التجديد: رؤى وتجارب

مقدمة:

مضى عام آخر، وما زال نهر الحديث والكتابة عن التجديد يجرى، وهو كثير، وكذا الحديث فيه وهو أقل من ذلك بكثير، أما الفعل التجديدي فهو النادر. وتعترض التجديد محاولات التأميم والاختطاف والتسميم من أطراف عديدة داخل العالم الإسلامي وخارجه.
ففي بحر الثلث الأول من عام 2008 شهدت العواصم العربية خمس مؤتمرات متتالية باسم التجديد؛ بدءًا من مؤتمر الوسطية في دمشق, إلى منتدى تأصيل التنوير في عمّان, إلى مؤتمر الديمقراطية والعالم الإسلامي في قطر, إلى مؤتمر التنمية الإسلامية في الرباط, إلى مؤتمر الإصلاح العربي في الإسكندرية. وحشدت أبرز رجال العلم والدعوة في البلدان العربية لتأكيد حقيقة الحاجة المتنامية لتقديم خطاب تجديد للعقل والعالم العربي بعد سلسلة الإحباطات التي عاناها جراء انقسامه على ذاته واستهدافه من قبل أعدائه[1].‏
وربما تتبين سعة الاهتمام بالتجديد إذا ما قمنابتجربة بحث عن كلمةtajdid -هكذا منحوتة بالحروف اللاتينية- في محركات البحث على شبكة المعلومات ففي محرك بحث مثل Yahoo وجدت 355 ألف نتيجة بحث بين موقع وصفحة، وفى محرك البحث google نجد مليونًا و350 نتيجة. وبالبحث عن كلمة “التجديد” باللغة العربية في جوجل فسنجد مليوني نتيجة و170 ألفًا، وفي yahoo نجد ثلاثة ملايين و230 ألفًا، بين مقالات وندوات ومؤتمرات وصحف وإذاعة، وربما لن يمضى وقت طويل حتى تظهر محطة فضائية تحمل اسم “التجديد”، بالإضافة إلى مجلات بنفس العنوان في عديد من الدول العربية والإسلامية بلغات شتى منها العربية والفارسية والأوردية والتركية والمالاوية والإندونيسية. ولن تعدم حضورًا للكلمة في موقع معهد السلام الذي أنشأه الكونجرس، وهو أمر سنعود إليه فيما بعد.
وبعد كل هذا: هل من جديد يقال عن التجديد؟ هذا هو سؤال التقرير الذي يأتي ضمن حولية اختطت لنفسها أن تقسم أبوابها بين عدة عوالم: الأفكار والمؤسسات، الأحداث، وربما أحيانًا عالمي الأشخاص والرموز، وبالطبع هي ليست أقسامًا منفصلة بل متصلة. فالتجديد -بوصفه فكرة- يتصل أيضًا بجوانب مؤسسية وسلوكية وشخصية ورمزية، بما يستدعي الجدل حول ضرورة التجديد ودواعيه بالنظر إلى حال الأمة من قوة أو ضعف وما تصبو إليه من أهداف وغايات، وما يجرى فيها من أحداث على المستوى الداخلي والبيني والخارجي، فضلًا عن الحديث عن أشخاص الممارسين للتجديد أفرادًا ومؤسساتٍ والشروط الواجب توافرها لاعتبارهم كذلك، خاصة وقد بات كثيرون يدّعون وصلًا بالتجديد، ويهاجمون من يشير إلى أن التجديد لا يقر لمعظمهم بذاك.
ويركز التقرير على استبيان حال الوعي التجديدي بما يستلزم بيان الجدل القائم حول مفهوم التجديد وشروطه ومجالاته وتجاربه عبر العالم الإسلامي وكيف يحاول البعض هنا وهناك تسميم نبع التجديد. ونظرًا لما نلاحظه من كثافة الكتابة عن الحالة العربية وفعالياتها كالمشار إليها أعلاه، فيفصل هذا الرصد إلقاء الضوء على بقاع أخرى مكملة في شرق الأمة (ماليزيا وإندونيسيا وتركيا) وجنوبها (أفريقيا قارة الإسلام المنسية)، بالإضافة إلى محاولات لاستخدام شعار التجديد من قبل سياسات خارجية لدول غربية كالولايات المتحدة في التعامل مع العالم الإسلامي.

في مفهوم التجديد

والتجديد من المميزات الأساسية لرسالة الإسلام، ذلك أن من سمات الرسالة الخاتمة أن يتجدد عطاؤها الحضاري في كل عصر لأن التجديد في الإسلام يحتل المكانة التي كان يشغلها تتابع النبوات في الأمم السابقة باعتبار الإسلام دينًا صالحًا لكل زمن ومكان[2].
والتجديد قضية أساسية تفرد لها كل فلسفة مبحثًا من مباحثها أو أكثر لدراسة التجديد، إن لم يكن تحت هذا الاسم فتحت أسماء قريبة منه: التغيير، التقدم، التطور، الحداثة، حركة التاريخ، تطور المجتمعات، الثورة.
ويرى الدكتور محمد رمضان البوطي أن معنى التجديد يتبين جليًّا “إن وقفنا وقفة دراية وتدبر عند كلمة الدين. من المعلوم أن الدين هو الدينونة؛ أي الخضوع المطلق للمعبود بالحق، وهو الله عز وجل. ونحن إنما نعني هنا بالدين الدينَ الحقَّ الذي هو الإسلام. فالدين والدينونة وصف للإنسان، والتجديد مسلّط عليه؛ أي على الدين ذاته -على علاقة المسلمين بدينهم- لا على مبادئه وأحكامه.. وإنما يتمثل عمل من يبعثهم الله لتجديد الدين، إذن، في حمل الناس على تجديد بيعتهم لله، وعلى العود إلى الانضباط بهديه وأحكامه، بعد طول تفلت وشرود.. وعلى إصلاح ما تصدع من صرحه، وتمتين ما وهيَ من دعائمه، وسدّ ما تفتح من ثغرات في مفاهيمه، وتخريج أحكام المستجدّات من الحوادث والمصالح والأعراف، على كليات القواعد الفقهية، والمبادئ الأصولية وقواعد تفسير النصوص، دون أيّ عبث بها، ودون أي استجرار لها إلى ما تتطلبه الرغائب والأهواء، وحظوظ النفس ومغانم الدنيا”[3].
ويشير البوطي إلى أن “ما وراء ذلك مما ينعته كثير من الباحثين والكاتبين في هذا العصر بالتجديد، ليس في الحقيقة إلاّ الاستبدال الذي حذر منه رسول الله وأوضح في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سلّم على أهل البقيع، ثم قال: وددت لو أني رأيت إخواننا.. إلى أن قال: (ألا ليذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضالّ، فأقول: ألا هلمّ، ألا هلمّ، فيقال: إنك لا تدري كم بدّلوا من بعدك، فأقول: فسحقًا فسحقًا فسحقًا). ويحذر من أن “أكثر الدعوات المهتاجة اليوم في عالمنا العربي والإسلامي، إنما هو إلى الاستبدال به لا إلى تجديده، وإنه غطّي ذلك بكلمات التجديد ونحوه”[4].
وفى بيان أسباب هذا التبديد يقول: “والدافع المحرك إلى ذلك إنما هو مزيج من عوامل شتى، منها التبرم بالقديم لأنه قديم، ومنها التطلع إلى التفلت من ضوابط الدين وأحكامه، تحقيقًا لما تهفو إليه النفس من الرغائب والأهواء والتقلب في حمأتها على نحو ما هو جارٍ في المجتمعات الغربية الآسنة… ومنها الاستجابة للملاحقات الخفية التي تتسرب من أقطاب الغزو الفكري في الخارج إلى أقطاب من عملاء لهم في الداخل. أما العامل الكلّي الكبير الذي تتفرع عنه هذه العوامل التي أشرت إليها، فهو عامل فكري اعتقادي، يتمثل في أن رجال هذه الدعوة إنما يفهمون الإسلام على أنه مجموعة أنظمة فوقية أنتجتها أدمغة عربية في غابر الأزمان، ثم طال عليها العهد واستنفدت كل ما كان فيها من مبررات عائدة إلى طبيعة ذلك العصر”[5].
ومن ناحيته يرى الدكتور محمد راتب النابلسي أنه لا يختلف اثنان في العالم الإسلامي على وجوب التجديد في طريقة العرض والأسلوب. في الدين قيم ثابتة، ومبادئ ثابتة، سمِّها إنْ شئت الثوابت، هذه مغطاة بنصوص قطعية الدلالة، وفي الإسلام متغيرات مغطاة بنصوص ظنية الدلالة، هي محلُّ الاجتهاد، ومحلُّ التجديد والتطوير، والمشكلة أننا مكلَّفون أن نتبع في عقائدنا وعباداتنا، وأنْ نبتدع في دنيانا، الذي حدث أننا ابتدعنا في عقائدنا، وفي عباداتنا، وقلّدنا في دنيانا، فكنا في مؤخرة الأمم[6].
والأمة الإسلامية في أشد الحاجة إلى التجديد، فحال هذه الأمة وثقافتها الراهنة كما يصورها الدكتور على جمعة قد أضحى “أشبه بسيارة قد غرزت في الوحل، وليس إخراج هذه السيارة من الوحل هو كل شيء. فإننا عندما أردنا أن نخرجها وجدناها مكبلة بالكوابح، وعند فك هذه الكوابح وجدناها قد صدأت في أجزائها، وعندما جلونا الصدأ عنها وجدناها معطلة تحتاج إلى إصلاح فني، وعندما أصلحناها وجدناها من غير وقود، فلما اجتهدنا وجئنا بالوقود اكتشفنا أنه لا يوجد سائق قائد لها، وعندما أوجدنا السائق… لم يكن يعرف الاتجاه ولا الطريق فسار بنا في متاهة، وكلما رأى شيئًا ظنه هو الطريق الصحيح فسار فيه ثم رجع، فضاع الوقت، وأظلم الليل فازدادت المتاهة وازداد الإجهاد به وبنا… فهل من مخرج معقول؟ هذه الأزمات نمارسها سويًّا الآن ونعيشها: فمنا من هو في مرحلة الغرز، ومنا من هو في مرحلة الكوابح، ومنا من هو في مرحلة الصدأ، ومنا من هو في مرحلة العطل، ومنا من هو في مرحلة فقد السائق أو فقد الطريق أو الإجهاد المزري”[7].
هذه هي سباعية الأزمة: الوحل، والكوابح، والصدأ، والخلل، والعجز، والمتاهة، والانبهار. تستدعي في مواجهتها سباعية مجدّدة؛ ولعل من أطروحاتها الجديرة بالعناية سباعية الرؤية والوعي والسعي كما فصلها د.سيف الدين عبد الفتاح والتي تمثل جماع الرؤية الإسلامية للنظر والبناء معًا وتتألف من: عقيدة دافعة، وشرعة رافعة، وقيم حاكمة، وأمة شاهدة جامعة، وحضارة فاعلة، سنن قاضية، ومقاصد حافظة[8]، وهي لا شك تشير إلى المكونات الكبرى للعقل المسلم ومواطن التجدد الحضاري.
ويمكن أن تصل بهاتين الرؤيتين سباعية نونية تتعلق ببناء النموذج المعرفي اللازم للتجدد الحضاري: الرحمن، والميزان، والإنسان، الزمان، والمكان، والبنيان، والعمران[9]. فالتجديد يرتبط بهذه المنظومات: وصفًا وتحليلًا وتفسيرًا، ونقدًا وإصلاحًا وبناءً، فهو تجديد للعلاقة مع الدين من مادته ومن داخله، وتجديد للعلاقة مع الدنيا ومستجداتها.
وقضية التجديد قضية قيمية في أساسها، ويحمل مصطلحه بريقًا خاصًّا؛ بحيث إن أي تيار فكري يحرص أن يراه الآخرون ممارسًا للتجديد، بل حتى أشد التيارات جمودًا تدّعي التجديد، وأكثرها تفريطًا تبرر تفريطها باسم التجديد[10].
ويشير د.سيف الدين عبد الفتاح إلى أن مَن يتبنون الرؤيةَ الغربية في التجديد يتصورون التجديد على أنه “انحياز للجديد بصورة دائمة، وأنه تجاوز مستمر بحيث صارت الحدود الفاصلة بين الثابت والمتغير غير واضحة المعالم إن وجدت أو لا توجد بالكلية”[11]، في حين أن التجديد والاجتهاد مرتبطان “بضبط التوازن بين المطلق (الوحي) والنسبي (الواقع) وليس بإخضاع المطلق للنسبي[12]. فالإسلام بالتوحيد توحيد للروح والجسد، ومسئولية بالاستخلاف والأمانة، والعمارة للكون، وفعالية اجتماعية بنظام الحقوق والواجبات الذي تغذيه علاقات الفضل والعفو والصفح[13].
ويشير د.طه عبد الرحمن إلى تضافر البعدين الإلهي والإنساني في مفهوم التجديد في منظور الإسلام؛ فهو ليس هو مجرد التشييد للصرح الدنيوي من حظوظ خاصة ومصالح مشتركة، بل هو أشرف من ذلك درجات، نظرًا لأنه يطمح لتشييد علاقة الإنسان بربه، ولا هو مجرد التغيير في الوعي السياسي للأفراد، بل هو أوسع من ذلك درجات؛ لأنه ينزع إلى تغيير الإنسان بوصفه كلًا متكاملًاُ[14].
وفيما يتعلق بشروط تجديد الفكر الديني الإسلامي يذهب طه عبد الرحمن إلى أن “هذه الشروط تتوقف على التقدير السليم لأبعاد الحقيقة الدينية، فليس الدين كما يزعم البعض سلوكًا يتعلق بدائرة شخصية محدودة من دوائر الممارسة الإنسانية المتعددة، وإنما هو منهج كامل يحيط بكل فعاليات الإنسان في تكاملها وتعلق بعضها ببعض، مهما تجردت معانيها، أو على العكس من ذلك تجسدت مظاهرها. لذا، يجب أن تأخذ شروط تجديد الفكر الديني في الاعتبار صفتى الشمول والتكامل المميزتين للحقيقة الدينية، بحيث لا يبقى جانب من جوانب حياة المسلم خارجًا عن مراعاة الحقوق الدينية فيه”[15]. وهو يرى أن من الشروط العملية للتجديد “الإخلاص: فتحصيل الإخلاص هو الأصل في تحصيل كل سلوك نافع؛ لأن الإخلاص هو إشهاد الحق تعالى على العمل الذي أتى به، حتى يتولاه بالتسديد، فلا يعرض له الباطل ولا يدخل عليه الإحباط. ومن أشهد الحق سبحانه على عمله، زهد في مصالحه الضيقة، فبورك في عمله وانتفع به غيره”[16]. والعلوم أيًّا كانت، ينبغى أن تخدم الشرع من جهتين، إما باعتبارها كاشفة عن المقاصد الشرعية، وإما باعتبارها ضابطة للوسائل التي تمكن من الكشف عن هذه المقاصد الشرعية[17].

المجددون: مفعِّلون وحرَّاس لا مدّعون ومبددون

يشير المستشار طارق البشرى إلى الحاجة إلى كل من مُثيري التفاعل وحراس الحدود داخل الفكر الإسلامي، مع تأكيده إلى أن الحاجة إلى مثيري التفاعل أكبر لأن القدرة فيهم أشد[18]. وربما كانت الحاجة إلى الاثنين في نفس درجة الأهمية في بعض الظروف. خاصة إذا كثرت محاولات التبديد لا التجديد. فالتجديد بحاجة إلى من يدعو لتجديد الفقه وأصوله (د.جمال الدين عطية ود.أبو يعرب المرزوقى) ومن يرى أن ذلك يحتاج تريث وخبرة (د.وهبة الزحيلى ود.محمد سعيد البوطي)[19].
ويرى محمود شاكر أن “التجديد لا يمكن أن يكون مفهومًا ذا معنى إلا أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حية في نفوس أهلها، ثم لا يأتي التجديد إلا من متمكن النشأة في ثقافته، متمكن في لسانه ولغته، متذوق لما هو ناشئ فيه من آداب وفنون وتاريخ، مغروس تاريخه في تاريخها وفي عقائدها، في زمان قوتها وضعفها، ومع المتحدر إليه من خيرها وشرها، محسَّا بذلك كله إحساسًا خاليًا من الشوائب. ثم لا يكون التجديد تجديدًا إلا من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة المعقدة التي تنطوي عليها هذه الثقافة، وبين رؤية جديدة نافذة، حين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه، من خلاله يستطيع أن يقطع تشابكًا من ناحية، ليصله من ناحية أخرى وصلًا يجعله أكثر استقامة ووضوحًا، وأن يحل عقدةً من طرف، ليربطها من طرف آخر يزيدها قوة ومتانة وسلاسة”[20].
وهو يرى أن “التجديد إذن حركة دائبة في داخل ثقافة متكاملة، يتولاها الذين يتحركون في داخلها كاملةً، حركةً دائبةً، عمادها الخبرة والتذوق والإحساس المرهف بالخطر، عند الإقدام على القطع والوصل، وعند التهجم على الحل والربط”[21]. محذرًا من أنه “إذا فُقد كل ذلك، كان القطع والحل سلاحًا قاتلًا مدمرًا للأمة ولثقافتها، وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكك والضياع، إذ يورث كل جيل منها جيلًا بعده، ما يكون أشد منه حيرة وتفككًا وضياعًا”[22].
ويستمر شاكر فيقول “هذه هي العاقبة التي تفرض نفسها فرضًا، وما أبشعها من عاقبة. فما ظنك إذن بالعاقبة، إذا كان القطع والحل مرادًا لذاته، وكان مرادًا أيضًا أن لا يكون معه وصل في داخل التكامل والتماسك الذي يجعل لهذه الثقافة معنى وحياة وحركة؟ وما ظنك بالعاقبة إذا كان هذا، ولم تكن الأفكار “المجدِّدة ” إلا ترديدًا لصياغة غربية، صاغها غريب عن الثقافة، منتسبٌ إلى ثقافة غازية مباينة، وهو مع ذلك ناقص الأداة، لا خبرة له بتشابكها وعقدها، ثم هو في نفسه لا يضمر لها إلا التدمير والاستهانة، لغرض راسخ في قرارة النفس؟ ثم ما ظنك بالعاقبة إذا صار التجديد عند أصحاب الثقافة أنفسهم، لا يزيد على أن يكون “سطوًا” مجردًا على هذه الصيغ الغربية، ثم إقحامها على ثقافتهم، لا لحاجة أدى إليها النظر والفكر والتدبر، بل الهوى وحب الظهور من مُفَرَّغ، أو من شبيهٍ بالمفرَّغ من ثقافته المتكاملة المتماسكة؟ ما أبشع العواقب عندئذٍ، وأبشعها التدهور المستمر”[23].
فهو يؤكد على تجديد الحي، بالمتمكن المتذوق المغروس في تاريخ أمته المهموم بمستقبلها الحساس (والإحساس نعمة) الذي يعد دينه وثقافته أغلى عنده من الحياة كمن لديه سجادة عزيزة عليه حريص عليها لا يفك ولا يحل عقدة إلا ليشبكها ويربطها مرة أخرى لتصبح أكثر بهاءً تماما كما كانت يوم أن أنعم الله عليه بها.
والأمر ليس كذلك مع المفتونين بالتفكيك لمجرد التفكيك، إذا أحسنا الظن بهم، وهم لا يرقون لمرتبة الأطفال المولعين بتفكيك اللعب رغبة في الاستكشاف يدفعهم حب استطلاع فطرى، لكن الأطفال حريصون على تركيب ما فكوا وهم لا يفكون إلا رغبة في معرفة كيف تعمل اللعبة، وما أشد بكائهم أن فشلوا في إعادة التركيب.
ومدّعو التجديد يفتقدون أدنى مستويات الإلمام بما يدعونه من آليات مستوردة يستخدمونها في قراءة التراث، بل والقرآن والسنة النبوية، وينطبق عليهم ما ينتقده فيهم طه عبد الرحمن من أنهم:
1- لم يبرهنوا على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة، من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة، فضلًا عن أن يبرهنوا على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجراءاتها.
2- لم يمهدوا لإنزال هذه الآليات العقلانية على التراث بنقد كاف وشامل لها، حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية.
3- لم يجروا النقد على العقلانية المعاصرة من حيث هي اختيار منهجي مخصوص، لا سيما أن المراجعة قد أخذت تتطرق إلى هذا الاختيار، وأن حدوده أخذت تفقد دقتها ووضوحها في موطنه الأصلي عند من وضعوا أصوله ورتبوا مسائله[24].
ثم يؤكد أن “من يترك نقد أداة لم يتول بنفسه صنعها، فلا يبعد أن يكون هذا الترك راجعًا إلى عدم التمكن منها؛ ومن لم يتمكن من الأداة التي يعمل بها، لا يبعد أن يسيء استعمالها”[25].
كما أن معرفتهم بالتراث ضحلة تقتصر على قراءة بهراتية، بمعنى تتبع الغرائبي الاستثنائي المتعلق بالجسد من أخبار القيان والغلمان في الأغاني للأصفهاني، أو تقتصر في أغلب الأحيان على قراءة غير واعية لأحد شوامخ تراثنا مثل ابن رشد، ليصبح بعضهم بعد ذلك قيمًا وحارسًا على ابن رشد مدعيًا أن الأمة قد ضلت عندما اتبعت الفقيه الغزالى وتركت الفيلسوف ابن رشد ويقسم الأمة بعد ذلك إلى رشديين وغزاليين، وهي قسمة ضيزى، فابن رشيد فقيه وقاض وفيلسوف، كما أن الغزالي فقيه وفيلسوف.
ولا يعترفون بتقصيرهم في قراءة التراث كما فعل زكى نجيب محمود بشجاعة وأمانة. وهذا اقتباس طويل من الزكي النجيب زكى نجيب محمود كتبه منذ حوالي أربعين عامًا (الطبعة الأولى للكتاب كانت عام 1971)، فيه تظهر روح المفكر الذي يتمتع بأعلى درجات التواضع الشجاع، وهو من هو في درجته العلمية وإسهامه الفكري وراءه تاريخ من الإنجاز والمواقف، لم يمنعه كل ذلك من الاعتراف بعدم اطلاعه على التراث:
“لم تكن أتيحت لكاتب هذه السطور في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل،فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي- قديم أو جديد- حتى سبقت خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه؛ ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه السطور أعوام بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب الفكر الأوروبي، دراسته وهو أستاذ، الفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ؛ وكانت أسماء الأعلام والمذاهب لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي كم نأخذ من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد؛ إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رصت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت بالمئين؛ لكن لا، ليست هذه هي المشكلة وإنما المشكلة أن نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه الموائمة أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقولك هذا شكسبير قائم إلى جوار أبى العلاء؛ فكيف إذن يكون الطريق؟
استيقظ صاحبنا –كاتب هذه السطور- بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تورقه، فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان، كأنه سائح مر بمدينة باريس، وليس بين يديه يومان، ولا بد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقى بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل؛ هكذا أخذ صاحبانا- وما يزال- يعب صحائف التراث عبًا سريعًا، والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا يندمج فيه المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟ “[26]
والمقارنة ليست واردة مع هواة –بعضهم حواة- بضاعتهم من معرفة الفكر الغربي والتراث والفكر العربي الإسلامي لا تتجاوز الاطلاع على الصحف السيارة وترديد أسماء بعض المفكرين الغربيين والمذاهب الفكرية الغربية، أو في أحسن الأحوال اقتصار على الإلمام غير المتعمق بخلفيات هذا الفكر والاكتفاء بترديده بوعي أو بغير وعي، ناهيك عن من يكيل الاتهام للتراث دون أن يطلع عليه ثم يدعو بعد إلى “القطيعة المعرفية “؛ هكذا قطيعة معرفية مع ما لا يعرف. هذا عن بعض أكابر هؤلاء، أما أصاغرهم فينعون على الشافعى جنايته على أصول الفقه، وأغلبهم يقر بعدم فهمه لكثير مما كتبه الشافعى في “الرسالة” ناهيك عن من لا يعرف كيف يتصفح مجرد التصفح مثل هذه الأسفار. ولن تعدم من يجعل بريده الإلكتروني ابن رشد 2020 على أمل غرور بأنه سيصبح ابن رشد الجديد بمجيء عام 2020.

أسئلة التجديد

يطرح المرجع الشيعي محمد مهدي شمس الدين ما يعتبره أسئلة التجديد في مقدمة كتابه “الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي”، طرحًا من المهم مطالعته وتأمله، فيتساءل:
– “هل التجديد في التاريخ، في الفقه، في نظام القيم حركة خارج الدليل أم داخله؟ هل هو عملية توفيقية بين المسلمات ومتطلبات الواقع المعاش تؤدى إلى بتر تلك المسلمات عن جذورها لإيهام تكيفها مع الواقع، أم هو إعادة تأصيل وتجذير لتلك المسلمات بأفق أوسع ونظرة أكثر عمقًا وأكثر شمولية، تلحظ خصوصيات الظرف في ما يناسبه ذلك، وتلتزم بالإطلاق في غير ذلك، من خلال ضوابط وموازين وأصول محددة يعاد على أساسها قراءة الدليل وتحليله وصياغته وترتيب آثاره وفرز العناوين وترتيبها واستخراج ما هو ثانوي، والتفريق بين المستجدات في كونها مصاديق للعنوان الأول أو للعنوان الثاني، وإخضاع المستجدات لنتائج البحث النظري؟
– هل التجديد عملية فكرية دائمة ومستجدة، أم موقف أخلاقي تفرضه تطورات المرحلة، أم موقف شخصي تقتضيه الأطماع والطموحات؟
– هل التجديد هو استمرار متطور للتاريخ، وإبداع يستمد من الأصالة، أم انقطاع عن التاريخ وخروج عليه وتخلٍ عن الجذور؟
– هل التجديد حل مرحلي مقيد بوطأة الزمان والمكان، أم حركة رعاية دائبة للنتاج الإنساني بين البداية والغاية، تقتضى التصحيح والتصويب حينًا، والخلق والإبداع حينًا آخر؟
– هل يمكننا أن نحاكم التشريع الإلهي كما نحاكم التشريع الإنساني، فنطلق للعقل الفردي أو للعقل العادي الحرية في صياغة الفكرة وصناعة القرار، أم لابد من رعاية حدود و قيود تجعل تلك الحرية، مهما اتسعت آفاقها ومجالاتها، تستمد من عقل مطلق أعلى، ونبع أصفى وأنقى، يمنهج الفكر، ويثرى المعرفة، ويوسع المدارك؟
– هل التجديد في الدين والتاريخ الديني كالتجديد في تراكمات النتاج الإنساني البحت، يمتلك فيه الإنسان الحق في القفز على الالتزامات، وحرق المراحل، ما دام هو فكره وتاريخه المنفصل عن الغيب، أم لا بد من إخضاعه لمعادلة متوازنة بين الزمني واللازمني، بين التاريخ والغيب، تحفظ للفكر الإنساني دوره في كونه امتدادا للحكمة الإلهية، وللتاريخ الإنساني موقعيته في كونه صلة بين حقائق التكوين والهدف من التكوين في حركة التطور الحضاري ؟
– هل التجديد حركة نظرية بحته، لا تتحمل مسئولية التغيير العملي، لتترك الشخصية متأرجحة بين التمسك اللاواعي بالجذور وتلقى الطارئ بروح الانفعال ومنهج التبرير، مما يؤدى إلى الوقوع في فخ الازدواجية المدمرة التي تدخل الأمة في التيه بين المنطلقات والأهداف، وآلية التطوير والموقع الحضاري، كما كان عليه الحال في معظم التمظهرات الفردية والمؤسساتية في المراحل السابقة من تاريخنا المعاصر، أم حركة ممرحلة تتحمل مسئولية تحويل النظر إلى إنجاز يصوغ الواقع على أسس تحفظ للشخصية توازنها ووحدتها، من خلال التمسك الواعي بالجذور، وتلقى الطارئ بروح الانتقاد، فتجعل من الفكر مؤسسة ثقافية تتغلغل في ثنايا الأمة لتولد تشكيلاتها، وتنتج مؤسساتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية التي تؤمن للأمة استمرارها التاريخي المنتظم، وتطور ها المنسجم، وتفاعلها المميز في دوائر الصراع والمنافسة الحضارية؟[27].

وعبر كتابه يشير إلى أن التجديد لا يحدث قطيعة مع الدين وإنما تواصل واتصال، تجديد لا يستخدم الدين لنقض الدين. بل يمزج بين التجديد البنائي والدفاعي، تجديد لا يقتصر على حماية الجماعة وصيانتها بل وأيضا بنائها.
ويذهب البعض[28] إلى أن التجديد قبل كل شيء “مخاطرة” تحتاج للكثير من المؤهلات وللكثير من التضحية وأن التجديد في خطاب التجديد يعني مسبقًا “سقوط هيمنة التراث وهيبته والشعور بالندية معه”. واعتبار التجديد مخاطرةً تستلزم زوال هيبة التراث يتناقض مع يراه شمس الدين من أن التجديد مسئولية مِن بين سماتها التمسك الواعي بالجذور، وتلقي الطارئ بروح الانتقاد، وليس التمسك اللاواعي بالجذور وتلقي الطارئ بروح الانفعال ومنهج التبرير، وهو ليس عملية توفيقية بين المسلمات ومتطلبات الواقع المعيش تؤدي إلى بتر تلك المسلمات عن جذورها لإيهام تكيفها مع الواقع، بل تجذير لتلك المسلمات بأفق أوسع ونظرة أكثر عمقًا وأكثر شمولية، تلحظ خصوصيات الظرف فيما يناسبه ذلك، وتلتزم بالإطلاق في غير ذلك، من خلال ضوابط وموازين وأصول محددة يعاد على أساسها قراءة الدليل وتحليله وصياغته وترتيب آثاره.
ويركز مرجع شيعي آخر، الشيخ حسين فضل الله، على السياق التاريخي الذي يحيط بالعملية التجديدية فيرى أن “مشكلتنا أننا نعيش في الحمى التي صنعتها الأحداث وحوّلتنا إلى فئات مقهورة مظلومة تجتر هذه المقهورية والمظلومية، فنتحرك حركات عشوائية. فالحركات الإسلامية تعيش في غالبيتها مشكلة نفسية أكثر مما هي مشكلة معرفية أو حركية”. ولا تلتقي إشارة فضل الله إلى المشكلة النفسية مع ما يراه رضوان زيادة من أن التجديد “مراهنة سيكولوجية”. فالمعضلة عند فضل الله هي أن الحركات الإسلامية “كفت عن الإبداع وكفت عن تغيير مناهجها”[29]، فالتجديد يقتضي إبداعًا ومنهجية، وكلاهما ليس مراهنة أو مغامرة أو مخاطرة.

مجالات التجديد

وجه علال الفاسي من بحثوا عن التجديد البنائي في إحياء التصوف أو تجديد الفلسفة إلى مجال الفقه الإسلامي واعتبر توجههم إلى غيره مخالفة للصواب[30].
وفى مجال تجديد علم الكلام يؤكد د.محمد السيد الجليند إلى أننا “في حاجة إلى علم كلام يخاطب الداخل ليبين أن الحرية في الإسلام فريضة تحتاج إلى من يدافع عنها ويبرهن على أنها فريضة دينية… أن الحرية بالعبودية لله لا تتحقق إلا إذا تحرر العبد من عبودية العباد، وأن العدل أساس الحكم, وأن الخلل في إحياء الحضارة الإسلامية يرجع إلى الخلل الذي أصاب مبدأ العدل في نظام الحكم، وأن المساواة فريضة دينية كالعدل والحرية. وبالثلاثة تستقيم أمور الممالك وتنتظم الحكومات. نحن بحاجة إلى علم كلام يخاطب الداخل أولًا بأن مبادئ الاجتماع البشري المسلم ينبغي أن تؤسس على قيم الإسلام ومبادئه من الصدق والعفة والأمانة والوفاء”[31].
هذا، بعيدًا عن تجديد مزعوم يعتبره البعض نارًا قد خمدت بالفعل، وإعادة الروح إلى شأن غادر الحياة، حجب نصاعة العقيدة الإسلامية الواضحة وضوح الشمس في شبكة غائمة من الآراء والمذاهب العقيمة، التي وصل بأصحابها الحال إلى أن يبحثوا مشكلة المعدوم، هل يمكن أن يُسمى شيئًا [32]. ومن الأفضل أن يتمثل التجديد في علم لكلام في الرد العقلي المقنع على الدعاوى والافتراءات التي يواجهها الإسلام في الداخل والخارج، وهذا يتضمن إجادة لغة أجنبية واحدة على الأقل، وإتقان اللغة العربية، وبالطبع التسليم قبل ذلك بالمعرفة الإسلامية الصحيحة من القرآن الكريم والسنة النبوية والإلمام بما يجري من محاولات النيل من الإسلام[33].
وفى مجال تجديد أصول الفقه يقول د.علي جمعة: “نحن نريد لعلم أصول الفقه أن ينمو وأن يزيد، لا أن نبدأه من جديد مبطلين لكل ما ورثناه بلا داعٍ اللهم إلا داعي الأهواء والظنون”. على أن يكون التجديد بالأصول؛ متمثلة في المثلث الأصولي: المصادر وطرق البحث وشروط الباحث، وأن يكون أساسًا يستفيد منه الباحث الاجتماعي والإنساني، مؤكدًا على أن “توليد العلوم وتوليد الحضارة منها على مقتضيات العصر الذي نعيشه هو الأصل في تجديد الخطاب الديني، بعيدًا عن الجهالة وعن الأماني وعن الآمال التي قد تخطر ببالنا مع كسل مريع عن تحصيل العلم”؛ موضحًا أن “السقف المعرفي للتجديد في أصول الفقه هو صريح النص والإجماع والرؤية الكلية والعقائد الإيمانية ومصالح الخلق واللغة العربية”[34].
أما التجديد السياسي في الرؤية الإسلامية فهو يعني تقويم الانحراف وإحياء الأصول ومواجهة المسائل المستحدثة دون إفراط أو تفريط أو استظهار في كل ما يتعلق بمجال السياسة، وبما يمكّن من إصلاح حال الأمة وإحداث نوع من التغيير لعناصر الرابطة الإيمانية السياسية: فكرًا ونظمًا وحركة[35]. ذلك لأن الفكر السياسي هو دائمًا علاقة تفاعل بين تأمل وواقع، وإذا كان التأمل يعكس النبوغ الفردي والحساسية الذاتية، فإن الواقع ترجمة للمعاناة اليومية من خلال الممارسة ونتاج هذا التفاعل هو “تجديد للمفاهيم وتصحيح للأوضاع وتطوير للنظم”[36].
وعلى صعيد آخر من المهم الإشارة إلى تطور فكري يعتبر القرآن الكريم مرجعية للخطاب النهضوي سواء كانت أفكار العمل علمانية (ماركسية أو ليبرالية) أو أسلامية. فالقرآن الكريم حاجة كل (عربي) في ميادين الحضارة الإنسانية كلها. والأفكار القادرة على التغيير هي الأفكار الواقعية؛ أي الأفكار التي تنبع من الواقع، وتستدعيها أمراضه وجذور الخير فيه[37].
المقصود بالتجديد التفعيل والتحريك؛ ويكون هذا بإحكام ربط الدين بالواقع النامي المتحرك فعندها يتجدد -بمعنى يتفعل ويتحرك وينمو- دين الأمة؛ أي تدينها أو علاقتها بالدين نتيجة هذا الربط والتفعيل.

التجديد عبر الأمة

يلاحظ البعض بروز دعوة لاستصحاب التجارب الإسلامية غير العربية في التجديد الديني، بدعوى الخروج عن المركزية العربية التي يحملها البعض قدرا لا بأس به من مسئولية تعثر خطاب التجديد وحركته، وكان من أبرز ما حمل هذه الفكرة المؤتمر الذي نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع شبكة الإسلام الليبرالي بإندونيسيا بدعم من المفوضية الأوروبية عام 2006 والذي حمل عنوانا مباشرا واضح الدلالة: (حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني: كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي).[38]
إنهاء ” المركزية العربية ” في فهم النص والاجتهاد معه، دعوة تبدو وجيهة لأن الإسلام رسالة الله إلى الناس كافة وليست للعرب وحدهم وأن مسيرة الاجتهاد الإسلامي شاركت فيها بسهم وافر أمم وشعوب غير عربية، إلا أن هناك ما يثير القلق من إطلاق القول بذلك دونما الاحتراز إلي أن ثمة مركزية عربية لا يمكن تجاوزها مهما تحدثنا عن التعددية في فهم النص واختلاف منظورات مقارباته.. فالقرآن كنص عربي ونزل بلسان عربي مبين ولا يمكن القفز علي مركزية عربية النص.. وليس هناك ما يثير القلق من أن تعكس هذه المركزية تعصبا عربيا إذا ما اعتمدنا التعريف النبوي للعربية باعتبارها معطى ثقافيا وليس عنصريا (قوله صلي الله عليه وسلم: ألا إنما العربية اللسان).
ويضيف الباحث حسام تمام أن الحديث عن تجديد ديني أو اجتهاد أصيل في التعامل مع النص القرآني العربي يبدو ناقصا من دون الحديث عن مركزية عربية لا يمكن لأي اجتهاد أن يتجاوزها، مؤكدا أن التجديد في الإطار العربي (بالمعني الثقافي) هو الخبرة التي تتحقق فيها أهم شروط التجديد المرتجي، على الأقل بالنظر إلى المجتمعات الإسلامية غير العربية التي لا تستطيع– حتى على مستوى النخبة- التعامل المباشر مع النص، وتبقى قراءاتها واجتهاداتها مرتهنة بشكل من أشكال التقليد لإمام أو مجدد لا تستطيع منه فكاكًا[39].
كما أن النماذج التي تقدمها هذه الدعوة حتى يتم الانفتاح عليها والاقتباس منها تأكدت الشكوك التي تحيط بالفكرة ومقصودها. فمن المؤكد أن المقصود بالخبرة ليس مطلق الخبرات الإسلامية غير العربية، فخبرة أبي الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية لن تكون محل ترحيب وإنما هي خبرات مقارباتها الأساسية هي التعايش السلمي والقبول بالآخر الديني والتركيز على التقدم والتنمية الاقتصادية دون الدعوة أو الجدل العقائدي.. ورغم وجاهة هذه المقاربات إلا أن الإحالة على هذه النماذج لا يخلو من التحايل والتضليل[40].
فالخبرات التي يحال إليها لا تكمن أهميتها -لدى من يستدعيها- فيما تقدمه من مقاربات في التعايش والقبول بالآخر والتسامح الديني (وهو ما يستحق الحفاوة في كل الأحوال) بقدر ما تكتسب أهميتها في كونها لا تتقاطع مع أفكار الجهاد والمقاومة والاستقلال الحضاري، وأنها تتعايش حد التوافق مع النموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي ولا تبحث عن بديل له ولو نظريا فضلا عن أن تسعى لمواجهته، بل هي نماذج -في مجملها– متوافقة مع السياق العام، والأهم من ذلك أن مقارباتها لفكرة الدين نفسها تبدو متقاطعة مع الغرب إن لم تكن متماهية معه تماما فلا ترى إصلاحا دينيا ممكنا إلا عبر الطريق الذي سارت فيه حركة الإصلاح الديني في أوربا ورسمت معالمه[41].
ويلاحظ استدعاء الخطاب الحقوقي العلماني لخبرة “جمعية أخوات الإسلام” الماليزية (وليس اتجاهات أخرى مثل الحزب الإسلامي الماليزي أو جماعة إصلاح ماليزيا..مثلا) فهي تمثل خروجا على التقليد الإسلامي السائد والمستقر يمكن أن نتصور حدوده إذا ما علمنا أن من أنشط أعضاء هذه الجمعية أمينة ودود التي دعت إلى إمامة المرأة وكانت أول امرأة تؤم الرجال في صلاة الجمعة الشهيرة بالولايات المتحدة، وهي جمعية تجسد إمكانية مزواجة مطلوبة بين الإسلام والمنظومة الليبرالية الغربية[42].
وأهمية الخبرة الإندونيسية –التي مثلتها شبكة الإسلام الليبرالي- في كونها قطعت أشواطا في مسيرة التحديث الديني متأسية بتجربة الإصلاح الديني في أوروبا، فهي تقطع تماما مع المنهجية السنية الأصولية في التفسير وعلوم القرآن وتحتذي المنهجيات الغربية بديلا عنها بما جعل المقاربات الحداثية للنص القرآني هي الأكثر رواجا وانتشارا في إندونيسيا التي يمكن القول أنها صارت السوق الأوسع لكتابات نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمد شحرور وجمال البنا.. وكل المفكرين الذين اعتمدوا المناهج الحداثية الغربية في مقاربة النص ولفظتهم المنظومة السنية الأصولية السائدة[43].
وهو يرى أن هذه الدعوة على وجاهتها وحسن نوايا من ينادون بها لا تبعد كثيرا عن المشروع الأمريكي لإعادة هيكلة المنطقة العربية دينيا وذلك عبر تفكيك المنظومة الدينية السائدة في مجتمعاتنا العربية الأكثر عصيانا وممانعة والأكثر إيغالا في حركة المقاومة المضادة للمشروع الأمريكي[44].

· التجديد في ماليزيا: الإسلام الحضاري

طرح رئيس وزراء ماليزيا عبد الله أحمد بدوي مشروعًا لنهضة الأمة على هدي تعاليم الإسلام؛ وذلك من أجل استعادة دور الحضارة الإسلامية، ويسمى هذا المشروع بـ”الإسلام الحضاري”(Civilizational Islam/ Islam Hadhari)، وهو اصطلاح يقصد به المنهج الحضاري الشامل لتجديد الإسلام في ماليزيا، ويستخدم كمحرك للأمة نحو التقدم والتطور والريادة الإنسانية[45].
ويهدف هذا المشروع لتقديم الإسلام بمنظوره الحضاري باعتباره دينًا يشمل كافة جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويلبي متطلبات الروح والبدن والعقل، ويعالج قضايا الفرد والجماعة والدولة. كما يعرض هذا المشروع منهجًا شاملًا ومتكاملًا للعمل بالإسلام على نحو يميزه عن مناهج الدعوة والعمل الإسلامي كالصوفية والحركات الإسلامية السياسية، فضلًا عن جماعات العنف والتكفير.
يعرّف رئيس وزراء ماليزيا مشروع الإسلام الحضاري فيصفه بأنه: “جهد من أجل عودة الأمة إلى منابعها الأصيلة، وإعطاء الأولوية للقيم والمعاني الإسلامية الفاضلة لكي توجه الحياة وترشدها”، ويحدد مبادئه العشرة في الآتي[46]:
1- الإيمان بالله وتحقيق التقوى: وذلك لأن الإيمان بالخالق هو العامل الأساسي في الاستخلاف وعمارة الحياة، بينما تقوى الله تفضي إلى جليل الأعمال وأحسن الأخلاق وأعدل العلاقات بين الناس. وبالتالي لا يقتصر دور هذا المبدأ الإيماني على تزكية الروح وتنقية المعتقد وتصحيح العبادة، وإنما يتعداه إلى العناية بالسلوك وأعمال الجوارح.
2- الحكومة العادلة والأمينة: التي جاءت عن طريق الشورى والاختيار الحر دون قهر أو إكراه، وتعمل على بسط العدل ونصرة المظلومين وردع الظالمين، وترد الحقوق إلى أهلها، وترعى مصالح الأفراد على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم، كما تقوم على قضاء حوائجهم بأمانة وتجرد وإخلاص.
3- حرية واستقلال الشعب: إن الحرية هي القيمة الكبرى في الحياة الإنسانية، وهي الحافز للعمل والإبداع، وبها يكون الإنسان مستقلا وحرًّا في قراراته؛ وقد خلع عن رقبته طوق العبودية والتبعية.
4- التمكن من العلوم والمعارف: فالعلم هو المرتكز الأساسي لنهضة الأمة، والوسيلة التي يستعان بها على عمارة الأرض، وتسخير ما فيها، وترقية الحياة، والانتفاع بالطيبات من الرزق.
5- التنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة: التي تعني التنمية بكامل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والروحية والمادية والثقافية والحضارية، وتجعل صلاح الإنسان غاية وهدفا لها.
6- تحسين نوعية الحياة: وتعني سلامة الحياة واستقرارها وجودتها وتوفير متطلباتها الضرورية.
7- حفظ حقوق الأقليات والمرأة: رعاية حقوق الأقليات العرقية والدينية، وكذلك احترام المرأة وتقدير مكانتها وتعزيز دورها الإيجابي في المجتمع.
8- الأخلاق الحميدة والقيم الثقافية الفاضلة: العناية بالأخلاق الفاضلة والقيم المعنوية السامية في كل المجالات والجوانب، وأن تكون هي الأساس لتربية الأجيال.
9- حفظ وحماية البيئة: العمل على حماية البيئة والحفاظ عليها ومنع ما يهددها من عوامل التلوث والآفات والإهلاك.
10- تقوية القدرات الدفاعية للأمة: وذلك للحفاظ على سلامة ووحدة أراضي الدولة وحماية المصالح العليا لشعوبها والمحافظة على استقلالها وسيادتها.

ويحدد عبد الله بدوي الأسباب التي دفعته لطرحه هذا فيقول: “إن الإسلام الحضاري جاء لنهضة وتقدم المسلمين في الألفية الثالثة، ومن أجل المساعدة على دمجهم في الاقتصاد الحديث”. كما أن يصلح أن يكون “الترياق للتطرف والغلو في الدين”، وذلك لأنه “يشجع على التسامح والتفاهم والاعتدال والسلام”. وفي بلد متعدد الثقافات والأعراق فإن الإسلام الحضاري يهدف لمصلحة الجميع على اختلاف عقائدهم وأديانهم وأعراقهم، ويضيف: “من المؤكد أننا كمسلمين يجب أن نعامل غير المسلمين بالحسنى والإنصاف”، مشيرًا إلى أن هذا المشروع “سوف يؤدي إلى الامتياز والتفوق، وسيكون مصدرًا للفخر والاعتزاز ليس للمسلمين وحدهم، وإنما لغير المسلمين أيضًا”[47].
ويحدد بدوي سمات المجتمع الماليزي الذي يستهدف مشروع الإسلام الحضاري إيجاده في ثماني سمات هي:
1- أن يتحلى بالأفكار الوسطية والمعتدلة التي تساعد على تقوية بناء الأمة والدولة.
2- قوامه الأخلاق الفاضلة حتى يكون قدوة للأمة كلها والناس جميعًا.
3- يتصف بالمسئولية والجدية في تأدية دوره وواجباته.
4- تكون فيه العلاقات بين أفراده مترابطة وتقوم على الثقة والأخلاق الفاضلة.
5- يتصف بالنظام ويحترم سيادة وحكم القانون.
6- متحد الكلمة ومتعاون ومتكافل فيما بينه.
7- تطبق الدولة تعاليم الإسلام الحقيقي وتحقق مقاصد الشريعة الإسلامية.
8- تكون الدولة رائدة وقائدة وليست تابعة وذليلة.

وفي رؤية رئيس الوزراء الماليزي فإن أهم مظاهر الإسلام الحضاري تتمثل في الآتي:
– العالمية: لأنه يستمد روحه ومقاصده من الإسلام الذي هو رسالة للناس كافة ورحمة للعالمين.
– الربانية: حيث مصدره الأساسي وحي الخالق العظيم، ويبتغي ربط الناس بالله رب العالمين؛ فهي ربانية الغاية والهدف، كما هي ربانية المصدر والمنطلق.
– الأخلاقية: فالأخلاق الفاضلة التي تفضي إلى سلوك رشيد وعلاقات طيبة بين البشر هي أبرز ما يدعو إليه الإسلام الحضاري.
– التسامح: وذلك من أجل مجتمع يسوده الاستقرار والسلام والتعاون والتكافل بكافة أعراقهم ومعتقداتهم، وتفهم الآخرين واحترام خياراتهم العقدية والثقافية.
وهو يرى أن للإسلام الحضاري سمات وخصائص تميزه عن غيره من المناهج أبرزها ما يلي:
– التكامل: تتكامل فيه معارف الوحي مع علوم العصر، وتتكامل فيه الجهود من حيث تناوله لشئون الفرد والمجتمع والدولة.
– الوسطية: يقوم المشروع على الاعتدال في منهجه، ويعتمد على التدرج واليسر في طريقة تطبيقه، ومن خلال ذلك يكون التوازن بين مصلحة الأفراد ومصلحة الجماعة، والتوازن بين متطلبات الروح والمادة، وبين المثال والواقع.
– التنوع: من حيث مادته التي تغطي مجالات عديدة، وتهتم بمستويات مختلفة، كما تستوعب المتغيرات، وتأخذ من التجارب والحكم البشرية النافعة والصالحة.
– الإنسانية: بمعنى أنه رسالة موجهة إلى الإنسان، وتهدف إلى رعاية مصالحه الضرورية والحاجيّة والتحسينية، وكفالة حقوقه الأساسية، وحفظ دينه وعقله ونسله وعرضه وماله[48].
يقوم مشروع الإسلام الحضاري -كما يطرحه عبد الله بدوي- على عناصر أساسية ينبغي على المسلمين أفرادًا وجماعات العمل على تحقيقها، وهي:
1- التعليم الشامل: الذي يجمع بين معارف الوحي وعلوم العصر، ويغطي فروض الكفاية والأعيان ويؤدي واجبات الوقت دون تقصير.
2- الإدارة الجيدة: التي تحسن إدارة الموارد البشرية والمادية وتوظيف الاستخدام الأمثل لها.
3- التجديد في الحياة: بمعنى ترقية أساليبها من ناحية التمدن والحضارة.
4- زيادة جودة الحياة: وتوفير متطلبات الحياة الكريمة على أجود هيئة وأكمل حالة.
5- قوة الشخصية: من حيث الإخلاص والأمانة؛ فالإخلاص أساس الأقوال والأعمال، بينما الأمانة عماد المجتمع والدولة، وبغيرهما لا يمكن إيجاد الإنسان الصالح والمجتمع الصالح. وهي أخلاق تقوم عليها الحضارات، وبغيابها تزول وتغرب.
6- الحيوية والنشاط: من حيث استجابته للمتغيرات وإدراكه لمتطلبات الحياة المتجددة ومسائلها المتشعبة.
7- الشمول والسعة: يقوم المشروع على الفهم الشمولي للإسلام؛ فهو لا يركز على جانب دون الآخر، ولا يأخذ تعاليم الإسلام مجزأة. ويعتبر الإسلام منهج حياة كاملا؛ فهو عقيدة وعبادة، وأخلاق ومعاملة، وتشريع وقانون، وتربية وتعليم، ودولة ونظام، يتناول مظاهر الحياة كلها، ويحدد منهاجًا للسلوك البشري في كافة أطواره.
8- العملية والواقعية: لا يجنح إلى المثالية المجردة؛ فهو منهج عملي واقعي من حيث مراعاته واقع الحياة وطبيعة الإنسان وتفاوت الناس في استعداداتهم ومداركهم وحاجاتهم ومطالبهم.
9- الاستقلالية وعدم التبعية للأجنبي: سواء كانت تبعية فكرية أو ثقافية أو اقتصادية وسياسية.
10- تعزيز المؤسسة الأسرية: فالأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، وبصلاحها يصلح المجتمع وتترابط علاقاته وتتوحد مشاعره.

وبعد أن يعرض رئيس الوزراء الماليزي لجوانب رؤيته يحدد جملة من التحديات التي تواجه مشروع الإسلام الحضاري، وهي في جملتها تحديات داخلية، أبرزها:
1- الجمود والتقليد: يقف تيار الجمود والتقليد عقبة أمام محاولات التجديد والاجتهاد بدعوى الإبقاء على القديم وإن لم يكن صالحًا لعصرنا؛ وهو تيار يعبر عن نفسه في الجمود المذهبي والتقليد الفكري.
2- التطرف: وهو تيار أفرزته المشكلات والاختلال العميق في المجتمعات المسلمة، ويعبر عن نفسه في حركات التطرف الفكري والسلوكي.
3- الانعزال والترهب: وهو تيار ينتشر وسط الأمة الإسلامية، وتغذيه المواقف السلبية الداعية إلى الزهد والرهبنة والابتعاد عن الدنيا والانصراف عنها كلية.
4- العلمانية: وهي اللادينية التي ترفض ارتباط الدين بالحياة، وتوجيهه لجوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتحارب تدخل تعاليم الدين في شئون الدولة والحكم.
5- أحادية المعرفة: المعرفة الجزئية سواء بالشرع أو الواقع تؤدي إلى نظرة جزئية للأمور وتحجب عن صاحبها معرفة الأبعاد الحقيقية للقضايا، وبالتالي يكون حكمه قاصرًا وعاجزًا عن المعالجة الوافية، ولا بد من معرفة بالشرع والواقع معًا.
6- الضعف في إدارة الوقت: إن إهدار الوقت وعدم إدراك قيمته من أوضح أسباب الفشل والتردي في الحياة العامة في البلاد الإسلامية.
ويفسر محمد زين(*) أسباب وتوقيت طرح المشروع، فيقول: “لأن الغربيين يسيئون فهم الإسلام ويتهمونه بالتطرف وينظرون إليه نظرة سلبية؛ فقد قامت الحكومة الماليزية بالدعوة لهذا المشروع”[49]. ويقول داتو عبد الله: إن الإسلام الحضاري يهدف إلى الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي واستدامة النمو في ماليزيا؛ لأنها من العناصر المهمة لاستدامة النمو الاقتصادي. ويولي المشروع اهتمامًا للتعليم الإسلامي واللغة العربية ومواد التربية الإسلامية والفقه الضروري، ويبدأ تطبيق منهج تعليمي لهذا الغرض من المراحل التعليم الأولى، خاصة للتلاميذ المسلمين حتى يعمقوا صلتهم بالإسلام ويتمثلوه في حياتهم. والحكومة حريصة على الأمانة والطهارة ومحاربة الرشوة وتعمل جاهدة بكل الوسائل في هذا المضمار.
يقول داتو عبد الله: “الإسلام الحضاري يبدأ من أسفل إلى أعلى، ومن القاعدة إلى القمة، ومن الجمهور والقرى إلى القادة بطريقة منظمة ومتدرجة ورفيقة، وبالتركيز على الأولويات حيث العبرة بالمعاني والمقاصد لا الألفاظ والعبارات”.”الإسلام الحضاري ليس دينا جديدا ولا مذهبا فقهيا مبتدعا، وإنما هو طريقة تقوم على مثل وقيم الإسلام الخالدة لتعزيز تقدم الحضارة الإسلامية، وهي طريقة لعرض الإسلام بواقعية وعملية وعودة الأمة إلى مصادر الإسلامية الأصيلة ومبادئه القويمة. ويعطي مشروع الإسلام الحضاري مزيدًا من الاهتمام لزيادة جودة الحياة الإنسانية لكل الناس بغض النظر عن أعراقهم وثقافاتهم ومعتقداتهم”.
ويعزز ذلك هدف الرؤية الإستراتيجية لماليزيا بحلول عام 2020 أن تكون دولة متقدمة، كاملة التطور ومنجزة لعملية التنمية المتوازنة والشاملة والمتوازنة بكامل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والروحية والمادية والثقافية والحضارية، وأن تحقق مراتب متقدمة في العدالة الاجتماعية والمثل المعنوية والاستقرار السياسي والمشاركة الشعبية وجودة الحياة ونزاهة الحكومة والوحدة الوطنية.

· إندونيسيا: التجديد واختطافه

مع ظهور تيارات التجديد للفكر الإسلامي في الشرق الأوسط بداية القرن التاسع عشر الميلادي، دخل جنوب شرق آسيا تلك التيارات أيضًا. وتعتبر الجمعية المحمّدية من المنظمات الإسلامية التي قبلت بفكرة التجديد. فتقوم المحمّدية بتبني التعاليم المنفّذة بالرجوع إلى القرآن والسنّة. فقبلت كلّ ما له دليل منهما ورفض ما لا دليل له منهما. وإلى جانب ذلك قامت بالتحديث في الجانب التربوي بحيث لا يُفرّق بين العلوم الدينية والعلوم الأخرى، فخالفت المدارس التقليدية الموجودة حينذاك التي فصلت بينهما. فالمدارس الهولندية لا تدرّس إلا العلوم العامة والمعاهد الإسلامية لا تدرّس إلاّ العلوم الدينية، أما المحمدية فجمعت بينهما.
ويرى البعض أن حركة التجديد في إندونيسيا، ظهرت ردًّا على مشكلة التحديث؛ أي كيفية توفيق الأمور التقليدية والحديثة والواقع. ومن ثم يتواجه مفهوما التجديد والتحديث وتتدافع الحركات المتبنية لكل منهما. فإذا كانت حركة التجديد وحركة التجديد الحديثة تردّ علي عملية التحديث ردًّا سلبياًّ، فحركة التحديث وحركة التحديث الجديدة تردّها ردًّا إيجابيًّا. ويقع الخلاف بينهما في المدخل والمرجع، حتى أظهر كل واحد منهما خصوصيّته.
وبغضّ النظر عن الخصوصيات والاختلافات بين تلك الحركات، فبعضها يشجّع على الوسطية في الإسلام بين التشدّدية الراديكالية وبين العلمانية الليبرالية. وهذه الحركات تشجع التحديث والتجديد، ولكنها لا تضع الأمور التقليدية في الموضع المضاد للأمور الحديثة، بل تحاول الجمع والتوفيق بينهما. فوضعت كلّ واحد منهما في مكانه المناسب ثم تقوم بالحوار بينهما[50].
إلا أنه يوجد أيضا في إندونيسيا أصوات مفتونة بأدعياء التجديد في العالم العربي[51] تردد مقولاتهم عن “الدين الأرضي بجانب الدين السماوي”؛ معلنين “مانفيستو” (حرفيًّا) التجديد الذي يساوي لديهم التنوير والنهضة بحمولتهما الغربية[52].

· التجديد في تركيا:

يلاحظ إحسان يلمظ(*) أن حركة فتح الله كولن في تركيا تمثل تجديدًا بالفعل والسلوك يلقى قبولًا داخل تركيا وخارجها؛ لأنه قدم اجتهادات في مجالات عديدة وقضايا مهمة مثل الشريعة السياسة والعلمانية والتعددية والديمقراطية والحوار، وأنشأ مدارس داخل تركيا وخارجها تلقى نجاحًا كبيرًا[53].
ويركز كولن على التربية وإعداد “الإنسان الجديد” والذي يتصوره على أنه يتمتع بشخصية قوية لا تستطيع الأفكار والفلسفات التي تتناقض مع هويته المعنوية وجذوره أن تغير وجهته، حرّ في تفكيره، حرّ في تصوره، حرّ في إرادته، وحريته هذه مرتبطة بقدر عبوديته لله سبحانه وتعالى، ممتلئ بالفكر، ملتهب بعشق البحث، عاشق لا ينطفئ ظمؤه إلى العلوم مهما نهل، مولع بالمعرفة ولعًا لا يفتأ يتجدد كل حين، مفعم بالإيمان، يحمل في قلبه إيـمان أجداده الأجلاّء، ويفكر تفكير أعلام حضارته العظماء، يملك طاقة بنّاءة وروحًا مؤسِّسا، يبتعد عن النمطية بشدة، يعرف كيف يجدد نفسه مع الحفاظ على جوهره، مثال للتوازن التام بين الأخذ بالأسباب والاستسلام لرب الأسباب.. مَن رآه دون معرفة به، ظنّه عابدًا للأسباب أو معطّلا لها؛ بينما الحقيقة ليست هذه ولا تلك.. لأن الإنسان الجديد، بطل التوازن بكل ما تعنيه كلمة التوازن؛ فهو يرى أن الأخذ بالأسباب من واجبه، والتسليم للحق تعالى من صميم إيمانه، مشبع بحب الوجود كله، حارس للقيم الإنسانية، يسعى للتواصل مع القلوب والنفوذ إلى العقول والدخول إلى الأرواح، ويثبت جدارته من خلالها مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد[54].

· التجديد في أفريقيا:

اعتمد التجديد في أفريقيا، قارة الإسلام المنسية، في خضم أزمات التجديد في القرن العشرين على التقاليد الإصلاحية في شمال أفريقيا والبلاد العربية وفي باكستان والهند، مثل دعوة الإمام محمد عبده أو حركة “الإخوان المسلمين” أو الحركة الوهابية بالسعودية أو مؤلفات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي.
وحركات الإصلاح الإسلامية في أفريقيا ليست ظاهرة جديدة، ولكن تعود إلى تاريخ طويل وإلى العديد من مراحل التطور التي كانت متأثرة بالعوامل المحلية تأثرًا كبيرًا. وفي ستينيات القرن العشرين وسبعينياته أدت المصالح المشتركة بين حركات الإصلاح والحكومات في بعض البلاد الأفريقية إلى النجاح، ولكن هذا التعاون أصبح محل شك وريبة لدى الجيل المعاصر من الإصلاحيين المسلمين.
وكعادة غالبية الأكاديميين الغربيين في تعاملهم مع العالم الإسلامي وقضاياه يركز رومان لويماير(*)، على الفسيفسائية وليس التعدد في حركات الإصلاح الإسلامية المعاصرة في أفريقيا. فإن كانت الجماعات الصوفية هي إحدى الصور “المعاصرة” لحركات التجديد فإنه يقع في تناقض بين اعتباره أن حركات التجديد ترفض الصوفية (دون أن يذكر أن كثيرًا من هذه الحركات تميز بالجمع بين الصوفية الملتزمة بالكتاب والسُّنة وغيرها)، وبين إشارته إلى أن مجموعة من حركات الإصلاح الإسلامية المعاصرة قد خففت حديثًا من موقفها المضاد للصوفية لتؤكد أهمية وحدة المسلمين جميعا[55].
إلا أن ذلك لا ينفي أن التجديد في أفريقيا يعاني عدة تحديات ومشكلات منها: استمرارية نفوذ المعتقدات التقليدية كالسحر والشعوذة, وعمليات التنصير والارتداد وطمس الهوية الثقافية وتشتت الجهود الإسلامية وتضاربها. فعلى الرغم من وجود مؤسسات إسلامية ذات تراث كبير وعريق في الدعوة الإسلامية مثل: الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة والقيروان، وكذا مؤسسات إسلامية فاعلة مثل: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، ومنظمة الدعوة الإسلامية بالسودان، ولجنة مسلمي أفريقيا الكويتية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي بالسعودية، والمنتدى الإسلامي، علاوة على جهود منظمة المؤتمر الإسلامي والحركات الصوفية والجماعات الإسلامية والمؤسسات الإسلامية المحلية داخل كل دولة إسلامية، فإن الواقع يشير -كما سلف الذكر- إلى أن كثيرًا من الجهود الإسلامية تعاني من عدم الدقة في التخطيط وعدم التنسيق على نحو يؤدي إلى إهدار الجهود والإمكانات، بالإضافة إلى التهديد النابع من العلمانية الغربية والتي تعتبر في نظر البعض أخطر من عمليات التنصير[56].
يشير لويماير إلى اختلاف سرعة تطور حركات الإصلاح الإسلامية، فهناك مناطق لها تقاليد عريقة في حركات الإصلاح مثل السنغال وشمال نيجيريا وزنجبار. وهناك مناطق أخرى لا تلعب فيها حركات الإصلاح الإسلامية إلا دورًا هامشيًّا مثل ساحل العاج وإثيوبيا[57].
ويلاحظ أنه في مقابل زعماء الإصلاح من الأجيال السابقة أمثال الشيخ تورى وأبو بكر جومي أو عبد الله صالح الفارسي فإن الجيل المعاصر من الإصلاحيين ليست لديهم ثقافة رجال الدين، وهم في الغالب خريجو جامعات ذات طابع علماني غربي. وهكذا نجد كثيرًا من زعماء تلك الحركات يعملون مدرسين أو موظفين أو مهندسين أو فنيين أو علماء طبيعة أو أطباء. وهم لا يصفون أنفسهم بأنهم “فقهاء” ولكن مثقفون مسلمون أو “أساتذة جامعات” أو مدرسون[58].
ثم يضع ثنائية مفتعلة بين اللغات الأفريقية واللغة العربية؛ إذ يزعم أنه “لمسايرة المجتمعات الإسلامية في تقاليدها أعطى المصلحون أولوية للقرآن الكريم والسنة النبوية وعلوم اللغة”، ويعلل ذلك بأن دعاة التجديد في أفريقيا يرون أن إجادة اللغة العربية سوف “تجعل المسلم قادرًا على فهم القرآن والسنة بدون معلم للتعامل مع النصوص الدينية فرديًّا”. ويزعم، وربما الأدق يتمنى “أن إعطاء الفرصة لكل مسلم قادر على القراءة والكتابة كي يتعامل بمفرده مع النصوص الدينية على مر العقود الأخيرة خلق قواعد لمفهوم جديد للدين، مما جعل تلقي العلوم الدينية عن طريق “العلماء” مع مرور الوقت أمرًا يمكن الاستغناء عنه”[59].
ويشير إلى أن مما يميز حركات الإصلاح الإسلامية القديمة والمعاصرة اهتمامهم باللغات الأفريقية كوسيلة للتخاطب والحوارات الدينية. ونتيجة لذلك قام المصلحون بدعم ترجمة النصوص الدينية إلى اللغات المحلية: السواحيلي والهوسة والفولاني والولوف والبامبارا واليوربا. وتستخدم هذه اللغات في الخطابة غير الرسمية (ربما بقص الدروس الدينية) المسجلة على أشرطة الكاسيت أو الفيديو أو التي تبث في الإذاعة والتلفاز أو المحادثة عبر الإنترنت. ورغم أن ذلك يشبه استخدام الدعاة في البلاد العربية للهجات المحلية في دروس الرقائق، إلا أنه يذهب للقول بأن “اللغات الأفريقية المحلية وحتى الإنجليزية والفرنسية تطغى على اللغة العربية وتقصيها شيئًا فشيء”[60].
ربما يكون ذلك من باب التحليل بالتمني، لكن هذا أمر يجب الالتفات إليه خصوصًا مع تقلص أعداد الطلبة الأفارقة في الأزهر، وإن كثرت أعدادهم في بقاع أخرى مثل ليبيا.
وعن القضايا التي تهتم بها حركات التجديد يقول لويماير: “تقوم جماعات الإصلاح الإسلامية بتنظيم حوار أخلاقي يهدف في المقام الأول إلى التنديد بالإمبريالية الغربية والصهيونية والتبشير المسيحي والماسونية، وأيضا بالحركات الإلحادية مثل الأحمدية الهندوباكستانية وتناول المخدرات والدعارة وكل أشكال الانحلال الأخلاقي التي تفسد المجتمعات الإسلامية”. ومن أولوياتها تطوير هياكل جديدة للمنظمات الاجتماعية، ليس فقط في مجال التعليم الإسلامي الحديث بل أيضًا في مجالات الحياة اليومية مثل الرياضة وتقسيم “أوقات الفراغ”.
أما الفئات التي تلاقي حركات الإصلاح الإسلامية المعاصرة في أفريقيا نجاحًا لديها فهي الشباب والنساء. ويشير إلى أن كثيرًا من حركات الإصلاح الإسلامية في أفريقيا تعتبر محاولة شبابية نسائية للتخلص من القهر الاجتماعي بمساندة مشروعة من الإصلاحيين.

تسميم التجديد:

لم يسلم التجديد من محاولات لتسميمه، تستهدف اختطافه وبثّ محتوى يخلط فيه الحابل بالنابل، لإعاقة محاولات التجديد الحقيقة، وخلط الأمور؛ لتكون المحصلة في غير صالح الأمة أفرادًا وجماعاتٍ وحركاتٍ ودولًا.
في هذا الإطار يأتي تقرير صادر عن معهد السلام الأمريكي الذي أنشأته وزارة الخارجية الأمريكية وعنوانه “السياسة الأجنبية (كما في الترجمة) الأمريكية والتجديد الإسلامي” والذي يؤكد على أن “أهم مبادرة منفردة يمكن أن تقوم بها الولايات المتحدة لمكافحة التطرف الإسلامي تتمثل في مساندة »التجديد الإسلامي”«[61]؛ لأنه حركة قابلة للدوام ثقافيًّا؛ معتبرًا وجود المدارس الفقهية السنية الأربع: الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، بجانب المدرسة الشيعية الجعفرية والطرق الصوفية العديدة، دليلا ًعلى مرونة الإسلام وما ينطوي عليه تاريخيًّا من إمكانية للتكيف مع الاعتبارات الدنيوية والحاجات الروحية المتنوعة، كما أن حركة التجديد -في رأي التقرير- تعتمد على تراث فلسفي قوي، فهو مسجل في الحديث الشريف الذي يدعو المسلمين صراحة إلى “تجديد عقيدتهم” عند مطلع كل قرن[62]. وهو بذلك يقفز خارج كل معاني التجديد حتى من قبل غلاة التغريبيين.
وهو يعرف التجديد الإسلامي بأنه “حركة حديثة اجتماعية وسياسية وفكرية متفرقة ولكنها آخذة في النمو، تهدف إلى زرع الأعراف الحديثة، والتصدي لاحتياجات الحياة الحديثة بالاستناد إلى التقاليد الإسلامية. وهدفها الإصلاح العميق للمجتمعات الإسلامية ونظم الحكم فيها”[63]. وينظر التقرير إلى »التجديد الإسلامي« على أنه “عملية منهجية لمراجعة وترشيد المبادئ والمؤسسات والمعتقدات والممارسات الإسلامية، ويلعب الكثير من الأفراد والمؤسسات دورًا فيها. وبالرغم من أن جهودهم ليست مترابطة رسميًّا، إلا أنها تتلاقى حول مراكز البحث والدارسين الفرديين والشخصيات الدينية المنادية بالتحديث، والمنظمات الدينية المعتدلة، والأحزاب السياسية، ومواقع الإنترنت الناشطة المنتشرة في العالم الإسلامي، وجماعات الشتات الإسلامية في الغرب”. ويذكر التقرير أن حركة التجديد تضم “الجماعات النسائية، مثل شبكات “أخوات في الإسلام “في إندونيسيا وماليزيا، و”منتدى المرأة العربية” و”الكرامة: المحاميات المسلمات من أجل حقوق الإنسان”، أو الجماعة التقدمية المجهولة الهوية من النساء المسلمات التي نشرت وثيقة “نطالب بحقوقنا: دليل تدريس حقوق الإنسان للنساء في المجتمعات المسلمة”. وتشمل الحركة الأحزاب الإسلامية المعتدلة، مثل أحزاب الوسط في مصر والأردن التي تدعو إلى »الإصلاح الذاتي«، وحزب العدالة والتنمية في كل من تركيا والمغرب، وكلاهما يعرّف نفسه كفاعل سياسي حديث يتبنى مواقف إسلامية تقدمية. وتضم كذلك مئاتٍ من شبكات الدفاع عن الديمقراطية النشطة) مثل مجلس الديمقراطية الإسلامية في الفلبين، ومركز دراسة الإسلام والديمقراطية في الولايات المتحدة، أو المركز الدولي للإسلام والتعددية في إندونيسيا)، ومواقع الإنترنت الحية التي تعزز الاتصال الدولي ونشر الأفكار الإسلامية التقدمية (Liberal Islam Network, Liberal Islam.net, IslamOnline.net, ProgressiveIslam.org
يتعامل التقرير مع الأحزاب والمؤسسات والمراكز والجمعيات التي ذكرها بدون تمييز بين المرجعيات والمبادئ والأهداف والآليات لأهداف مختلفة: أولها الإحياء بكبر حجم ما وصفه بحركة التجديد فهي تغطى العالم شرقا وغربا، ثانيا الإيحاء بأن توجهها واحد وأن كان يشير لوجود بعض الاختلافات التوجهات داخل هذه الحركة دون ذكرها.
وبذلك يضع التقرير أشتاتًا مختلفة في سلة واحدة ليخلط الأمر، فهو يساوي بين Islamonline.net الموقع الأكثر زيارة في العالم الإسلامي المعروف بوسطيته وانفتاحه على كافة التوجهات ذات الخلفية الإسلامية في الشرق والغرب والمهتم بقضايا المسلمين في كافة مناحى الحياة وبحرفيته العالية، وموقع Liberal Islam.net و Network Liberal Islam اللذين يقتصران على الترويج لليبرالية بطبعتها الرأسمالية. وموقع ProgressiveIslam.org الذي يقوم على مجموعة من المدونات يختلط فيها ما يمكن قبوله والكثير من الغث وهو بذلك يقوم بأمرين: تشويه سمعة إسلام أون لاين، والترويج للمواقع الأخرى رغم قلة انتشارها وضعف مستواها الفنى و ضحالة محتواها الفكري حتى بمعايير غربية فهي تخفق في عرض بعض الجوانب الإيجابية في الليبرالية.
ويصنف التقرير هذه الحركة إلى “أربع مجموعات عريضة:
1- مجموعة دعاة »الإسلام المدني « وهي تضم منظمات المجتمع المدني التي تدافع عن المساواة للمرأة وحقوق الإنسان والمسؤولية الاجتماعية، وحماية البيئة، والقضايا الاجتماعية المماثلة، ولكنها لا تطالب علانية بأي سلطة سياسية. وتستشهد هذه المجموعة بالتعاليم التقدمية للإسلام، وتدعو الأنظمة إلى تنفيذ الإصلاحات واحترام الحقوق الأساسية.
2- ويشمل دعاة »الإسلام والديمقراطية«، الأحزاب والحركات التي لا ترى تعارضا بين القيم والتعاليم الإسلامية والمبادئ الديمقراطية الحديثة. وتنادي هذه المجموعة بالمشاركة في العملية السياسية بهدف الوصول إلى السلطة وتطبيق الإصلاحات السياسية على أساس مبادئ إسلامية.
3- أما دعاة »الإصلاحات من داخل الإسلام« فتضم الشخصيات الدينية القيادية، وعلماء الدين، والمؤسسات الأكاديمية التي تدعو إلى إعادة تفسير التعاليم الإسلامية، وإلى قراءة تاريخية للإسلام والقرآن، وتحديث المعرفة الإسلامية.
4- ثم هناك الدعوة إلى »إسلام التحديث الثقافي«، التي نشأت أساسا بين الطوائف المسلمة التي تعيش في الغرب. وهذه الجماعات والمنظمات القائمة خارج العالم الإسلامي، والتي تحاول خلق»هوية إسلامية غربية « لا ترى توترا بين أن يكون المرء مسلما ومواطنا في ديمقراطية غربية. والواقع أن ما يربط بين هؤلاء الفاعلين المتنوعين هو التزامهم بتحديث المؤسسات والتقاليد والممارسات الإسلامية[64].
ويضيف التقرير أنه “في بعض الحالات، تتضمن حركة التجديد الإسلامي أيضا الحكومات. ففي ماليزيا، على سبيل المثال، يسوق رئيس الوزراء عبد الله بدوي التراث الديمقراطي الإسلامي العريض والقوي في بلده كنموذج عند الدعوة إلى الاعتدال الديني في العالم الإسلامي كله. وفي المغرب، طبقت الملكية تفسيرات تقدمية لنصوص محددة في الشريعة الإسلامية لإصلاح قانون الأسرة ومنح المرأة حقوقا مدنية متساوية في عام ٢٠٠٤. كما فتحت الحكومة واحدة من أعرق المعاهد الدينية أمام النساء، وتخرج فيها زهاء خمسين إماما وواعظا من النساء (مرشدات) في عام ٢٠٠٦، والتحق بالمعهد ستون أخريات في ذلك العام. وهذا سابقة في التاريخ الإسلامي”[65] ويتغافل التقرير عن ألاف المعاهد والجامعات المنتشرة في العالم الإسلامي التي تدري فيها المرأة العلوم الشرعية ومنهن أستاذات في هذه الجماعات كما في الأزهر الشريف.
ويرى التقرير أن الولايات المتحدة تستطيع أن تساند الإصلاحات في العالم الإسلامي بإعادة تركيز برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ومشروعات الديمقراطية ومبادرات الدبلوماسية العامة التي تطبقها حاليا، وذلك لإيلاء المزيد من الاهتمام للصراعات العقائدية المستمرةl,موضحًا أنه من المرجح أن تنجح هذه الإصلاحات — أكثر من تغيير نظام الحكم بالقوة، أو الانتخابات الديمقراطية، أو التسويق الماهر للسياسات الخارجية الأميركية في بناء مجتمعات إسلامية منفتحة وسلمية وعلاقات طيبة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.لأن هناك حاجة إلى رؤية جديدة واستراتيجية كبرى لخدمة المصالح المشتركة للولايات المتحدة والعالم الإسلامي. ويجب أن يكون في قلب هذه الرؤية وهذه الاستراتيجية فكرة التجديد الإسلامي بواسطة العلماء والمفكرين المسلمين الراعين للتحديث لمنفعة المجتمعات الإسلامية[66].
ويحذر التقرير من المقارنة بين فكرة »التجديد الإسلامي«، وحركة الإصلاح الديني المسيحية في السياق الغربي، مشيرًا إلى أن الإسلام ليس له كنيسة يتعين إصلاحها وفصلها عن الدولة، وليس به زعيم ديني واحد مثل البابا، بحيث يمكن للعلماء الدينيين أن ينشقوا عليه. وعلاوة على ذلك، فإن تاريخ الإصلاح المسيحي لم يكن مستقيما أو متماسكا كما يفترض تقليديا. فالمقارنة أو القياس يجب أن يحددا الموقع الجغرافي والسياق التاريخي، والإطار الاجتماعي لمختلف حركات الإصلاح المسيحية في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة. وأخيرا، وبالرغم من أن المقارنة مع الإصلاح المسيحي قد تسهل من فهم الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي،فإنها يمكن أن تثير توقعات سياسية كاذبة وافتراض مراحل تطورية خاطئة.
ويشير التقرير إلى أن »التجديد الإسلامي «، كاستراتيجية، يمكن أن يحقق التماسك بين كوكبة مهمة ولكنها متفرقة من الأفكار الإصلاحية الإسلامية، وربطها ببرنامج سياسي يتضمن إصلاح قوانين الأسرة بغية إعطاء النساء حقوقا متساوية، ومراجعة الكتب المدرسية لتدريس حقوق الإنسان والتعددية الدينية، وتحديث الجمعيات الخيرية والمدارس الإسلامية والتقاليد الاستشارية. ولكي ينجح مشروع التجديد الإسلامي يشير التقرير إلى أن مفكري التحديث الإسلاميين من مختلف البلدان يحتاجون إلى مشاركة خبراتهم واستراتيجياتهم. ويتساوى في الأهمية في مجال حقوق الإنسان ما يسميه التقرير »الإخصاب التهجيني للمواقف الراهنة«، الذي يمكن من خلاله أن تطبق الطرائق التي تكيّف القانون الدولي الوضعي والسيادة الوطنية على حقوق المرأة وحرية العقيدة وحقوق الإنسان[67].
وفى عرضه لأهمية التجديد للسياسة الأميركية يرى التقرير أن التجديد الإسلامي يقدم” فرصة عظيمة”، للولايات المتحدة في المنطقة وربما كانت الفرصة الواقعية الوحيدة. فدعوة المسلمين إلى إصلاح مجتمعاتهم على أساس تقاليدهم الإنسانية وتراثهم الثقافي هي بالتأكيد أقل مثارا للجدل بالنسبة للولايات المتحدة من مساندة تغيير أنظمة الحكم، أو التعاون مع الأجهزة الأمنية المحلية، أو دفع الإصلاحات تحت شعار فكرة علمانية مجردة هي فكرة الديمقراطية الغربية.
ويشير إلى أن الولايات المتحدة مشتركة بالفعل ضمنا في إصلاحات ذات توجهات دينية. فهناك برامج الوكالة الأميركية للمعونة الدولية وبرامج وزارة الخارجية الأميركية التي تهدف إلى تنقيح الكتب المدرسية، وتطوير التعليم الابتدائي والثانوي، وتمكين النساء، وإشراك الإسلاميين المعتدلين، وتحديث النظم القانونية، أو تشجيع الحوار بين الأديان، وهذه كلها تنطوي على قضايا معيارية، والانحياز لموقف معين في النزاعات الدينية.إلا أن الجهود المبذولة حاليا من خلال مختلف البرامج الحكومية والتي تنطوي على إصلاحات دينية ضمنية، تعتبر غير كافية وليس لها تأثير كبير، لأنها تفتقر إلى وضوح الغرض وإلى التنسيق. فهي لا تشرك المؤسسات الأميركية المستقلة، والوكالات الدولية، والمجتمع المدني المتعدد الجنسيات على نحو وافٍ. وينقصها التزام صريح وجهد منسق لمخاطبة القاعدة المسلمة العريضة من خلال الجمعيات الخيرية المحلية الموثوق بها والجماعات المدنية والحركات الدينية المعتدلة. والواقع أن إشراك حركة التجديد الإسلامي سيعزز من الدور الأميركي والتأييد الدولي، والدعم الإسلامي لإصلاحات جديدة ذات وجهة تقدمية في البلدان الإسلامية. منبها إلى أنه “لا يوجد خارج الإطار الإسلامي فرصة حقيقية لإصلاح جوهري تقدمي مستدام في العالم الإسلامي”[68].
ويخلص التقرير إلى أن “هناك فرصة تاريخية لإحداث تغيير إيجابي في العالم الإسلامي ولقيام الولايات المتحدة بدور بناء في هذا السبيل. وتتمثل الاستراتيجية الأكثر واقعية واستدامة لأميركا اليوم في مساندة حركة تجديد إسلامية عريضة القاعدة يقوم بها المفكرون المسلمون المعتدلون لصالح المجتمعات الإسلامية بالذات “هذه الحركة في رأى التقرير تمثل ” أكبر مصدر يخشاه الإرهابيون ويقود إلى إضعافهم، ذلك أن حركة تجديد تتصدى لمشكلات العالم الإسلامي الكبرى باستعمال لغة مألوفة وإشارات تاريخية وقيم دينية، وتقدم بديلا مبشرا بالأمل لرسالة العنف وتدمير الذات الصادرة عن تنظيم القاعدة، هذه الحركة لن تقلل من شأن بن لادن وأتباعه فحسب، بل ستقلل أيضا من شأن العقيدة الجهادية السلفية ككل”.

ويقدم التقرير مجموعة من التوصيات:

1- يجب على الولايات المتحدة أن تساند إنشاء »مؤسسة للعالم الإسلامي « لتعزيز قيام مجتمعات وأنظمة سياسية سليمة وقوية ومنفتحة في البلدان الإسلامية. ويمكن تشكيل مثل هذه المؤسسة على منوال المؤسسة الآسيوية وتمويلها بقانون من الكونجرس، ويكون تركيزها على التحديات الرئيسية المتداخلة التي تواجه المجتمعات الإسلامية بما فيها الإصلاحات الدينية. وليس من الضروري أن تكون مؤسسة العالم الإسلامي هيئة أميركية حصريا، إذ يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد التقليد الإسلامي الذي يعود تاريخه إلى عدة قرون وهو أسلوب»الوقف « الذي يستعمله الزعماء والدول والأثرياء لإعانة الجمعيات الخيرية والمدارس والجامعات. ويمكن »لمؤسسة العالم الإسلامي« هذه أن تستعين بالخبراء والمانحين والشركاء المحليين والدوليين. ومن شأنها أن تتعاون مع المشاركين الحكوميين وغير الحكوميين عبر العالم الإسلامي لتنفيذ برنامجها. وباعتبارها منظمة مستقلة ولا تبغي الربح، فإن »مؤسسة العالم الإسلامي« ستحتفظ بمصداقيتها الفكرية، وقدرتها على العمل كمحفل للقاءات وكصانع للسلام، بغض النظر عن التوترات الدولية أو السياسات الأميركية.
2- يجب أن تقدم الولايات المتحدة منحا خاصة للجامعات الأميركية بغية النهوض بأعمال وأفكار التحديث الإسلامي وترجمتها إلى سياسات ملموسة. إن مفكري التحديث الإسلامي منتشرون في العالم وعندما يتلاقون -في مناسبات نادرة- فإن مناقشاتهم ومداولات اجتماعاتهم لا تترجم إلى سياسات إصلاح عملية. ومن الضروري بمكان إنشاء منتديات إقليمية يجتمع فيها مفكرو التحديث الإسلامي بانتظام للبت في الاختلافات السياسية والفلسفية والعقائدية، وتقرير قواسم مشتركة وأهداف مشتركة. ولا يكفي حشد دعاة التحديث لكي يعبروا عن أنفسهم. فمن المهم تحديد سياسات إصلاحية معينة تنشر على الشعوب والحكومات في العالم الإسلامي، وكذلك على المجتمع الدولي — بما في ذلك الدول الغربية والأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومحكمة العدل الدولية، والبنك الدولي.وتقدم تقارير التنمية الإنسانية العربية نموذجا مفيدا للغاية. ويمكن لسلسلة مماثلة من التقارير التي تكشف بجلاء تراجع الثقافات والحضارات الإسلامية، يكتبها عدد من العلماء المسلمين المحترمين والمتنوعين والمتعاطفين، يمكن أن تجذب اهتمام العالم الإسلامي.
3- يجب أن تخاطب الولايات المتحدة الأحزاب الإسلامية على أسس معيارية. فقد ظهرت الأحزاب الإسلامية في المنطقة برمتها، كفاعلين رئيسيين وكفائزين محتملين عند السماح لهم بالتنافس بدون قيود. ويطبق بعض هذه الأحزاب برامج محافظة ويعد بتطبيق الشريعة، بينما البعض الآخر أكثر تحررا وينادي ببرنامج اجتماعي حديث. ومع ذلك، فإن معظمها عملي، ولديها استعداد للتوصل إلى حل وسط بشأن الحد الذي يجب الذهاب إليه في تطبيق الشريعة الإسلامية. ويثير ذلك قضية كيفية دمج الإسلاميين في العملية الديمقراطية بدون تقويض روح الديمقراطية أو القواعد والإجراءات الرامية لإدامتها. بعبارة أخرى، يبدو مبرر تنظيم انتخابات حرة للنهوض بالديمقراطية أمرا مشكوكا فيه إذا لجأ الفائزون المحتملون إلى تخريب القواعد والتدابير الديمقراطية. ومع ذلك، فإن الإفراط في فرض القيود الإجرائية والترتيبات المبرمة مسبقا يمكن أن تنزع رداء الشرعية عن العملية الديمقراطية. وحينما تقدم الحوافز للإسلاميين المعتدلين، فإن ذلك قد يدفع مؤيديهم المحافظين وشعبيتهم إلى التمرد. وهكذا، فإن القيود المؤسسية التي تحد من نفوذ الإسلاميين، أو الحوافز التي تتخذ شكل إجراءات تعاونية، قد تأتي في حقيقة الأمر بنتائج عكسية.
4- بدلا من الإكراه أو المناصرة، تعتبر استراتيجية »التخاطب المعياري« استراتيجية بناءة بدرجة أكبر. وهذا يعني أن النقاش مع الإسلاميين يجب أن يحدث حول قضايا جوهرية، مثل الحريات المدنية، وحرية العبادة، والاستقلال الذاتي الشخصي، وحقوق المرأة،وحقوق الأقليات، والتعددية السياسية، وحدود سلطات الدولة، وغيرها من القضايا.
5- يجب أن تركز الولايات المتحدة بدرجة أكبر على الإصلاحات الاجتماعية والتعليمية والدينية الجوهرية، ويعد إجراء الانتخابات الوطنية أساسيا للسلطة التشريعية والتنفيذية الديمقراطية. ولكن هذه الممارسة إذا جرّدت من القضايا الجوهرية فسوف ينتج عنها عملية رسمية سطحية يتلاعب بها الحكام شبه الاستبداديين والإسلاميين الراديكاليين. يجب على الولايات المتحدة أن تعيد تركيز وتنسيق برامج الدبلوماسية العامة والنهوض بالديمقراطية وبرامج المعونة لتعزيز الإصلاحات الدينية الإسلامية والتجديد الإسلامي. ويجب أن تربط الدبلوماسية العامة بين القيم الأميركية والتقاليد الإنسانية الإسلامية. فالمسلمون يشعرون بالفخر تجاه تراثهم في العصر الذهبي للإسلام والذي يربطونه بالانفتاح والتسامح والإنجازات العلمية. فالتقاليد الإسلامية تتفق تماما مع القيم الأميركية، مثل التسامح وروح المبادرة الشخصية. وسوف يساعد التركيز على هذه الجوانب للإسلام والقيم الأميركية المماثلة على التقليل من شأن المتطرفين الإسلاميين.ويجب أن تتضمن مبادرات الديمقراطية الإصلاح الديني. فالمنظمات مثل المعهد الديمقراطي الوطني والمؤسسة الوطنية من أجل الديمقراطية يجب، إذا كان ذلك مسموحا لها، أن توسع من برامجها فيما وراء الانتخابات والأحزاب السياسية والبرلمانات. وليست هناك في شروط تكليفها ما يمنعها من مساندة التدريب على أسس حديثة للدارسين الدينيين والقضاة والأئمة، مع تقديم منح خاصة للنساء اللواتي يدرسن موضوعات دينية، وإعادة طبع ونشر كتابات علماء التحديث الإسلامي. ويجب أن تدعم الولايات المتحدة المجموعات المحلية التي تقود هذه الإصلاحات.
6- يجب أن تنظر الولايات المتحدة في مساندة الجمعيات الخيرية الإسلامية ويجب أن تعمل الوكالة الأميركية للمعونة الدولية مع الشبكات الاجتماعية الإسلامية، وأن تعطي دفعة للإسلام المعتدل من خلال تمويل الجمعيات الخيرية الصغيرة وبرامج تدريب الشباب والنساء[69].
من الواضح أن التوصيات السابقة ترسم سياسات وبرامج للإدارة الأمريكية لاستغلال فكرة التجديد لتحقيق المصالح الأمريكية في تعاملها مع العالم الإسلامي، فهي توصى بإنشاء مؤسسة دائمة “مؤسسة العالم الإسلامي” عن طريق “الوقف”، وتقديم منح دراسة للجامعات الأميركية بغية النهوض بأعمال وأفكار التحديث الإسلامي وترجمتها إلى سياسات ملموسة، وتسهتدف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمرأة والشباب ودارسى العلوم الدينية والقضاة والأئمة و تعمل على إعادة طبع ونشر كتابات علماء التحديث الإسلامي. وليس من قبيل المبالغة أن هذا ما يحدث على أرض الواقع. ونظرة سريعة على مواقع هيئة المعونة الأمريكية في عديد من الدول الإسلامية يثبت صحة ذلك[70]، فهي تركز على التعليم والصحة والشباب والمرأة، بالإضافة إلى ما يقوم به المعهد الديمقراطى الوطنى الذي يقدم دعمًا لقادة الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني، بشأن الحصول على نصائح في مختلف الميادين[71]، والمعهد الجمهورى، الذي يركز في أفغانستان على سبيل المثال على التعليم المدني، فيقوم بعمل ورش عمل وندوات تركز على أهمية المشاركة المدنية والمساواة بين الرجل والمرأة، كما يرعى المعهد صحيفة “إرادة” التي تعتبر الصحيفة الوحيدة المستقلة التي تصدر يوميا في أفغانستان[72].

خاتمة:

بعد أن استعرض التقرير أسس تكوين الوعي التجديدي والممانعة التجديدية بفهم معنى التجديد المنضبط ولكنه واسع أيضا، والتعريف بسمات المجددين سواء المفعِّلين أو الحراس، وأسئلته الأساسية ومجالاته في الفقه وأصوله وعلم الكلام والتجديد السياسي وتجاربه وما يتعرض له من تأميم واختطاف وتسميم، يحسن في الخاتمة الإشارة إلى خطر المبددين الذين عرض التقرير لبعض ملامحهم دون تسمية، هؤلاء الذين يلقون ترحابا واسعا من طرف المؤسسات الأكاديمية والسياسية الغربية، بل المؤسسات الدينية الكنسية، الذين استقر في روعهم أنهم يسيرون على خطى رجال الإصلاحية البروتستانتية في القرن السادس عشر، بل إن بعضهم قد يرى في نفسه لوثر ألمانيا أو كالفن وزيمين سويسرا في أرض الإسلام “القاحلة”. ومشكلة هذا التيار أنه مصاب بما أسماه الفيلسوف الألماني نيتشه ذات مرة بشقاء الوعي التاريخي؛ نتيجة عجزه عن فهم الحدود والمسافات الفاصلة، ولذلك تراه يقفز على التاريخ ويستنجد بالقياسات الفاسدة فلا يفرق بين النص القرآني والنصوص الإنجيلية، وبين الإسلام وبين المسيحية واليهودية، وبين سياقات التاريخ العربي الإسلامي والتاريخ الغربي. حال هؤلاء أشبه ما يكون بمن يناطح الصخر ويصارع طواحين الهواء؛ لأن المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم واجتهاداتهم كانوا وسيظلون مطمئني اليقين في صفاء النبع القرآني، متعبدين بتلاوته كما نـزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين بلسان عربي مبين، قد برئ من التحريف والتشويه والنقصان، ولا يرون التجديد إلا في إطار النبع القرآني وضمن حدوده الواسعة والوارفة[73].
ويوم يصبح التجديد هم المسلمين؛ مفكريهم وعامتهم، اليومي والتاريخي، ليخرجوا من حالة العطالة الحضارية التي يعيشونها الآن في العالم، لن يسألوا عن من هو المجدد، أو المجددون، ولن يصبح التجديد حرفة النخبة، بل سيسعى كلٌ للتجديد في مجاله، ولن يفتئت بعضهم على مجال لا يحسنه لأنه “مقامك حيث أقامك”، ولن يقعوا في مصيدة التقليد للغرب أو منتجات فكرية ارتبطت بعصور ما في تاريخهم؛ لأن لب التجديد هو عقلية الإنشاء القائمة على كتاب الله المقروء وكتاب الله المنظور، وليس ذات النتاج الذي أخرجه تجديد أبناء تلك العصور؛ ليستمر نهر التجديد الفعلي وليس مجرد الحديث عنه.
*****

الهوامش:

[1] د.محمد الحبش، الطريق إلى تنوير العقل الإسلامي.. من أين نبدأ؟، جريدة الثورة السورية الثورة 11/4/2008 على الرابط
http://altajdeed.org/web/index.php?option=com_content&task=view&id=367&Itemid=34.
[2] إبراهيم عبد الله معمر سلطان، منهج التجديد في الفكر الإسلامي عند بن عاشور، وبن باديس، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 2006، ص21.
[3] د.محمد سعيد البوطي، الإسلام بين التجديد المطلوب والتبديل المرفوض بحث مقدم إلى المؤتمر العام الثالث عشر الذي عقده المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة من 31 أيار إلى 3 حزيران 2001 تحت عنوان (التجديد في الفكر الإسلامي) متاح على الرابط http://www.bouti.net/article.php?id=567
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق.
[6] د. محمد راتب النابلسي: محاضرة الخطاب الديني في ندوة تجديد الخطاب الديني. مؤتمر جامعة دمشق المنعقدة في مدرج جامعة دمشق من 10- 12 فبراير 2004متاح على الربط http://www.nabulsi.com/text/10nadwat/912-all/912-14.doc
[7] انظر موقع د. على جمعة:
http://alimamalallama.com/article.php?id=40
ومحاضرته الافتتاحية، متطلبات العصر ومواجهة تحديات الأمة، في مؤتمر الأمة وأزمة الثقافة والتنمية (القاهرة: برنامج حوار الحضارات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وجار السلام للنشر، الجزء الأول، 2007)، ص25.
[8] د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الثاني (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996) ص100.
-[9] تستخدم د. هبة رءوف هذه السباعية النونية في تحليل كثير من الظواهر.
[10] د.سيف الدين عبد الفتاح، مرجع سابق، ص2.
[11] د.سيف الدين عبد الفتاح،، التجديد السياسي والخبرة الإسلامية: نظرة في الواقع العربي المعاصر، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة،ص2.
[12] د. هبة رءوف، المرأة و الدين والأخلاق في: د. نوال السعداوي، د. هبة رءوف عزت(دمشق: دار الفكر، سلسلة حوارات لقرن جديد،2000) ص251.
[13] المرجع السابق، ص257-258.
-[14] د.طه عبد الرحمن، تجديد الفكر الديني الإسلامي: ما هي شروطه وموانعه؟مجلة الإسلام اليوم, العدد الخامس والعشرون، السنة الخامس والعشرون2008، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو، الرباط ص87.
[15] المرجع السابق،ص81.
[16] المرجع السابق، ص 82.
[17] المرجع السابق،ص 83.
[18] طارق البشرى، مقدمة كتاب: هبة رءوف، المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية (فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1995) ص16.
[19] انظر: د.وهبة الزحيلي، د. محيي الدين عطية، تجديد الفقه، حوارات لقرن جديد (دمشق: دار الفكر، الطبعة الثالثة، 2002), و د. محمد سعيد البوطي، د. أبو يعرب المرزوقى، إشكالية تجديد أصول الفقه، سلسة حوارات لقرن جديد (دمشق: دار الفكر، 2006)
[20] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق لثقافتنا، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1997) ص157
[21] المرجع السابق، ص157.
[22] -المرجع السابق، ص157.
[23] المرجع السابق، ص158.
[24] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث،(الرباط: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة،2007)، ص25.
[25] المرجع السابق، ص42.
[26] د. زكى نجيب محمود، تجديد الفكر العربى، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة التاسعة، 1993) ص5.
[27] الشيخ محمد مهدى شمس الدين، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، (بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999) ص7.
[28] حيدر حب الله، مشروعية تجديد الفكر الديني: هواجس ومسوغات، مجلة الكلمة، العدد 62 شتاء 2009، ص37-61.
[29]محمد حسين فضل الله، قضايا التجديد من منظور تأصيلي: مفهومه، معاييره، مقولاته، مفعلاته، حوار في مجلة الوعي المعاصر، لبنان، العددان8-9،ربيع 2002، ص34.
-[30] حسن ميمون، علال الفاسي ومنهجه في تجديد الفكر الإسلامي، رسالة ماجستير غير منشورة،كلية دار العلوم، جامعة القاهرة 2003، ص 423.
-[31] د. محمد السيد الجليند، نحو قراءة جديدة لعلم الكلام، في مؤتمر العلوم الإسلامية بين التجديد والتقليد، الحلقة الأولى: علم الكلام كلية دار العلوم، جامعة القاهرة،20-21أبريل 2004، ص24-37.
-[32] د. حامد طاهر، علم الكلام ومحاولات تجديده، في مؤتمر العلوم الإسلامية بين التجديد والتقليد، الحلقة الأولى: علم الكلام كلية دار العلوم، جامعة القاهرة،20-21 أبريل 2004، ص 38-40
[33] -المرجع السابق، ص 38-40.
-[34]د.على جمعة، تجديد أصول الفقه، في “تجديد الفكر الإسلامي” المؤتمر الواحد والعشرون للمجلس العلى للشئون الإسلامية القاهرة 5-8 مارس 2009.
[35] – سيف الدين عبد الفتاح، التجديد السياسى والخبرة الإسلامية: نظرة في الواقع العربى المعاصر، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة،ص775.
[36] -د.حامد ربيع، تحقيق كتاب سلوك المالك في تدبير المماليك (القاهرة: دار الشعب، الجزء الأول، 1980) ص 37.
[37] د. سعد كمونى، الخطاب القرآنى: القرآن مرجعية للخطاب النهضوى (الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى، 2008)،ص 8، ص 177.
[38] حسام تمام، التجديد الديني بين العالم العربي والعالم الإسلامي غير العربي، متاح على:
http://www.nosos.net/index.php?act=news&sec=2&id=1149173537
[39] المصدر السابق.
[40] المصدر السابق.
[41] المصدر السابق.
[42] المصدر السابق.
[43] المصدر السابق، الأسماء الواردة ذكرها المقال المشار إليه.
[44] المصدر السابق.
[45] يتحدث عبد الله بدوى عن الإسلام الحضارى في كل المحافل: في استراليا ونيوزلندا وألمانيا ليقدمه للغرب، وأمام اجتماعات منظمة المؤتمر الإسلامي وبالطبع في اجتماع الحزب الذي يقوده في ماليزيا مع اختلاف في ذكر التفاصيل وبؤرة التركيز حسب المكان والجمهور، أنظر
Abdullah Ahmed Badawi, Islam Hadri Approach: Towards a progressive Islamic Civilization, Selected Speeches, Department of Islamic Development Malaysia,2007.
-[46] د. محمد شريف بشير، الإسلام الحضاري.. مشروع النهضة الماليزي، متاح على الرابط:
http://www.islamonline.net/arabic/arts/2005/03/article01.shtml.
-[47] المصدر السابق.
-[48] المصدر السابق.
* بروفيسور عبد الله محمد زين، وزير الشئون الإسلامية والأوقاف بماليزيا هو أحد أبرز المفكرين الماليزيين الذين ساهموا في المشروع، وهو أستاذ سابق للدراسات الإسلامية بالجامعة الوطنية الماليزية، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر، وعمل نائبًا لمدير جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
[49] المصدر السابق
[50] انظر موقع مركز اندونيسيا المسلمة المعتدلة وهو بثلاث لغات: العربية والإنجليزية والإندونيسية، متاح على الرابط: http://www.cmm.or.id/ar/?cat=2&paged=2.
-[51] لن نشير إلى الأسماء لأن المرء يدافع عن العتمة إذا كان ثمن الضوء مهينا ومن ثم فالأفضل في التعامل معه من خلال تعزيز الضوء لا من خلال مهاجمة العتمة، ولذلك لن يتم التعرض للأسماء التى تدعى التجديد وهي إلى التبديد أقرب
[52] انظر شبكة الإسلام الليبرالى Najibor Rohman,Interpreting Tajdid,
متاح على الرابط: http://islamlib.com/en/article/interpreting-tajdid/
* يعمل بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية جامعة جورج تاون،
[53] Ihsan Yalmaz, Ijtihad ang Tajdid by condict:Guln and his Movement.
متاح على الرابط:
http://www.fethullahgulen.org/press-room/review/1221-ijtihad-and-tajdid-by-conduct-gulen-and-his-movement-by-ihsan-yilmaz.html
-[54]فتح الله كولن، الإنسان الجديد المصدر: مجلة حراء، العدد: 11 (أبريل – يونيو) 2008
http://ar.fgulen.com/content/view/705/16
* أستاذ علوم الإسلام في جامعة بيروت بألمانيا ومتخصص في المجتمعات الإسلامية المعاصرة: الصوفية والدولة والمسلمون في إفريقيا.
[55] رومان لويماير، التجديد الديني والتغيير الاجتماعي، متاح على الرابط
http://ar.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-471/_nr-753.
[56] محمد عاشور مهدى، الدعوة الإسلامية في إفريقيا.. تحديات وعقبات، متاح على الرابط:

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1209357894004&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout.
[57] رومان لويماير، التجديد الديني والتغيير الاجتماعي، مصدر سابق.
[58] المصدر السابق.
[59] المصدر السابق.
[60] المصدر السابق.
[61] عبد السلام المغراوى، السياسة الأجنبية (كما في الترجمة) الأمريكية والتجديد الإسلامي” متاح على الرابط موقع معهد السلام الأميركي www.usip.org
[62] المصدر السابق.
[63] المصدر السابق.
[64] المصدر السابق.
[65] المصدر السابق.
[66] المصدر السابق.
[67] المصدر السابق.
[68] المصدر السابق.
[69] المصدر السابق.
[70] انظر على سبيل المثال موقع هيئة المعونة الأمريكية في مصر: http://egypt.usaid.gov/
والأردن: http://jordan.usaid.gov/وباكستان http://www.usaid.gov/pk/
[71] انظر موقع المعهد الديمقراطي http://www.ndi.org/aboutndi_arabic
[72] انظر موقع المعهد الجمهورى http://www.iri.org/newsreleases/2009-03-10-wdn.asp.
[73] د.رفيق عبد السلام، في مسألة الإصلاح الدينى، موازين الكتاب الثامن عشر كانون الأول/ديسمبر 2008 ميلادي ذو الحجة 1429 هجري.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى