بها السلطة.
1- الشخصيات الليبرالية:
– توفيق الحكيم: لا يعد توفيق الحكيم رمزًا ليبراليًّا شهيرًا فقط، ولكنه أيضًا كان رأس حربة في حالة التطبيع(25) التي انتشرت في مصر بعد التقارب مع الكيان الصهيوني وصولًا لاتفاقية السلام الشهيرة. كان توفيق الحكيم قد بدأ هذا التوجُّه عبر سلسلة من المقالات دعا فيها لحياد مصر(26) تجاه المشكلات العربية وذلك في عام 1978م، حيث جاء فيها: “لن تعرف مصرُ راحةً، ولن يتمَّ لها استقرار، ولن يشبع فيها جائع إلا عن طريق واحد يكفل لها بذل مالها لإطعام الجائعين والمحتاجين وتكريس عهدها للتقدُّم بالمتخلِّفين وتوجيه عنايتها إلى الارتقاء بالروح والعقل في مناخ الحرية والأمن والطمأنينة، وهذا لن يتمَّ أبدًا ما دامت الأموال والجهود تضيع بعيدًا عن مطالب الشعب بدافع من مشكلات خارجية ودولية تغذِّيها الأطماع الداخلية والشخصية، ما هو الطريق إذن إلى واحة الراحة والاستقرار وطعام المعدة والروح والعقل؟ إن هذه الواحة المورقة المزهرة اسمها: الحياد”(27).
وبُعيد عقد “اتفاقية السلام” أرسل برقيَّةً إلى السادات؛ ليدعمه، جاء فيها: “تحية لموقفكم الراسخ أمام الأقزام، لقد أفزعهم صلح الفئتين المتحضِّرتيْن، بعد اطمئنانهم إلى ضعف مصر لِتَذِلَّ تحت أقدامهم. مالهم وجهلهم؟ سر المقاطعة والتخريب خوَّفهم من قوَّة مصر بعد الصلح؛ لأنهم يريدونها منهكة القوى بالحروب لتستنجد بهم وتتملقهم فيحتقرونها، فإلى الأمام نحو الكرامة والحضارة، وخطوة من المتحضرين نقابلها بخطوتين، فلن ترجع مصر مع المتخلِّفين إلى الوراء، فالتقدُّم دائمًا والمجد لمصر المتحضِّرة”(28).
– عمرو حمزاوي: في مقابل توفيق الحكيم، يقف عمرو حمزاوي، وهو واحد من أشهر الوجوه الليبرالية بعد الثورة المصرية، في موقف المؤيِّد للقضيَّة الفلسطينيَّة والمدافع عن الحقِّ الفلسطيني. فنجده يعلن تضامُنَه مع إضراب الأسرى الفلسطينيِّين في سجون الاحتلال(29)، كما نجده يتضامن مع حق العودة الفلسطيني وذلك في يوم الأرض(30). فيما يُبدي دائمًا تعاطفَه مع ما يتعرَّض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات ونكبات متتالية، فنجده في إحدى مقالاته، يقول: “الشعب الفلسطيني، كما ينبِّئنا التاريخ التعيس للقرن العشرين، وتُطالعنا الوقائع البائسة للسنوات القليلة التي مَرَّتْ من القرن الحادي والعشرين، هو أحد أكثر شعوب العالم تعرُّضًا للظلم والاضطهاد، ومعاناةً من استلاب الحق في تقرير المصير والعيش الكريم منذ تأسَّسَتْ دولة إسرائيل في 1948م، ثمَّ باحتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة في 1967م”(31).
ورغم موقفه الرافض للمقاومة المسلَّحة كخيار للفلسطينيِّين، والذي يبلوره في قوله: “إن الثمن الباهظ لمقاومة «حماس» والذي يتحمَّله بأرواحهم المدنيُّون الفلسطينيُّون، ومحدودية نتائجها في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، وفي ظلِّ ظروف إقليمية ودولية غير مواتية تفرض جميعًا النظر في شروط المقاومة المسلحة وحيثيَّات الموازنة بينها وبين خيار التسوية والمفاوضات”(32).
إلا أنه يرى أن هناك سُبُلًا أخرى للمقاومة مثل الانتفاضة السلمية، حيث يقول: “والحقيقة هي أيضًا أن الشعب الفلسطيني أصبح يدرك اليوم أن مسار “أوسلو” بلغ فشله المحتوم، وأن الوصول إلى حق تقرير المصير عبر موائد المفاوضات فى الظروف الفلسطينية والعربية الحالية خارج الحسابات الواقعية، وأن إسرائيل أرادت تكريس الانفصال بين الضفة وغزة لمواصلة تفريغ القضية الفلسطينية من المضمون والتوسُّع فى الإجرام الاستيطانى، وأن التنسيق الأمني مع السلطة فى القدس والضفة هو الوجه الآخر لحصار غزة وللاعتداءات المستمرة. وتأسيسًا على ذلك، ومع التشديد على ضرورة تجنُّب انهيار المصالحة الفلسطينية، لم يَعُدْ أمام الفلسطينيِّين إلا الانتفاض سلميًّا -وليس بالصواريخ- فى القدس والضفة وغزة وبنفس طويل لتجاوز مسار “أوسلو” والنُّخب التى أدارتْه (سلطة ومعارضة) وإعادة شيء من التوازن لمعادلة القوة بينهم وبين إسرائيل على نحو يوقِف تفريغ حقِّ تقرير المصير من المضمون وينهي الصمت العربي والعالمي”(33).
– وحيد عبد المجيد: في نفس تيار عمرو حمزاوي، يقف الدكتور وحيد عبد المجيد موقفًا مؤيِّدًا للحق الفلسطيني، ومناصرًا للقضية الفلسطينية، بل إننا نجده ناقدًا(34) لاتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية واصفًا إياها بـ”الكارثة الكبرى على القضية الفلسطينية”، وأنها “أدَّت إلى استمرار الاحتلال، و[أن] التجربة السياسية تؤكِّد أن أيَّ علاقة عربية مع إسرائيل لن تحلَّ القضية الفلسطينية”(35). بل إنه يرى أن مسار السادات الذي خطَّه في أواخر السبعينيَّات بالابتعاد والنأي بمصر عن القضايا العربية والفلسطينية، كان مسارًا مؤقَّتًا حاولَت مصر بعدها أن تتلافى آثاره، مما خلق حالة من الابتعاد والاستبعاد أثَّرت بالسلب على القضية الفلسطينية، حتى على مسار التفاوض في اتفاقية أوسلو وغيرها(36)، والتي يرى وحيد عبد المجيد أن القضية الفلسطينية بدأت تخفت بعدها(37)، واصفًا إياها بالبائسة(38).
وعن مركزية القضية الفلسطينية، فإن وحيد عبد المجيد يرى أن “القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، وقد دارت حولها كل التفاعلات الصراعية سواء بين قوى عربية وقوى دولية، أو بين القوى العربية وبعضها البعض، أو حتى بين قوى دولية وقوى دولية أخرى، “وأنه تمَّتْ إزاحتها لصالح صراع بين محورين أحدهما تقوده أمريكا والآخر إيران”(39).
من ناحية أخرى، يقدم وحيد عبد المجيد ما يعتبره حلًّا بديلًا يمكن للفصائل الفلسطينية استخدامه، عن بدائل أخرى اعتبر بعضها انتحارية(40)؛ وهو “إذا أمكن التوافق على إطلاق مقاومة مدنية ضدَّ الاحتلال الذي سيصبح سافرًا مرة أخرى، مع الالتزام بعدم اللجوء إلى أيِّ عمل مسلَّح سواء في الضفَّة أو من غزَّة. ففي حال نجاح القيادة الفلسطينية في إقناع المجتمع الدولي بأن حلَّ السلطة لا يهدف إلى تصعيد التوتر في المنطقة، بل إلى وضع إسرائيل والقوى الكبرى أمام مسؤوليَّاتها، ربما تفيد المقاومة المدنيَّة في إعادة فتح طريق الحل السلمي الذي أغلقته حكومة نتنياهو. وقد تساعد مقاومة تعزف عن استخدام أي سلاح إلا صمود الإنسان الفلسطيني وإرادته في تغيير توجُّهات قطاع من المجتمع الإسرائيلي دفعته الانتفاضة المسلحة السابقة يمينًا. وفي هذه الحال، ربما يتوافر الشرط الذي لا غنى له للتقدُّم نحو حلٍّ سلمي، وهو الدعم الشعبي لحكومة إسرائيلية تمضي في هذا الاتجاه”(41).
2- الأحزاب السياسية:
● حزب الوفد: منذ نشأته في أواخر السبعينيات، وقف حزب الوفد في صف القضية الفلسطينية؛ حيث كان من أبرز الرافضين لاتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية(42)؛ وهو ما أدخله في صدام مع الرئيس السادات، دفعه لإعلان حالة تجميد شبه رسمية من قبل فؤاد سراج الدين رئيس الحزب آنذاك؛ وهو الموقف الذي استمر بعد ذلك سواء في تبنِّي رئيس الحزب السيد البدوي في عام 2010 وعدًا بإلغاء الاتفاقية حال توليه رئاسة الجمهورية(43)؛ (في سياق الحديث عن ترشُّحِه في الانتخابات المفترضة في 2011)، أو في التحذير المستمرِّ من عدم قدرة الاتفاقية على الاستمرار في ظلِّ الانتهاكات التي تحدث لحقوق الشعب الفلسطيني(44). واستمرَّ تأييد الحزب للقضية الفلسطينية، حيث عقد الوفد عدَّة مؤتمرات جماهيرية كبيرة لمساندة الحق الفلسطيني والدعوة إلى إنقاذ القدس، كما أعلن عن تبنِّي الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وتأييده سحب السفير المصري من تل أبيب (بعد خرق الهدنة في ٢٠١٢)(45).
وقد كان هذا التوجُّه الداعم للقضية الفلسطينية حاضرًا أيضا في أدبيات الحزب، حيث اعتبر القضية الفلسطينية ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الفلسطينية(46)، فيما يدعو الحزب إلى “مراجعة عمليه التسويه والاتفاقات مع إسرائيل على أساس أنه لا سلام حقيقيًّا في ظلِّ العدوان والإجحاف وانتهاك الحق الفلسطيني في دولة ذات سيادة قادرة على البقاء وتصنع مصيرها ومستقبل أبنائها”(47)؛ ممَّا جعل دعم القضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع إسرائيل أحد المبادئ التي اتَّخذها حزب الوفد مع إعادة تأسيسه(48)، وعنصرًا مستمرًّا في تصريحات قياداته التي تؤكِّد على أن القضية الفلسطينية “قضية وشأن مصري خالص على مدى تاريخها”(49)، وهو ما تبلور في تفاعل الحزب مع قضايا فلسطين المختلفة مثل: الدفاع عن القدس ضدَّ الانتهاكات التي تحدث له(50) وغيرها.
● حزب الجبهة الديمقراطية: يمثِّل حزب الجبهة الديمقراطية، الذي نشأ قبل الثورة المصرية، أحد النماذج على التيار المؤيِّد لعمليَّة التطبيع مع الكيان الصهيوني، فمؤسِّسه ورئيسه الأول الدكتور أسامة الغزالي حرب التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القاهرة (عام 1997) مما استدعى توقيع عقوبة لفت نظر عليه من قبل نقابة الصحفيين(51)، ثم قام بزيارة إسرائيل في عام 1999م، ولم يَرَ أيَّ غضاضة في ذلك(52). فالحزب ينظر للقضية الفلسطينية على أنها مجرد “مشكلة”(53) تعوق أي علاقات طبيعية بين مصر والكيان الصهيوني. لذا يمكن فهم طبيعة النظر للقضية الفلسطينية في برنامج الحزب الذي نص على أن “الوضع المأساوي بالأراضي الفلسطينية وتوقُّف عملية السلام بالمنطقة، وبالتالي ازدياد حدَّة الصراع العربي-الإسرائيلي، في مقدِّمة قضايا الأمن القوميِّ المصريِّ أيضًا، حيث يشكل التوسع الإسرائيلي ومحاولات إسرائيل فرض هيمنتها فى المنطقة، خطرًا جسيمًا لابد أن تقف مصر والدول العربية بحسم فى مواجهته لضمان حق الشعب الفلسطيني في وطنه، ثم التوصُّل إلى نظام إقليمي للتسلُّح يشمل التخلُّص من جميع أسلحة الدمار الشامل وأولها السلاح النووي الإسرائيلي، وذلك بما يكفل الأمن لجميع الأطراف من خلال إنشاء منطقة خالية من هذه الأسلحة ونظم إطلاقها. فالمنطقة لن تشهد سلامًا دائمًا يكون فيه الأمن لطرف واحد على حساب أمن الأطراف الأخرى أو مصالح المنطقة بأكملها”(54)، فنجد الحديث عن صَدِّ “التوسُّع” ومقاومة “الهيمنة” للكيان الصهيوني، كأساس من ضمن أسس الأمن القومي المصري، بحيث يتم النظر للقضية الفلسطينية لا كقضية مركزية في ذاتها، بل فقط بمدى تأثيرها على الأمن القومي لمصر.
لذا فإن مواقف الحزب تجاه الأحداث المختلفة للقضية الفلسطينية يعدُّ ضعيفًا وغير واضح في كثير من الأحيان، عدا بعض الاجتماعات البروتوكولية التي تمَّت مع بعض الرموز الفلسطينية(55).
● حزب المصريين الأحرار: يقف حزب المصريين الأحرار في مساحة مرتبكة بين التيارين الأساسيَّيْن في الليبرالية المصرية من القضية الفلسطينية، حيث بدا بداخله التوجُّهيْن في آنٍ واحد، وقد يرجع ذلك لطبيعة التركيبة الحزبية الخاصة به. فالحزب على مستوى البرنامج ينطلق من أرضية اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية كمدخل لتعاطيه من القضية الفلسطينية، التي يعتبر أن “احترام مصر لتعهُّداتها الدولية وخاصةً فيما يتعلَّق بمعاهدة السلام مع إسرائيل لا يعني قبولها إمكانية التعاون الإقليمي معها إلا عند تحقيق السلام الشامل والعادل، والذي يكمن في وقف عمليَّات تهجير الفلسطينيِّين من الضفَّة الغربيَّة وكذلك عمليات تصعيد البناء الاستيطاني، والتطبيق الكامل لقرارات الشرعية الدولية بانسحاب إسرائيل من كافَّة الأراضي المحتلة حتى خط الرابع من يونيو ١٩٦٧، والتوصُّل لحلٍّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيِّين، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة”(56).
كذلك نجد عددًا من قيادات الحزب يتبنَّى مواقف مساندة للقضية الفلسطينية، مثل إدانة أحد قيادات الحزب للعدوان على المسجد الأقصى(57)، أو تصريح قيادي آخر بأن القضية الفلسطينية “ستظل الشغل الشاغل لمصر وأولى أولويات أجندة مصر في السياسة الخارجية”(58)، فيما لم تظهر بشكل واضح مواقف للحزب من الأحداث المختلفة في الشأن الفلسطيني، إلا تنديدًا بعدوان غزة في 2012″(59).
ظل هذا الأمر حتى حدثت أزمة الحزب(60) في نهاية 2016، وانقسام الحزب إلى طرفين، أحدهما ضدَّ المهندس نجيب ساويرس مؤسِّس الحزب ومجلس الأمناء (الذي كان من ضمنه أسامة الغزالي حرب بعد انضمامه حزب الجبهة لحزب المصريين الأحرار)، وجبهة أخرى بقيادة عصام خليل رئيس الحزب.
وقد بدا أن أحد أشكال الصراع بين الجبهتين هو دعوات التطبيع واتهاماته التي وجَّهتها جبهة عصام خليل إلى جبهة ساويرس(61).
وهو ما تبدَّى بعض الشيء في مواقف كلا الجبهتين، حيث عقدت -على سبيل المثال- جبهة ساويرس ندوة حول القضية الفلسطينية، اعتبر فيها ضيف الندوة أن هناك الكثير من الأكاذيب الثقافية التي تعرقل عملية التعامل مع الآخر (الإسرائيلي)(62)، فيما اتَّخذت جبهة عصام خليل عددًا من المواقف منها التنديد بموقف المجتمع الدولي من الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل تجاه المسجد الأقصى(63).

ثانيا- عوامل تفاعل الليبرالية المصرية مع القضية الفلسطينية

الاستعراض -المختصر- للمواقف المتعدِّدة لليبرالية المصرية عبر مئة عام تقريبًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، والتي تعدَّدَتْ بدايةً من دعمٍ مباشر للحركة الصهيونية، وصولًا لرفض كامل لاتفاقية كامب ديفيد، ينبئ عن عددٍ من العوامل والأسباب الكامنة في تلك المواقف، والتي يمكن سردها فيما يلي:
● هناك أزمة في تكوين التيار الليبرالي المصري بحيث يصعب تصنيفه وتصنيف الفاعلين فيه باعتبارهم ممثِّلين حقيقيِّين للفكر الليبرالي، وذلك نابع من أزمة بنيوية في الفكر الليبرالي أصالةً؛ بحيث يحتوي على مساحة من التنوع الفضفاض، يجعل من الصعب وضع تحديد واضح لأُسُسِه؛ ومن ثمَّ تصنيف جلي للمنتسبين إليه. من ناحية أخرى، فإن الليبرالية المصرية قد تداخلت فيها عوامل شتى في تكوينها، كما أن تكوين المفكرين والأفراد الليبراليِّين قد اختلف عن ظروف تكوين الكيانات والمؤسَّسات الليبرالية، وفيما انتشر الكثير من المفكرين من التيارات الأخرى في مؤسَّسات سياسية وحزبية نابعة من تياراتهم، فإن تواجد كيان سياسي حقيقي يضم مفكرين سياسيِّين حقيقيِّين في التيار الليبرالي كان أمرًا صعبًا في ظل ضعف التكوينات السياسية الليبرالية باستثناء فترة ما قبل 1952م، لذلك فإن مواقف التيار الليبرالي في مصر من القضية الفلسطينية قد تعقَّد بشكل كبير نظرًا لتنوُّعٍ عشوائي في تكوين التيار الليبرالي نفسه.
● هناك عامل متواتر في التيار الليبرالي يتعلَّق بمدى ارتباط الفاعل الليبرالي بالقضايا الوطنية بعامة؛ بحيث بدا أن الفواعل الليبرالية كلما ارتبطت بالجماهير كلما كان ارتباطها بقضاياها -وعلى رأسها القضية الفلسطينية- أكثر وضوحًا وقوة؛ لذا نجد التحوُّل في مواقف حزب الدستوريِّين الأحرار من شبه الصمت تجاه القضية الفلسطينية للموافقة على مشاركة مصر في حرب 1948م حين كان رئيسُ الحزب رئيسًا لمجلس النواب المصري، بينما نجد حزب الوفد (القديم) سابقًا على حزب الدستوريِّين الأحرار في مواقفه من القضية الفلسطينية كونه حزبًا شعبيًّا بالدرجة الأولى، فاز بكل انتخابات نزيهة أقيمت في تلك الفترة. ونجد أيضا المسافة التي أخذتها الصحف مقابل مواقف الأحزاب المعبرة عنها، فنظرًا لارتباط الصحف بتطلُّعات القرَّاء، فإن ارتباط “البلاغ” و”السياسة اليومية” بالقضية الفلسطينية كان أقوى وأسرع من مواقف حزبي الوفد والدستوريين الأحرار.
● بعد بلورة القضية الفلسطينية كقضية وطنية بعد 1952م، وبسبب الحروب المتعدِّدَة التي خاضَتْها مصر دفاعًا عن القضية وعن أرضها، أصبح هناك صعوبة شديدة للأحزاب السياسية أن تتخطَّى هذا الحاجز، مهما كانت تطلُّعات مؤسِّسيها وأفكارهم؛ لذا نجد أن مطبِّعًا مع الكيان الصهيوني مثل أسامة الغزالي حرب، لا يمكنه أن يتجاهل بالكلية القضية الفلسطينية في كتابة برنامج الحزب الذي أسَّسَه.
● ارتبطت المواقف من القضية الفلسطينية لدى التيار الليبرالي أيضا برؤية أطرافه المتعددة لمصر وانتماءاتها، فكلما مال الطرف الليبرالي نحو رؤية ضيقة للوطنية المصرية ترى مصر دولة لا ترتبط بمحيطها العربي والإسلامي؛ كلما فقد الصلة بالقضية الفلسطينية؛ ومن ثم مال ناحية التطبيع مع الكيان الصهيوني، والعكس صحيح.
● ارتبطت المواقف أيضًا بالعلاقة مع الدين وموقف الأطراف الليبرالية من دور الدين في المجال العام، فبينما يتحدَّث برنامج حزب المصريين الأحرار عن الفصل بين الدين وإدارة شؤون الدولة، يُصَدِّرُ حزبُ الوفد برنامجَه بأن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وقد رأينا في السرد السابق، كيف مالت مواقف حزب المصريين الأحرار، خاصة في جبهته الأكثر علمانية، لمواقف التطبيع، بينما اتجه حزب الوفد للوقوف بجانب القضية الفلسطينية سواء عبر برنامجه أو عبر مواقفه السياسية المختلفة.
● العامل المؤسسي كان له دور أيضًا في تحديد موقف الطرف الليبرالي من القضية الفلسطينية، فالأطراف الليبرالية الفردية، مفكرين وكتابًا ومثقفين، كانت قدرتهم على إعلان موقف مخالف للإجماع الوطني، بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أو أخذ مواقف غير مؤيِّدة للقضية الفلسطينية، كانت أعلى بكثير من قدرة الأحزاب السياسية التي تنظر في النهاية إلى رضا الجماهير عن مواقفها أملًا في كسب أصواتها في الانتخابات السياسية.
إن هذه الجولة السريعة في مواقف التيار الليبرالي تشي ليس فقط ببعض أزمات التيار الليبرالي في مصر، وإنما أيضًا ببعض أزمات القوى السياسة عامَّة في مصر، ومدى قدرتها على تنظيم نفسها وتكوين رؤية وبرامج سياسية، فضلًا عن مدى ارتباطها بالجماهير التي تدَّعي تمثيلها.
*****

الهوامش:

(*) مدير تحرير موقع إضاءات.
(1) أسامة العيسة، الجامعة العبرية من لطفي السيد حتى نسيبة، موقع إيلاف، 1 يونيو 2005، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/BpMgJG
(2) إياد حرفوش، ماذا بقي من ثورة يوليو المصرية، موقع الميادين، 25 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2IiWJ8Y
(3) سميح القاسم، القاسم لـ”ذوات”: شعر المقاومة ضد الاحتلال والتخلف والجهل (2 – 3)، موقع ذوات، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/yGyDau
(4) Palestine in the Egyptian Press: From al-Ahram to al-Ahali, Ghada Hashem Talhami, (Lanham: Lexington Books, 2007), pp. 4 , 73.
يمكن الإشارة أيضا إلى أن كون ملاك المجلة -الكاتب المصري- هم العائلة اليهودية آل هراري، ألقى مزيدًا من الشك حول توجُّهاتها، في ظلِّ حالة التغييم التي سادَتْ في تلك الفترة في التفرقة بين اليهود والصهاينة. انظر أيضًا:
– يهود مصر من الازدهار إلى الشتات، محمد أبو الغار، (القاهرة: دار الهلال، 2007)، ص 99.
(5) زبير سلطان قدوري،السلام في المشروع الصهيوني: مصر نموذجا، الفصل 22، موقع الحوار اليوم، 12 يونيو 2011، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/wHhTfD
(6) طه حسين والصهيونية.. كتاب ينفي تجاهل عميد الأدب العربي لقضية فلسطين، موقع رويترز، 4 أكتوبر 2010، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/1nVwbG
(7) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين: رؤية تاريخية ومعاصرة (1917 – 2009)، (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2011)، ص 115.
(8) المرجع السابق، ص 117.
(9) مصطفى النحاس ودوره في السياسة، صلاح عبود العامري، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2011)، ص 133.
(10) مصطفى عبيد، دروس مصطفي النحاس لإقامة الدولة الليبرالية، موقع صحيفة الوفد، 22 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/BV8HL3
(11) المرجع السابق.
(12) مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 130.
(13) المرجع السابق، ص 131.
(14) المرجع السابق.
(15) خير الدين الزركلي، الأعلام، الجزء السادس، (بيروت: دار العلم للملايين، 2002)، ص ٣٠٧.
(16) أحمد زكريا الشلق، الأحرار الدستوريون 1922 – 1953، (القاهرة: دار الشروق، 2010)، ص 515.
(17) المرجع السابق، ص 516.
(18) المرجع السابق.
(19) المرجع السابق، ص 517.
(20) جبر علي جبر، القوة الجوية بين السياسة المصرية والإسرائيلية، ج1، (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1993)، ص ص 340 – 350.
(21) اعتمدنا في هذا الجزء على: مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص ص 120 – 125.
(22) المرجع السابق، ص ص 125 – 129.
(23) المرجع السابق، ص ص 131 – 134.
(24) ماهر جبرة، كيف سقطت الليبرالية من ذاكرة مصر؟، موقع رصيف 22، 23 نوفمبر 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/HLmUoh
(25) مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 506.
(26) محمد حلمي عبد الوهاب، العروبة والإسلام في سياق المواطنة المصرية، موقع صحيفة الشرق الأوسط، 7 فبراير 2012، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/aH9Tse
(27) سعيد إسماعيل علي، معركة “الحكيم” .. حول الحياد المزعوم؟، موقع المصريون، 27 أكتوبر 2011، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/tmH5Vs
(28) محمد الدخاخني، تاريخ موجز جدًّا للوطنية المصرية، موقع إضاءات، 19 أغسطس 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ueXDbk
(29) عمرو حمزاوي: أتضامن مع إضراب أسرى فلسطين «البطولي» في سجون الاحتلال، موقع مصر العربية، 25 أبريل 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/GWQVqS
(30) عمرو حمزاوي يغرّد في «يوم الأرض»: نتضامن مع فلسطين للعودة من الشتات، موقع المصري اليوم، 30 مارس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/2EUvDS
(31) عمرو حمزاوي، فلسطين… في مواجهة ثلاثية غير مقدسة، موقع القدس العربي، 29 أغسطس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/8rQmQ5
(32) عمرو حمزاوي، فلسطين… في أولوية البوصلة الاستراتيجية، صحيفة الصحيفة، 12 يناير 2009، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/PEKWmT
(33) لتنتفض فلسطين سلميًّا، عمرو حمزاوي، بوابة الشروق، 9 يوليو 2014، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/v76Ek2
(34) وحيد عبد المجيد، كامب ديفيد بعد عشرين عامًا، (القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1998).
(35) خالد موسى، سياسيون يطالبون الرئيس بإيضاح تصريحاته حول «توسيع اتفاق السلام» مع إسرائيل، بوابة الشروق، 29 سبتمبر 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/4xQBJs
(36) الشيخ الشهيد (برنامج)، قناة الجزيرة، 22 مارس 2004، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/HgJdHz
(37) وحيد عبد المجيد: القضية الفلسطينية ماتت برحيل ياسر عرفات واتفاقية «أوسلو»، موقع وكالة أونا، 14 نوفمبر 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/gfv9w8
(38) إمام رمضان وسارة يس، عبد المجيد: طلب فلسطين الحماية من الأمم المتحدة مخرج مؤقت للانسداد التاريخي لأزمتها مع إسرائيل، موقع صدى البلد، 14 يوليو 2014، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/R45DBD
(39) مهدي بندق، حوارات مهدى بندق (7) – مع د. وحيد عبد المجيد، موقع الحوار المتمدن، 5 أكتوبر 2007، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/KSxxNU
(40) وحيد عبد المجيد، المأزق الفلسطيني: بدائل واهية لمفاوضات عقيمة، موقع وكالة فلسطين اليوم الإخبارية، 25 أكتوبر 2010، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/GhrthB
(41) المرجع السابق.
(42) قوى سياسية مصرية عارضت كامب ديفيد، موقع الجزيرة.نت، 25 مارس 2009، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/UNXFfD
(43) محمود رمزى وابتسام تعلب ومحمد طلعت داوود، سياسيون وخبراء: موقف رئيس الوفد من «المعاهدة» «جديد على الليبراليِّين»، صحيفة المصري اليوم، 25 يوليو 2010، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Uys1Rh
(44) سارة علام، البدوى: اتفاقية السلام تمر باختبار “صعب جدا” بسبب الضغوط الشعبية، موقع اليوم السابع، 5 فبراير 2012، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/jQVMGv
(45) السيد البدوي: أؤيد قرار سحب السفير المصري.. وإسرائيل لم تستوعب تغير الأوضاع في العالم العربي، موقع وكالة أنباء أونا، ١٥ نوفمبر ٢٠١٢، متاح عبر الرابط التالي: http://onaeg.com/?p=407016
(46) برنامج حزب الوفد الانتخابي، البند (20)، السياسة الخارجية، المادة (1)، موقع حزب الوفد، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Gy1tnv
(47) برنامج حزب الوفد الانتخابي، البند (20)، المادة (4).
(48) وحيد عبد المجيد، الأساس الاجتماعي لحزب الوفد الجديد، رسالة ماجستير (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1988)، ص 103.
(49) آلاء حمزة، الرسالة.نت ترصد مواقف قوى مصر تجاه فلسطين، موقع الرسالة.نت، 3 يناير 2013، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Z32K4m
(50) ماجدة صالح، حزب الوفد يطالب المنظمات الدولية بالتوحُّد دفاعًا عن الأقصى، موقع الوفد، 26 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2MSQhcG
(51) شفيق أحمد علي، أسامة الغزالى حرب الذى جلس مع نتنياهو ويدافع عن «يهودية» القدس، موقع حزب الاستقلال “الشعب”، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/P3eW6h
(52) محمود محمد علي، أسامة الغزالي حرب: ذهبت لـ«إسرائيل» من قبل ولا مانع من العلاقات بيننا بشرط، بوابة الشروق، 24 يونيو 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/jhS5e5
(53) المرجع السابق.
(54) برنامج حزب الجبهة الديمقراطي، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/dhePLe
(55) محمد البحراوي، “كامل”: الحزب يدعم القضية الفلسطينية.. و”الوفد الفلسطينى”: فلسطين لن تنتصر إلا بقوة مصر، موقع اليوم السابع، 16 فبراير 2012، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/DS16bt
(56) برنامج حزب المصريين الأحرار، المادة (17) – الجزء الثالث، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/BZchv2
(57) إبراهيم سعيد، بالفيديو.. المصريين الأحرار: الصمت الدولي على اعتداءات المسجد الأقصى غير مبرر، موقع اليوم السابع، 21 سبتمبر 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/fEMgZc
(58) محمد رضا، قيادى بالمصريين الأحرار: القضية الفلسطينية ستظل الشغل الشاغل لمصر، موقع اليوم السابع، 29 مايو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/KqFGKw
(59) سمير السيد، “المصريين الأحرار” يندد بالعدوان على غزة.. ويطالب أمريكا بالتدخل لوقف الجريمة الإسرائيلية، بوابة الأهرام،16 نوفمبر 2012، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/W2BifL
(60) كريم أسعد، حين تأكل الأحزاب آباءها: قصة إطاحة المصريين الأحرار بساويرس، موقع إضاءات، 1 يناير 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/okm1FM
(61) انظر:
– محمد نصار، التطبيع مع إسرائيل يشعل الصراع داخل المصريين الأحرار، موقع مصر العربية، 9 مارس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/XFCdNf
– إسراء سليمان، القفاص يتهم “ساويرس” بالتطبيع مع إسرائيل، موقع صحيفة الوطن، 8 مارس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/g5xRPY
(62) أحمد فوزي سالم – وئام مصطفى، محمد زكي الشيمي: أزمة القضية الفلسطينية لعبة سياسية عربية، موقع فيتو، 30 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/3pKwKL
(63) أحمد ناصف، المصريين الأحرار عن «أحداث القدس»: المجتمع الدولي متخاذل، موقع مبتدا، 21 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/noViXA

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى