اضطراب التعليم أثناء أزمة كورونا: النتائج والدلالات وإعادة التفكير

مقدمة:

وقفة مع الغرب لتصحيح مسار التفكير ومنهجية التناول:

        صحيح أننا في عالمنا العربي تبع للغرب في كثيرٍ من التدابير والاحترازات التي اتخذوها لمكافحة كورونا، لكن: هل واكب هذه النهضة العلمية، والتي شابها قصورًا واضحًا في الاستعداد والتهيؤ لمثل هذه الجائحة؟ هل أفرزت قيمًا وسلوكًا سويًا على الأفراد والمجتمعات؟ وبمعنى آخر، فإنه ينبغي لهذه الأسبقية العلمية أن يكون لها مردودٌ على الشعوب التي تنعم بها، لكن المُشاهَد غير ذلك؛ حيث سيطرت النزعة الأنانية، وبرزت إلى السطح البراجماتية في أسوأ صورها، وأنت تشاهد هؤلاء الناس يتسابقون ويتصارعون أيهم أسبق لجمع أكبر قدر من الغذاء والمؤن لتنفيذ الإغلاق الكلي  الذي اتخذته بعض الدول، هذا بعد أن جربت هذه الدول خطط الإغلاق الجزئي، فما كان من عموم الناس إلا التهاون والمجازفة ومخالفة الحظر حتى عم الوباء.

فضلاً عن اشتعال نار العنصرية البغيضة مع أصحاب البشرة السمراء ([1])، وانطلقت المظاهرات والتخريبات، وحمل القوم السلاح في وجه بعضهم بعضًا، وتحزب كل فريق ضد الآخر، ألم يتعلم هؤلاء القوم في نهضتهم العلمية تنحية الخلافات والنزاعات وقت المحن، وتذكر حينها مضطرًا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قامت الفتنة بين الأوس والخزرج: “أبِدَعْوَى الجاهلية، وأنا بين أَظْهُرِكُم”([2])؛ فخمدت الفتنة.

هل ينقص القوم شيء ما إلى جوار نهضتهم العلمية؟

تساؤل يفرض نفسه بقوة، ويحضرك حينها ذلك المشهد الرقيق لما جاء قومٌ من مُضر مجتابي النمار([3])إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزينًا مُغضبًا لِما أصاب القوم من الفاقة الشديدة، ثم بعد الصلاة يخطب في الناس، ويحثهم على النفقة بالدينار والدرهم والثياب والبُر إلى أن قال: “وَلَوْ بِشِقِّ تَمرةٍ”([4])، فالكل يشارك على قدره وطاقته، ولم يذهب ما كان بالنبي صلى الله عليه وسلم من الكرب إلا بعدما استجاب الناس لِما أصاب إخوانهم.

هذا أثر العلم الحقيقي الذي أقصد، وكيف نصل إلى هذا التطبيق العملي للعلم النظري؟

ومن ناحية أخرى، فحينما يحدثُ إعصارٌ قويٌ في بقعةٍ ما من الأرض، تقوم هيئاتٌ متخصصة برصد قوة الإعصار واحتمال توابعه من عدمه، ومدى تأثيره على البنية التحتية، وإصدار التحذيرات المناسبة لتلافي ما قد يصاحبه أو يتبعه من المخاطر، وتستطيع كثيرٌ من الدول توقع تلك الأعاصير قبل حدوثها وتأهيل الناس للتعامل معها تقليلًا للخسائر وحفظًا للأرواح والممتلكات، لكن لا تُغفل هذه الدول ما كشفه الإعصار من اهتراءٍ البنية التحتية في بعض الأماكن حيث كان التأثر أكبر ما يكون، ولو أصرت هذه الدول على سلوك هذا المنحى فهي لا تبحث لها عن مكان في المستقبل، بل هي تدفن رأسها في الرمال، وستترك لها ذكرًا في الماضي مع مَن هلك مِن الغابرين.

والذي أريد أن أقوله أن أزمة فيروس كورونا أزمة كاشفة -وليست مٌنشئة- عن تقصيرٍ وخللٍ واهتراءٍ أصاب كثيرًا من الهيئات: سواء تلك المنوط بها توقع واستشراف المخاطر، أو التي تقوم على أمر التعليم مباشرة، ولكي أُدلل على هذا الذي أزعم لا بُدَّ مِن رصدٍ جيدٍ لِما صاحبها من إشاراتٍ وعلاماتٍ وقراءاتٍ صادمة، وأيضًا حتى نستطيع الخُلوص إلى شئٍ نرجو أن يُجدي نفعًا للأجيال التي نحمل همّها في الحاضر والمستقبل.

قضية الورقة البحثية:

لا تُخطئ العين المُجَرِّبة حالةً التخبط والهلع التي أصابت العالم بعد تفشي فيروس كورونا، ليس بين عموم الناس فقط لكن في أوساطٍ مِن المفترض أنها المسئولة عن بيان الحقائق للناس في أمرٍ جللٍ مثل هذا، والمتابع لأطبائنا ومتخصصينا في هذا المضمار يجد شِجارًا مُحزِنًا غاية الحزن، فهذا ينشر توصيات منظمة الصحة العالمية على أنها المرجع الرسمي الصحيح الوحيد للنصائح والإرشادات الواجب اتباعها، وآخر يوصي بالتجربة الألمانية حيث الاحترازات أقل، وثالث ينشر التجربة السويدية حيث الانفتاح أكثر وأكثر، والمتمكن منهم هو الذي يُحسن ترجمة التقارير التي تصدرها تلك البلدان، وصراع فارغ أيهم أفضل ترجمة ودقة، وللأسف لا وزن لنا.

أين نحن وأين هي مؤسساتنا التعليمية وجامعاتنا ومعاملنا البحثية من هذا السجال؟ أسنكتفي بدور المترجِم؟ ليست هذه دعوة للانغلاق بقدر ما هي دعوة للمصارحة، إنَّ غايةً عظمى من غايات التعليم هي إيجاد طائفة من الناس تحافظ لنا على ثمرة ما حققناه من تنمية وتقدم ولو طفيف، فإذا لم يُخرج لنا التعليم مثل هذا الصنف من الناس، فلا نحلم بالبقاء على وجه الأرض كثيرًا ولا قليلاً، هذه واحدة.

والثانية: هي ظهور بعض من أبنائنا ممن يُشاركون في هيئات عالمية لوضع بروتوكولات علاجية لمثل هذه الأوبئة، إذًا عندنا كوادرنا القوية ولو قليلة، لكنها موجودة بيد أنها تحلق بعيدًا.

وثالثة الأسافي: حالة الارتياح الواسع التي شهدتها أوساط الآباء والأمهات والطلاب من جراء توقف الدراسة التقليدية في المدارس والجامعات، ويكأنها كانت شديدة الوطء عليهم جميعًا ماديًا وبدنيًا ونفسيًا، ولم يكن للحضور المعتاد في دور التعليم كبير نفع، بل كان الغياب أحب إليهم، وأكثر لهم نفعًا.

أما الرابعة: فهي الأمية الشديدة التي أصابت من لهم علاقة بهذه الجائحة من قريب أو بعيد، فالممارسون الصحيون من أطباء وصيادلة وتمريض فضلًا عن غيرهم كشفوا لنا أمية من وجه آخر إذ ظنوا أن مجرد دراستهم تعطيهم الحق في الكلام عن هذه الجائحة، وانطلق كل واحد في ملأ صفحته على الفيسبوك أو تويتر بالبيانات والتحذيرات والتوجيهات التي هي محض تجربة فردية، وعلى اٌقصى التقديرات تجد المحسن منهم يترجم تقارير الهيئات العالمية بعد الرجوع للسيد جوجل، يذكرني هذا بالسجال الفقهي حين تنزل نازلة بالمسلمين وينطلق كل من له صلة بالعلم الشرعي من قريب أو بعيد لبيان الحكم الشرعي فيها.

وخامسًا: حالة اللامبالاة التي ظهرت جلية في تعامل قطاعات عريضة من الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية والمادية مع اجراءات السلامة التي تنشرها الهيئات الصحية من ارتداء الكمامات والاهتمام بالتباعد الاجتماعي وغيرها من الاحترازات، حتى سمعنا عمن يعيد توزيع نفس الكمامة على أشخاص مختلفين في وسائل النقل خشية الغرامة المادية، وبعضهم يؤجرها على أبواب بعض المصالح الحكومية ويستعيدها بعد انتهاء الإيجار.

سادسًا: ومع اتخاذ بعض الدول اجراءات تخفيف الحظر وفتح دور العبادة، انتشرت صور للمساجد وقد انتظم أهلها على الصفة التي طلبتها الهيئات المختصة من التباعد وجلب كل مصلٍ لسجادة الصلاة الخاصة به وارتداء الكمامة، وهذا الالتزام يحمل معان كثيرة سنتعرض إليها تباعًا.

هذا من وجهة نظري بعضٌ من خلاصة أثر العملية التعليمية الحالية وخططها على الأفراد والمجتمعات ومُخرج أصيل من مُخرجاتها، ومن أراد التعرف على جدوى أساليب التعليم الحالي والسابق وتقويم نفسه، وهل أدت أزمة كورونا لاضطراب التعليم حقًا أم هو مضطربٌ ابتداء، والاستعداد الحقيقي لما هو آت -والمؤشرات تقول إنه أشد من سابقه- فعليه أن يضع هذا الرصد المجتمعي وغيره نصب عينيه لئلا نحرث في الماء.

أولاً- مظاهر وصور اضطراب التعليم في ظل أزمة كورونا:

لا أدري لماذا يُصر البعض على أنّ ثَمَّ قصور حديث العهد قد أصاب العملية التعليمية في مقتل، في الوقت الذي لا يفتُر هؤلاء عن الشكوى من مستوى الخريجين في مُختلف مراحل التعليم الأساسي منها إلى الجامعي وما يليه.

والذي حدث من وجهة نظري وكأن سيارة قديمة وقد دَبَّ الوهن في إطاراتها، وأصاب الخلل مختلف أجزائها، وملأ الصدأ هيكلها، لكنها تتحرك وتنقل صاحبها من مكان إلى مكان، مع فارق الإمكانات والسرعات والرفاهيات عما حولها من السيارات، لكنها في النهاية على صورة السيارة، وفجأة أصاب العطب موتور السيارة فتوقفت، إن الذي حدث مع تفشي داء كورونا كان مُنتَظرا ومُتوَقَّعا ينتظر وقوعه كل من حمل الهم في قلبه وكيانه تجاه أبناء وطنه وجلدته.

ولكن لا مفر من الحديث عن شئ من مظاهر هذا الاضطراب الذي أظهرته هذه الجائحة، فكشفت آخر ورقة توت كان يستتر بها التعليم، فمن ذلك ما يلي:

1- توقف العملية التعليمية تمامًا:

أشارت اليونسكو إلى تأثّر 87٪ من عدد الطلاب في العالم بإغلاق المدارس بسبب فيروس كورونا، وتم إلحاق ضررٍ بأكثر من مليار ونصف المليار متعلّم موزّعين في 165 دولة، وقد قالت المديرة العامة لليونسكو، السيّدة أودري أزولاي، في هذا السياق: “لم يسبق لنا أبدًا أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب في مجال التعليم”([5]).

فلم يأت بخلد أكثر المتشائمين من حال التعليم أن يحدث توقف تام للعملية التعليمية، بحيث تُلغى مناهج دراسية كاملة، ويكون النقاش الدائر هو فقط عن كيفية تجاوز هذه المرحلة الدراسية إلى التي تليها، ويتم الاستعاضة عن الامتحانات بعمل أبحاث فردية أو مُجمَّعة، أو إجراء امتحانات صورية على أجهزة التاب التي سلمتها الجهات المسئولة إلى طلاب بعض المراحل الدراسية، وتقرر إجراء الامتحانات-على ما صاحبه من قلق وفزع- لبعض المراحل الأخرى سواء في الشهادة الثانوية أو الجامعات.

2- تردٍ ثقافي واضح:

فمع أن فكرة إنشاء منصة إلكترونية تُرفع عليها الأبحاث الخاصة بالطلاب فكرة جيدة في مجملها، لكنها كشفت عن كارثة كثيرًا ما نبه إليها أساتذة التربية، وهي تردي المستوى الثقافي لكثير من الآباء والأمهات؛ إذ لا يستطيعون مساعدة أبنائهم في كتابة بحث، ولجأ الكثيرون إلى بعض من يُحسن كتابة الأبحاث، وضج الناس بالشكوى كيف نكتب الأبحاث؟ ألا ترقبون فينا إلا ولا ذمة!

وهذه الفئة التي أتحدث عنها مِن الآباء والأمهات ممن يمتلكون أجهزة الموبايل والتاب واللاب توب وليس عندها مشكلة في الدخول على الإنترنت، ويستخدمونه في شتى أمور حياتهم مثل: تعلم إعداد ألوان الطعام، ومعرفة أفضل الأسواق والبضائع، وكيفية شراء السيارات والفروق بينها وتعلم قيادتها، ومتابعة حركة سوق المال والذهب وغير ذلك كثير جدًا، لكن لم  يكلف هؤلاء الآباء أنفسهم مئونة البحث في أي موقع على الشبكة العنكبوتية عن كيفية كتابة بحث، وإنما لجئوا إلى شرائها مباشرة.

لطالما نادى التربويون وبُحّ صوتهم أن أعدوا هؤلاء الناس للقيام بدورهم في العملية التعليمية، فلا يكون دور الوالدين هو توفير النفقات والثياب والذهاب والإياب مع ذويهم فقط، إنهم منوط بهم دور أكبر وأعظم من ذلك لطول ملازمتهم لأولادهم واطلاعهم على خفايا شخصياتهم، ومعرفة ما يحفزهم وما يؤثر عليهم سلبًا، وهم أكثر الناس حرصًا على نبوغم واستخراج أقصى ما عندهم من القدرات والإمكانات. فأين الخطط والبرامج العلمية والنفسية والتثقيفية الموجِّهة لأولياء الأمور؟!

3- أزمة مالية طارئة:

لا يزال شبح الدروس الخصوصية يطارد كثيرًا من القائمين على أمر التعليم، وقد احتاروا في كيفية القضاء عليه، فمع توقف العملية الدراسية مبكرًا، توقفت الدروس الخصوصية لمراحل النقل، وتأثرت الحالة المادية لكثير من المدرسين خاصة مع ضعف رواتبهم، وهنا أطرح تساؤلاً مشروعًا: كيف لهذا القائم على ركن ركين من أركان العملية التعليمية أن يقوم بالدور المنوط به؟ وكيف ينمي نفسه معرفيًا وعلميًا؟ وكيف يستقر نفسيًا وأعباء الحياة الدنيا تطارده ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا؟

بل مما زاد الطين بلة وصار أنكى وأنكى ويدفع المرء لضحكٍ كالبكا تلك المنافسة الحميمة لخريجي كليات التربية في مهنتهم، فتجد المهندسين يعطون دروسًا في الرياضيات وفروعها من التفاضل والتكامل وغيرها وكذلك الفيزياء، والصيادلة وخريجوا كليات العلوم يشرحون الكيمياء والأحياء، وبعض المعيدين في بعض الجامعات يعطون دروسًا للثانوية العامة، ذكرني هذا بمن اشترى سيارة خاصة (ملاكي) وصار ينافس بها سيارات الأجرة، ومما ساعد على زيادة رقعة هذا الاضطراب ضعف المستوى عند بعض أو كثير من القائمين على العملية التعليمية من المدرسين.

4- غش جماعي:

عندما تقرر إجراء الامتحانات على التاب الخاص ببعض مراحل النقل، حدث ما كان مُتوقَعًا، فلقد تجمع الأصدقاء والأحباء على طاولة واحدة، وفتح كل واحد امتحانه وصاروا يتشاركون في حل الامتحان.

متى تنتهي هذه الطريقة في تقويم الطلاب؟ أو حتى يقل الاعتماد عليها حتى تُشكِّل نسبة أقل في تقويم الطلاب.

يظل الطالب يذاكر شهورًا ثم تكون نتيجة تعبه وكده في ساعة أو ساعتين، وربما يؤدي الامتحان في مادتين في اليوم نفسه، والفترة بين الامتحانات متقاربة أحيانًا، وفي بعض الجامعات بعد امتحان النظري امتحان شفوي يقضي على ما تبقى من الطالب، إن هذا لظلم عظيم!

وها هم أبناؤنا في الثانوية العامة يعانون ضغوطًا شديدة مجتمعة، فماذا لو أصاب أحدهم طارئ -لا قدر الله- عطله عن إكمال الامتحانات بهذه الطريقة؟ وما تأثير ذلك على نفسه وقلبه وأهله وذويه، وقد سبقه زملاؤه للعام الذي يليه وتأخر هو؟

وبعيدًا عن الظرف الطارئ الذي أدى لسلوك هذا الطريق، فإن المُخرج النهائي من هذا الغش الجماعي، سيكون جماعة من الضعفاء المتواكلين الانتهازيين، والذين سيظلون عبئًا على أهليهم وذويهم ومجتمعاتهم وبلدانهم وعلى الناس أجمعين.

 

 5- دَورُ المكتبة: دورٌ غائبٌ أم دورٌ غائمٌ أم دورٌ منسيٌ:

تقوم العملية التعليمية عندنا معتمدة فقط على دُور التعليم سواء المدارس والجامعات، ولما  تفشي فيروس كورونا، ظهر هذا العيب جليًا، فليس هناك من يتحمل ولو شيئًا يسيرًا من دَوْرِ دُورِ التعليم، ولو سألنا كم بيتًا فيه مكتبة؟ أو على التاب أو اللاب توب أو الكومبيوتر العادي في بيته؟ ثم ما نوعية الكتب في هذه المكتبات؟ وهل يقرأ أبناؤنا وبناتنا شيئًا من هذه المكتبات؟ وما دور مكتبة المدرسة والجامعة الذي كانت تقوم به أثناء الدراسة؟ وكم من الطلاب يدخلها ويستعير منها؟ لا أنكر أن فكرة القرائية التي انتهجتها إدارات التعليم جيدة، لكنها تبقى حكرًا على نوعيات معينة من الطلاب ممن يحبون القراءة أصلاً، فأين بقية الطلاب؟

إن مكتبة تعني اطلاعًا على الجديد، وشغفًا بمتابعة الاطلاع، وتوسيعًا للآفاق والمدارك، إن قراءة سوية تعني بحثًا وفهمًا، تعني نشئًا جديدًا غير الذي كان، لكن يبدو أن هذه الأخرى لم تكن على المستوى المرجو، فلم نسمع عن أب أو أم أنشأ مكتبة في بيته تحاكي فكرة مكتبة المدرسة، فيها من الأساسيات التي تناسب عقل وعمر وعاطفة ونفسية ولده، ولم نجد تواصلاً بين المسئول عن المكتبة وبين أولياء الأمور لتنبيهه إلى ما يحبه ولده من الكتب، أو ما يميل إليه من القراءات، ولم نجد استفادة ملموسة من وجود المكتبات في الجامعات والمدارس، إنها ويا للحسرة جزر منعزلة متباعدة، تدعي كلها وصلاً بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك.

6- الجميع ناجح:

أتفهم الحالة النفسية السيئة التي يمر بها عموم الناس، لكن ليس معنى ذلك أن يمر العام الدراسي بهذه الصورة المهينة، فإما غش جماعي، وإما أبحاث لا يعرف عنها أصحابها شيئًا، ثم يكتمل مثلث الرعب بأن الجميع ناجحٌ ومنقولٌ للمرحلة التي تليها، هذا الجزء الضخم من المنهج الدراسي الذي مر ولم يدرسه الطلاب: إما أنه مهم فلا بُدَّ من إعادة الحسابات مرة أخرى في المنتقلين إلى المراحل التعليمية التالية بأن يضاف بصيغة أو بأخرى لتلك المراحل، وإما إنه غير ذي جدوى بالنسبة لما هو آت من الدراسة، فهنا تكون المصيبة أعظم.

7- ارتياح عام:

لاحظنا جميعًا ذلك الارتياح والفرح بانتهاء العام الدراسي مبكرًا، ثم نجاح جميع الطلاب وانتقالهم إلى المراحل التي تليها، وهذا الارتياح مقلق جدًّا لكل المهتمين بالعملية التربوية، إذ يطرح استشكالات عدة:

  • لماذا صارت الدراسة عبئًا لا يمكن تحمله؟
  • ما العيب في المناهج الذي أدى بها لثقلها على كاهل الطلاب والآباء؟
  • ما مدى متانة العلاقة بين الطلاب والمدرسين، وإلى أي مدي يؤثرون في تشكيل وجدانهم وعقولهم وحبهم أو بغضهم لمدارسهم وجامعاتهم؟
  • كيف تكون المدرسة عاملاً حافزًا لتحسين تلك العلاقات الاجتماعية بين الطلاب، فيأتون إليها طائعين؟
  • لماذا يعاني الآباء والأمهات لإيقاظ أولادهم يوميًا؟

هذه وغيرها استشكالات تبحث عن إجابات؛ لكي نعيد توجيه البوصلة حيث تنطلق السفينة إلى حيث ينبغي لها أن تكون.

 

ثانيًا- النتائج والدلالات ومعاودة التفكير للحد من اضطراب التعليم بسبب أزمة كورونا:

إن النكبات العظيمة التي تصيب الأمم والشعوب تترك أثرًا بالغًا في شتى مناحي الحياة خاصة عند تلك الشعوب التي ليس لها حظ من التعود على مواجهتها كما يحدث في الأعاصير والزلازل والتسربات الإشعاعية في آسيا وأوروبا، وكذلك ليس عندها القدر الكافي من الاستعداد لما هو آت؛ لتخفف عن نفسها تبعات تلك النكبات.

وسوف نحاول في هذه الورقات اليسيرة تلمس بعض التأثر الذي ربما تتركه فاجعة كورونا على العملية التعليمية، فهي أولى بأن نبدأ بها، وبما قد يصيب مكوناتها، فالأقربون أولى بالمعروف.

1- المعلم:

أ-مفاجأة غير سارة:

فقد الملايين من الناس وظائفهم كأحد أول نتائج الغلق والحظر الكلي والجزئي الذي اتبعته كثيرٌ من الدول، والذي يُخشى منه أن ينضم المعلم لقافلة فاقدي الوظائف خاصة مع محاولة كثير من الدول تعويض شيء من الخسائر الاقتصادية بتقليل النفقات، فتلجأ هذه الدول لخصخصة المعلمين، والاكتفاء بالعدد الذي تظن أنه يكفي لتسيير العملية التعليمية، وربما يتأكد هذا المنحى إذا ما أقرت الدول إكمال التعليم عن بُعد عن طريق الشبكة العنكبوتية، فبعدد قليل جدًا تستطيع تسجيل شرح لكافة المواد الدراسية على المواقع والمنصات التعليمية المختلفة، ويبقى تنظيم شيء من التواصل بين المدرسين والطلاب على وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي.

أو على أقل تقدير، سبحث المدرسون عن وظائف أخرى؛ لسد الخلل في تحقيق احتياجاتهم الشخصية والعائلية، مثلما يحدث مع خريجي كليات التجارة؛ حيث يعمل كثيرٌ منهم في غير مجاله.

ب-هل سينجح؟

لو أخذنا إطلالة إلى بعض ما يحدث خلال الحصة الدراسية من أخذ الغياب، وإسكات الطلاب، وفقد الوقت في أبجديات ما كان ينبغي أن نهدر فيها الوقت منذ أن يدخل الأستاذ قاعة الدرس فيقول: أخرجوا الكتاب المدرسي وكراسات الواجب، ثم يبدأ معاقبة من لم يأت بأي منهما، ثم معاقبة من لم يؤد الواجب، وسماع أعذار أصحاب الأعذار، وربما يطرد بعضهم خارج الفصل، كل هذا وغيره يُضعف الأثر المباشر للمعلم في إنجاح العملية التعليمية، فإذا اتجه مسئولو التعليم إلى تقليص أيام الدراسة والتركيز على التعلم عن بُعد، فالمتوقع أن يفتر المدرسون عن الاستزادة من العلم والتثيقف اللازم للمرحلة المقبلة من الاتجاه للتكنولوجيا الحديثة، ومحاولة التمرس فيها، والاطلاع على أساليب التدريس عن بُعد، وكيف يتغلبون على مشاق هذا الطرح، وكيف يستفيدون من مزاياه؟

قلت: إن المتوقع أن يفتر المعلم، ويزداد ضعفًا على ضعف؛ لأن الواقع المشاهد والتجربة السابقة في قصة الكادر الذي ربط آفاق ومسارات الترقي بشيء من تحديث المستوى العلمي لم يرق إلى المأمول، فهذه كتلك بل أشد، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن علاقة بعض هؤلاء المدرسين بالتكنولوجيا والإنترنت لا تعدو تصفح الفيسبوك، أو توتير، أو مشاهدة بعض المقاطع على اليوتيوب، فكيف يتحمل عبء ما لم يستطع عليه صبرًا؟!

جـ-كليات التربية:

إذا ما صدقت تصوراتنا عن تأثر شديد لمهنة المعلم، فلربما امتد ذلك التأثر إلى كليات التربية نفسها، فيعرض أبناؤنا عن اعتبارها في رغبات التنسيق، إذ كيف يتقدمون لمهنة سيبحثون معها وإلى جوارها عن مهنة أخرى لسد احتياجاتهم الأساسية، ولا أبالغ إن زعمت امتداد هذا التأثر لأساتذة هذه الكليات أيضًا، فالأمر أشبه بقطع الدومينو التي ما إن يسقط أول قطعة منها تتابع سقوط وتداعي باقي القطع، فتربة الأستاذ الجامعي التي يغرس فيها فكره ويضع فيه بذرته هي الطالب، فإن غاب هذا الطالب تعطل الزرع، ولا نستطيع إغفال التأثر المادي الذي سيصيب هيئات التدريس في هذه الكليات مع قلة أعداد المتقدمين إليها، إنها حقا أزمة اقتصادية طاحنة.

2- المناهج:

أ-بارقة أمل:

منذ أن بدأت أنامل أساتذة التربية في تسطير الخطط ووضع المناهج لإصلاح العملية التعليمية والمضي بها قدمًا إلى حيث ينبغي لها، وهم ينادون بضرورة إعادة صياغة للمناهج صياغةً ليست صورية بنقل مناهج المراحل المتقدمة إلى التي قبلها، دون مراعاة إمكانات الطلاب واحتياجاتهم الفعلية والبيئة التي ينخرطون فيها، وما ينفعهم في التعامل مع مكونات تلك البيئة والاستفادة منها في رحلتهم الحياتية.

أقول هذا الكلام وأنا يعتصرني ألم مكتوم لما سمعت إحدى قريباتي وهي خريجة إحدى جامعاتنا، وقد دار بيننا حديث عائلي ومما أسرت لي به أنها كانت تظن أن تحت كل محطة وقود (بنزينة) بئر بترول، ربما لا تتمالك نفسك من الضحك، لكن سرعان ما تتبدد تلك الابتسامة حينما تعلم أنها تخرجت من كلية العلوم بتقدير جيد جدًا، قطعًا لا أجتزء الصورة ولا أعني أن كل خريجي جامعاتنا على هذا النحو، لكن السؤال الذي يهجم عليك الآن، ما الذي تعلمته في الجامعة، ولما لم ترتق هذه المناهج بعقلية هذه الفتاة؟ حيث تصورت آبار البترول متناثرة في أرجاء البلاد شرقًا وغربًا، وطولاً وعرضًا.

لماذا يحتاج أبناؤنا في تخصصات عديدة إلى معادلة الشهادات الجامعية حين يسافرون للعمل في بلدان شتى من الأرض؟ فيضطرون إلى دخول امتحانات مكلفة باهظة التكاليف؛ لأجل قبولهم في مهنهم في هذه البلدان، ولا أقبل أن يُقال هناك بلاد أخري يُفعل معها مثلك تمامًا، سامحوني فلا أريد المقارنة بمن هو دوني في هذا الباب.

لقد نكأت كورونا جرحًا غائرًا، وإني لأرجو أن تكون المرحلة المقبلة فرصة لوضع الأقدام على الصياغة المثلى لمناهج تليق بما نأمل ونرجو، والذي أظنه أننا مضطرون لتخفيف المناهج الدراسية، وبالتالي فهذه فرصة لوضع تصور جديد للمناهج الدراسية على نحو يراعي الفروق الفردية بين الطلاب، هذه الفروق التي أهدرها القائمون على وضع المناهج والمقررات والخطط الدراسية، فليس كل طالب متمكنًا في الفيزياء والرياضيات والكيمياء، فإذا كان عندنا بعض النابهين في هذه المواد، لكنهم ليس بذلك المستوى في اللغة العربية وغيرها من المواد التي نسميها أدبية، فالمفترض أن تتلقفهم-مبكرًا جدًا-أياد واعية بقيمتهم، مدركة كيف تستثمرهم، وتستخرج طاقاتهم وإمكاناتهم، في أمة تعاني وسط الأمم التي لا تعترف إلا بالأقوياء.

وعلى الجانب الآخر، إذا وجدنا لسانًا مستقيمًا، وحسًا مرهفًا، لكنه دون المستوى في تلك المواد التي نطلق عليها علمية، فليس من العقل أن يكون مستقره في كلية من الكليات العلمية، إن أصدق تمثيل لهذه الغوغائية في وضع المناهج وما سيئول إليه أمر هؤلاء المساكين، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ”([6])، إن ذلك إيذان بهلاك عام، وليس في زماننا الخوارزمي (781م- 847م)، أو الفارابي (874م- 950م) أو ابن الهيثم (965م- 1040م) ممن كانوا بارعين في علوم شتى علمية وأدبية، إذًا فلا بُدَّ من أن تراعي مناهجنا هذه الفروق بين طلابنا، وأن تكون أزمة كورونا بداية واعية لإزالة ما ينبغي إزالته، وتبسيط المناهج تبسيطًا ليس مخلاً.

ومن المتوقع أن يحدث مع اختصار المناهج، إعطاء الفرصة أكثر وأكثر للطالب لكي يبحث عما يدعم دراسته، في مجلات علمية أو مقاطع مرئية أو صوتية لمتخصصين، فليس الأمر مجرد تحصيل معلومات للنجاح في الامتحان، بل توسيع للمدارك والأفهام، واستخراج للمواهب والقدرات، وهنا لا بُدَّ للقائمين على العملية التعليمية ألا يتركوا أولادنا فريسة سهلة المنال لبائعي الضلالات على الشبكة العنكبوتية، فلا بُدَّ أن تبين لهم الغث من السمين.

وكذلك من المأمول أن يكون للنشاط البحثي وتفاعل الطلاب أثناء العملية التعليمية تأثيرٌ في التقويم العام للطلاب، وأن يقل الاعتماد على الامتحان النهائي كوسيلة أساسية في الحكم على قدرات أبنائنا.

ب-قلق وترقب:

قد أشرت سابقًا إلى شئ لافت للانتباه لما فُتحت دور العبادة وانتشرت صور المصلين في المساجد، وقد التزموا بالتعليمات والاحترازات حرفيًا مما لا تجده في كثير من الأماكن الأخرى، والذي أريد أن أنبه إليه أنه لا ينبغي إغفال أثر التدين العام للناس في الاستجابة الرائعة لما ينفعهم، والبعد عما يضرهم.

والذي دعاني لهذه الإشارة هو خشيتي من حدوث إهمال غير مقصود لمادة التربية الدينية غير المضافة للمجموع ابتداء، فكثير من الطلاب لا يهتم بها أثناء العام الدراسي، لكن وجود مدرس يقرأ شيئاً من القرآن الكريم أو من السنة النبوية يرفع بعض الجهل عن بعض الطلاب، ومع الاتجاه للتعليم عن بُعد وتقليص أيام الدراسة يزداد قلقي على مستقبل هذه المادة، والعجيب أن عامة الناس يذهبون بأولادهم إلى المساجد في الصيف ليحفظوا شيئًا من كلام الله تعالى، لكنهم في أيام الدراسة لا يأبهون لها، ربما لأنها ليست ذات قيمة في المجموع العام. فإّذا ما عُدنا لمشهد المصلين في المساجد فلا بُدَّ من إعادة النظر في التربية الدينية التي نريدها لأبنائنا، كمًا وكيفًا.

جـ-استعداد واجب:

ليس من المعقول أن نترك أولادنا هملاً لا يتعلمون من هذه المحن، ولا أن نتركهم لبائعي الوهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة.

والذي نرجوه أن تُضمن المناهج الدراسية إعدادًا طيبًا للنشء عن هذه النكبات، وكيف هي خبرات الدول التي سبقتنا في هذا المضمار؟ وما ينبغي أن تكون عليه أخلاقهم وتصرفاتهم أثناء المحن التي تمر بها بلادهم، وأن يكونوا على قدر المسئولية في تحمل الشدائد، وألا يكونوا فريسة للشائعات ومروجيها، وألا يكونوا لاهين في مواطن البلاء، وأن يتعودوا الإيثار والفداء والإخلاص.

لقد أدمى قلوبنا جميعًا تجمهر المواطنين فى قرية شبرا البهو بمحافظة الدقهلية –يوم الحادي عشر من إبريل 2020م- لمنع دفن جثة طبيبة توفيت بمستشفى العزل فى الإسماعيلية بعد إصابتها بفيروس كورونا، وقد كانت على خط النار في وجه العاصفة، إن هذا مما يندى له الجبين، ويدلك على مدى العبء والثقل المُلقى على أكتاف من يضعون المناهج الدراسية، كيف ننتشل أمثال هؤلاء مما هم فيه من الجهل والأنانية؟

والفرصة مواتية الآن لإصلاح ما قد فسد، فهل من مجيب؟

3-المتعلم:

كثيرة هي الخطوب والمحن التي يتعرض لها أبناؤنا وبناتنا، فالوالدان أحدهما أو كلاهما مشغول أشد الشغل بتوفير احتياجاته الأساسية، والتي بطبيعة الحال لا يشملها توجيهه علميًا وتربويًا إلا فيما ندر، ولغير خبرة ودراية، إنما هكذا كيفما يتراءى لهما، أضف إلى ذلك منظومة تعليمية تتعامل معه على طريقة فئران التجارب التي تترك البعض صرعى، وتصيب البعض الآخر بعاهات مستديمة لا دواء لها، ثم مدرس مشغول هو الآخر بتهيئة الدفتر ليكون جاهزًا عند أول تفتيش إداري، ويتعامل بعضهم مع الطالب وكأنه ورقة نقدية لا بُدَّ أن تدخل جيبه آخر الشهر كما يتعامل سائقو السيارات الأجرة والميروباص مع المواطنين في الطرقات، فتجد صراعًا على (الزبون) الذي لا يراه السائق إلا ورقة نقدية هو الآخر، ولا يعبؤون بالطريق، ولا المارة، ولا بالقوانين، ولا بأي شيء، ثم بيئة اجتماعية هي الأخرى تنخر فيما تبقى من عظام هذا المسكين، ولا تترك له شيئًا يستتر به في أجواء الجهل الباردة، وصواعق الإهمال المخيفة.

هذا في الوقت الذي نأمل من هذا الكائن المطحون أن يكون شيئًا مذكورًا في هذه الظروف القاتمة. ثم جاءت أزمة كورونا على غير ميعاد، لتعطينا فرصة أرجو ألا تكون الأخيرة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. نعم، فأنا أرى في الكورونا فرصة ومنحة ربانية لوضع شيء من الأمور في نصابها.

 

 

أ-إنزال الحقيبة المدرسية:

لا تفارقني صورة ولدي صاحب العشرة أعوام، وأنا فعليًا أكاد أتشاجر معه لتخفيف الحمل عن كاهله، وتقليل عدد الكتب والكراسات من حقيبته المدرسية، وهو لا يتزحزح قيد أنملة، وقد أوضح لي وجهة نظره أن الجدول المدرسي غير منضبط، حتى مدرس المادة الواحدة ربما يحلو له تغيير المتفق عليه في الجدول فجأة، فماذا يفعل التلميذ المسكين سوى أن يُحمّل نفسه ما لا يطيق؟ فيحمل كتبه وكراساته جميعًا في مشهد بئيس حزين.

ومع أزمة كورونا لا شك سيختفي هذا المنظر السخيف الذي لا فائدة منه سوى للطبيب أو الصيدلي؛ حيث الكشف الطبي وشراء العلاج، وتضاف هذه التكاليف إلى فاتورة عائل الأسرة في نفقات تنوء بها الجبال، فمع اتجاه الدول لتقليص أيام الدراسة وساعتها، فسيجد الأولاد فرصة لنصب ظهورهم أخيرًا.

ب- فرصة ذهبية سانحة:

تتبارى المناهج التعليمية في مدارسنا وجامعاتنا في إطفاء أية بادرة نبوغ قد تبدو هنا أو هناك؛ إذ تحرص على إيصال رسالة مفادها احفظ، ثم احفظ، ثم احفظ. قد يبدو هذا عند البعض منطقيًا في الكليات النظرية، لكن في الكليات العملية الأمر يصبح أكثر غرابة، فكثير من الكليات العملية تأخذ المنحى نفسه؛ إذ تحرص هي الأخرى على إيصال نفس الرسالة، فلا تعطي الطالب فرصته لكي يُعمل عقله، ومن أراد التأكد من كلامي، فعليه بزيارة خاطفة للمكتبات حول كلياتنا وجامعاتنا، فسيجد الإجابة حاضرة أمام عينيه، طلاب يبحثون عن ملخصات سهلة ليحفظوها.

والذي يظهر لي أننا مضطرون في زمن كورونا –والحمد لله- إلى الاستثمار في عقول أبنائنا؛ فننمي لديهم مهارة البحث والاستنباط إلى جوار الحفظ، وريدًا رويدًا يتنمى لديهم حُب المعرفة والبحث، ويظهر ما كان مستترًا تحت عباءة الحفظ من نبوغ وسعة أُفق، فيطلب من الطالب البحث وكتابة ما وصل إليه في بحثه، والتعرض لمن تكلموا في هذا الموضوع، والاستفادة من خبراتهم، وصياغة ذلك بأسلوبه، ووضع تصوراته الشخصية مهما كانت تافهة في نظره، ثم يوضع هذا كله أمام مدرسه للمناقشة الفردية والجماعية، إنه عصف الذهن أو عصف الأفكار أو التفاكر في صورة راقية.

وغزوة أحد مثال عملي لما طرحته آنفًا، فالأمة مقبلة على حرب انتقامية من ألد أعدائها، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض الأمر على أصحابه، ويختار الكبار لزوم المدينة، ويفضل الشباب الخروج إلى العدو خارج المدينة، وينزل النبي صلى الله عليه وسلم على رغبتهم؛ أي قدر من الإعداد والإنشاء والتوجيه ورفع الهمم وتحمل العواقب هذا الذي فعله النبي المربي، والدرس العظيم الذي يلوح في الأفق أنه ما من أحد –رغم الهزيمة- وجه اللوم للشباب في اختيار الخروج وترك لزوم المدينة.

جـ- ابحث لي عن غلام نجيب أُعلمه السحر:

          العقل المبدع هو البداية، وهو من أكبر استثمارات الأمم النابهة التي لا تنتظر مائدة من السماء، وإنما تبحث بين أبنائها عمن يقودها ويكمل مسيرة نهضتها ويحفظها مما يُراد ويُحاك لها، وهذا الصنف من الناس ليس بالكثير، كمًا، لكنه بالكيف أمة وحده.

فهل ما هو متوافر الآن من وسائل ومن فعاليات يُعدُّ كافيًا لتوفير بيئة تربوية تعليمية تعلمية تتيح الكشف عن العناصر الطلابية المبدعة، فضلاً عن المعلمين المبدعين؟

وهل مؤسساتنا التربوية تساعد الإنسان المتعلم على الارتقاء بنفسه، وإدارة وقته، وتحرير طاقته الكامنة، وقبل ذلك تخلصه من المفاهيم الخاطئة التي تكبله، وتقعده عن الانطلاق والعمل الفذ والمبدع؟

مع الأسف لا! فكل ُّ شيء لدينا هو أقل مما هو ممكن، وأقل ما يجب.

يقولون: “الحُكْمُ على الشَّيءِ فَرْعٌ عن تَصَوُّرِهِ”، فكيف يمكن لنا أن نصور  هذا الغلام النجيب –أو قل إن شئت المتعلم النجيب- الذي أقصده وأرجوه؟

حينما نطالع قصة أصحاب الأخدود نجد الساحر حريصًا أشد الحرص على توريث السحر؛ إذ به قوام الملك على حسب تصوره، فطلب غلامًا نجيبًا يُعلمه السحر، لكن الله عز وجل أراده غلامًا نجيبًا ينقذ هذه الأمة، ويدلها سبيل الرشاد.

وليس هذا بدعًا من التفكير والتصور، فـ “بيليه” نجم البرازيل، و”ماردونا” و “ميسي” أسطورتا الأرجنتين لا يتكررون كثيرًا، بل ربما يمر الجيل تلو الجيل بلا جديد، حتى أن مدربي كرة القدم يجوبون البلاد شرقًا وغربًا باحثين عن هذه المواهب الدفينة؛ فهي أغلى من الذهب عندهم.

وكذلك في فروع القتال المختلفة في الجيش، تجد مندوب القوات الخاصة والصاعقة والمظلات يفتش في المتقدمين للتجنيد باحثًا عن صفات معينة دقيقة تصلح بعينها فيما سيوكل إليها من مهمات.

لقد أطلت التدليل عمدًا لأؤكد أنه ليس من سبيل لنهضة أمتنا إلا البحث عن ذلكم النموذج الفريد الذي تقوم به الأمم، وأن نبذل الغالي من أجل الوصول إليه، وضمه إلى جوار أمثاله من النماذج، وصونهم ورعايتهم في برامج اجتماعية وعلمية ومادية ورياضية ونفسية وكل ما هم في حاجة إليه، هذا هو الاستثمار الحقيقي الذي ينبغي أن نضع فيه كل جهودنا وطاقاتنا، وليس هذا بالأمر اليسير على الإطلاق، بل يجعلنا في حاجة ماسة إلى تضافر قلوب وعقول تحمل هم هذه الأمة في وجدانها وكيانها.

إن رأس المال الجديد الذي أخذ في التكون عبر العقد الحالي لا يعتمد –على نحو جوهري- على سعة الأراضي، ولا على غزارة الأنهار، ولا على الثروات المادية، وإنما على ما لدى الأمة –وكذلك الفرد- من أفكار ومفاهيم ودوافع وأهداف ونظم ومؤسسات تعليمية ممتازة وهياكل تقنية([7]).

ومن جانب آخر، فقد كشفت ورقة خايمي سافيدرا بعنوان: “التعليم في زمن فيروس كورونا: التحديات والفرص”، عن حتمية الإبقاء على حماس الأبناء للمشاركة، ولا سيما الشباب في المرحلة الثانوية، فلا تزال معدلات التسرب مرتفعة جداً في العديد من البلدان، ومن شأن انقطاعهم عن التعلُّم لمدة طويلة أن يزيدها، والطالب لا يذهب إلى المدرسة لتعلم الرياضيات والعلوم وحسب، ولكنه يذهب كذلك ليقيم علاقات اجتماعية ويتعامل مع أقرانه، ويتعلم كيف يكون مواطناً، ويطور من مهاراته الاجتماعية. ولذا من الضروري الحفاظ على التواصل مع المدرسة بأي وسيلة لازمة، وبالنسبة لجميع الطلاب يعتبر ذلك وقتًا لتنمية المهارات الاجتماعية الوجدانية، وتعلُّم المزيد حول كيفية الإسهام كمواطنين في تطوير مجتمعاتهم، وإن كان دور الوالدين والأسرة، بالغ الأهمية على الدوام، فإنه أشدّ أهمية في ذلك الصدد، ولذا، يجب توجيه قدر كبير من العون الذي تقدمه وزارات التعليم عبر وسائط الإعلام الجماهيري، إلى الأهل أيضاً، فينبغي الاستفادة من الرسائل الموجهة عبر الإذاعة والتلفزيون والرسائل النصية القصيرة، في تزويدهم بالنصائح والمشورة التي تعينهم على تقديم دعم أفضل لأبنائهم([8]).

فإذا ما قررت الهيئات التعليمية الاكتفاء بيومين دراسيين، فذلك ما كنا نبغ، فليكونا هما الزاد في البحث عن بُغيتنا، والوصول إلى هدفنا.   

فماذا بعد؟

لا بُدَّ من الاستعداد -من الآن- للدمج بين التعليم المباشر والتعليم الافتراضي؛ لتقديم مخرجات عالية الجودة، وفى هذا السياق فإن استراتيجيات التعليم المدمج تتطلب تطور شبكة الإنترنت وما توفره من وسائل مثل: بنك المعرفة، وخدمة الواتس، والمدونات والفيديوهات، والتسجيلات الصوتية، وكذا الاهتمام بدور الإذاعة والتليفزيون؛ لأن الإذاعة تصل إلى العدد الأكبر من الطلاب خاصة الذين يعيشون فى أطراف البلاد فى شمال وجنوب سيناء ومطروح وحلايب وشلاتين وغيرهم من المناطق النائية، وفى هذه الحالة يكون من المفروض على محطات الإذاعة والتليفزيون أن تدرك الدور المحوري المنوط بها، وتدفع باتجاه تحسين جودة برامجها الموجهة لخدمة العملية التعليمية، وفضلاً عن ذلك، فلا بُدَّ من العمل مع شركات الاتصالات لتطبيق سياسات تيسر على الطلاب تنزيل مواد التعلُّم على هواتفهم المحمولة بالمجان أو بأسعار رمزية، وتحديث البنية التحتية التكنولوجية، وتوصيل شبكة الإنترنت وشبكات المحمول إلى جميع المدن والقرى وخاصة فى جنوب البلاد وأطرافها وتمكين المعلمين من المهارات الرقمية، وندربهم على مهارات التعليم من بُعد، وتنفيذ التحول الرقمي فى المناهج وأساليب التقويم ([9]).

كما أن الأزمة التي يمر بها التعليم في ظل فيروس كورونا تتطلب من كل الدول أن يكون لديها نظام تعليمي إلكتروني يتطور مع ما يشهد العالم من تطور تكنولوجي مستمر معتمدًا على ما يوفره هذا التطور من إمكانات تفيد العملية التعليمية شأنها في ذلك شأن كل القطاعات الموجودة في المجتمع، هذا النظام تتم إتاحته في الأوقات العادية كأداة مساعدة، وكأداة أساسية في أوقات الأزمات والكوارث المناخية والطبيعية أو الصحية التي يصعب معها الاعتماد على التعليم النظامي التقليدي ([10]).

*****

الهوامش

([1]) من ذلك ما حدث مع جورج فلويد،‏ وهو مواطن أمريكي من أصل أفريقي، تُوفي في الخامس والعشرين من مايو 2020م في مدينة مينابولس، بولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك أثناء تثبيته على الأرض؛ بُغية اعتقاله من قبل شرطة المدينة، حيث قام ضابط شرطة منيابولس «ديريك تشوفين» بالضغط على عنق فلويد (بركبته)؛ لمنعه من الحركة أثناء الاعتقال لما يقارب تسع دقائق، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/5D73W

([2]) صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب ما يُنهى من دعوة الجاهلية، ح (3518)، ص 416.

([3]) مجتابي النمار: النِّمار: جمع نَمِرة، وهي الكساء من الصوف المُخطَّط، والاجتياب من الجوب، وهو القطع، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ [الفجر: 9]؛ أي: نحتوه وقطعوه، والمراد أن هؤلاء القوم لِفاقَتِهم ورقة حالهم لبَسوا أرديتهم، أو عَباءهم، وقد خرقوها في رؤؤسهم، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/qm4Na

([4]) صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو يشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، ح (1017)، ص 486.

([5]) تصريح مديرة اليونسكو حول جائجة كورونا، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ddsr

([6]) صحيح البخاري: كتاب العلم، باب من سُئل علمًا وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث، ثم أجاب السائل، ح (59)، ص 18.

([7]) عبد الكريم بكار: من أجل النجاح، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2010م، ص 13.

([8]) خايمي سافيدرا: “التعليم في زمن فيروس كورونا: التحديات والفرص”، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/sQWw1

([9]) الهلالي الشربيني: “التعليم قبل الجامعي في ظل جائحة كورونا: بين التحديات والاستراتيجيات”، البوابة نيوز،  22/6/2020م، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/xeb4H

([10]) جمال علي خليل الدهشان: “أزمة التعليم والتعلم في ظل كورونا : الأفق و التحديات”، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/PhWHw

فصلية قضايا ونظرات- العدد التاسع عشر – أكتوبر 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى