الإعلام السيبراني: وعى جديد أم إغراق معلوماتي؟

مقدمة:

يشهد عالمنا اليوم تحولات سريعة وهائلة في وسائل الاتصال والإعلام الرقمي، حتى آل الأمر إلى أن أصبح هناك فضاء افتراضي يتعامل من خلاله البشر بين التلقي والتقديم والاتصال والتواصل في ظل عملية دينامية مستمرة تصل العالم ببعضه عبر شبكة الإنترنت فيما يُعرف بالرقمنة، ليصبح الزر هو الوسيلة والأداة التي تحرِّك هذا العالم الجديد الموازي للواقع والمعبِّر عنه أحيانًا والمنفصل عنه أحيانًا أخرى، وفي هذا السياق يجد الناظر في واقعنا المعاصر أن ما يعرف بالإعلام السيبراني أو الإلكتروني الذي هو أحد أهم ركائز هذا الفضاء يطرح مجموعة من القضايا والإشكاليات على عدَّة مستويات، تنبثق من طبيعته السائلة والسريعة، ومن ثم يأتي هذا التقرير للوقوف على إحدى أهم هذه الإشكاليات والتي تتمثل في التدفق المعلوماتي الهائل للإعلام السيبراني، وذلك للإجابة عن سؤال ما إن كانت هذه السعة المعلوماتية تنوير جديد يشهده العالم أم إغراق معلوماتي، من هنا يناقش هذا التقرير مجموعة من القضايا التي يطرحها هذا السؤال والتي تدور أولا حول العلاقة بين غزارة المعلومات وإمكانية صناعة الوعي والثقافة، وثانيًا أثر التدفق المعلوماتي على القدرة على فهم الواقع والوعي به، وأخيرًا العلاقة بين كثرة المعلومات ومبدأ حرية الاختيار، ومن ثم استقراء تجليات هذه الإشكاليات في أكثر من مساحة، أولها العلاقة بين الحكومات والشعوب، وثانيها الشركات العالمية الكبرى التي تعمل في ظل العولمة الاقتصادية، وأخيرًا وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في محاولة لرسم صورة مصغرة تعبِّر عن واقع هذه الأزمة؛ تمهيدًا لمعرفة الضوابط الحاكمة وتكوينًا لرؤية مستقبلية لتعاطي الإنسان المعاصر والمسلم المعاصر مع هذا العالم الموازي المتنامي والمتطوِّر. ولكن ممَّا يجب أخذه في الاعتبار في هذا الطرح أن هذه الإشكاليات ليست على مستوى واحد من حيث التأثير كما أنها تؤثِّر بشكل متفاوت باختلاف الدول والنظم الحاكمة الديمقراطي منها والدكتاتوري، وتختلف أيضًا باختلاف المجتمعات، حتى إن تأثيرها يتباين داخل المجتمع الواحد بين النخبة والعامة والمثقفين والعلماء وغيرهم، فالمتلقون والمستخدمون ليسوا على درجة واحدة من الوعي ولا ينتمون لنفس الثقافة ولديهم اهتمامات متنوعة.

ومن هنا فإن ما ستطرحه هذه الورقة لا بدَّ أن يُنظر إليه بهذا المنظور من حيث الأثر، فإن ما ننقده أو نسلِّط الضوء عليه ما هو إلا إبراز لمشكلة تتنوَّع أبعادها ويختلف تأثيرها ويتباين تبعًا لاعتبارات عديدة حتى إن البعض قد لا يمسه أي من سلبياتها نظرًا ليقظة وعيه وحذره.

أولًا- الإعلام السيبراني وإشكالياته

أ) الإعلام السيبراني وصناعة المثقف

إن التواصل سمة وطبيعة إنسانية منذ بدء الخليقة، وقد تنوَّعت وتعدَّدت وتطوَّرت وسائل التواصل على مرِّ الزمن بين الاتصال الشفهي والمكتوب، حتى جاءت الثورة الصناعية ومعها الصحف والإذاعة والتليفزيون واستمر الحال حتى تم اختراع شبكة الإنترنت التي جعلت العالم أصغر وأكثر اتصالا ببعضه حيث ذاك الفضاء الافتراضي الذي يتفاعل في ظله البشر بغض النظر عن الزمان والمكان، وبهذا ظهر لدينا إعلام من نوع خاص يختلف عن الإعلام التقليدي وأصبح يُعرف بالإعلام السيبراني أو الإلكتروني أو الإعلام الجديد والذي يضم في كنفه المواقع الإلكترونية بشتَّى صورها و شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب مجموعة من المؤثِّرات الإلكترونية لتصبح هذه الأدوات الجديدة هي وسائل نقل الأخبار والمعلومات بشكل مستمر وسريع حاملة معها الكثير من الأفكار العابرة لحدود مجتمعاتها، ومن هنا أصبح المجتمع الإعلامي مفتوحًا للجميع وغير مقتصر على المتخصِّصين؛ مما يتطلَّب مزيدًا من التفكير الناقد من قبل متلقيه، حيث إن أهمية الإعلام تتمثَّل في كونه مصدر المعلومات والأخبار، ومن ثم فهو يؤثِّر في تشكيل الأفكار والوعي ويساهم بدوره في توجيه الرأي العام، ومع هذا التطور الذي جرى له أصبح مصدرُ المعلومة وطبيعةُ انتشارها محاطًا بالإشكاليات والتساؤلات التي يجب الإجابة عنها[1].

تشير إحدى الدراسات إلى أن عدد الهواتف الذكية فاق عدد البشر على كوكب الأرض، فمعدل الزيادة السكانية للبشر في العالم 1.2% سنويا في حين أن عدد الأجهزة الذكية يزيد ضعف هذه النسبة بخمس مرات ويتسع مدى هذه الظاهرة أكثر فأكثر باستمرار. وبطبيعة الحال فإن الأجهزة الذكية تمكِّن الفرد في عالمنا اليوم من الوصول المستمر للمعلومات، هذا إلى جانب وسائل الترفيه المختلفة التي تملأه، بمعنى أنه يضع العالم بأسره بين أطراف الأصابع، ولكن بالرغم من كونه يحقِّق للبشر درجة عالية من الرفاهية وسهولة الوصول إلى ما يريدون فإن له تكلفة معرفية كما تشير بعض الدراسات التي تفيد بأن مجرَّد اقتناء الفرد للجهاز الذكي يحد من طاقته العقلية ويضعف من أدائه المعرفي، ويفسر هذا بأنه يخلق حالة من الاعتمادية الدائمة نظرًا لما توفِّره تلك الأجهزة من يُسر وسهولة الوصول للمعلومات مما يجعل القدرة على الانتباه والتركيز الطويل والأداء المعرفي العقلي بشكل عام أكثر محدودية[2].

بالإضافة إلى أنه يسهم في تشتيت الانتباه، فمع كل تغريدة او منشور أو صورة يذهب جزء من انتباهنا مما يضعف القدرة على التفكير، وفي ظل هذه الضوضاء بالرغم من ثرائها وتنوُّعها تفتقد الكثير من المجتمعات الفرد الواعي بواقعه العارف بقضاياه[3].

إن المشاهد لطبيعة الإعلام السيبراني الذي يتَّخذ من شبكة الإنترنت فضاءً له يجد أنه فضاء تتدفَّق فيه المعلومات من جهات متعدِّدة تتنوَّع فيه طبيعتها ومصادرها، تكثر فيه التحليلات بحيث تتقاطع أحيانًا وقد تتوازى أو تتناقض أحيانًا أخرى، وفي هذه الساحة المعلوماتية الضخمة قد يجد المستخدم نفسه بين الثراء المعلوماتي واللامحدودية المعلوماتية التي قد تفضي به إلى اللاشيء من حيث التكوين المعرفي الحقيقي.

ومن هنا تأتي واحدة من أهم الإشكاليات المرتبطة بالإعلام السيبراني وهي العشوائية المعلوماتية والتكوين المعرفي الأفقي، الذي يأتي نتيجة للكثرة اللامحدودة للمعلومات المتسارعة في سيلانها، فالباحث الناظر يجد أن كثرة المعلومات كما أنها شيء قد يكون إيجابيًّا في ذاته، فإنها أيضًا عقبة تؤدِّي في كثير من الأحيان إلى العجز عن البناء المعرفي المنهجي الذي يكوِّن وعيًا حقيقيًّا وعمقًا حقيقيًّا للبناء الثقافي. وتظهر هذه الأزمة بشكل أكبر في ساحة الباحثين والأكاديميِّين، الذين بالرغم من أنهم يجدون في الإمكانات المعلوماتية الاستثنائية لشبكة الإنترنت سعة وتنوُّعًا معرفيًّا، فإنهم أيضًا يواجهون مأزقًا حقيقيًّا يتمثَّل في توجيه الكثير من الوقت في تنقية وتجميع وتنظيم المعلومات السائلة والغزيرة في تدفُّقها[4].

ومن القضايا التي تثار أيضًا في هذا السياق التحول والتغير في دور العلماء باعتبارهم مصدر جمع ونشر المعرفة والوصول إلى الحقائق، بحيث لم يصبح دور الوسيط هذا مستمرًّا نتيجة للتطوُّر التكنولوجي الذي آل إلى وجود محركات البحث، هذا إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح الأفراد يؤدُّون فيها دورًا فاعلًا، ليصبح العلماء وخاصة متخصِّصي العلوم الاجتماعية أحد المشاركين في هذه العملية الدينامية وليسوا مصدرًا يستقي منه الآخرون؛ ومن هنا أصبحت المعلومات مع وفرتها تتحرَّك وتنتشر بشكل أفقي وليس رأسيًّا، مما قد يؤثِّر على مستقبل المؤسسات التعليمية في المستقبل نظرًا لوجود تحدٍّ يواجه عملية جمع وتنظيم ونشر المعرفة مع هذه السيولة المعلوماتية التي يعيشها العالم اليوم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن حلقة الوصل بين وفرة المعلومات والوصول لمعرفة حقيقية تتطلَّب الدور التفسيري التحليلي الذي لا بدَّ له من علماء، حيث تكمن هنا أزمة الوصول للمعرفة والحقيقة[5].

ب) الإعلام السيبراني وفقه الواقع

إن غزارة المعلومات التي تلازم الإعلام الرقمي اليوم أصبحت تطرح تحديًا جديدًا يواجهه العالم، يتمثل في كثير من الأحيان في فقدان المحتوى الإعلامي لمصداقيَّته نظرًا لصعوبة تحرِّي الدقة ضمن هذا السيل من المعلومات والأخبار التي يختلط فيها الصادق والكاذب، بل وتتنوَّع المصالح خلف هذا المخزون المعلوماتي الضخم ممَّا يُفضي إلى إشكال في قدرة المتصفِّح على فهم الواقع نظرًا لمحدوديَّته الإدراكية على معالجة هذا الكم من المعلومات التي تطرأ عليه كل ثانية، ومع تطوُّر مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت الأزمة أكثر تعقُّدًا بحيث أصبح من السهل مشاركة المعلومات والأخبار –كجزء منها- على نطاق واسع وأصبح التلاعب بها أيسر، ممَّا صعَّب على المستخدم -الذي أصبح هو أيضًا فاعلًا- الوصول إلى الحقائق.

فالمعلومات في هذا الإطار تتنوَّع في أشكالها، فيمكن أن تكون رسائل، أو صورًا، أو أصواتًا.. وعددًا لا نهائيَّ من المنشورات ورسائل البريد الإلكتروني، والتغريدات والمنشورات على مختلف المنصات. كل هذا يُعرض في ثوانٍ قليلة ويستقبله المستخدم في الحال، ممَّا يؤثِّر على نمط التفكير ويجعل هناك حالة من التشوُّش والارتباك في القدرة على اتخاذ القرار والاختيار بين البدائل. وتعد الأخبار بأنواعها -سواء السياسية أو الثقافية وغيرها- جزءًا لا يتجزَّأ من هذا الكم الهائل من المعلومات، ومن ثم تأتي المنظمات الإخبارية باختلاف أهدافها ورؤاها ومصالحها لتقدِّم الخبر حسب أجندتها، ليجد المستخدم نفسَه أمام رصد متعدِّد لنفس الخبر وتحليلات كثيرة للخبر الواحد متشابهة أحيانًا ومتضاربة ومتناقضة أحيانًا أخرى؛ ممَّا يؤدِّي إلى خلل في الفهم والقدرة على التفسير.

وعلى الصعيد الآخر قد يجد الباحث الأكاديمي المتخصِّص في هذا السيل غايته حيث يتمكَّن من جمع كل ما يتعلق بالخبر الواحد ممَّا يُثري بحثه وفهمه، ولكن يصاحب ذلك استهلاك للوقت والمجهود الذي لا يبذله في العادة المتلقِّي العادي الذي يلتقط عقله ما يأتي أمامه دون تمحيص يؤدِّي إلى فهم حقيقي[6].

وقد بدا هذا واضحًا في ظل أزمة وباء كورونا المستجد، حيث واجه الناس كمًّا ضخمًا من المعلومات والأخبار في ظل أزمة إنسانية تهدِّد العالم أجمع، شكَّلت بدورها القضية الأولى من حيث الاهتمام العالمي على الأصعدة المختلفة. وقد أكَّدت بعض الدراسات على أن تدفُّق المعلومات حول الأزمة أدَّى إلى حالة من الشك و الارتباك واتِّخاذ قرارات خاطئة نتيجة لحالة الذُّعر والسرعة في تلقِّي الأخبار دون وقوف حقيقي على مدى صحَّتها ومدى تأثيرها وموثوقية مصدرها، الأمر الذي آل إلى حالة من الانتقائية المتَّبعة لدى الكثير من الناس، ولكنها ليست وفقًا لمعايير صحيحة، بل هي عائدة لضعف القدرة الإدراكية على معالجة هذا الكم من المعلومات، والتي نظرًا لطبيعة الأزمة تمسُّ حياة الأفراد والمجتمعات، حيث أشارت عدة دراسات إلى أن الإغراق المعلوماتي الذي أحاط بأزمة كورونا كان له آثار سلبية على الأداء الصحي بشكل عام[7].

وفي هذا الصدد تجدر بنا الإشارة إلى أن البنية التحتية للمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي تعتمد دائمًا على الأكثر مشاهدة والأكثر اطلاعًا، ومن ثم فقد تعلي من شأن قضية على حساب أخرى أو قد تقدِّم للمتلقي أهمية مزيفة لقضية ما ليستقبلها على كونها الأهم، وبهذا تحدُّ من قدرته على الوعى بواقعه وعيًا حقيقيًّا، فعلى سبيل المثال يخبر 57% من الأمريكيِّين أن هذا الطوفان المعلوماتي بات يؤثِّر عليهم كمواطنين و يتساءلون هل هم حقيقة على علم بما يجري أم أنهم أصبحوا يعانون من فقدان الذاكرة السياسي نتيجة للتعثُّر بين الأخبار العاجلة التي تتبعها أخبار تافهة لا قيمة لها، هذا إلى جانب انتشار الأخبار المزيفة بسرعة كبيرة نتيجة لسرعة مشاركة الناس لها على المنصات المختلفة حتى يصل الأمر بها أن تصدق كحقيقة نتيجة لسعة انتشارها ممَّا يؤدِّي أيضًا إلى جهل الأفراد بواقعهم[8].

ج) الإعلام السيبراني وحرية الاختيار

إن مسألة التدفُّق المعلوماتي تطرح إشكالية محورية تتعلَّق بقدرة الفرد على الاختيار الحر، حيث إن سعة البدائل المتاحة وتشعُّبها تقلِّل من قدرة الفرد على الاختيار الدقيق، كما أن بعض الدراسات تشير إلى أنها تؤدِّي أحيانًا إلى امتناع الفرد عن الاختيار تمامًا أو تأجيله نظرًا لمحدودية قدرته على اتخاذ القرار في ظل هذه البيئة المعلوماتية الضخمة بالإضافة إلى عنصر الوقت المحدود، ومن ثم فالسعة المعلوماتية للفضاء السيبراني بشكل عام والإعلام السيبراني على وجه الخصوص تحد من حرية الفرد اليوم في الاختيار من هذه الناحية[9]، على صعيد آخر فإن ما ذكرناه آنفًا حول كيفية عمل المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي من حيث إنها تقدِّم الأخبار الأكثر مشاهدة واطِّلاعًا حتى وإن لم تكن الأولى من حيث الأهمية فإن هذا أيضًا يمثِّل عائقًا لحرية الفرد في الاطلاع على ما يريده حقيقة، هذا بالإضافة إلى هيمنة الشركات الرأسمالية الكبرى على الإعلام الجديد مع تبنِّيها لسياسات ترسم بها خريطة عمل هذه المنصَّات وفقًا لمصالحها واستدامة لعجلة الاستهلاك الدائرة، وسوف نتناول هذا بمزيد من التفصيل فيما سيأتي.

ثانيًا- بين إشكاليات الإعلام السيبراني ومجالات تجليها

أ) الشركات الرأسمالية المهيمنة

إن الطفرة التكنولوجية التي طرأت على الإعلام بحيث أصبح لدينا ما يعرف بالإعلام السيبراني أو الإلكتروني أو الإعلام الجديد، لا تنفصل عن المنظومة الرأسمالية العالمية المهيمنة على العالم اليوم، بحكم ما يتوافر لديها من مقدرات مادية وتقنية فيما يعرف “بالهيمنة الرأسمالية على المنتج الإعلامى”، وبسبب هذه الهيمنة أصبحت المعرفة ينظر إليها بمنطق التقييم السلعي، أي إنها تخضع للقوانين والقواعد الاقتصادية ما بين العرض والطلب والتسعير والإنتاج والتسويق والتوزيع وحتى الاستهلاك، ومن ثم أصبح الفضاء السيبراني مساحة تمارس فيها آليات السوق، ومع اتِّساع نطاق تكنولوجيا الإعلام السيبراني أصبحنا نرى انعكاسًا واضحًا لهيمنة المؤسسات الاقتصادية العاملة في المجال التكنولوجي مثل شركة “فيسبوك” العاملة في مجال التواصل الاجتماعي وشركة “جوجل” العاملة في مجال البحث على مؤسسات الإعلام التقليدية التي كانت تعاني في وقت ما من ضعف الإقبال عليها مثل “تايمز” و”سي إن إن”، وذلك ضمن إطار مشروع شركة جوجل لتوجيه القراء من محرك البحث إلى المواد الإعلامية الصادرة عن وسائل الإعلام المتحالفة مع جوجل، وتجدر الإشارة أيضًا إلى هيمنة ثمانية عشر شركة أمريكية في مجال الإلكترونيات على 75% من الإنتاج الصناعي الإلكتروني العالمي في مجال أجهزة الاتصال، هذا إلى جانب أنها تسيطر على 95% من مصادر الأخبار في دول العالم الثالث التي تستورد من دول تتبنَّى الرأسمالية نهجًا لها.

وفي هذا السياق لم تعُد عولمة الإعلام مجرَّد أداة أيديولوجية بل إنها أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من عولمة الاقتصاد، وما حدث في هذا الصدد عبارة عن سيطرة احتكارية لكبرى الشركات على هذا الفضاء الذي يُفترض أنه حر، فبالرغم من اتِّساع نطاق الحرية من جهة أنه بات ممكنًا لأكبر عدد من البشر التفاعل مع كافَّة الأحداث والأخبار وتحوُّل الفرد من مجرد المتلقي إلى المشارك في صنع المادة الإعلامية إلا أن اتجاه تلك الحرية أصبح يواجه إشكاليتين، الاولى تتمثل في أن هناك حالة من الفوضى نتجت عن ممارسة حق التعبير هذا عبر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، والإشكالية الثانية تتمثَّل في سيطرة كبرى المؤسسات الرأسمالية المسيطرة على الممارسات الإعلامية مثل جوجل وفيسبوك وغيرهما من كبرى الشركات المسيطرة على شبكة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات وانخراطها في أنشطة اقتصادية كبرى تتمثَّل في الإعلانات وغيرها، ونشير هنا إلى أن حصة شركة جوجل من سوق الإعلانات على محركات البحث تمثل 88% وحصة “فيسبوك” و”أنستجرام” و”واتساب” و”ماسنجر” تمثل 77% من حركة مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإن الهيمنة الرأسمالية على الإعلام الجديد أو السيبراني تقود العالم إلى أشكال من التبعية وتحدُّ من حرية الأفراد بتوجيههم، كما أنها تحدُّ من المنافسة بالاحتكار.

وتأتي الولايات المتحدة في المقدمة، وذلك بحكم سيطرتها على ثلاثة قطاعات مركزية متمثلين في الثقافة وصناعة الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات، ومن ثم فإن اتِّساع نطاق الهيمنة الرأسمالية على الإعلام السيبراني بات يوفِّر حرية أشبه بالحرية الشكلية ليشمل أكبر عدد من المستخدمين، وهو ما أحدث حالة من السيولة والتدفُّق المعلوماتي وهذا مما يخدم المكاسب الاقتصادية في زيادة عدد المستهلكين.

وعلى الصعيد الآخر، فإن الربح الذي يمثِّل غاية عمل هذه المؤسسات هو في الحقيقة ما يحرِّك هذه المنظومة ويوجِّه الأفراد لصالحه ولصالح منتجاته على أنواعها وهو ما تعرب عنه هذه الشركات، فهو هدف معلن بالنسبة لها، حيث تصرح بذلك على سبيل المثال شركة جوجل في رؤية ومهمة الشركة[10]. ومن ثم فإن اتجاهات الحرية تحدِّدها التوجُّهات أو المصالح العامة للشركات الرأسمالية المهيمنة، وبالتالي فإنها توجِّه العالم ضمن منظومة فكرية معيَّنة[11].

وفي هذا الصدد تبرز لدينا إشكالية هامة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإشكاليات التي طرحناها سابقًا وتتعلَّق بشكل أكبر بمواقع التواصل الاجتماعي وهي انتشار ثقافة الاستهلاك والعمل على ترسيخها بشتَّى الصور، فتصميم مواقع التواصل الاجتماعي يخدم هذا الهدف بشكل كبير، وهذا بالطبع لا ينفك عن الهيمنة الرأسمالية على الشركات أصحاب هذه المواقع، حيث يعد جذب الانتباه هو الغاية الأكثر قيمة لأصحاب هذه الشبكات لما له من نتائج على سير عملية الاستهلاك، حيث يعمل لأجل هذا الهدف آلاف الموظفين لا يشغلهم سوى العمل على إقناع المستخدم بالبقاء أطول وقت ممكن متصفحًا لهذه المنصات، ومن المعلوم أن شبكات التواصل الاجتماعي تقدم خدمتها بالمجان ومن ثم فهي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على الإعلانات التسويقية، وبالتالي فإن الحفاظ الدائم على تركيز وانتباه المتلقي هو المنتج التي تقدِّمه هذه الشبكات للشركات الأخرى، فهي تتَّخذ مختلف وسائل الإثارة والمتعة والترفيه لتصبح محل إدمان لدى مستخدميها، ومن الأمثلة المحورية في هذا الإطار موقع “أنستجرام” فهو منصة تعتمد بشكل مركزي على “الصورة” ومن ثم فهو يهدف بالأساس إلى الترويج للذات من خلال حساب الفرد الشخصي، ومع زيادة عدد المتابعين قد يصل هذا الشخص إلى أن يكون أحد المؤثِّرين أو كما يطلق عليهم، وهم من يملكون قاعدة كبيرة من المتابعين ممَّا يسمح لهم بإقامة علاقات تعاقدية مع الشركات لتسويق منتجاتهم عبر حساباتهم، ولذا فإننا نقول إن ثقافة الاستهلاك السائدة الآن أصبحت تجعل من الاستهلاك إنجازًا لا بدَّ من تحقيقه وهدفًا لا بدَّ من الوصول إليه، والاستهلاك بحدِّ ذاته والقدرة المادية على الشراء مرتبط بمفاهيم عدَّة كالسعادة والنجاح وغيره، وهذا ما يروج له على شبكات التواصل حيث يعمد مستخدموها على نشر الصور والفيديوهات التي تظهر أن حياتهم ناجحة وسعيدة وذلك بمعيار ونظرة مادية مما يخلق حالة دائمة من المقارنة الاجتماعية التي تدفع الأفراد إلى المزيد من الشراء مع تعرُّضهم بشكل دائم لجديد الموضة والأزياء والسفر السياحي، ليصبح المجتمع مجتمعًا استعراضيًّا يستعرض فيه الأفراد قدرتهم على مواكبة هذا الركب الاستهلاكي حتى لو بشكل زائف عن طريق التلاعب بالصور وتعديلها لمجرَّد الظهور بهذه الصورة التي أصبحت هدفًا مجتمعيًّا ومعيارًا تقييميًّا وهذا كله يدخل تحت مظلة ما بعد الحداثة أو ما يطلق عليه البعض عصر ما بعد الحقيقة والسيولة، حيث العشوائية والزيف وغياب القيم والمعايير الثابتة في مقابل تناقص للحرية الحقيقية التي تتيح للفرد فرصة حقيقية للاختيار ولا تتلاعب بوعيه[12].

ب) شبكات التواصل الاجتماعي

إن الإعلام السيبراني بمنصاته المختلفة ومع وجود الهواتف الذكية أصبح يرتكز على عنصرين هامَّين فيما يعرض وهما الفورية والتفاعلية، فالأحداث والأخبار تتوالى بسرعة فائقة وتأتي شبكات التواصل والهواتف الذكية الملازمة لها لتفسح المجال لفيضان من التفاعلات، فلم يعد الأمر مجرد متابعة من قبل المتلقي لما يُعرض عليه، بل أصبح هو بنفسه عنصرًا هامًّا يلعب دورًا تفاعليًّا في فضاء افتراضي يلازمه في أي حال وزمن. وفي هذا الإطار نرى أن بعض الأفكار -خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي نظرًا لطبيعتها التفاعلية التشاركية- تستمد شرعيَّتها من كثرتها وتكرارها لا من قوة حجتها أو برهانها، ممَّا يؤثِّر سلبًا على التفكير العلمى ويضعف من المقدرة الاستدلالية، وذلك بخلق حالة من الانتفاخ المعرفي القائم على الدعاوى والمزاعم مع ضمور العلم بالأدلة والبراهين، ومن ثم يؤول الأمر إلى التخبُّط والعشوائية وعدم الوعي الحقيقي العميق بصميم القضايا ويغيب التحليل الرأسى البنائى الذي يفضي إلى بناء معرفي حقيقي[13].

إن واحدة من أهم الإشكاليات التي يجب الوقوف عندها في هذا الإطار في حال استقراء واقع الإعلام السيبراني بشكل عام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص هي مسألة الحياد، حيث إنها ترتبط بإشكالية الحرية وكذلك القدرة على فهم الواقع، حيث يتم طرح تساؤل في ظل حال التدفُّق المعلوماتي الذي يوحي بالحرية والشفافية حول مدى حيادية هذه المنصَّات التي تعتبر أدوات في ذاتها، حيث يظهر أن شبكات التواصل الاجتماعي وشركاتها مثل فيسبوك وتويتر وأنستجرام ليست منصات محايدة تمامًا كما يبدو، حيث تقوم هذه المنصات بتوجيه محتوى مستخدميها وفقًا لمركزية الربح، ومن ثم يكون انتشار تغريدة أو منشور ما يعتمد على ما يمكن أن يحقِّقه في عجلة البيع والشراء ضمن المنظومة الرأسمالية[14].

هذا بالإضافة إلى عملية تسييس هذه المنصات، فكما هو معلوم أن السياسة لا توجد في الفراغ وإنما توجد حيث توجد العلاقات الإنسانية الاجتماعية، فحينها توجد علاقات القوة أيضًا، ومن ثم فمواقع التواصل الاجتماعي بطبيعتها التي تضم في ظلها تواصلًا بين الأفراد والشعوب والمجتمعات لا يمكن أن تخلو من علاقات القوة والأجندات السياسية، فبالرغم من أن شبكات التواصل الاجتماعي أمدَّت مستخدميها بأدوات لمشاركة المعلومات والأخبار وإنشاء العلاقات العابرة للحدود، إلا أن هذه الساحة تم تصويرها على أنها محايدة وموضوعية تمامًا وتتعامل بمساواة تامة، وهذا في الواقع غير صحيح، فبنيتها التحتية وتصميمها ينبئ عن كونها تخدم مصالح معينة وتدعم قيمًا معينة على حساب قيم أخرى، ومن الأمثلة على ذلك أن فيسبوك يعطي أولوية للمحتوى الذي يدعم منظومة قيمه على حساب منشورات ذات محتوى آخر، فإذا كان هناك مئة منشور تم مشاركتهم في نفس الوقت سيقوم فيسبوك بإعطاء أولوية للمحتوى الذي يدعم المثلية على سبيل المثال، على صعيد آخر تقوم هذه الشركات ببعض الاستراتيجيات التي تستهدف الوعي ومنظومة القيم والتي من شأنها إقناع المتلقِّي أن يقوم هو نفسه بفعل ما تريده جهة ما بإرادته الحرة. وأحد الأمثلة على هذا مبادرة أطلقها فيسبوك عام 2010 عن طريق زر “أنا أصوت” من أجل تشجيع الناخبين على التصويت في انتخابات الكونجرس 2010 وقد قامت إحدى الدراسات ببحث حول هذا الزر لتشير إلى أن تصميمه يخلق بشكل مباشر لدى المستخدم شعورًا بالمشاركة والتعبير السياسي عن رأيه الذاتي، مما كان له أثر كبير حينها على عدد الناخبين، هذا بالإضافة إلى أن فيسبوك كان يستهدف به الديمقراطيين على وجه الخصوص وهذا أيضًا ممَّا يطعن في حياديته ومن ثم مدى ما يوفِّره من حرية ومن مساحة صحية للتكوين المعرفي والعلم بالواقع[15].

ج) الإعلام السيبراني بين الحكومات والشعوب

يشكِّل التدفّق المعلوماتي للإعلام السيبراني موضع نزاع بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية حيث تنظر له الدول الديمقراطية باعتباره داعمًا لديمقراطيتها نظرًا لما يوفِّره من سعة المشاركة للأفكار والآراء، بينما تعتبره النظم الاستبدادية خطرًا يجب السيطرة عليه والتحكُّم فيه، ومن هنا يأتى الصراع بين الدول الكبرى في ساحة مختلفة عن ساحة الحرب التقليدية تتمثَّل في حرب معلوماتية تنافسية تجبر جميع الأنظمة الديمقراطية وغيرها على التنافس فيها، نظرًا لكون البُعد عن ساحة الحرب يعرِّض البنية التحتية لهذه الدول للخطر إذا لم تردعه بقوة التنافس ليصبح التنافس المعلوماتي جزءًا لا يتجزَّأ من استراتيجيات الأمن القومي للكثير من الدول على رأسها الدول الكبرى تتقدَّمهما روسيا والصين كقوتين عالميَّتين صاعدتين[16].

وكما أن الإعلام السيبراني يشكل خطرًا بالنسبة للحكومات فإنه في ذات الوقت يمثل فرصة بأدواته وآلياته المتعدِّدة تستغلُّها الحكومات من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها حتى وإن كان هذا قد يحدث دون اعتبار لخصوصية أو حرية شعوبها وأفرادها[17].

مع وجود هذا السيل المعلوماتي لا تفتأ الحكومات عن السعي للتحكُّم فيه بأشكال عدَّة، وتتفاوت بالطبع آليات التحكُّم وصوره من دولة لأخرى. وتدور آليات التحكُّم حول التضليل عن طريق نشر المعلومات الخاطئة لخلق وعي مزيَّف لدى الشعوب، أو تشفير أو حظر بعض الحسابات الإلكترونية لبعض الأشخاص، وقد يصل الأمر إلى إغلاق شبكة الإنترنت بالكامل، هذا بالإضافة إلى اتباع سياسة توطين البيانات، والتي تهدف إلى جمع معلومات خاصة عن مستخدمى الشبكة من أفراد الشعوب مما يتيح للحكومات معرفة التوجُّهات السياسية لأفرادها وانتماءاتهم الفكرية والدينية.

وتقوم الحكومات بتبنِّي هذه السياسات بدعوى الحفاظ على الأمن القومي أو قد يبرَّر ذلك بكونها تحمي خصوصية أفرادها بهذه الطريقة فيما يعرف بالسيادة السيبرانية[18].

وتعد الصين مثالًا لأكثر بيئة معلوماتية قمعية في العالم، حيث تملك آليات رقابة معقَّدة، ومن خلال ذلك تتم حالات اعتقال بسبب أنشطة يقوم بها المواطنون عبر الإنترنت، وقد أدَّى ذلك إلى أن أصبحت الصين تملك بنية تحتية معلوماتية ضخمة، تخزن حجمًا مهولًا من المعلومات الخاصَّة بمواطنيها، ممَّا يسهِّل عملية التحكُّم، وتقوم الشركات الكبرى بالتعاون أحيانًا مع الحكومات في هذا الشأن، فقد قامت شركة “أبل”  بتأسيس مركز بيانات في الصين بهدف تجميع وتخزين معلومات حول المستخدمين الصينيِّين، وممَّا تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن بعض الدول الديمقراطية أيضا أصبحت تتبنَّى مثل هذه السياسات، ويظهر هذا أحيانا في قضايا التضليل الانتخابى وغيرها، ومن ثم مع كثرة اعتماد الدول لهذه الآليات والتطوُّر في استخدامها تصبح شبكة الإنترنت أقل انفتاحًا وأقل عالمية ممَّا يتناقض مع طبيعتها[19].

على صعيد آخر تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعدُّ أحد أبرز ركائز الإعلام السيبراني أحد أهم المجالات السيبرانية التي تستهدفها الحكومات، فكما أن مواقع التواصل الاجتماعي في أصلها مساحة يتفاعل من خلالها الأفراد ويعبِّرون فيها عن آرائهم، فهي أيضًا أصبحت تمكِّن الحكومات المستبدَّة من البقاء والاستدامة عن طريق ما تقدِّمه من خدمات تسمح للحكومات بسهولة أن تجمع معلومات تخصُّ مواطنيها وأن تضفي الشرعية على النظام من خلال بث خطاب عام يقوم بتعزيز دعم المواطنين لها، وهذه السياسة لا تقوم فقط بآليات الغلق والمراقبة العنيفة كما أشرنا آنفا ولكن تستخدم القوة الناعمة وتتبنَّى استراتيجيات التلاعب والتضليل عن طريق تأطير الخطاب العام، بما يشكل وعى المواطنين وتعبئة الدعم للنظام بشكل مستمر هذا إلى جانب البروباجندا وما يندرج تحتها من استراتيجيات، ومن ثم تساعد هذه السياسات الحكومات أن تمنع إمكانية تصاعد الاحتجاج ضدَّها أو بالأحرى تمنع وسائل التواصل من أن تصبح أداة ومساحة لمثل هذا، وبهذه السياسة تتمكَّن الحكومات من تفادي مخاطر الإعلام السيبراني مع الاستفادة مما يقدِّمه. وتعدُّ كوريا الشمالية أحد الأمثلة البارزة في هذا الشأن، حيث بدأ الأمر بالسماح لملايين المواطنين أن يمتلكوا هواتف خلوية ممَّا زاد من قبول واستهلاك واسع المدى لتكنولوجيا الإنترنت، ومن ثم استغلت الحكومة هذا الأمر في زيادة شرعيتها واستدامة نظامها، فالمواطنون يستقبلون يوميًّا رسائل تمجِّد النظام وتثني عليه في ظل بروباجندا مستمرَّة، ومن ثم فإن وسائل التواصل تتيح للحكومات أن تشكِّل الخطاب العام الرائج، كما تستطيع أن تحدَّه بحدود تعزِّز شرعيَّتها واستدامتها[20].

وممَّا تجدر الإشارة له في هذا السياق أن التلاعب بالمعلومات ونشر الأكاذيب من قبل الحكومات يؤدِّي كما قال أحد الكتاب قائلا: “إذا أصبح الكل يكذب فالنتيجة أنك لن تصدق الكذب بل لن تصدق أي شيء” وهذا يؤثر بالطبع على قدرة الفرد على التفكير والحكم، وقد تجلَّى هذا في عهد الرئيس الأمريكى الأسبق دونالد ترامب الذي غمر الإعلام بالأكاذيب تاركًا خلفه حالة من التشوُّش لدى المواطنين، حتى أصبحوا لا يعرفون من يصدِّقون ومثل هذا قد يؤدِّي إلى ما يُعرف بالشلل المعلوماتي الذي يصيب الأفراد بالعجز عن الفصل بين الحقائق المتنافسة[21].

لقد أصبح دور الإعلام السيبراني في الحقل السياسي ذا أهمية كبيرة سواء على صعيد استخدام الحكومات له كما ذكرنا أو على الصعيد الآخر الذي يتمثَّل في كونه مساحة جديدة للتعبير تستخدمها الشعوب، وممَّا تجدر الإشارة له في هذا السياق أن الإعلام وما يحويه من وسائل الاتصال الحديثة جعل الأفراد والشعوب منتجين للمعلومات والأخبار وليس فقط متلقِّين لها، حيث إنها -وبالأخص مواقع التواصل الاجتماعي- تتيح للأفراد القدرة على التعبير عن آرائهم بل وتغطية الأحداث بأنفسهم ليصبح هناك ما يعرف بالإعلام البديل، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك مثل التسونامي الذي حدث في إندونيسيا عام 2004، حيث تم تغطية أحداثه من قبل المواطنين، وكذلك الانتخابات الإيرانية عام 2009، هذا بالإضافة إلى الربيع العربي الذي لعبت فيه شبكات التواصل الاجتماعي دورًا هامًّا من حيث تمكين الأفراد من الاتصال على نطاقات واسعة، و تغطية الأحداث بشكل مستمر لتصبح الاحتجاجات عالمية المدى يراها العالم ويتفاعل معها. وهكذا يصبح الإعلام السيبراني بمثابة إعلام بديل عن الإعلام التقليدي مكمِّلًا له أحيانًا ومعارضًا له أحيانًا أخرى، حيث إن طبيعته التي تتيح المجال لنشر حقائق مختلفة وجديدة أحيانًا مما يوسع الخطاب العام ليضم أصواتًا مختلفة قد يعقِّد مسألة الشفافية والاعتمادية ويتطلَّب جهدًا نقديًّا تمحيصيًّا أكبر، فالبرغم من إيجابياته التي يتيحها إلا أنه مهدَّد بالعشوائية وعدم الدِّقَّة.

ومن هنا نستطيع القول بأن الإعلام السيبراني -كأداة للحكومات وللشعوب- وركيزته الأساسية المتمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي تقع حقيقتها بين فريقين على طرفي نقيض بين السيبرانيِّين المتفائلين والمتشائمين العدميِّين، فالفريق الأول يرى أن التكنولوجيا الرقمية أداة فعَّالة في التغيير السياسي والحفاظ على الديمقراطية، في حين أن الفريق الآخر يرى أنها وسيلة للحفاظ على الاستبداد واستدامة وجوده في ظلِّ ما تقدِّمه هذه الشبكات من آليات توفِّر للحكومة سهولة التحكُّم وإحكام المراقبة والسيطرة على شعبها، وبين هذا وذاك تأتي حقيقة كون السياق الذي تعمل فيه وسائل التواصل هو الذي يحدِّد إلى أيِّ الفريقين سينتمي أثرها ممَّا يجعل الوزن الأكبر يقع على حالة الشعوب والحكومات من حيث الوعي السياسي والثقافي وأين هم من الحرية، ففاعلية شبكات التواصل بالنسبة للشعوب المحتجَّة لن تؤدِّي بذاتها لنتائج مباشرة إن لم يصاحبها وضوح في الرؤية والهدف، وهذا ما حدث في ثورات الربيع العربي التي تفاوتت نتائجها بين دولة وأخرى تبعًا لهذا ولطبيعة النظام السياسي والبيئة الثقافية لهذه الشعوب، أمَّا مواقع التواصل الاجتماعي فلن تؤدِّي بمفردها إلى النتائج والمخرجات المرجوَّة، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على استخدام الحكومات لها. فتأثيرها يقع على عاتق مستخدميها بشكل نسبي وليس مطلقًا، وذلك نظرًا للإشكال الآخر الذي طرحناه والذي يتعلَّق بمدى حيادية هذه المواقع كأدوات ووسائل[22].

خاتمة:

ونخلص ممَّا سبق إلى أن الإعلام السيبراني أحدث نقلة نوعية في البيئة المعلوماتية وفى طريقة تعاطي وتفاعل البشر معها، وأن الواقع ليس دائمًا كما يبدو، فوفرة المعلومات لا تعني دائمًا زيادة في الوعي والثقافة كما أنها أيضًا لا تعني النقيض من ذلك وكذلك اتِّساع هذا الفضاء لا يعني أنه حر تمامًا، فالحكومات والشركات الرأسمالية الكبرى وكذلك المؤسسات الإعلامية المهيمنة تلعب دورًا هامًّا تنعكس في مجاله هذه الإشكاليات التي تطرح نفسها على الساحة الأكاديمية للبحث والدراسة والتحليل، هذا بالإضافة إلى اعتبار التفاوت بين المتلقِّين من حيث مستوى العلم والوعي والثقافة والسياق الاجتماعي والثقافي لهم ومن ثم مدى تأثُّرهم بإيجابيات وسلبيات هذا الإعلام تبعًا لذلك، ومن ثم نقول إن هذه القضايا ما زالت في طور الدراسة، وأن وجودها لا يعني غضَّ الطرف تمامًا عن إيجابيات هذا الإعلام الجديد الذي أصبح مؤثرًا قويًّا في حياتنا اليوم وجزءًا لا يتجزَّأ منها، ولكن الوقوف عند إشكالياته للنقد والتمحيص ومعرفة التحديات التي ستواجه الإنسانية والمآزق التي تواجهها الأمة على وجه الخصوص أصبح واجبًا على المجتمع العلمي الذي يشمِّر ساعديه ليتَّخذ من العلم وسيلة نحو التغيير والإصلاح ووضع الأسس والرؤى المستقبلية التي ترقى بحال واقعنا.

*****

الهوامش 

[1] أسماء عاصم، الإعلام الجديد: الإشكاليات وأنماط التغير، المركز العربى للبحوث والدراسات، 30 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: http://www.acrseg.org/41551

[2] The future of truth and misinformation online, Pew Research Center, 19 October 2017, available at: http://pewrsr.ch/3cFWrKC

[3] Victoria Baranetsky, Information overload is driving us crazy — and the media can help, CNN, 1 December 2017, available at: http://cnn.it/3lnlLcA

[4] إبراهيم السكران، الماجريات، (القاهرة: دار الحضارة، 2015)، ص ص 16-22.

[5] Lisa Anderson, Too much information? Political Science, the university, and the public sphere, Perspectives on Politics, vol. 10, No. 2, June 2012, available at: http://bit.ly/30LcwJF

[6] Renjith R., The effect of information overload in digital media news content, Communication and media studies, Vol. 6, No. 1, January-June 2017, available at: https://bit.ly/3vsaaNP

[7] Hyehun hong, Hyojong Kim, Antecedents and consequences of information overload in the covid-19 pandemic, International Journal of environmental research and public health, 12 December 2020, available at: https://cutt.us/MFW6D

[8] Brendan Nyhan, Information overload: When everything is everywhere, how do we understand what is important?, Document Journal , 10 August 2018, available at: http://bit.ly/3cA67qe

[9] Luis EduardoPilli and José AfonsoMazzon, Information overload, choice deferral, and moderating role of need for cognition: Empirical evidence, Revista de Administração, vol. 51, no. 1, 20 July 2016, available at: http://bit.ly/3bOBFJM

[10] Andrew Thompson, Google’s Mission Statement and Vision Statement (An Analysis), Panmore institute, 13 February 2019, available at: http://bit.ly/30U3D09

[11] أمجد المنيف، اقتصاديات الإعلام الجديد وحدود الحرية، مركز سمت للدراسات، 12 يناير 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3bQU7RM

[12] James laeder, Social media and consumer culture: addicted to the idealized consumer, pop culture Intersections, 5 September 2018available at: https://cutt.us/tvfzi

[13] إبراهيم السكران، الماجريات، مرجع سابق، ص ص 64-66.

[14] Daniel Gallant, What about social media neutrality, The Wall street Journal, 28 January 2018, available at: http://on.wsj.com/38JXNTM

[15] Karine Nahon, Where there is social media there is politics, in: Axel Bruns (et al.), The Routledge Companion to Social Media and Politics, (New York: Routledge, December 2015), available at: http://bit.ly/3bSpdsp

[16] نورا روزنبرجر، مأزق الأمن السيبراني والمشهد العالمى الجديد للتنافس على البيانات، (عرض): مرفت زكريا، المركز العربى للبحوث والدراسات، 23 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي:

http://www.acrseg.com/41628

[17] Safa Shahwan, How governments can use cyber tools irresponsibly to preserve power, Atlantic Council, 9 October 2019, available at: http://bit.ly/3bQP5F1

[18] Adrian Shahbaz, Allie Funk, Andrea Hackl, User Privacy or Cyber Sovereignty?, Freedom House, July 2020, available at: http://bit.ly/30LibiD

[19] Ibid.

[20] Seva Gunitsky, Corrupting the Cyber-Commons: Social Media as a Tool of Autocratic Stability, Perspectives on Politics, Vol. 13, No. 1, March 2015, available at: http://bit.ly/3vDhZAz

[21] Brendan Nyhan, Information overload: When everything is everywhere, how do we understand what is important?, Op. cit.

[22] Erkan saka, The role of social media-based citizen journalism practices in the formation of contemporary protest movements, in: Barrie Axford (et al.), Rethinking Ideology in the Age of Global Discontent, (London: Routledge, 2018).

فصلية قضايا ونظرات- العدد الحادي والعشرون – أبريل 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى