ألغاز الغاز: كيف تقاوم أوروبا العقاب الروسي؟

مقدمة

من أهمِّ أبعاد الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية التي أفرزتْها الحرب الروسية الأوكرانية: التوترات والنزاعات التجارية والاقتصادية بين القوى الكبرى – تزايد معدلات التضخُّم عالميًّا – ارتفاع أسعار مصادر الطاقة – تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وأثره على ارتفاع معدلات البطالة – تراكم أزمات الديون لا سيما على الدول الفقيرة… إلخ.

وفي ظل تداخل السياسي والاقتصادي والمجتمعي، مع تكرُّر الكوارث الطبيعية والصراعات السياسية، والعوامل الداخلية والإقليمية والعالمية، تصبح أزمة الطاقة -التي تسبَّبت بها الحرب- واحدةً من الظواهر الجديرة بالتناول خاصة بالنسبة للدول الأوروبية التي استخدمت روسيا الغاز كسلاح لعقابها على دعم أوكرانيا أو كردٍّ على العقوبات الأوروبية عليها، فيما تحاول أوروبا وحلفاؤها الالتفافَ على هذا العقاب بالبحث عن زيادة وارداتها من الغاز من مورِّدين جُدد أو مضاعفة وارداتها من مورِّدين قُدَامَى بخلاف روسيا وحلفائها الإقليميِّين، أو تخفيض اعتمادها على الغاز بما يؤثِّر في مركب الطاقة الأوروبي نفسه وبالتبعية في كل دولة على حدة.

شهدت العديد من الدول الأوربية تغيُّرًا كبيرًا في سياسات الطاقة ومعدَّلات تضخُّم عالية واحتجاجات على ارتفاعات فواتير الطاقة، تطْرح هذه الورقة تساؤلًا رئيسيًّا حول آثار العقوبات الروسية المتعلِّقة بصادرات غازها إلى أوروبا وكيفية مقاومة أوروبا لهذه العقوبات؟ وهل قامت هذه البلدان الأوروبية بتنسيق استجابة جماعية ضد هذه العقوبات الروسية أم تصرَّفت كوحدات سياسية شبه مستقلَّة عن الاتحاد الأوروبي كوحدة دولية يفترض أن لها سياسة موحدة أو أن مثل هذه السياسة هدف رئيسي له، ومدى نجاح تلك المقاومة حتى الآن في مجابهة تلك العقوبات.

طبيعة العقوبات والعقوبات المتبادلة على قطاع الطاقة الروسي:

منذ مارس عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم وعدم تنفيذ اتفاقيات مينسك؛ فرض الاتحاد الأوروبي مجموعة من العقوبات على روسيا، تضمَّنت -بحسب المجلس الأوروبي- عددًا من الإجراءات التقييدية ضد روسيا، بما في ذلك العقوبات الفردية والعقوبات الاقتصادية والإجراءات الدبلوماسية[1].

وبعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في ٢٨ فبراير ٢٠٢٢، أضاف الاتحاد الأوروبي المزيد من تلك العقوبات إلى التدابير التي كانت مفروضة على روسيا، إذ فرض الاتحاد الأوروبي خمس حزم جديدة من العقوبات ضد روسيا، بما في ذلك الإجراءات التقييدية المستهدفة (العقوبات الفردية) والعقوبات الاقتصادية والتدابير الدبلوماسية. كما تبنَّى الاتحاد الأوروبي أيضًا عقوبات ضدَّ بيلاروسيا ردًّا على مشاركتها في غزو أوكرانيا. وبحسب بيانات الاتحاد حول العقوبات، فالهدف من العقوبات الاقتصادية هو فرض عواقب وخيمة على روسيا لأفعالها، وإحباط القدرات الروسية على مواصلة العدوان بشكل فعَّال. كما تستهدف العقوبات الفردية الأشخاص المسؤولين عن دعم أو تمويل أو تنفيذ الإجراءات التي تقوِّض سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها، أو الذين يستفيدون من هذه الإجراءات. بشكل عام فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على 80 كيانًا و1093 فردًا، وتشمل القائمة[2]:

  1. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.
  2. الأوليجاركية المرتبطين بالكرملين مثل رومان إبراموفيتش.
  3. 351 عضوًا من مجلس الدوما الروسي الذين صوَّتوا لصالح الاعتراف بدونيتسك ولوجانسك في 15 فبراير 2022.
  4. أعضاء مجلس الأمن القومي، وكبار المسؤولين والعسكريين، ورجال الأعمال البارزين (أي الأشخاص النشطين في صناعة الصلب الروسية وغيرهم ممَّن يقدِّمون الخدمات المالية والمنتجات العسكرية والتكنولوجيا للدولة الروسية).
  5. الجهات الفاعلة في مجال المعلومات المضلِّلة.
  6. أفراد محدَّدون من عائلات بعض المذكورين أعلاه.

ما يهمُّنا هنا هو العقوبات الاقتصادية بشكل عام والعقوبات على قطاع الطاقة على وجه التحديد، ففيما يتعلَّق بالعقوبات الاقتصادية، فرض الاتحاد الأوروبي في يوليو وسبتمبر 2014، عقوبات اقتصادية تستهدف التبادلات مع روسيا في قطاعات اقتصادية محدَّدة.

في مارس 2015 قَرَّرَ قادةُ الاتحاد الأوروبي مواءمة نظام العقوبات القائم مع التنفيذ الكامل لاتفاقيات مينسك، والتي كان من المقرَّر إجراؤها في نهاية ديسمبر 2015. وبما أن هذا لم يحدث فقد مَدَّدَ المجلس العقوبات الاقتصادية حتى 31 يوليو 2016. ثم تم تمديد العقوبات الاقتصادية على التوالي لمدة ستة أشهر في كل مرة منذ يوليو 2016. وكان قرار تمديدها يُتَّخَذُ في كل مرة بعد تقييم تنفيذ اتفاقيات مينسك. وتم تمديد العقوبات الاقتصادية حتى 31 يوليو 2023. وبحلول 23 يونيو كنا بصدد الحزمة الحادية عشرة من العقوبات ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا، تستهدف هذه العقوبات قطاعات المال والتجارة والطاقة والنقل والتكنولوجيا والدفاع[3].

شملت العقوبات المالية: حظر التعامل بنظام SWIFT لعشرة بنوك روسية، وفرض بعض القيود على وصول روسيا إلى أسواق رأس المال والأسواق المالية في الاتحاد الأوروبي، وحظر المعاملات مع البنك المركزي الروسي، وحظر توريد الأوراق النقدية المقوَّمة باليورو إلى روسيا، كما شملت حظر توفير محافظ العملات المشفَّرة للأشخاص الروس.

وشملت العقوبات على قطاع الطاقة[4]:

  1. حظر استيراد النفط والفحم من روسيا.
  2. تحديد سقف أسعار النقل البحري للنفط الروسي.
  3. حظر تصدير السلع والتقنيات في قطاع تكرير النفط إلى روسيا.
  4. حظر الاستثمارات الجديدة في قطاع الطاقة والتعدين الروسي.

لم يتعرَّض الاتحاد الأوروبي لقطاع الغاز بعقوبات قوية، فقد وردتْ عقوبات محدودة على هذا القطاع في السنة الأولى للحرب تشمل الشركات العاملة في التنقيب عن النفط والغاز والموارد المعدنية واستكشافها وإنتاجها في مناطق محددة تم ضمها من قبل الروس مثل القرم وسيفاستبول والتي كان يجري تمديدها عامًا بعد عام حتى ٢٣ يونيو ٢٠٢٣ بحسب الحزمة العاشرة من العقوبات[5].

أي إنه ضمن ١١ حزمة من العقوبات جاء الغاز في مواضع هامشيَّة جدًّا وبعقوبات هزيلة شملتْ فرضَ قيودٍ على الشركات لمنعها من المساعدة في توفير سعة تخزين الغاز للروس في القرم وبعض المناطق المحتلَّة وذلك ضمن الحزمة العاشرة للعقوبات في ٢٥ فبراير ٢٠٢٣، وبعد هذه الحزمة قدَّم المجلس حظرًا لتوفير سعة تخزين الغاز مع قيامه باستثناء جزء من مرافق الغاز الطبيعي المسال، من أجل حماية أمن إمدادات الغاز في الاتحاد الأوروبي، وتجنُّب تسليح روسيا لإمدادات الغاز ومخاطر التلاعب بالسوق[6].

وبالتالي فإن هذه العقوبات كانت تستثني الغاز الروسي بشكل مباشر، وبشكل أو بآخر القطاع الزراعي الذي تسهم روسيا فيه بحصة عالمية كبيرة وبالذات من صادرات الحبوب والزيوت، وكان هذا التعامل بمثابة محاولة من الاتحاد الاوروبي ومؤسساته لتجنُّب الضرر الكبير الذي يمكن أن ينجم عن عقوبات على تلك القطاعات، سواء على أوروبا نفسها، فلا يعقل أن تعاقب أوروبا نفسها، أو على الدول الأخرى التي تفترض أوروبا قدرتَها على إلزامها بتنفيذ تلك العقوبات سواء في أفريقيا أو حلفاء أوروبا والناتو في العالم، من المحيط الهندي ودول جنوب شرق آسيا إلى أمريكا الشمالية وأستراليا وكذلك بعض دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية الحليفة والرديفة.

تأثير العقوبات على التضخم في أوروبا:

أدَّت هذه العقوبات لارتفاعات كبيرة في أسعار الطاقة بكلِّ أنواعها في الأشهر التالية لتطبيقها، إذْ قادت لارتفاعات كبيرة للتضخُّم في قطاع الطاقة، وهو الذي انعكس بقوة على أسعار السلع الأخرى، فجميع السلع إمَّا منتجة بالطاقة أو منقولة بها، وبالتالي تتأثَّر بأسعارها بسرعة كبيرة، إذ يدخل الغاز في عملية إنتاج الكهرباء وفي العديد من العمليات الإنتاجية وليس فقط في التدفئة المنزلية أو الطهي.

وتؤثِّر أسعار الطاقة العالمية في التضخُّم بشكل كبير ارتفاعًا وانخفاضًا، حتى إن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في أحدث تقاريره يعتبر الوصول لتضخُّم يقترب من ١٥٪ إنجازًا، إذ يشير الرسم أعلاه وفقًا لتقرير صادر عن البنك في مايو ٢٠٢٣ إلى أنه مع اعتدال أسعار الطاقة ، بدأ التضخُّم في الانخفاض، حيث بلغ متوسطه 14.3 في المائة في مناطق البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في مارس 2023. وفي معظم الاقتصادات في مناطق البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ، كان التضخم (على أساس سنوي) أقل في مارس منه في فبراير[7]، وهو كذلك إذا ما قورن بالأشهر الأخيرة من العام الماضي حين وصل التضخُّم إلى ١٧ ونصف في المائة وهو معدل غير مسبوق في أوروبا في العقود الأخيرة، فحتى الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٩ أو أزمة كورونا لم تتسبَّبا بمثل تلك المعدَّلات المرتفعة من التضخُّم.

وبحسب الرسم أعلاه يمكن القول بأن معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو بلغ 6.1٪ في مايو 2023، وهناك تفاوت شديد بين دول الاتحاد الأوروبي في معدلات التضخم، فقد تمَّ تسجيل أدنى المعدَّلات السنوية في لوكسمبورج (2.0٪) وبلجيكا (2.7٪) والدنمارك وإسبانيا (2.9٪)، فيما تم تسجيل أعلى المعدلات السنوية في المجر (21.9٪) وبولندا والتشيك (12.5٪).

وبشكل عام، تشير تقديرات مركز الإحصاء الأوروبي “يوروستات” إلى أنه مقارنة بشهر أبريل، انخفض التضخم السنوي في 26 دولة من الأعضاء وارتفع في دولة واحدة، وبينما انخفض التضخم السنوي إلى 6.1٪ في منطقة اليورو، فإنه يصل إلى 7.1٪ في مجمل دول الاتحاد الأوروبي[8]. وهذا يؤكِّد أن دول أوروبا الشرقية والتي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي السابق هي الأكثر تضرُّرًا بمؤشِّر معدَّلات التضخم، حيث لا تزال تعتمد على روسيا بشكل كبير.

وبحسْب بعض التقارير، هناك كلفة ضخمة للنمو الاقتصادي والأمني في أوروبا، فالحرب تضرب بمعولها إمدادات الطاقة والتجارة الخارجية وسلاسل التوريد، وتدفع معدَّلات التضخم إلى الصعود، بينما أضْحت أوروبا بين خيارات مُرَّة، ورغم تفاوت التقديرات لتكاليف الحرب الروسية في أوكرانيا، وارتداد تأثير العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي الـ ٢٧، فإنَّها تبدو ثقيلة حتى في أدنى مستوياتها. ووفق تقديرات متبانية حتى نهاية إبريل ٢٠٢٢، فإن النمو الاقتصادي الأوروبي قدر أنه سيتعرض لخسارة تراوح بين 0.5٪ و1٪ من ناتجه المحلي خلال العام ٢٠٢٢، أي ما يتراوح بين 895 مليار دولار و1.79 تريلون دولار، وذلك وفقًا لتقديرات مصلحة الإحصاء الأوروبي “يورو ستات” لحجم الناتج المحلي الإجمالي للكتلة الأوروبية بنحو 17.9 تريليون دولار في 2021، ويضاف إلى ذلك كلفة إعادة إعمار أوكرانيا المقدَّرة بنحو 600 مليار دولار[9].

ولا تزال تقديرات تلك الكلفة مختلفة بين المؤسسات الأوروبية والعالمية، حيث تتداخل العديد من المعطيات فالأمر لا يرتبط فقط بواردات النفط والغاز وطبيعة العلاقات الاقتصادية مع روسيا قبل الحرب وبعدها، بل يرتبط أيضًا بعوامل أخرى في غاية الأهمية يجب أخذها في الحسبان مثل تكاليف إيواء اللاجئين الأوكرانيِّين في الدول الأوروبية، والمساعدات التي ستدفعها أوروبا لمواطنيها من محدودي الدخل والفقراء لمقابلة فواتير أسعار الطاقة المرتفعة، كذلك تأثيرات الحرب على تكاليف الأمن والدفاع في دول الاتحاد الأوروبي والتي ضاعف الكثيرُ منها إنفاقَه العسكري، وهو ما يعني زيادة التمويل عبر الاستدانة، فألمانيا تنوي تحديث جيوشها بنحو تريليون دولار، وهناك تكاليف استثمار في دول الاتحاد الأوروبي، خصوصًا الكبيرة، بزيادات كبيرة في ميزانية الدفاع، بسبب مستقبل الخطر الأمني والعسكري الروسي، حتى في حال انتهاء الحرب وموافقة موسكو على الانسحاب من أوكرانيا. بينما تسود مخاوف واسعة من حالة عدم اليقين بشأن توقيت انتهاء الحرب، وبالتالي توقُّف النزيف المالي والاقتصادي الأوروبي.

وإذا كنا بصدد قطاع الطاقة وحده فإن تقريرًا لوكالة بلومبيرج صادر في ٢٥ فبراير ٢٠٢٣، يشير إلى أن ألمانيا وحدها تواجه تحديًا بقيمة تريليون دولار لِسَدِّ فجوة هائلة في الطاقة لديها، وهذا المبلغ أكبر بكثير من مبلغ 275 مليار دولار الذي خصَّصته ‏من أجل التخلُّص نهائيًّا من أزمة الطاقة التي تواجهها حاليًّا. وتشمل تلك التكاليف استثمارات في تحديث شبكات الطاقة، وفي الجيل الجديد من التقنيات لإدارة التخلُّص التدريجي من محطات الطاقة النووية والفحم، والتعامل مع الطلب المتزايد من السيارات الكهربائية وأنظمة التدفئة، والوفاء بالتزامات وتعهُّدات ألمانيا المناخية[10].

العالم الإسلامي كمصدر بديل للغاز الروسي:

من بين الدول العشر الأكثر امتلاكًا لاحتياطيَّات الغاز الطبيعي في العالم يمكننا أن نجد ستة منها من دول العالم الإسلامي، وهي: إيران التي تحتلُّ المرتبة الثانية، بكمية تبلغ 32 تريليون متر مكعب، لكنها على خلاف جذري مع الغرب، سواء بسبب الملف النووي أو بسبب تدخُّلاتها في المنطقة العربية، ويتركَّز أغلب احتياطي الغاز الإيراني في المناطق الجنوبية على سواحل الخليج العربي، ثم قطر جار إيران التي تشارك معها حقل فارس الهائل للغاز، إضافة إلى امتلاكها حقل الشمال، وتحل ثالثًا على القائمة، وبحجم احتياطيَّات يصل إلى 24.7 تريليون متر مكعب، وهي إحدى أكبر دول العالم تصديرًا للغاز المسال، وبدأت مؤخَّرًا في زيادة إنتاجها بهدف الوصول إلى 126 مليون طن من الغاز المسال سنويًّا، مقارنة بحجم إنتاجها الحالي الذي يناهز 77 مليون طن، ما جعلها الهدف الأبرز لأوروبا لتوقيع صفقات توريد الغاز بديلًا عن روسيا، لكن العقبة تكْمن في أن قطر تفضِّل العقود طويلة الأمد، وهو الأمر غير المناسب لأوروبا. ثم تأتي تركمانستان لتحلَّ رابعًا على القائمة بإجمالي احتياطيَّات يبلغ 19.5 تريليون متر مكعب، ورغم ذلك لا يزال الإنتاج ضعيفًا رغم إنتاجها نحو 59 مليار متر مكعب عام 2020، ذهب أغلبه للصين، والباقي لجيرانها في وسط آسيا، ثم تحل السعودية في المركز السادس، ولديها نحو 8.5 تريليونات متر مكعب، وبدأت مؤخَّرًا تطوير بنيتها المتعلِّقة بهذا الملف استجابة لتنامي حجم الطلب في السوق العالمية، تليها الإمارات العربية المتحدة في المركز السابع، التي تفيد التقارير بأنها تمتلك احتياطيَّات من الغاز تتعدَّى 8 تريليونات متر مكعب، وفي المركز الثامن نجد نيجيريا، باحتياطيَّات تبلغ 5.85 تريليونات متر مكعب[11].

وبالرغم من أن العالم الإسلامي وفي المركز منه الأقطار العربية تعيش في موقع المفعولية وليس الفاعلية السياسية في النظام الدولي، إلا أن العديد من بلدانه استفادت بشدَّة من أزمة الطاقة تلك وبالتحديد دول الخليج العربي المنتجة للغاز والنفط بالإضافة لإيران والجزائر ونيجيريا وليبيا وجزئيًّا مصر.

وفي بداية الحرب كان البعض يجادل بأن الاجتياح الروسي لأوكرانيا وضع العديد من الدول العربية المصدِّرة للطاقة في موقف سياسي ملتبس، لكنه في المقابل عزَّز مركزيَّتها في اقتصاد الطاقة العالمي، وربما يؤدِّي في النهاية إلى جَنْيِ مكاسبَ سياسية واقتصادية خصوصًا في المديَيْن، القصير والمتوسط، فاتجاه أوروبا لتعويض واردات الطاقة الروسية، مثَّل فرصة للدول العربية المصدِّرة للطاقة لتكسب حصصًا جديدة لكنه يحمل في نفس الوقت مخاطر اندلاع حرب أسعار بين المنتجين للطاقة.[12]

تشير التقارير إلى أن قطر وتركمانستان ومصر والجزائر ونيجيريا أصبحت تنتج غازًا طبيعيًّا أكثر من المعتاد بعد العزلة الجيوسياسية، التي فرضها الغرب على روسيا وإيران بسبب الحرب، وبالتالي فإن هذه الدول التي زادت من إنتاجها حقَّقت استفادة بالمعنى الاقتصادي الآني، سواء من حيث الأسعار المرتفعة أو الزيادة الكبيرة التي حصلت في الكميات المصدَّرة، وإن كان البعض يشير إلى أن زيادة صادرات الطاقة علامة تخلُّف اقتصادي، حيث كان بالإمكان الاستفادة من هذه الموارد في التصنيع أو الاحتفاظ بها للأجيال القادمة.

فعلى سبيل المثال، في العام السابق على الحرب وفَّرت قطر حوالي 5٪ من الطلب الأوروبي على الغاز، حيث بلغت صادراتها 23 مليار متر مكعب، وفقًا لبيانات ستاندرد آند بورز جلوبال، وكانت أكبر أسواقها إيطاليا (6.6 مليارات متر مكعب) والمملكة المتحدة (6.2 مليارات متر مكعب) وبلجيكا (3 مليارات متر مكعب) وإسبانيا (2.7 مليار متر مكعب) وبولندا (2.4 مليار متر مكعب)، في حين أن قطر ستستفيد في المدى المتوسط من توجُّه أوروبا نحو الغاز الطبيعي المسال ليحلَّ محل غاز خط الأنابيب الروسي، فمن المرجَّح أن يؤدِّي تسريع انتقال الطاقة وتعزيز أمن الإمدادات في أوروبا على المدى الطويل إلى انخفاض الطلب على الغاز بسرعة أكبر في العقد الرابع من الألفية وبداية من العام 2030 [13].

بعد ثمانية أشهر من الحرب أصبح الغاز المسال القطري بمثابة ركيزة رئيسيَّة لواردات أوروبا، في ظلِّ سعيها لإيجاد مورِّدين لتعويض نقص الإمدادات الروسية، وسلَّمت قطر إلى الاتحاد الأوروبي 16٪ من إمدادات الغاز الطبيعي المسال خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2022، لتحتلَّ المرتبة الثانية لأكبر مورِّدي أوروبا بعد الولايات المتحدة وقبل روسيا، حيث إنه بعد سلسلة من الانتقادات الأوروبية الحادَّة سابقًا لقطر على خلفية استضافتها لكأس العالم مع عدم الاستجابة لبعض الاستفزازات الأوروبية، رأينا كيف تودَّدت دولُ الاتحاد الأوروبي إلى قطر بصفة متزايدة، وهو ما ظهر جليًّا خلال الزيارات الرسمية إلى الدوحة التي قام بها العديد من رؤساء الدول والحكومات الأوروبية، أواخر عام ٢٠٢٢، من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المستشار الألماني أولاف شولتس، مرورًا برئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال. ففي سياقٍ مَثَّلَ فيه الغاز الطبيعي المسال في ٢٠٢٢ ما يقرب من 40٪ من واردات الغاز الأوروبية، مقابل 22٪ عام ٢٠٢١ تزايدت أهمية قطر بشدَّة[14].

وبالنسبة للجزائر، فقد سجَّلت إيراداتُ صادرات الغاز الجزائري في 2022 إلى دول الاتحاد الأوروبي قفزة كبيرة بنحو 82٪، إذْ أسْهمت الأزمة الروسية الأوكرانية واشتعال أسعار الطاقة في استفادة خزانة البلاد من التصدير إلى السوق الأوروبية، وبحسْب تقريرٍ حديثٍ لوكالة الطاقة الدولية، فقد ارتفعت إيرادات الجزائر من صادرات الغاز لدول الاتحاد الأوروبي إلى 20 مليار دولار خلال العام الماضي، مقابل 11 مليار دولار في 2021، وحازت إيرادات صادرات الغاز الجزائري حصة 5٪ من إجمالي فاتورة واردات أوروبا، ولكن رغم ارتفاع القيمة -جرَّاء زيادة أسعار الغاز- تُعَدُّ النسبةُ متراجعةً عن عام 2021 والبالغة 9٪[15].

أما بالنسبة لمصر، فتُشير التقارير إلى أنه بالرغم من عدم امتلاكها احتياطيَّات كبيرة من الغاز الطبيعي مقارنة بالمورِّدين الرئيسيِّين للاتحاد الأوروبي، لكنها ضاعفت مداخيلها من صادراته بنسبة كبيرة بلغت 171 بالمئة في 2022 مقارنة بالعام الذي قبله، وبلغت صادرات الغاز الطبيعي في 2022، نحو 8.4 مليارات دولار مقارنة بنحو 3.5 مليارات دولار خلال 2021، أي قرابة 5 مليارات دولار مداخيل إضافية. وحتى وإن لم تتجاوز الصادرات 8 ملايين طن مقارنة بـ 84 مليون طن من الصادرات القطرية، لكن مصر وضعتْ نفسها ضمن قائمة الدول المموِّنة لأوروبا بالغاز، خاصة ضمن تحالف شرق المتوسط للغاز. وكثَّفت مصر بالتعاون مع شركات أجنبية التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، وأعلنت نهاية 2022 عن اكتشاف حقل غاز بحري وصفته بالكبير، والذي تقول وسائل إعلام غربية إن حجمه يبلغ 3.5 تريليونات قدم مكعَّب بالإضافة لحقل ظهر للغاز الذي بلغت احتياطيَّاته 30 تريليون قدم مكعب[16].

كما استفادت تركيا أيضًا من هذه الحرب بتحوُّلها إلى وسيطٍ قويٍّ ومؤثِّر في المفاوضات الدولية مع روسيا حول الغذاء والطاقة وبالتحديد عبر اتفاقات الحبوب، والتي تمَّ التوصُّل إليها في ٢٢ يوليو ٢٠٢٢ ولا يزال يتم تجديدها، ما مثَّل الإنجاز الأكبر للدبلوماسية التركية منذ اندلاع الحرب وحتى الآن، ولولا مثل هذه الاتفاقيَّات لحدثت مجاعات كبرى جرَّاء الارتفاع الحادِّ في أسعار الحبوب، ولكان المتضرِّر الأكبر من هذه الأزمة هي دول العالم الإسلامي وبالذات تلك الواقعة في قارة أفريقيا أكبر المتأثِّرين عالميًّا بالاضطراب في سلاسل الإمداد والتوزيع جرَّاء الحرب.

وعلى مستوى الطاقة، فمن منظور تاريخي كانت أوروبا وتركيا، أكبر المستهلكين للغاز الروسي، لكن بعدما خرجت أوروبا من القائمة بعد غزو روسيا لأوكرانيا العام الماضي، تحوَّلت تركيا على رأس هذه القائمة واستفادت من علاقاتها القوية بروسيا بأسعار تفضيلية والحصول على استثناءات بتأجيل بعض المستحقَّات لروسيا ولعب دور الوسيط في تصدير الغاز الروسي إلى بعض البلدان، ففي ٣ يناير ٢٠٢٣ وقعت اتفاقية لتصدير ما يقرب من 1.5 مليار متر مكعب سنويًّا لمدة 13 عامًا من محطات التصدير والمرافق التركية إلى بلغاريا ضمن محاولة للالتفاف على العقوبات الأوروبية على قطاع الطاقة الروسي، لتتحوَّل تركيا -تدريجيًّا- إلى مصدر لتزويد الدول الأوروبية بإمدادات الغاز المسال[17]. كذلك فإنها ضاعفت من جهودها في استخراج الغاز المحلي بعدما عزَّزت موقعَها في شرق المتوسِّط باتفاق استراتيجي لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا في عام ٢٠١٩.

وفي إطار بحث ألمانيا عن بدائل لإمدادات النفط الروسية، فإنها استطاعت مؤخَّرًا باتفاق مع كازاخستان في ٢٠ يونيو ٢٠٢٣ أن تؤمِّن صفقةً للحصول على النفط الكازاخستاني لمصافيها من النفط الخام بمعدَّل ١٠٠ ألف طن من الخام شهريًّا[18].

من الاقتصاد في استهلاك الغاز إلى تضاعف فاتورته: أية استجابات موحَّدة؟

يطرح البعض تساؤلًا حول وجود طبيعة المقاومة الأوروبية لهذا الوضع الطاقوي، وهل هي مقاومة منفردة أو موحَّدة؟ للإجابة على هذا السؤال علينا مراجعة المؤسسات والتقارير الأوروبية والدولية المعنيَّة بملف الطاقة، وكذلك مراجعة التصريحات الأوروبية المتضاربة بشأن التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على روسيا وتأثيراتها.

بحسْب دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي فإنه في عام ٢٠٢٢ واجهتْ منظومةُ الطاقة في أوروبا أزمةً غير مسبوقة، فقد انقطع عنها ما يزيد عن 80٪ من إمدادات الغاز الروسي اللازم لأغراض التدفئة والعمليات الصناعية وتوليد الكهرباء، وارتفعت أسعار الجملة للكهرباء والغاز بنحو 15 ضعفًا منذ أوائل عام 2021، ممَّا أثَّر تأثيرًا حادًّا على الأُسر المعيشيَّة والشركات. وقد كان مرجَّحًا أن تزداد المشكلة سوءًا، فأوروبا حين إصدار الدراسة كانت على وشك أن تواجه أول فصل شتاء لها بدون الغاز الروسي، الأمر الذي ينطوي على مخاطر حدوث ارتفاع أكبر في الأسعار ونقص في الغاز وركود اقتصادي كبير[19].

يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي اتَّخذ عدَّة مسارات للتعامل مع أزمة الغاز الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، أولها هو تعزيز وراداته من مصادر تقليدية غير روسيا وحلفائها وهو ما يعني التوجُّه أكثر نحو الغاز الطبيعي المُسال الذي يُعَدُّ الخيارَ البديلَ الأساسي، لكن ازدادت تكلفة الغاز الطبيعي المُسال بأكثر من الضعف منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. بحسب دراسة صندوق النقد الدولي[20]، وثانيها العودة لاستعمال الفحم والطاقة النووية في تراجع عن الالتزامات البيئية السابقة لغالبية دول الاتحاد، وثالثها تسريع وتيرة التحول نحو المصادر الجديدة والمتجدِّدة للطاقة.

أما عن سياسة خفض الطلب فبالرغم من تراجع الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي في 2022 بنسبة 13٪ سمحت باقتصاد 55 مليار متر مكعب، ما يعادل نحو إجمالي صادرات الجزائر، تشير التقارير إلى أن فاتورة استيراد الغاز الأوروبية ارتفعت من 120 مليار دولار في 2021 إلى 390 مليار دولار في 2022 ويعد هذا أثرًا مباشرًا للحرب الروسية الأوكرانية، وإذا كانت الطاقات المتجدِّدة لعبت الدورَ الأساسيَّ في تراجع الطلب أوروبيًّا وساعدت على الاستغناء عن استيراد 11 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، فإن ذلك لم يقلِّص فاتورة استيراده، بل تضاعفت كما أشرنا، وإذا كان الاتحاد الأوروبي ينوي معاقبة روسيا بفرض قيود على صادراتها بما فيها صادرات النفط والغاز، فرغم التراجع في حجم الصادرات، فإن روسيا استفادت من تضاعف الأسعار، وضاعفت قيمة مبيعاتها من 40.8 مليار دولار في 2021، إلى 93.6 مليار دولار في 2022، أي بزيادة 52.8 مليار دولار، وهذا يعني أن للسياسات الأوروبية آثارًا عكسية في مواجهة روسيا[21].

من العرض السابق للعقوبات فإن الحزم العقابية الإحدى عشر التي فرضت على روسيا منذ عام ٢٠١٤ كانت حزمًا جماعية فرضت من المجلس الأوروبي وبموافقة البرلمان الأوروبي، وإن كانت هناك بعض الاعتراضات الرسمية لبعض الدول الأعضاء في الاتحاد فإنه جرى تمرير هذه العقوبات بالأغلبيَّة في معظم المؤسسات الأوروبية. على سبيل المثال، كانت هناك اعتراضات كبيرة من بعض دول أوروبا الشرقية في بداية الحرب ضد التوسُّع في العقوبات على قطاع النفط الروسي[22]. ولجأ الاتحاد إلى استثناءات لبعض الدول والشركات في العديد من الأحيان.

بالتوازي مع العقوبات الموحَّدة، التزمت حكومات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بخفض الطلب على الغاز بنسبة 15٪ خلال فصل الشتاء في العام التالي للحرب، وأقرَّت في سبتمبر ٢٠٢٢ تشريعًا يلزمها بأربع مجموعات من الإجراءات على مستوى السياسات، وهي خفض الطلب على الكهرباء، ووضع حد أقصى لإيرادات منتجي الكهرباء ذوي التكلفة المنخفضة الذين يجنون فوائد من ارتفاع أسعار الكهرباء (باستثناء أولئك الذين يحرقون الفحم)، و”مساهمة تضامنية” من شركات الوقود الأحفوري (بما في ذلك منتجي الفحم)، ودعم مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة. ويتعيَّن على منتجي الكهرباء ذوي التكلفة المنخفضة إعادة الأرباح التي تتجاوز الحدود القصوى للإيرادات إلى الحكومات الوطنية، والتي بدورها ستستخدم هذه الأموال في تمويل الدعم المقدَّم للمستهلكين[23].

ووفقًا لتبايُن حجم التأثيرات الاقتصادية للحرب على دول الاتحاد وبينما تطول تداعيات الحرب الجميع، فإن كلفتها الآنية والنهائية ستتفاوت حسب العلاقات التجارية والاستثمارية بين كلِّ دولة من دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، ويُتوقع أن تكون دول الاتحاد الأوروبي التي كانت جزءًا من الكتلة السوفييتية السابقة الأكثر خسارة من الحرب، ما يزيد من مأزق دفع الأثمان، ومن هنا تتزايد الدعوات إلى تقاسم تكاليف الحرب وتداعياتها، وهناك تفكير متزايد حول أهمية تقاسم دول الكتلة الأوروبية معًا تكاليف الحرب، لكن هذا لم ينعكس بشكل كبير على السياسات الأوروبية فالجميع يبحث عن حلول فردية لمشكلاته سواء المتعلقة بالطاقة أو الموارد الأخرى القادمة من روسيا.

وبالرغم أن أزمة الطاقة تشكِّل تحدِّيًا جسيمًا لا يمكن لأيِّ بلدٍ أوروبيٍّ أن يتغلَّب عليه بمفرده، فإن اختلاف مركب الطاقة في البلدان الأوروبية أدَّى لاستجابات متفاوتة ومختلفة للأزمة، فبينما لجأت بعض البلدان إلى التوسُّع في توليد الكهرباء من المصادر المتجدِّدة وزيادة الكفاءة في استخدامها، فإنه في حالات أخرى لم تكن الزيادة في توليد الكهرباء بالفحم والغاز كافية لتلبية الطلب؛ ونتيجةً لذلك فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعًا كبيرًا؛ لدرجة أن بعض المستهلكين توقَّفوا عن الاستهلاك تمامًا، وهي ظاهرة تُعرف باسم “تحطُّم الطلب”. وشهدت أسواق الطاقة الأوروبية شُحًّا لدرجة أن التغيُّرات البسيطة في العرض تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على الأسعار.

وبالرغم من نجاح سياسة خفض الطلب على الغاز بنسبة ١٥٪، إلى حدٍّ كبير، فقد فشلت السياسة الجماعية -الخاصة بتحديد حدود قصوى لأسعار الغاز الروسي- في تحقيق أهدافها الخاصة بمعاقبة روسيا. فروسيا اختارتْ أن تتحمَّل خسائر مؤقَّتة جرَّاء توقُّف صادراتها من الغاز لأوروبا بنسبة ٨٠٪، لكنها في المقابل عزَّزت صادراتها لدول أخرى مثل الصين والهند وتركيا والعديد من دول الجوار الآسيوي وحتى دول شرق أوروبا المستثْناة من القرارات الجماعية أو التي لجأتْ للالتفاف على القرارات عبر استيراد الغاز الروسي مسالًا أو عن طريق طرف ثالث.

وفيما يتعلَّق بالمصادر البديلة للطاقة: فإننا بصدد مستوييْن، هما: مستوى بدائل للموردين الحاليين حيث نجد تكثيفًا كبيرًا للحركة الأوروبية جماعيًّا وفرديًّا باتجاه الدول المصدِّرة للغاز، وبقدرٍ أكبر في المنطقة العربية التي استفادت -كما أشرْنا- من الوضع الذي تسبَّبت فيه الحرب وقرار روسيا قطع إمدادات الغاز لأوروبا، كما لعبت الولايات المتحدة الأمريكية الدور الأبرز في محاولة تعويض نقص الإمدادات من الغاز الطبيعي الروسي عبر الأنابيب، من خلال زيادة صادراتها من الغاز الصخري المسال إلى أوروبا عبر السفن. ورفعت الولايات المتحدة صادراتها من الغاز المسال بنسبة 8 بالمئة في 2022، لتبلغ 110 مليار متر مكعب، استجابة لزيادة الطلب الأوروبي، إذ استوردتْ أوروبا نصف احتياجاتها من الغاز المسال من الولايات المتحدة في 2022. كما أن الجزائر هي الأخرى رفعت صادراتها من الغاز الطبيعي والمسال إلى مستوى قياسي لتصل إلى 56 مليار متر مكعب العام المنصرم، وسعت دول أوروبية لزيادة وارداتها من الغاز المسال من أفريقيا، خاصة نيجيريا وأنجولا وموزمبيق، التي صدَّرت أول شحنة لها في 2022. وبذلك يمكن القول إنه بفضل الطقس المعتدل وسياسة البحث المكثَّف عن بدائل؛ تمَّ تجاوز أزمة الغاز في الشتاء الماضي بنجاح نسبي وكلفة اقتصادية عالية[24].

أما المستوى الثاني فهو مستوى المصادر البديلة للطاقة الأحفورية نفسها، فبالرغم من إعادة تشغيل بعض الدول الأوروبية لمحطات الكهرباء التي كانت تعمل بالفحم أو الطاقة النووية وتم إيقافها للوفاء بتعهُّدات بيئية سابقة، فإنه وفي تَحَدٍّ صناعي هائل لتسريع نزع الكربون في القارة العجوز، عقدت تسع دول أوروبية اجتماعًا في بلجيكا ٢٤ أبريل ٢٠٢٣، التزمت خلاله بتكريس طموحها المشترك بزيادة قدراتها على صعيد طاقة الرياح في بحر الشمال عشر مرات، وأعلن مطلقُ المبادرة رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو إثر القمة في أوستنده أن “هذا يوم حاسم لنجعل من بحر الشمال أكبر محطة للطاقة الخضراء في العالم”. والتزمت سبع دول من الاتحاد الأوروبي هي (فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وأيرلندا والدانمارك ولوكسمبورج) إضافة إلى النرويج وبريطانيا بزيادة قدراتها في مجال إنتاج الطاقة من الرياح بشكل جماعي في بحر الشمال إلى 120 جيجاوات في عام 2030، ثم 300 جيجاوات على الأقل في عام 2050، مقابل إنتاجها جميعًا حاليًّا نحو 30 جيجاوات فقط[25].

وبحسْب الوكالة الدولية للطاقة، فبفضل دعم السياسات المستمر لمصادر الطاقة المتجدِّدة، تمَّ توليد حوالي 50 جيجاوات من طاقة الرياح والطاقة الشمسية في الاتحاد الأوروبي في عام 2022، وهو رقم قياسي. وتجنَّبت هذه الإضافات الحاجة إلى حوالي 11 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في قطاع الطاقة – وهو أكبر محرك هيكلي منفرد لتقليل الطلب على الغاز الطبيعي[26].

لقد نجحت بعض السياسات المنفردة -كما هو الحال في تجربة إسبانيا والبرتغال- في وضع حدٍّ أقصى لسعر الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء، وذلك لتخفيف الأعباء عن المواطنين وضبط التضخُّم وتشجيع شركات الكهرباء على استخدام الغاز، الأمر الذي جرى تدعيمه بقرار لوزراء الطاقة الأوروبيِّين في 18 ديسمبر 2022 بوضع سقفٍ لأسعار الغاز المستخدم في توليد الكهرباء في حال تخطَّتْ أسعاره عتبة 180 يورو للميجاوات/ساعة، وبرَّر الوزراءُ الخطوة بـ”مواجهة ارتفاع الأسعار على مستوى الأسواق”، على أن يبدأ تنفيذ القرار من 15 فبراير ٢٠٢٣، وبالطبع اعترضت العديد من الدول المصدِّرة للغاز على هذا القرار ومنها الجزائر على سبيل المثال[27].

خاتمة:

يمكن القول بأنه ونتيجة للقوة والفجائية التي أصابت بها الأزمةُ الاقتصادات الأوروبية، فإن هناك اضطرابًا في السياسات والمسارات المختلفة للتعامل مع أزمة الطاقة كأثر للحرب الروسية الأوكرانية، وقد أحدثت هذه الحرب تغييرات وتحوُّلات عميقة في سوق الغاز الأوروبي فقد ضاعفت من تكلفته رغم انخفاض كمية الواردات منه في المجمل، سواء بالعودة للمصادر التقليدية للطاقة أو المصادر الجديدة والمتجدِّدة، هذا الأمر خلق جدلًا كبيرًا بين مجموعتين: إحداهما أنصار العودة للمصادر التقليدية كالطاقة النووية أو الفحم، رغم المحاذير البيئية، باعتبار ذلك هو الحل التكتيكي الأكثر واقعية، أما الأخرى فهم أنصار الطاقة الجديدة والمتجدِّدة، وهؤلاء وإن حقَّقت الحرب هدفًا مهمًّا لهم وهو تسريع وتيرة الانتقال للاقتصاد الأخضر والاعتماد على الطاقة الجديدة والمتجدِّدة، فإنها أيضًا كلَّفت الاقتصاد مليارات وأثَّرت بشدَّة في التضخُّم وأعطتْ شرعيةً أكبر للفكر التقليدي السائد والشعبوية المطالبة بالعودة للفحم والطاقة النووية كخيارات أكثر واقعية.

لا يزال الأمر مبكِّرًا للحكم على انتصار أيٍّ من وجهتي النظر، لكن بانتهاء هذه الحرب سوف نكون إزاء خارطة جديدة للطاقة وأهميتها في السياسة العالمية بل وفي الاقتصاد السياسي للنظم الأوروبية والنظم المصدِّرة للطاقة بشكل كبير، سواء في منطقتنا أو خارجها، فبانتهاء الحرب وازدياد الاستغناء عن الغاز قد تفقد هذه البلدان أهميتها الاستراتيجية وإن اكتسبت مئات المليارات من الدولارات جرَّاء التضخُّم، فإن هذا التضخُّم أيضًا أصاب بقيَّة السلع في كلِّ القطاعات، وبالتالي قد يكون صافي أرباحها أقلَّ من خسائرها في العديد من الحالات، ومن ثم فمن لم يستفدْ من الحرب بالتفكير في التحوُّل الجدي لاقتصاد ما بعد النفط والغاز فإنه سيظلُّ يُعاني من مشكلات الاقتصادات الريعيَّة التابعة في النظام الدولي مهما كانت مكاسبه من الحرب.

ويمكن القول إن صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا، المستثْناة إلى حَدٍّ كبيرٍ حتى الآن من العقوبات الدولية، وبالأخص النفط، تموِّل جهود الكرملين الحربية، إذ تجْلب مئات الملايين من الدولارات يوميًّا؛ وبالتالي فإن روسيا استفادتْ من الارتفاع في أسعار الطاقة استفادةً كبرى استطاعت من خلالها تمويل الحرب طويلة الأمد، بل قد تكون إطالة أمد الحرب سياسة مفيدة لروسيا من بعض الجوانب الاقتصادية، وإن كانت خطيرة على صورة روسيا كدولة غير قادرة على حسْم الحرب، وإظهار كوارث جيشها المترهِّل إداريًّا وتسليحيًّا وعمليَّاتيًّا حَدَّ الاستعانة بالقدرات الإيرانية في مجال الطائرات بدون طيار.

وبالرغم من أن الاستجابات الأوروبية الموحَّدة للتعامل مع أزمة الطاقة، سواء في الغاز أو النفط، كانت ناجحةً إلى حَدٍّ كبيرٍ، فإنها تمَّت بكلْفة عالية جدًّا من الناحية الاقتصادية.

وما يثير الانتباه هنا هو عدم وجود تنسيق كبير بين الدول المصدِّرة للغاز الطبيعي تحديدًا، سواء المسال أو غيره، وبالذات من دول العالم الإسلامي، وهي في حاجة إلى هذا التنسيق، فإذا كان الأوروبيُّون أنصار الحرية المطلقة للسوق يقومون بتنسيقٍ عالٍ وتحديدِ سقوفٍ للأسعار وفرْضه على الأسواق العالمية، فمن المهمِّ أن تكون للدول المنتجة للغاز في العالمين العربي والإسلامي استجابة موحَّدة وأكثر تنسيقًا في تحديد طبيعة العقود وآجالها وأسعارها، أو على الأقل تثبيت المبدأ والمعاملة بالمثل فيما يتعلَّق بأسعار الزيوت والحبوب التي تستوردها المنطقة من أوروبا وغيرها، بما يحقِّق أقصى استفادة ممكنة للشعوب العربية والإسلامية.

___________

الهوامش

[1] European Council, EU restrictive measures against Russia over Ukraine (since 2014), available at: https://bit.ly/3Pu8tvG

[2] للمزيد من التفاصيل حول هذه العقوبات يمكن مراجعة تقرير “شرح عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا”، الصادر عن مكتب ممثل الاتحاد الأوروبي (الضفة الغربية وقطاع غزة، الأونروا)، بتاريخ ١٦ أبريل ٢٠٢٢، https://bit.ly/3r7hn8b

[3] European Council, Timeline – EU restrictive measures against Russia over Ukraine,available at: https://bit.ly/3PrVHOf

[4] European Council, EU restrictive measures against Russia over Ukraine (since 2014), Op. cit.

[5] European Council, Crimea and the city of Sevastopol: EU extends sanctions over Russia’s illegal annexation by one year, Press release, 20 June 2022, available at: https://bit.ly/3r3kSgd

[6] European Council, EU adopts its 10th package of economic and individual sanctions, press release, 25 February 2023, available at: https://bit.ly/46oer7p

[7] EBRD, REGIONAL ECONOMIC PROSPECTS, GETTING BY High inflation weighs on purchasing power of households, May 2023, available at: https://bit.ly/3OrYQ0e

[8] Eurostat, Annual inflation down to 6.1% in the euro area Down to 7.1% in the EU, 69/2023 – 16 June 2023, available at: https://bit.ly/42Vrr1n

[9] العربي الجديد، خسائر أوروبا من الحرب الروسية بأوكرانيا تتجاوز تريليوني دولار، ٩ مايو ٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3COwwOC

[10] Petra Sorge and Josefine Fokuhl, Germany Faces $1 Trillion Challenge to Plug Massive Power Gap, Bloomberg News, 25 February 2023, available at: https://bit.ly/44cOeXq

[11] تقرير يرصد الدول العشر الأكثر امتلاكا لاحتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، الجزيرة نت، ٤ مايو ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3CISyCl

[12] ناصر التميمي، تداعيات الحرب الأوكرانية على الدول العربية المصدِّرة للطاقة، مركز الجزيرة للدراسات، ١٩ أبريل ٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3XrDimD

[13] Claudia Carpenter and Meghan Gordon, Feature: Qatar leverages its LNG goals with gas diplomacy amid war, Standard and Boars Global, available at: https://bit.ly/3PvRngV

[14] موقع الطاقة، دينا قدري، بالأرقام.. الغاز المسال القطري يُغري أوروبا لتعويض الإمدادات الروسية، موقع الطاقة، ٢١ ديسمبر ٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/44ks4mu

[15] IEA, Europe’s energy crisis: What factors drove the record fall in natural gas demand in 2022?, 14 March 2023, available at: https://bit.ly/3CN1iHn

[16] 3 دول عربية استفادت من أزمة الغاز الأوروبية في 2022 (تحليل)، وكالة الأناضول للأنباء، ٢ يناير ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3peQDSZ

[17] هبة مصطفى، اتفاق لتوريد الغاز المسال من تركيا إلى بلغاريا.. وخبير: بإذن روسي، موقع الطاقة، ٣ يناير ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pnx8Yd

[18] Bloomberg News, Germany Secures a Deal to Get Kazakh Oil for Crude-Starved Refinery, 20 June 2023, available at: https://bit.ly/3PyM4gP

[19] جيرومين زيتلماير وآخرون، التغلب على أزمة الطاقة الأوروبية، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، ديسمبر ٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/42Y93Vx

[20] المرجع السابق.

[21] تحولات عميقة في سوق الغاز الأوروبي، وكالة الأناضول للأنباء، ٦ أبريل ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3Jpr08S

[22] على سبيل المثال، اعترضت المجر على حزمة عقوبات تقضي بـحظر القسم الأكبر من واردات النفط الروسي وفرض عقوبات جديدة على روسيا في يونيو ٢٠٢٢، لمزيد من التفاصيل انظر: المجر تعرقل حزمة عقوبات أوروبية جديدة على روسيا، دويتشه فيله، ٢ يونيو ٢٠٢٢، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/44BsYv1

[23]  جيرومين زيتلماير وآخرون، التغلب على أزمة الطاقة الأوروبية، مرجع سابق.

[24] بعد تجاوز أزمة الغاز.. أوروبا تستعد لمعركة النفط ضد روسيا (تحليل)، وكالة الأناضول للأنباء، ١٧ فبراير ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pv9WY1

[25] تسع دول أوروبية تلتزم من بلجيكا بزيادة إنتاج الطاقة النظيفة من الرياح البحرية، موقع قناة فرنسا ٢٤، ٢٤ أبريل ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/44g0Woz

[26] IEA, Europe’s energy crisis: What factors drove the record fall in natural gas demand in 2022?, 14 March 2023, available at: https://bit.ly/3CN1iHn

[27] لؤي أحمد، لماذا ترفض الجزائر القرار الأوروبي لتسقيف أسعار الغاز وكيف سينعكس على اقتصادها؟، الجزيرة نت، ١ يناير ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pogrMm

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثلاثون – يوليو 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى