الرياضة والسياسة والهوية: جدالات كأس العالم لكرة القدم 2022

مقدمة:

عندما يُطلِق حكم مباراة كرة القدم صافرة البداية، ينطلق اللاعبون في أرض الملعب وتتعالى هُتافات المشجعين في مدرجاته وخلف الشاشات، إلا أن اللعبة تتجاوز كثيرًا حدود الملعب وخطوطه وقوانين الكرة. قد يتسع مشهد المباراة ليضم اللاعبين وخلفياتهم السياسية، والثقافية، والعرقية، والدينية. وكذلك ترتفع أصوات المشجعين ورايات الفريق الذين يدعمونه مع رايات هوياتهم، التي جاءوا لينافحوا عنها جنبًا إلى جنب مع تحركات الكرة على أرض الملعب. فغالبًا ما تذهب مباراة كرة القدم بالملايين الذين يعشقونها أبعد كثيرًا من رغبتهم البسيطة في مجرد مشاهدتها. وعند الحديث عن الفعاليات الرياضية الدولية تأخذ اللعبة مسارًا سياسيًا أشد وضوحًا، فتصبح حلبةً من حلبات الصراع التي تتنافس فيها الدول والهويات العالمية والسرديات التاريخية الكبرى. هذا ما حدث في بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022 التي استضافتها قطر.

ويحاول هذا التقرير الوقوف على جدالات اشتباك الرياضة والسياسة وأسئلة الهوية، التي ثارت مع مونديال قطر. فعلى الرغم من اعتبار نسخة قطر الأفضل في تاريخ بطولة كأس العالم لكرة القدم، إلا أنها احتلت في نفس الوقت صدارة المشهد العالمي بسبب عدد من القضايا الشائكة التي اشتعل الجدل حولها في جميع أنحاء العالم تقريبًا.

كرة القدم والسياسة:

تعتبر كرة القدم الرياضة الأكثر شعبيةً في العالم. وعندما تكون لعبة ما مهمة لمليارات الأشخاص، فإنها تتوقف عن أن تكون مجرد لعبة. ويرى سايمون كوبر، صاحب الكتاب الأبرز حول كرة القدم والسياسة “كرة القدم في مواجهة العدو”: أن “كرة القدم ليست مجرد كرة قدم: إنها تساعد في صنع الحروب والثورات، وتبهر المافيا والديكتاتوريين”[1]. وقد أثبتت كرة القدم دائمًا علاقات معقدة مع السياسة والمجتمع؛ بسبب جاذبيتها العالمية وعلاقاتها القوية بالولاءات المحلية. فهي توفر مساحة للأداء العام للهويات المجتمعية، لكل من أولئك الذين يرسمون القيم الثقافية المهيمنة والآخرين الذين ينتقدون الوضع الراهن ويحفلون باختلافاتهم[2].

فتتشكل أندية مثل النادي الأسكتلندي سيلتكCeltic بسبب الاضطرابات السكانية والهجرة، وغيرها من الأسباب (وينعكس الأمر بشكلٍ صريحٍ أو ضمني من خلال تصرفات جماهيرهم)، أيضًا هناك نادي بودابست (المجري) Mtk Budapest ونادي هابويل (الإسرائيلي) Hapoel Taibe ونادي برشلونة (الإسباني) Barcelona المرتبطون بالاستقلال أو الحركات الانفصالية الإقليمية والعرقية القومية والمجتمعات الدينية. في حين أن البعض الآخر من الأندية، مثل الإسرائيلي بيتار القدس والإيطالي لازيو Lazio والألماني سانت باولي St Pauli، يُستخدمون لتعزيز الأيديولوجيات والأحزاب السياسية. كما تستمر الخلافات السياسية الدولية الأوسع نطاقًا مثل حظر العلم الفلسطيني، وارتداء رموز مثل الخشخاش البريطاني[3]، في إثارة الجدل بين مجتمعات اللاعبين والمعجبين على حدٍ سواء. أيضًا تستمر العنصرية ومناهضة العنصرية في قتال بعضهما البعض على أرض الملعب وفي المدرجات[4].

هذا، وتتضمن كرة القدم الحديثة في بنيتها التنظيمية العالمية نماذج ومساحات للسياسة لا يُستهان بها. حيث تُقدم بطولتا كأس العالم والأولمبياد منصةً لجميع الدول، والأهم من ذلك كله للدول الصغيرة، منصة لا مثيل لها من قبل أي هيئة ثقافية أو سياسية أخرى، حتى الأمم المتحدة. ففي فترة ما بعد الاستعمار، في مراحل مختلفة من القرن العشرين، سمحت تلك المساحة الرياضية للدول الصغيرة والناشئة من أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأجزاء من أوروبا الشرقية التي كان يهيمن عليها الاتحاد السوفياتي سابقًا، سمحت لها بتأكيد استقلالها الوطني على المسرح العالمي[5]. كما قدمت أيرلندا مثالًا على أزمة الهوية من خلال كرة القدم، فبعد تقسيم أيرلندا نشأ بها اتحادان لكرة القدم يتنازعان، ذلك قبل أن يكون هناك دولة تسمى “جمهورية أيرلندا”. وكان عندما تلعب “الجمهورية” مباراة ضد “الشمال” فإن أيرلندا في تلك اللحظة تلاعب نفسها، كما حدث عام1978[6].

ولا تنفك كرة القدم العربية عن هذه الطبيعة السياسية للعبة، خاصةً في فترات استعمارها والكفاح ضده. فقدم المسؤولون البريطانيون والفرنسيون كرة القدم كجزء من الجهود المبذولة لتنمية الطاعة والانضباط بين الأشخاص المستعمَرين، من خلال التركيز على التكييف البدني والهيكل القائم على القواعد التي تُقدمها كرة القدم. في المقابل، استدعت النخب العربية المحلية في كثيرٍ من الأحيان إنشاء نوادي كرة القدم، ونظمت المسابقات كعلامة للتقدم الاجتماعي والثقافي في صراعاتهم من أجل الاستقلال. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الفريق الذي شكلته حركة استقلال الجزائر، والمعروفة باسم F.L.N، في المنفى عام 1958 كجزءٍ من معركتها ضد الحكم الفرنسي، وقد تنافس الفريق ضد الفرق الوطنية الأخرى حتى قبل وجود الجزائر المستقلة. علمًا أنه تحت ضغط من فرنسا، عاقبت الفيفا الفرق التي لعبت مباريات مع فرقة F.L.N[7].

ويمتد الفعل السياسي لكرة القدم إلى المسرح الداخلي للأنظمة السياسية. كما يرى كريتشلي أنه يمكن -وهذا ما يحدث في كثيرٍ من البلدان- أن تُستخدم كرة القدم كأفيون للشعوب، “يستنزف طاقاتهم، ويصرف انتباههم عن المعارك الاجتماعية الأكثر أهمية؛ زمانًا ومكانًا، كما أنه يشل قدرتهم على العمل السياسي. لا ريب أن كرة القدم شكل من أشكال السيكولوجيا الجماهيرية التي قد تُشرعن أشنع صور القبَلية على مستوى النادي، وأبشع صور القومية على مستوى الوطن”[8]. كما لاحظ كريتشلي تلك العلاقة بين الاستعمار وكرة القدم؛ من جهة تحاول الدول المستعمَرة سابقًا الانتقام من مستعمريها في مبارايات كرة القدم (كما حدث من فوز للمغرب على فرنسا في كأس العالم 2022). ومن جهةٍ أخرى، تُرسخ اللعبة ونواديها وجماهيرها تقسيمات السكان الأصليين والأجانب غير الموثوق بهم[9]، وتفوق الأعراق على بعضها البعض[10].

وفي هذا الاطار السياسي للعبة كرة القدم (والرياضة عمومًا)، ظهر مصطلح “دبلوماسية الرياضة”. ويرجع هذا المصطلح إلى فترة الحرب الباردة، حيث شاعت محاولات كل من طرفي الصراع –خاصةً الكتلة السوفيتية- لنقل صورة أفضل لجمهور الكتلة الأخرى من خلال رياضات النخبة المنظمة في المسابقات الدولية. وتُعرف الدبلوماسية الرياضية بأنها: “استخدام الرياضة من أجل التأثير الدولي، وتحقيق نتائج مرغوبة في العلاقات الدولية، وتغيير الصورة الذهنية للدولة ونشر ثقافتها وهويتها”[11]. ويمكن القول إن هذا ما سعت إليه قطر من خلال استضافتها بطولة كأس العالم لكرة القدم العام الماضي، أن تستخدم دبلوماسية الرياضة بكافة معانيها، على الأرجح. وفيما يلي نتناول ثلاثة مشاهد تعكس جدالات الرياضة والسياسة والهوية فيما يتصل بكأس العالم 2022 المنظم في قطر:

المشهد الأول- الجدل حول أحقية قطر في تنظيم المونديال:

اتخذت قطر منذ عقدٍ مضى قرار استثمار دبلوماسية الرياضة لتعزيز مكانتها الدولية، وبناء صورة ذهنية استراتيجية تخدم أهدافها. وهو ما ظهر في تصريحات الأمير السابق لدولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حيث صرح بأن “اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية أهم من اعتراف منظمة الأمم المتحدة؛ لأن الجميع يحترم قرارات اللجنة الأولمبية الدولية”[12]. ونجحت قطر بالفعل بالظفر باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022. كما نجحت قطر نجاحًا اعتبره كثيرون منقطع النظير في تقديم مونديال قطري بامتياز؛ بنكهة عربية إسلامية، برزت فيها الهوية والثقافة العربية والإسلامية على الوجه الذي أرادته قطر تمامًا.

استثمرت قطر لتنظيم كأس العالم حوالي 220 مليار دولارًا لتكون بذلك الميزانية الأكبر على مستوى العالم بين مختلف الأحداث الرياضية الكبرى[13]. حيث يشكل هذا الرقم تكلفة البنية التحتية لقطر، والتي تم تنفيذها لاستضافة المونديال، مثل: تجهيز الطرق، وبناء أكثر من 100 فندق ومجمع سياحي. فتكلف مونديال قطر ما يعادل واحد وعشرين بطولة سابقة مجتمعة، حسب ما صرحت أحد الوكالات المتخصصة في الاستشارات المالية الرياضية Front Office Sport[14]. كما أنشأت قطر سبعة ملاعب جديدة بتكلفة تصل إلى 6.5 مليار دولار، وعكس تصميم الملاعب الثقافة العربية الخليجية. وقبل عام 2022، كان مونديال البرازيل 2014 هو الأعلى من حيث التكلفة بـ 15.5 مليار دولار، ثم مونديال روسيا 2018 بـ 11.4 مليار دولار. ووصف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، جياني إنفانتينو، البطولة بأنها “أفضل كأس عالم في التاريخ”. وأوضح إنفانتينو أن “الإيرادات المالية للنسخة الحالية بلغت 7 مليارات ونصف المليار دولار، بزيادة قدرها مليار دولار عن النسخة السابقة في مونديال روسيا 2018”. كما أشارت أرقام الفيفا إلى أن عدد من تابعوا مباريات مونديال قطر، عبر شاشات التلفاز والوسائط الرقمية، بلغ نحو 5 مليار مشاهد[15].

وقد حامت كثير من الشكوك حول نزاهة التصويت الذي فازت به قطر لاستضافة البطولة. فنشرت صنداي تايمز عما تقول إنها مستندات مسربة حصلت عليها تزعم فوز قطر بتنظيم كأس العالم عام 2022 بعد دفع الدوحة مبالغ سرية تقدر بنحو 880 مليون دولارًا للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). وتقول الجريدة إن الحكومة القطرية عرضت صفقة بقيمة 400 مليون دولارًا على الفيفا للحصول على حقوق نقل مباريات كأس العالم قبل ثلاثة أسابيع من إعلان فوزها، وأن مسؤولي شبكة الجزيرة وقعوا عقدًا للنقل التليفزيوني مع الفيفا يتضمن إيداع مبلغ 100 مليون دولارًا إضافية في حساب تابع للفيفا في حال فوز قطر بتنظيم بطولة كأس العالم 2022. وتقول الجريدة إن هذا العقد يُعد مخالفة لقوانين الفيفا لمكافحة الرشوة التي تمنع التعامل التجاري مع أي هيئة مرتبطة بمحاولة الفوز بتنظيم أي بطولة تابعة للاتحاد قٌبيل التصويت. وتُضيف الجريدة أنها اطلعت على عقد آخر بقيمة 480 مليون دولارًا قدمته الجزيرة عام 2013 عندما حامت الشكوك حول حقوق تنظيم البطولة، ثم بعد فترة محدودة أنهى الفيفا تحقيقاته التي كان يجريها في قانونية حصول قطر على حقوق تنظيم البطولة ومزاعم بشأن الفساد في عملية التصويت. وعلى الجانب الآخر، تضيف الجريدة أن متحدثًا باسم شبكة بي إن سبورت التي استحوذت على شبكة الجزيرة الرياضية رفض التعليق على الاتهامات ووصفها بغير الواقعية، وقال إن تحقيقات مكثفة أُجريت بخصوص هذه الاتهامات سابقًا، وخلصت إلى أنه لم يتم ارتكاب أي مخالفات فيما يخص حصول قطر على حقوق تنظيم البطولة[16].

المشهد الثاني جدالات الهوية وانتقادات مونديال قطر

اعتبر العديد من المراقبين أن نسخة قطر للمونديال تدفع العالم نحو التحول إلى تعدد القطبية الثقافية. وأن ما شاهده المليارات في هذه البطولة يُعد نهاية لعصر الاستعلاء والاحتكار الغربي في المجال الثقافي والرياضي، الذي حصر العالم العربي في زاوية المتلقين، وإيذانًا بانطلاق عربي إلى صفوف الفاعلين والمؤثرين في المشهد العالمي[17].

فقد بدأ حفل افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم الذي اعتاد الحضور في دول ذات أغلبية مسيحية وسياسة علمانية، بدأ بالقرآن الكريم، وتردد صوت الأذان في الملاعب والمولات التجارية[18]. وعلى الرغم من أن عرض الرموز الإسلامية كان متوقعًا من قطر لأن استخدام الرموز والتقاليد الثقافية يظهر بشكل شائع في كل مكان في كل حدث رياضي حديث في جميع أنحاء العالم، إلا أن قطر نجحت في نشر “حركة غير ليبرالية” جديدة وجديرة بالملاحظة تخرج عن النموذج الليبرالي المهيمن. وذلك داخل مسرح كرة القدم، والتي أصبحت لبعض الوقت منصة قوية للأفكار الليبرالية المناهضة للتمييز (ولكن وفق تصور محدد) التي يتم عرضها بشكلٍ أساسي في البطولات الأوروبية الكبرى. فلم يعد الخطاب العام الليبرالي الفوقي يسير بشكلٍ مثالي، بل برز فعل جماعي ضد الأعراف الغربية خاصةً داخل الدول العربية. فظهر بوضوح فخر كونك “غير ليبرالي”، بدءً من تردد عدد من البلدان في ارتداء شارة بألوان قوس قزح أثناء المباراة، إلى البيان الصحفي لرئيس الفيفا الذي صرح بجرأة عن دعمه لحظر بيع البيرة حول الملاعب. وقد أثار محمد أبو تريكة، أحد أكثر لاعبي كرة القدم المصريين تتويجًا، وسفير كأس العالم لكرة القدم 2022، ضجة العام الماضي؛ إذ دعا صراحةً اللاعبين المسلمين إلى مقاطعة حملة “Rainbow Laces” في الدوري الإنجليزي المصممة لدعم مجتمع الشواذ. وصرح قبل أسابيع قليلة من البطولة فيما يتعلق بما أسماه “الحملة الغربية ضد قطر”: “لن نُغير تقاليدنا وديننا بسبب 28 يومًا من كأس العالم”. على الرغم من أن تصريحات أبو تريكة لم يتم اعتمادها من قبل اللجنة المنظمة لكأس العالم ولا من قبل صاحب عمله الحالي “بن سبورت”، إلا أنها تعكس شعور الكثيرين في الدولة والمنطقة، الذين لا يشعرون بالارتياح تجاه ما قد يعتبرونه محاولة غربية لفرض العلمانية وقيمها ومعاييرها الثقافية وأسلوبها في الحياة[19].

ويمكن إجمال القضايا التي ثار حولها الجدل أو الانتقادات منذ إعلان قرار منح قطر استضافة نسخة كأس العالم لكرة القدم 2022 في التالي: أنها دولة بلا تاريخ رياضي يتعلق بكرة القدم، ومناخها الحار لا يناسب عادة إقامة المونديال في الصيف، وسجل حقوق الإنسان الذي تأخذ فيه العديد من الدول والمنظمات على قطر كمًا غير هين من الانتهاكات، والإسلام الذي يحظر الثقافات الفرعية المهيمنة المرتبطة بكرة القدم مثل الكحول وحرية الميول الجنسية. وفى خطوة عكست مظاهر الإسلاموفوبيا، والاستعلاء الغربى، نشرت صحف فرنسية كاريكاتيرًا، يُظهر لاعبي المنتخب القطري، حاملين للبنادق، وتكسو وجوههم ملامح البربرية[20].

فيما يتعلق بقضية حرية الميول الجنسية، قدمت السلطات القطرية منذ البداية موقفًا رسميًا لا لبس فيه. حيث كرر ممثلوها في كل مناسبة أن الجميع مرحب بهم، مع ضرورة احترام الزائرين للثقافة والعادات المحلية. فصرحت اللجنة العليا للمشاريع والإرث، وهي الجهة المسؤولة عن التخطيط للبطولة، بأن “الجميع مرحب بهم بغض النظر عن الجنس أو الميول الجنسية أو الدين أو العرق أو الجنسية. ويجب على جميع المشجعين أن يطمئنوا إلى أن منظمي البطولة يبذلون قصارى جهدهم لضمان سلامتهم ورفاههم أثناء زيارتهم لقطر … وإن إظهار العاطفة الجنسية في الأماكن العامة ليس جزءً من الثقافة القطرية، وبالتالي يتوقع السكان المحليون أن يحترم الزوار من جميع الخلفيات الثقافة القطرية والعادات المحلية”[21].

أما الكحول الذي طالما كان سمةً شائعةً في أحداث كرة القدم الدولية، فلا يقتصر الأمر بشأنه على منح فرص التسويق القوي للمشروبات الكحولية وإبرازها من خلال الرعاية والإعلانات التلفزيونية خلال مسابقات كرة القدم، بل اعتاد العديد من المشجعين شرب الكحول أثناء مشاهدة المباريات. وفي نفس الوقت، لا يتوفر الكحول على نطاق واسع في قطر، كما أن استهلاكه يخضع لرقابةٍ شديدة. فسعت قطر إلى إيجاد توازن بين توقعات المشجعين وأصحاب المصلحة، ولكن ليس على حساب السكان المحليين والثقافة. فتعرف قطر – كغيرها من الدول الإسلامية- إمكانية الوصول إلى المشروبات الكحولية في الحانات المرخصة وبعض الفنادق في الدولة. وقد أعلنت السلطات أنه خلال بطولة كأس العالم ستتوفر المشروبات الكحولية في منطقة المشجعين، إلا أنه لن يُسمح به داخل الملاعب. وأخيرًا وربما الأهم، يجب على المشجعين ملاحظة، أنه لا يُسمح بشرب الخمر في الأماكن العامة[22].

وفيما يخص ملف حقوق الإنسان، نُشرت تقارير صحفية ونشرات إعلامية عديدة تُشكك في نزاهة الملف الذي حصلت به قطر على فرصة استضافة كأس العالم. وطالبوا بتحسين الوضع الحقوقي في قطر، حتى ذهب البعض منها إلى المطالبة بسحب الاستضافة من الدوحة بسبب انتهاكاتها. ويُعتبر تقرير صحيفة الجارديان البريطانية رائد هذه الحملة الغربية ضد استضافة قطر لكأس العالم، إذ نشرت الصحيفة تقريرًا يفيد بوفاة 6500 عاملا في مشاريع البطولة منذ 2010. ثم تبين فيما بعد أن الصحيفة قدمت العدد الإجمالي لمجموع العمال المتوفين في دولة قطر خلال الفترة بين 2010-2021 باعتباره عدد العمال المتوفين في مشاريع البطولة فقط[23]. ورغم هذه المطالبات، إلا أن الفيفا تُصر على أنها هيئة رياضية تعمل على تقديم خدمة رفاهية للشعوب، كما تُصر على ضرورة عدم خلط السياسة بالرياضة. ويفسر ذلك تنظيم روسيا للبطولة في عام 2018 رغم الانتقادات الحقوقية الدولية لأوضاع حقوق الإنسان فيها[24]. وقد اتهم رئيس الفيفا، منتقدي تعاطي قطر مع العمالة الوافدة بالنفاق، داعيًا الغرب للاعتذار للإنسانية، جراء ما اقترفه بحقها على مدى ثلاثة آلاف سنة خلت، قبل إعطاء الدروس للآخرين، مشددًا على أن تحسين أوضاع حقوق الإنسان حول العالم، لن يتأتى إلا من خلال: التواصل والتعاون والاستثمار في مساعدة الآخرين، ومنحهم مزيدًا من الأمل في مستقبلٍ أفضل[25].

المشهد الثالث: جدال هوية المنتخب المغربي

مع قرب نهاية مونديال قطر، وصعود نجم المنتخب المغربي غير المتوقع والذي احتفت به الجماهير العربية والأفريقية، تعالت تساؤلات حول هوية وتوصيف هذا المنتخب الملقب بـ”أسود الأطلس”، هل هو أول فريق “عربي” أم “أفريقي”[26] يصل إلى الدور قبل النهائي؟ وقد أثارت تصريحات اللاعب المغربي سفيان بوفال، بعد فوزه منتخب بلاده على إسبانيا في البطولة، جدلا واسع النطاق بشأن هوية البلاد في القارة الأفريقية، إذ أعرب عن شكره لـ “كل المغاربة في كل أنحاء العالم، وكل العرب والمسلمين على دعمهم”، مضيفًا “هذا الفوز لكم”. وبعد رد فعل عنيف على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، اعتذر اللاعب على إنستجرام عن عدم ذكر دعم القارة الأفريقية للفريق، وهو دعم عبر عنه في وقت سابق الرئيس النيجيري، محمد بخاري، عندما صرح بأن المغرب “جعل القارة بأكملها فخورة بعزمه وبراعته”[27].

دخل منتخب المغرب التاريخ حين تأهل للدور قبل النهائي في المونديال، فأشاد قطاع عريض من الجماهير العربية بأن ذلك انتصار للدول الإسلامية والعربية. ومع خروج فرق أخرى من دول المنطقة، مثل تونس والسعودية وقطر، مبكرًا من البطولة، كان من الطبيعي أن يحتشد عشاق كرة القدم من الدول المجاورة خلف المغرب. إلا أن البعض سعى إلى تصوير النجاح المغربي على أنه شيء أكبر بكثير، أكثر من الناحية الأيديولوجية والسياسية، ونتيجة لذلك اعتُبر الفريق المغربي رافع لواء الإسلام والعروبة، خاصةً مع رمزية فوز المغرب على مستعمِرها إسبانيا.

تعزز ذلك الشعور تجاه المنتخب المغربي عندما احتفل بعض لاعبي الفريق بفوزهم ورفعوا العلم الفلسطيني في أرض الملعب. ولكن رأى البعض أن ما حدث قد أغضب الكثيرين في شمال أفريقيا، لا سيما المغاربة الذين لا يتفقون مع هذه الأيديولوجيات[28]. وإلى جانب جدل ثنائية العروبة والأفريقية، دار الحديث أيضًا عن لاعبي المنتخب المغربي أنفسهم. فمعظم المنتخب المغربي المؤلف من 26 لاعبًا وُلد في الخارج. حيث نشأ أشرف حكيمي في مدريد لأبوين مغربيين فقراء، وهو الذي سدد ركلة الجزاء الفائزة في مرمى إسبانيا[29].

ويُظهِر الحماس لنجاح المغرب غير المتوقع أن التقارب الثقافي لا يزال يربط الناس في المنطقة. وبالمثل، فإن الجدل حول مكانة المغرب في تلك المنطقة يُظهِر كيف أن الهوية لا تزال تُستخدم للتقسيم بدلاً من التوحيد[30].

خاتمة:

يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “إن كرة القدم هي ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجانها وسجانيها معًا، هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشتركٍ ما. حول إجماعٍ ما، حول شيءٍ ما، تُضبط فيه حدود الأطراف وشروط العلاقة مهما تسربت منها إيماءات ذكية”[31].

وقد افتتح الشاعر الفلسطيني أيضًا تميم البرغوثي حفل ختام بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر عام 2022 يقول: “ما الذي يدعو المتعبين إلى اللعب؟ ما الذي يدعو الحزين إلى الغناء؟ وما الذي يأتي بشاعرٍ مثلي إلى احتفالٍ كهذا؟ اللعب.. زيارة قصيرة إلى عالمٍ بديل.. ساعتان من المساواة والعدل.. فلا ترى فريقًا يلعب بأحذية نفاثة مثلًا، وفريقًا حافيًا.. ولا فريقًا مسموحًا له بالركض في طول الملعب وعرضه.. وآخر يحتاج لاعبوه تأشيرات ليجتازوا خط الوسط.. وعندما تكون الكرة في الميدان فالتسديد مسموح به للفريقين. وفي النهاية يبقى الجميع بصحةٍ جيدة.. لم يسل إلا العرق ولم يعلُ الصراخ إلا تطوعًا.. ليست هذه لعبة يا سادة.. هو شيء تقترحه هذه البلاد والشعوب.. بل لا تزال تقترحه البشرية على نفسها منذ كانت.. حلم عمره ساعتان وعمره الأبد.. يقترب كلما حاولوا إبعاده.. هذا الذي يدعو المتعبين إلى اللعب.. وهذا هو الفوز الحقيقي في نهاية المطاف”[32].

ربما هذا ما يُجمع عليه كثيرون حول العالم وخاصةً العرب منهم؛ أن كرة القدم متنفس للبشر العاديين، يحاولون فيه التشبُّث بأملٍ يمكن تحقيقه حقًّا، بمعنى للانتصار يتوقون إليه ولو وهمًا أو حقيقةً غير جدية. إلا أن أذرع السياسة والسلطة والمصالح الكبرى لا يمكن أن تترك المجال بريئًا وشأنه. وفي المنطقة العربية غالبًا ما تتحول كرة القدم في يد الحكام لأفيونٍ حقيقي يُمرر تحت تأثيره قرارات وسياسات يُرغب في صرف الشعوب عن الانتباه لها، وكثير ما يلتصق بمشهد كرة القدم أيادٍ ملوثة تحوم حولها الشبهات كالتأثير الفاسد لأموال الخليج على اللعبة، والذي يتجاوز حدود المنطقة إلى أفضل البطولات الأوروبية التي يعشقها ملايين الناس حول العالم.

كذلك تفعل قوى العالم الغربي المهيمن، فلم يسعها مشاهدة دولة عربية مهما كانت حليفة لهم، أن تستضيف البطولة الرياضية الأبرز في العالم، وتجني ثمارها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية الهائلة. فبطولة كأس العالم لكرة القدم ليست حدثًا لمدة شهرٍ واحد، بل يتطلب صنع حدث واحد لكأس العالم سنواتٍ طويلة من التخطيط الاقتصادي، واستضافة خطط التنمية السياسية للبلد، والمعادلات الجيوسياسية الإقليمية، ناهيك عن حياة وأحلام المليارات من البشر. وربما لم تكن كأس العالم هذه حدثًا رياضيًا مشحونًا سياسيًا بقدر ما كانت مثالًا في كتابٍ نصي للعنصرية الغربية تجاه دولة عربية. فكانت بطولة كأس العالم في قطر هي كأس العالم الأكثر إثارةً للجدل التي حدثت حتى الآن. وعلى الرغم من مبدأ الاتحاد الذي تًبشر كرة القدم به كل كأس عالم، فالعالم ليس واحدًا بل أرضًا مقسمة بالمال والسلطة والسياسة[33].

_________________________

الهوامش

[1] Simon Kuper, Football Against the Enemy, accessed at : 26 February 2023, available at: https://bit.ly/3ZlpbiH

[2] James Carr, Daniel Parnell, Paul Widdop, Martin J. Power, Stephen R. Millar, (eds), Football, Politics and Identity, accessed at: 26 February 2023, available at: https://bit.ly/3IV4rZx

[3] ترمز زهرة الخشخاش الحمراء لضحايا الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وكذلك للقتلى من الجنود البريطانيين خلال جميع الحروب التي تلتها، وتعتبر رمزًا وطنيًا لتكريم الجنود السابقين في بريطانيا وكندا ودول أخرى. وتزين هذه الزهرة أقمصة لاعبي الدوري الإنجليزي الممتاز، والحكام، والمدربين، في ظاهرة تشهدها كرة القدم الإنجليزية في نوفمبر من كل عام، للمزيد انظر:

قصة زهرة الخشخاش في البريميرليغ ولماذا يرفض البعض ارتدائها؟، سكاي نيوز عربية، 9 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 28 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3nhwXw6

[4] James Carr, Daniel Parnell, Paul Widdop, Martin J. Power, Stephen R. Millar, eds, Op Cit.

[5] Alan Tomlinson, Christopher Young, eds, National Identity and Global Sports Events: Culture, Politics, and Spectacle, accessed at: 26 February 2023, available at: https://bit.ly/3Z4j1DU

[6] سايمون كريتشلي، فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟، ترجمة: محمود عبد الحليم، (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2022)، ص 79. ويضيف كريتشلي مفارقة هوية أخرى في هذه المباراة: ” كان المستوى الثاني من المفارقة أن كثيرًا من لاعبي “الجمهورية” كانوا من مواليد انكلترا؛ خاصة في أثناء تولي المدرب العظيم جاك تشارلتون تدريب الفريق، وكان الفريق يُعرف غالبًا باسم “فريق إنكلترا ب”، والتي تعني “الإيرلنديين غير الأصليين”.

[7] Abdullah Al-Arian, Why the World Cup Belongs in the Middle East, the newyork times, 18 november 2022, accessed at: 27 February 2023, avilable at: https://nyti.ms/3xWp1mb

[8] سايمون كريتشلي، مرجع سابق، ص 176.

[9] كما حدث مع مسعود أوزيل، نجم منتخب ألمانيا ذو الأصول التركية، حيث اعتزل الللعب الدولي عقب انتقادات حادة وجهت له داخل ألمانيا بعد صورة له مع الرئيس التركي.

[10] سايمون كريتشلي، مرجع سابق، ص 176.

[11] آية عنان، دبلوماسية الرياضة والعلاقات الدولية: كأس العالم 2022 نموذجًا، المرصد المصري، 28 ديسمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 23 فبراير 2023، https://bit.ly/3SAFbuT

[12] المرجع السابق.

[13] بشار ذنون محمد الشكرجي وأحمد عبد الكريم أحمد النعيمي ودعاء نعمان محمد الحسيني. الاستثمار الرياضي: المنافع والكلف: دراسة استشرافية لاستضافة قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، مجلة الأنبار للعلوم الاقتصادية والإدارية، مج 11 ع 24، ص 108.

[14] آية عنان، مرجع سابق.

[15] قطر 2022: ما أهم اللحظات التي لن تنسوها من كأس العالم؟، بي بي سي عربي، 18 ديسمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 27 فبراير 2023، https://bbc.in/3xYWcFL

[16] صنداي تايمز: قطر فازت بتنظيم كأس العالم “بعد دفع 880 مليون دولار سرا للفيفا”، بي بي سي عربي، 10 مارس 2019، تاريخ الاطلاع عليه: 2 إبريل 2022، https://bbc.in/3M6dY1V

[17] محمد الشبراوي حسن، مونديال قطر 2022.. القوة الناعمة تعيد صياغة الصورة العربية، موقع الجزيرة مباشر، 3 ديسمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 27 فبراير 2023، https://bit.ly/3Y5sae5

[18] آية عنان، مرجع سابق.

[19] Mahfoud Amara and Youcef Bouandel, The 2022 FIFA World Cup, between Soccer and Faith – English version, Observatoire international du religieux, November 2022,, Accessed at: 27 February 2023, available at: https://bit.ly/3Y4yoeb

[20] بشير عبد الفتاح، السياسة في مونديال قطر، موقع جريدة الشروق، 5 ديسمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 27 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3EG9pqx

[21] Mahfoud Amara and Youcef Bouandel, Op Cit.

[22] Ibid.

[23] عبد الرحمن المري، الخطاب الغربي وجدل حقوق الإنسان، في: كأس العالم في قطر: حقوق الإنسان وجدوى التطبيع، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، صدى، ٢٦ يناير ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع عليه: ٢ إبريل ٢٠٢٣، https://bit.ly/430yXcI

[24] أحمد سامي عبد الفتاح، لماذا تتنافس الدول على استضافة كأس العالم؟، آفاق سياسية، ع ٩٤، يناير ٢٠٢٣، ص ٢٤- ٢٥.

[25] بشير عبد الفتاح، مرجع سابق.

[26] يضم المغرب عددًا كبيرًا من الأمازيغ كما يفضلون أن يُطلق عليهم، وتشير بعض الإحصاءات إلى أنهم يمثلون نحو 40 في المائة من سكان البلاد، البالغ تعدادهم ما يربو على 34 مليون نسمة، كما أن إحدى اللغات الأمازيغية، “تمازيغت”، معترف بها الآن كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.

[27] مجدي عبد الهادي، كأس العالم 2022: نجاح المنتخب المغربي فوز لأفريقيا أم العرب أم الأمازيغ؟، بي بي سي عربي، 21 ديسمبر 2022 تاريخ الاطلاع: 27 فبراير 2023 https://bbc.in/3SumBop

[28] المرجع السابق.

[29] Morocco’s World Cup success sparks a debate about Arab identity, the economist, 13 December 2022, accessed at: 27 February 2023, available at: https://econ.st/3Z6AQSC

[30] Ibid.

[31] Abdullah Al-Arian, Op Cit.

[32] “ما الذي يدعو المتعبين إلى اللعب؟”.. تميم البرغوثي يبدع في ختام المونديال، الجزيرة، 18 ديسمبر 2022، تاريخ الاطلاع عليه: 2 أبريل 2023، https://bit.ly/3nyIffH

[33] Towkir Hossain, Qatar World Cup: Controversy, Racism, and Our Orientalism, Modern Diplomacy, 12 December 2022, accessed at: 27 February 2023, available at: https://bit.ly/3m5y9SN

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع والعشرون – أبريل 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى