طوفان الأقصى في منظور الفيلسوف والمفكر الإسلامي أ. د. طه عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
تعرفت على أستاذنا المفكر والفيلسوف طه عبد الرحمن من خلال مصنفاته التي قرأت وطالعت الكثير منها، وكانت موضع تباحث وتفاكر مع المعارف والأصدقاء، والأساتذة والطلاب، لألتقي به للمرة الأولى في العام 2017م على هامش مؤتمر “الدين والحضارة: حفظ العمران مقصد شرعي”، الذي نظمته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بالشراكة مع جامعة ابن خلدون بإسطنبول.
ثم تجدد الاتصال الشخصي بأستاذنا الفليسلوف على مدار السنوات السابقة من خلال بعض المراسلات والاتصالات، وحاولت زيارته في العام المنصرم إلا أن ظرفه الصحي حال دون هذا الأمر.
خلال الأيام الماضية وفي زيارتي الثانية إلى الرباط عاودت الاتصال لتردّ علي زوجته المكرمة وتعتذر بسبب ظرفه الصحي، والتي ازدادت سوءاً بعد إجرائه عملية جراحية خلال الأشهر الماضية.
ولم تمر دقائق حتى رجع لي الأستاذ بنفسه يرحب بالزيارة لأن طالب زيارته من غزة، وما إن التقيت به رفقه أخي العالم المغربي الدكتور محمد عوام حتى عانقني، وقال إنني أردت أن أشمّ عبير طوفان الأقصى من خلال هذا اللقاء.
لأزيدَ من ساعة تبادلنا الحديث والنقاش حول هذه المعركة، ولم تخلُ هذه الحوارات مما يشترطه أستاذنا على نفسه في الكتابة: استثمار الطاقة البيانية للسان العربي، والتوسل بأدوات المنطق في تحليل الأفكار.
ويمكن تعداد هذه التفلسفات النورانية لأستاذنا فصلاً جديداً ينضاف إلى كتابه البديع “ثغور المرابطة” في ضوء نظريته “الائتمانية” التي تتوسل “بالفطرة والأخلاق والمُثُل” في دراسة التحديات الكيانية التي تواجه الأمة العربية والإسلامية.
المعنى الحضاري في طوفان الأقصى:
يرى الدكتور طه عبد الرحمن أن طوفان الأقصى استئناف جديد للحضارة، وانبعاث جديد للأمة، وميلاد جديد للإنسان، من خلال قيم جديدة يكتشف فيها المرء ذاته فيغوص إلى أعماقها، ليتصل ظاهره بباطنه، وعاجله بآجله، ومفاهيم جديدة يتلمس فيها حريته في ظل شيوع قيم التعبيد للإرادة الإسرائيلية، وشروط جديدة يستعيد فيها فطرته في واقع شاعت فيه قيم الضلال.
ويضيف: تكتب المقاومة الفلسطينية اليوم تاريخ الأمة، وتقود الإنسانية نحو النور بما ينفتح بصنيعها من عقول، وما يقع وسيقع جراء فعلها المبهر من مراجعات ذاتية: فردية وجماعية، وهي بحقٍ استئنافٌ راشدٌ للعطاء المتواصل، وتوريثٌ إبداعيٌّ للطاقة المتجددة في مسارات التاريخ الإسلامي والإنساني.
وهي – وإن كانت قليلة العديد- إلا أنها عظيمة الأمانة، وشريفة الإرادة، لأنها تعيد تأسيس القيم على الصفات الإلهية، وتعيد تأسيس الإسلام على الصبغة المقدسية، وتعيد تأسيس الروح على القرب الإلهي، وإن بقاء الأمة اليوم وفي الغد مرهون ببقاء المقاومة، وهزيمتها لا قدر الله إيذان بفناء الأمة.
طوفان الأقصى أفق لقراءة غزوة الأحزاب:
يُشَبِّه المفكر عبد الرحمن طوفان الأقصى بمعركة الأحزاب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وواجهوا فيها جيوش المشركين واليهود الذين أحاطوا بالمدينة من الخارج، والمنافقين ومرضى القلوب الذين بثوا فيها الأراجيف من الداخل، حتى بلغت القلوبُ الحناجرَ.
يقول أستاذنا حفظه الله: لقد رأيت هذه المعركة من خلال ما قام به هؤلاء المجاهدون من حسن الاستعداد والتخطيط، وابتكار وسائل الهجوم والدفاع على الرغم من قلة الإمكانيات وعظيم التحديات.
“واحد لا ثاني له في هذا الزمان” ..المقاوم الفلسطيني في مخيال الفيلسوف:
يرى أستاذنا أن المقاومة هي الفعل الذي يسهم في بناء الحضارة الإسلامية وتشييد الحضارات الإنسانية.
ويضيف: إن الطريقة التي يمكن لأمتنا اليوم أن تسهم بها في البناء الحضاري والتجديد الإنساني هي “الجهاد”، وليس أي سبيل آخر، وحتى يرى هذا الإسهام النور لا بد أن تتحمل مسؤوليته فئة من الأمة.
وبحسب الفيلسوف، فإن المقاوم الفلسطيني اليقظ قد انتهض لحمل هذه الأمانة ببراعة، وتحمل هذه المسؤولية بإحسان، فحملها خير حمل، وقام بها خير قيام، بل إنه واحد لا ثاني له في هذا الزمان.
“لم أُسبَق إلى هذا المعنى” .. المقاومة فعل كياني لا سياسي:
المقاومة في منظور الفيلسوف ليست فعلاً جزئياً، بل هي فعل كلي، ويضيف: نظرت إلى المقاومة من ناحية كيانية، وأعني أنه لا معنى للوجود بدون مقاومة، ولا مغزى من الحياة بلا جهاد؛ لأن الوجود والحياة إنما يكتسب من فعل المقاومة نفسه.
والفعل المقاوم يستفزّ ويستجمع كل القدرات الإنسانية: السمع والبصر والعقل، وجميع حواس الإنسان، فلا يتفرد عضوٌ محدَّدٌ ولا إدراكٌ معينٌ بالمقاومة. والجهاد ليس عملاً تقف أو تستبد به مَلكة من الملكات، بل هو استعداد يتوسل بجميع الملكات، وبها يتشكل الإنسان على الحقيقة.
والمقاومة والجهاد بهذا المعنى هي إكسير الحياة الذي وهبه الله للمقاومين، وبدونه لا يكون ثم إلا الموت والفناء كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24]، كما أنها الخصيصة التي يمتاز فيه المقاومون الذين فارقوا مسوغات العجز ودواعي القعود وبواعث السلبية عن سائر المخلوقين من غيرهم ممن رضوا بالخيانة واعتادوا الخذلان، فكانوا أشبه بالأموات منهم بالأحياء، ويصدق في هذه الثلة المجاهدة قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام: 122].
ويرى أستاذنا أنه لم يُسبَقْ إلى هذا المعنى الكلي في تفسير المقاومة، بوصفها فعلاً كيانياً ينهض بوجود الإنسان ذاته.
“لقد هُزِم العقل الصهيوني” .. تحقق حلم الفيلسوف:
حدثنا أستاذنا أنّ وعيه وهمه السياسي بدأ مع هزيمة 1967م، وحينها كان طالباً في الجامعة يميل نحو كتابة الشعر، فأحدثت هذه الحربُ في نفسه زلزالاً شديداً، فاستولى عليه سؤال مصيري مفاده: ما هو هذا العقل الذي استطاع أن يهزِمَ العربَ جميعاً؟ وكيف لأمة كثيرة العدد راسخة التاريخ أن تُهزم؟ ولطالما ساوره هذا السؤال وهذه الأمنية: متى يكون لنا عقلٌ يهزمُ العقلَ الصهيونيَّ؟
يضيف: لقد حملت هذه الأسئلة، والتي هي أسئلة الزمان وأسئلة الأمة، كهُمُوم شخصية ورهانات معرفية، ووجهت دراستي نحو المنطق والفكر كي أتبين الآليات العقلية التي تحقَّقَ بها الانتصارُ الصهيوني، وأوجهَ الخللِ والقصور التي وقعت بسببها الهزيمةُ العربية، ولم يزل صدى هذه الأسئلة يتضخم في نفسي مع مرور الأيام حتى رأيت المقاتلَ الفلسطينيَّ يبدعُ هذا الطوفان، فرأيت بأم عيني كيف انهزم العقل الصهيوني، فشعرت لأول مرة بشفاء الصدر، وحصلت على إجابات تلك الأسئلة التي رابطتُ على ثغري المعرفي من أجل العثور عليها.
إنني أعتقد أنّ أعظم مظهر للعقل العربي والإسلامي في العصر الحديث هو ما تجسد في طوفان الأقصى، حيث تجلت لهذا المقاوم إمكانيات العقل الإسلامي فاكتشف سعته وقوته، وتجلت أمامه إمكانيات العقل الصهيوني فاكتشف محدوديته وهشاشته، فتحمل المسؤولية العملية تجاه هذه الحقائق، فتحققت معه هذه المنجزات الفارقة، وهذا هو معنى الاصطفاء من الله تعالى.
عقل المقاوم هو العقل المؤيَّد:
يقسم طه عبد الرحمن العقول إلى ثلاثة: عقل مجرد تعوقه الحدود، وعقل مسدد تدخله الآفات، وعقل مؤيد يسبح في الكمالات.
ويرى الفيلسوف أن السر وراء هذا النجاح الذي تحقق يوم السابع من أكتوبر هو العقل المؤيد من الله.
ويضيف: هذا العقل مملوء إيماناً خالصاً، يتجاوز كل حدود المادة والأغراض، ويسمو كالملك لا تبقى معه معصية “نور على نور”.
لقد كان هؤلاء المقاتلون ولا زالوا أنواراً تشعّ في الإنسانية كلها بالقيم التي فقدها الإنسان المعاصر، يكتشف فيها فطرته يوم أن أشهده الله على ربوبيته، لتتجلى له في أجلى مظهرها وأبهى صورها.
إن هؤلاء المقاتلين ملكوتيون، فهِمَّتهم لا حدود لها زماناً ولا مكاناً، معلقة بالعرش، وهم تحت الظل الإلهي، يجتمعون على الله ويفترقون عليه، وتقاتل الملائكة معهم.
وما حققوه في ثلاث ساعات برهان على أنهم مثال العقل المؤيد الذي لطالما تحدثت عنه في كتبي ومحاضراتي، فطوبى لهم ..
وهذا برهان جلي وحقيقة ساطعة أن الله تعالى أراد أن يورثهم هذه الأفضلية الإلهية، والخصوصية الربانية، لتكون آيةً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إذ إن المهم هو الاعتبار بهذا الحدث، فهو آية قبل أن يكون حكاية.
“ليتني كنت شاباً فأقاتل معهم!” .. أمنية الفيلسوف في معركة الطوفان “
في لحظة نورانية في هذا اللقاء النوراني باح لنا أستاذنا بمشاعره وأمنيته في هذه المعركة، فقال: ليتني كنت شاباً أقاتل معهم، هذا هو الزمان الذي يستحق الحياة، وهذه هي اللحظات التي ينبغي أن تغتنم، لحظات قرب من الحياة لا يتمنى الإنسان حياة إلا سواها، يتجلى للمقاتل فيها الخطاب الإلهي، يسمعه فيها كمخاطب لا كقارئ لبلاغ، وفي هذه اللحظات إذا دعا استجاب له، وإذا استغفر غفر له، تلازمه أمداد الله ولا تفارقه كما قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]، وكما قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة: 249]. هذه هي اللحظة التي كنت أتمناها لحظة من حياتي في هذه المعركة، لكنها كانت من نصيب هذه الطائفة المختارة.
“كنت محمولاً على هذا الكتاب ” .. الباعث على تصنيف كتاب “ثغور المرابطة” ..
“لطالما شعرت بأنّ هناك واجباً علي لا بد لي أن أقوم به، وإلا تكون حياتي قد فقدت معناها، وأكون قد عصيت الله عصياناً ما عصيته إياه من قبل، إنني محمول على هذا الكتاب، وقد أهديته إلى دار النشر دون أي حق لي، ولا أجر”.
بهذه الكلمات خصنا أستاذنا المفكر حفظه الله حكاية تأليف كتاب “ثغور المرابطة”، والباعث على تصنيفه، وهو سبب لم يذكره في مقدمة كتابه المذكور.
وفيه تتجلى أبعاد المسؤولية الفردية والمعرفية والثقافية والفكرية والفلسفية التي عملت في نفس الفليلسوف بوصفها مسؤولية ومهمة وواجبًا لا يمكن التخلف عنه، وإلا تفقد تلك المفردات دلالاتها وصدقيتها.
الخذلان والتطبيع .. خيانة الأمانة وخيانة الثقافة :
بثّ لنا أستاذنا طه عبد الرحمن حزنه الشديد وألمه العميق إزاء التخاذل الحاصل من الأمة عامة ومثقفيها خاصة .
ومما قاله: إن تخاذل الأمة يدمي القلب، خاصة تخاذل المثقفين، وأنا أعتبر أن عدداً كبيراً من المثقفين قد خانوا الأمانة وخانوا الثقافة.
وإنه لولا التطبيع ما أقدمت دولة الاحتلال على ما أقدمت عليه، ولو أن الدول المطبعة اتخذت موقفاً لتوقفت تلك الهجمات الإجرامية.
وبخصوص الواجب المطلوب يرى الفيلسوف أن الواجب في حق الأجيال الجديدة هو أضعاف الواجب الملقى على عاتق الأجيال السابقة.
والسبب وراء ذلك أن ما كان يقال في العام 1967م هو أن اليهود عادوا إلى وطنهم، أما شباب اليوم فلم يعيشوا لحظات الهزيمة تلك التي كان السائدُ فيها التَّزمتَ والتَّعصبَ لدولة الاحتلال، إنما يحملون تصورات جديدة مصحوبة باستعدادات مختلفة.
والفيلسوف إذ يفرد شباب الأمة بالخطاب فلثقته بأنهم سر الحياة في كل مجتمع وأمة، وأنهم وحدهم القادرون على إخراج الأمم من ظلماتها إلى أنوار الوعي الإصلاحي، وأضرُبِ الحياة الناهضة.
خاتمة
من خلال هذا التدبُّرِ الفلسفي الائتماني والتفكر الأخلاقي العرفاني، المتجاوز لظاهر الأحداث إلى باطنها، يمكن تلمس الآفاق الحضارية والعناصر المعنوية لمعركة طوفان الأقصى ضمن المشروع الفكري الذي شغل أستاذنا طه عبد الرحمن على مدار عقود، وأحسب أنه يتوجب على العقل المسلم المعاصر إعادة قراءة تراثه في ضوء هذا الهمّ المشتعل في نفسه، المتوقّد في ذهنه، الحاضر في ذاكرته، إذ لا يمكن فصل العطاء الفكري للمؤلف عن سيرته الذاتية، ولا يمكن التبصر الدقيق لمراداته وأفكاره بعيداً عن همومه وغاياته.
وقد تجلى في هذه الأفكار العميقة الممزوجة بالمشاعر المرهفة، مفهوم المسؤولية تجاه الأحداث الكبرى التي تواجهها الأمة؛ لتكون معياراً لصدقية الفكرة أو كذبها، وشاهداً على حياة المثقف أو موته، ليُعاد مع طوفان الأقصى تعريفُ الفكر والثقافة، والواجب والأمانة، وليتجدد معه العقل، وتُوقَظَ معه الروح، وتتشيد معه الحداثة؛ لأن هذا التشييد وذلك التجديد متوقف على الفعل الجهادي المقاوم.