سؤال الديون والأزمة الاقتصادية والمؤسسات الدولية مرة أخرى: الأرجنتين وكينيا

مقدمة:

تواجه كل من الأرجنتين وكينيا تحديات اقتصادية تبدو متشابهة إلى حد كبير، بما في ذلك ارتفاع الديون والتضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وكذلك اعتماد البلدين على الإنتاج الزراعي بشكل رئيسي والذي يستحوذ على نسبة كبيرة من الصادرات. ورغم اختلاف الظروف والسياقات، فإن أجندة التعامل مع هذه التحديات الاقتصادية تبدو متشابهة أيضًا خاصة فيما يتعلق بالاستعانة ببرامج الإصلاح الهيكلي التي تتبنَّاها مؤسسات التمويل الدولية وفي القلب منها صندوق النقد الدولي.

لجأت هذه الدول إلى برامج الإصلاح الهيكلي في ظل تساؤلات حول فعالية القروض المشروطة من صندوق النقد الدولي، خاصة في الوقت الذي تكافح فيه دول الجنوب للتعامل مع أزمة الديون المستمرة. تتأثَّر هذه الدول أيضًا بالتغيرات العالمية في إدارة الاقتصاد، فحين ترفع الدول الغنية أسعار الفائدة لضبط معدلات التضخم، على سبيل المثال، تزيد من أعباء الديون على الدول النامية، التي تواجه تحديات إضافية تتعلق بالطاقة والغذاء والمناخ وغيرها من القضايا[1].

وتناقش هذه الورقة ملامح الأزمة الاقتصادية في كل من الأرجنتين وكينيا، ودور المؤسسات الدولية في معالجتها أو في مفاقمة هذه المعاناة، مع الإشارة تحديدًا لدور صندوق النقد الدولي، فيما يتعلَّق بالإجراءات المتبنَّاة ونتائجها، وما تثيره هذه التدخُّلات من تساؤلات وانتقادات خاصة في دول مثل الأرجنتين وكينيا اللتين لهما خبرات سابقة في التعامل مع برامج الإصلاح الهيكلي دون أن تتمكَّن حتى الآن من تحقيق نهضة اقتصادية مستدامة. وعلى ذلك تنقسم الورقة لمحورين رئيسيين، الأول: الأرجنتين.. الأزمة الاقتصادية ومسار الإصلاح الرأسمالي، والثاني: كينيا.. التدهور والإصلاح على أعين الصندوق.

أولًا- الأرجنتين.. الأزمة الاقتصادية ومسار الإصلاح الرأسمالي

أفاد البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في عام 2023 انخفض بنسبة 11٪ مقارنة بمستواه في عام 2011. في السياق نفسه، تُظهر الإحصاءات الرسمية أن معدل التضخم السنوي في البلاد شهد قفزة ملحوظة، حيث ارتفع من رقم أحادي في عام 2004 إلى تجاوز 200٪ في عام 2023، مما يعكس الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تواجهها البلاد[2].

قبل نهاية عام 2023، أدَّت الأزمة الاقتصادية الحادَّة إلى وصول الرئيس اليميني المتطرف خافيير ميلي إلى السلطة. يُعَرِّفُ ميلي، وهو اقتصادي وسياسي أرجنتيني، نفسه بأنه “رأسمالي فوضوي”، وقد فاز برئاسة الأرجنتين في 19 نوفمبر 2023 بعد أن حصل على 55٪ من الأصوات، متفوِّقًا على وزير الاقتصاد الوسطي سيرخيو ماسا. طرح ميلي رؤية جذرية لإعادة هيكلة السياسات الاقتصادية والاجتماعية في بلاده، حيث يتبنَّى نهج “العلاج بالصدمة” لمعالجة التضخم المزمن الذي يعيق الاقتصاد الأرجنتيني[3].

جاءت هذه التطورات في خضم أزمة اقتصادية عميقة تعاني منها الأرجنتين، تتزامن مع مستويات مرتفعة من الديون المزمنة التي تجاوزت حدودًا خطيرة. هذه الأوضاع دفعت الحكومة إلى الدخول في مفاوضات متكرِّرة مع دائنيها، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، سعيًا للتعامل مع التحديات المتفاقمة. في هذا السياق، يصبح من الضروري استعراض أبرز مؤشِّرات الأزمة الاقتصادية، فضلًا عن وضع الديون في إطارها العام، إلى جانب دور المؤسسات الدولية في تحديد أجندات الإصلاح وما ينجم عن ذلك من تداعيات على الاقتصاد والمجتمع الأرجنتيني.

أ) مؤشرات الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين:

تفاقم الديون: مع نهاية عام 2023، تفاقمت أزمة الديون في الأرجنتين، حيث بلغ إجمالي الديون السيادية المستحقة على البلاد أكثر من 400 مليار دولار. من بين هذه المديونية، يُعَدُّ نحو 110 مليارات دولار مستحقَّة لصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى حاملي سندات اليورو المعاد هيكلتها، والتي تملكها جهات من القطاع الخاص[4]. وقد مثَّلت الديون السيادية في الأرجنتين نحو 88٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023، ارتفاعًا من 85٪ في السنة السابقة و81٪ في 2021، وفي عام تفشِّي وباء كورونا تجاوزت ديون البلاد الناتج المحلي الإجمالي بوصولها لنحو 103٪. ويوضح الرسم التالي تطور معدل الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في الأرجنتين خلال الفترة من 2004 وحتى 2023 نقلًا عن موقع “Statista”[5].

وكما يتضح من الرسم السابق، فإن الديون السيادية بالعملة الأجنبية تمثل النسبة الأكبر من جملة ديون الأرجنتين، وهو ما يمثل تحديًا بالنسبة لها في ظل الالتزامات بالسداد وخدمة أعباء الدين، خاصة مع تآكل الاحتياطات الأجنبية[6]، كما تعد الأرجنتين أكثر دولة استدانة من صندوق النقد الدولي على مستوى العالم وفق إحصاءات بتاريخ 4 أبريل 2024 بما يقارب 43 مليار دولار[7].

ارتفاع معدل التضخم: تشهد الأرجنتين معدلات تضخم مرتفعة، مما يؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين، إذ تتجاوز معدلات أكثر من 200٪، ووصلت أحيانًا إلى 300٪، وسط توقعات بأن تصل خلال العام الجاري لأكثر من 100٪[8].

انخفاض قيمة العملة: فقد البيزو الأرجنتيني قيمته بشكل كبير أمام الدولار، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة الواردات ورفع معدَّلات التضخُّم إلى أرقام قياسية. تم تداول العملة الأرجنتينية في السوق السوداء بنحو ثلث السعر الرسمي، وهو ما جعل الحكومة تتغاضى عن هذه السوق بل وتقوم بتقنين جزء منها[9].

البطالة والفقر: شهدت معدلات البطالة والفقر ارتفاعًا ملحوظًا، حيث يعيش نسبة كبيرة من السكان تحت خط الفقر، مما يعكس الأبعاد الخطيرة للأزمة الاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد[10].

لكن كيف يمكن تفسير الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين؟

تعد الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين نتيجة لتفاعل مجموعة معقَّدة من العوامل الداخلية والخارجية، تشمل السياسات الاقتصادية الخاطئة، والفساد، والتقلُّبات السياسية. هذه العوامل مجتمعة أدَّت إلى عدم استقرار مستمر وأزمات متكرِّرة تتكرَّر بين الحين والآخر. لقد شهدت الأرجنتين عدَّة أزمات اقتصادية منذ الثمانينيات، ممَّا أدَّى إلى عدم استقرار اقتصادي وسياسي، فقد أدَّت التقلُّبات السياسية والتحولات المتكرِّرة بين الحكومات اليمينية واليسارية إلى سياسات اقتصادية غير مستقرة. ولعل أبرز الأخطاء المتراكمة من الماضي ما يتعلق بالإفراط في الاقتراض إذ لجأت الحكومات المتعاقبة إلى الاقتراض الخارجي بشكل مفرط لتمويل العجز، مما زاد من عبء الديون، وهو ما أثر على سياسات الدعم والإنفاق الكبير على الدعم الاجتماعي الذي لم يكن مستدامًا، خاصة في أوقات الأزمات، كما شهدت الأرجنتين فترات من التضخُّم المفرط، ممَّا أدَّى إلى تآكل القدرة الشرائية وزيادة الفقر، في ظل فشل البنك المركزي في تبنِّي سياسات تعالج جذور الأزمة، فعدم استقلالية البنك المركزي أثَّر على القدرة على التحكُّم في التضخُّم.

يأتي ذلك في ظل اعتماد الاقتصاد الأرجنتيني بشكل كبير على الصادرات الزراعية، مما يجعله عرضة لتقلُّبات أسعار السلع العالمية، فضلًا عن الفساد وسوء الإدارة، فقد تفشَّى الفساد في المؤسسات الحكومية ممَّا أثَّر سلبًا على التنمية الاقتصادية وزيادة الفجوة الاجتماعية، بالتوازي مع سوء إدارة الموارد الاقتصادية بشكل غير فعَّال؛ وهو ما أدَّى إلى هدْر الأموال العامة، كما تأثرت الأرجنتين بالأزمات الاقتصادية العالمية، ممَّا أثَّر على الاستثمارات والتجارة.

ب) محاولات الإصلاح الرأسمالية وفق وصفة “النقد الدولي”:

ضمن شعارات الإصلاح التي طرحها، تبنَّى الرئيس الليبرالي المنتخب في نوفمبر 2023، خافيير ميلي، برنامجًا طموحًا للخروج من الأزمة الاقتصادية. قام الرئيس ميلي بتنفيذ إجراءات صارمة تهدف إلى تقليص الدعم الحكومي في عدَّة قطاعات حيوية، مثل الطاقة والنقل، متعهِّدًا بتقليص تضخُّم القطاع العام عبر إغلاق بعض المكاتب وتقليص عدد الموظفين العموميين. تأتي هذه التحركات في إطار رؤية أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد الأرجنتيني بشكل جذري.

تتقاطع هذه الرؤية مع توصيات صندوق النقد الدولي الذي تعد علاقاته بحكومات الأرجنتين قديمة ومعقدة، حيث تمتد لعقود طويلة شهدت تقلُّبات عديدة، وصولًا إلى تحوُّل الأرجنتين قبل نحو ست سنوات، بأكبر مدين للصندوق، عندما حصلت على حزمة إنقاذ بقيمة 57 مليار دولار لمساعدة حكومة ماوريسيو ماكري في مواجهة أزمة اقتصادية حادَّة[11].

في عهد الرئيس ميلي، توصَّلت الأرجنتين وصندوق النقد الدولي في يناير 2024 إلى اتفاق يتضمَّن منح الأرجنتين 4.7 مليار دولار كجزء من خطة إعادة هيكلة الديون. من خلال هذا الاتفاق، أعاد الرئيس الجديد للأرجنتين تفعيل حزمة الإنقاذ السابقة التي تبلغ قيمتها 44 مليار دولار، والتي تعود إلى عام 2018.

وقد برَّر صندوق النقد الدولي هذه الخطوة بالإشارة إلى أن إدارة الرئيس الجديد تتبنَّى خطة استقرار طموحة تهدف إلى تقليص العجز المالي بشكل كبير. شملت هذه الخطة أيضًا إجراءات لإعادة بناء احتياطيات البلاد، وتصحيح اختلالات الأسعار، وتقوية ميزانية البنك المركزي، كما سعتْ إلى خلق اقتصاد أبسط يعتمد على مبادئ السوق والقواعد، ممَّا يعكس توجُّهًا نحو تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي في الأرجنتين في ظل الظروف الراهنة، وفقًا لتقديرات الصندوق لبرنامج الرئيس الجديد[12].

قدَّم الرئيس الجديد مقترحات قوانين للبرلمان تهدف إلى خصخصة أكثر من 40 شركة عامة، بالإضافة إلى فرض قيود على حق التجمع والتظاهر. كما قام بخفض قيمة البيزو الأرجنتيني بنسبة تزيد عن 50٪ مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى تخفيضات واسعة في الدعم الحكومي وإلغاء المناقصات لمشاريع الأشغال العامة. علاوة على ذلك، وضع خططًا لدمج تسع وزارات حكومية، مما أثار انتقادات حادَّة من قبل نشطاء تقدُّميين.

وتُشير التقييمات الأولية لنتائج سياسات الرئيس الجديد على المستوى الاقتصادي إلى أن إجراءات الإصلاح ساهمت في استرداد العملة الأرجنتينية نحو 25٪ من قيمتها خلال الربع الأول من عام 2024، مما يعكس تأثير تلك السياسات على السوق المالية والاقتصاد بشكل عام، رغم التحديات الاجتماعية الكبيرة التي تواجهها البلاد[13]. وعلى الرغم من أن وتيرة التضخم الجامح في الأرجنتين قد تباطأت، فإنها لا تزال مرتفعة بشكل ملحوظ، حيث تشير التقديرات إلى أن معدل التضخم السنوي قد يصل إلى نحو 124٪ بنهاية عام 2024. هذا التباطؤ لم يقترن بتحسُّن في ظروف المعيشة للسكَّان، إذ ظلَّت الرواتب ثابتة بينما ارتفعت تكاليف السلع الأساسية بشكل كبير، وذلك بالتوازي مع تقليص الدعم الحكومي.

كما أسْفرت تدابير التقشُّف الصارمة عن تمديد فترة الركود الاقتصادي وزيادة معدلات الفقر لتصل إلى نحو 53٪، كما تأثَّرت فئات واسعة من المجتمع، بما في ذلك العمالة غير الرسمية وأصحاب المعاشات وموظفي الخدمة المدنية، بالإضافة إلى المهنيِّين مثل الأطباء والمعلمين. هذه الظروف تعكس الأبعاد الإنسانية للأزمة الاقتصادية، حيث يواجه العديد من المواطنين تحديات يومية تزداد تعقيدًا[14].

وعليه، شهدت الأرجنتين ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة السكان الذين يعانون من الفقر، حيث ارتفعت النسبة إلى 18.1٪ خلال الأشهر الستة الأولى من رئاسة خافيير ميلي، مقارنة بـ 11.9٪ في النصف الثاني من العام الماضي. ويُحدد مستوى الفقر الرسمي بحوالي 950 دولارًا شهريًّا لأسرة مكوَّنة من أربعة أفراد، ممَّا يعكس ضغوطًا متزايدة على العائلات.

يعكس ذلك التحديات العميقة التي تواجه المجتمع الأرجنتيني، حيث تتصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مما يترك الفئات الأكثر ضعفًا في وضع هش. إن الخطاب الرسمي يعكس توجُّهًا نحو تحميل المسؤولية بدلًا من الاعتراف بالتحديات العميقة التي تواجه البلاد، مما يزيد من تعقيد الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في ظل الظروف الراهنة[15].

كما تهدِّد إجراءات الإصلاح الاقتصادي المرتكزة على التقشُّف بخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي في الأرجنتين. وبينما يسعى الكونجرس الأرجنتيني لتعزيز الإنفاق على فئات محدَّدة لتهدئة الغضب المتزايد من معاناة المواطنين بسبب معدلات التضخم المرتفعة، يتعهد الرئيس اليميني خافيير ميلي باستخدام الفيتو ضد أي تشريع قد يُهدد ما يُطلق عليه “التوازن المالي” للبلاد.

في أكتوبر 2024، جرت محاولة من جانب الكونجرس لإلغاء الفيتو الذي فرضه الرئيس على قانون كان سيساهم في تعزيز الإنفاق الجامعي، تماشيًا مع التضخم المتصاعد. جاءت هذه المحاولة عقب احتجاجات حاشدة من الطلاب والعاملين في الجامعات الذين عبَّروا عن استيائهم من تأثيرات الفيتو على مستقبل التعليم العالي. ورغم جهودهم، فشل المجلس التشريعي في إلغاء هذا الفيتو، مما يُبرز التوترات المتزايدة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

هذا الفشل يعكس عمق الأزمة السياسية التي تواجهها الأرجنتين، حيث تتزايد الضغوط الاجتماعية في ظل السياسات التقشُّفية. كما أن تلك الديناميات قد تُؤدي إلى تفاقم الاضطرابات السياسية وتزايد الاحتجاجات الشعبية، مما يُعقد المشهد السياسي ويُهدد استقرار الحكومة في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متشابكة. إن هذه الظروف تُبرز التحديات الهائلة التي تواجه البلاد في سعيها لتحقيق استقرار اقتصادي يتَّسم بالعدالة الاجتماعية في الوقت نفسه[16].

تجدر الإشارة إلى أن موقف صندوق النقد الدولي تجاه إقراض الأرجنتين قد ارتبط تاريخيًّا بمواقف سياسية، حيث كان الصندوق يتردد في منح التمويلات للحكومات المناوئة للهيمنة الغربية، بينما يسهلها لغيرها، على نحو يعكس مستوى التوترات التاريخية بين السيادة الوطنية والاعتماد على التمويل الدولي[17].

هذه الإشارة التاريخية لها أهميتها فيما يتعلق بتسليط الضوء على الدور السياسي لقروض صندوق النقد الدولي وربما تقدم تفسيرًا لمحدودية نتائجها فيما يتعلق بتحقيق النهوض الاقتصادي للبلدان التي تستفيد بهذه القروض وبما يفسر استمرار المعاناة لملايين المواطنين في كثير من الدول ومنها الأرجنتين وكذلك كينيا وغيرهما.

ثانيًا- كينيا.. التدهور والإصلاح على أعين “الصندوق”

تواجه كينيا أزمة اقتصادية عميقة أدت إلى انخفاض قيمة عملتها الوطنية بنسبة 22٪ مقابل الدولار الأميركي منذ عام 2022. هذا الانخفاض تسبَّب في ارتفاع حاد لأسعار المواد الغذائية والنقل والطاقة، بينما ظلَّ دخل المواطنين ثابتًا، ممَّا زاد من معاناتهم اليومية. في منتصف عام 2024، قرَّرت الحكومة اتخاذ إجراءات تقشُّفية صارمة، شملتْ فرض ضرائب جديدة بقيمة 2.7 مليار دولار في مسعى للحدِّ من عجز الموازنة المتفاقم. تجدر الإشارة إلى أن مدفوعات الفائدة وحدها تستحوذ على 37٪ من الإيرادات السنوية، فيما بلغت الديون الوطنية 82 مليار دولار.

نتيجة لهذه السياسات، اندلعت احتجاجات شعبية واسعة النطاق، حيث طالب المتظاهرون الحكومة بالتراجع عن مشروع قانون المالية. وقد أكد المحتجون أن الزيادات الضريبية ستزيد من الضغوط الاقتصادية على كاهل الشعب الكيني، الذي يكافح لتلبية احتياجاته الأساسية. وقد رافق هذه الاحتجاجات أحداث عنف مأساوية، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 23 شخصًا، وشهدت اقتحام المحتجين لمبنى البرلمان لفترة قصيرة. هذه التطورات دفعت الرئيس وليام روتو إلى التراجع عن الزيادات الضريبية[18].

لذا، يصبح من الضروري تحليل أبعاد الأزمة الاقتصادية في كينيا، وفهم مكانة الديون فيها، واستعراض مسار الإصلاحات الحكومية وما يترتَّب عليها من نتائج وتقييمات.

أ) مؤشرات الأزمة الاقتصادية:

تفاقم مشكلة الديون: تعاني كينيا من مستويات مرتفعة من الديون، والتي زادت بشكل كبير نتيجة الاستدانة لتمويل مشاريع البنية التحتية. عند تولِّي الرئيس وليام روتو منصبه في أغسطس 2022، كانت كينيا بالفعل في أزمة، حيث بلغ دينها الخارجي حوالي 62 مليار دولار، ما يمثل 67٪ من ناتجها المحلي الإجمالي. كان الرئيس السابق أوهورو كينياتا قد استدان بشكل كبير من المقرضين التجاريين ودول مثل الصين لتمويل مشاريع ضخمة، من بينها خط السكك الحديدية الذي يربط نيروبي بمومباسا، وإنشاء 11 ألف كيلومتر من الطرق المعبدة. وكانت معظم هذه القروض تجارية، مما يعني أنها تحمل أسعار فائدة مرتفعة، ورغم الطموحات الكبيرة، فإن هذه المشاريع فشلت في تحقيق الإيرادات المتوقَّعة.

حاليًّا، تبلغ ديون كينيا 82 مليار دولار، منها نحو 8 مليارات دولار مستحقَّة للصين. من بين الدائنين الآخرين، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة، والسعودية، بالإضافة إلى الاقتراض المحلي. ونتيجة لهذه الأعباء، يذهب أكثر من نصف إيرادات الحكومة لسداد الديون، ممَّا يعرقل جهود التنمية ويزيد من الضغوط على الميزانية العامة[19].

تداعيات كوفيد-19 على التضخم والزراعة: استمرت الضغوط التضخمية الناتجة عن جائحة كوفيد-19، إضافة إلى تأثيرات الجفاف واضطرابات سلسلة التوريد في القطاع الزراعي، لتؤثر على كينيا منذ عام 2022ـ إذ بلغ متوسط معدل التضخم العام 8.7٪ بين يونيو 2022 ويونيو 2023، وارتفع إلى 9.6٪ في أكتوبر 2022، وهو أعلى مستوى للتضخُّم يسجَّل منذ عام 2017.

جاء هذا في الوقت الذي كانت الحكومة تسعى فيه للحفاظ على التضخُّم ضمن نطاق يتراوح بين 2.5٪ فوق أو تحت 5٪، مما يعني أن الحد الأقصى كان 7.5٪. ومع ذلك، تجاوز معدل التضخم العام هذا السقف منذ يونيو 2022 واستمر في البقاء فوقه حتى يونيو 2023، مما يشير إلى تحديات اقتصادية جسيمة تحتاج إلى معالجة فعَّالة[20]. يتوقَّع صندوق النقد الدولي أن يصل معدَّل التضخُّم في كينيا خلال عام 2024 إلى حوالي 5٪، لكنه سيرتفع إلى 5.3٪ في العامين التاليين. بالتوازي مع ذلك، تشير التوقعات إلى زيادة إيرادات كينيا بنسبة 19٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الحالي، و19.1٪ في عام 2025، و19.5٪ في عام 2026. كما يُقَدَّر أن ينمو اقتصاد كينيا بنسبة 5٪ في 2024، ويستمر في تحقيق نمو قدره 5.3٪ في العامين التاليين. هذه التوقعات تعكس تحسُّنًا محتملًا في الأداء الاقتصادي، على الرغم من التحديات المستمرة[21].

تفشِّي البطالة والفقر: تعاني كينيا من أزمة عميقة تتمثَّل في تفشِّي الفقر والبطالة، في سياق تحديات كبيرة مرتبطة بالفساد وعدم الاستقرار السياسي، وهذان العاملان يعدَّان أساسيَّيْن لفهم جذور الأزمة الاقتصادية الراهنة. وقد تزايدت معدَّلات الفقر بشكل ملحوظ في ظل ركود الدخول أو تباطؤ نموِّها، مع استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية، خاصة الغذاء والنقل والطاقة. هذا الأمر أدَّى إلى تآكل القدرة الشرائية للمستهلكين، ممَّا أجبرهم على تقليص استهلاكهم أو إعادة تخصيص نفقاتهم بشكل مُلِحٍّ.

خلال الفترة بين عامي 2020 و2022، انخفض معدل نمو الدخل الحقيقي بمعدل متوسط يبلغ 2.7٪، حيث كان معدل نمو الدخل أقل من معدل التضخم، مما زاد من الضغوط الاقتصادية على الأسر الكينية. وتُظهر هذه البيانات الحاجة الملحَّة لتبنِّي سياسات شاملة تهدف إلى معالجة الفقر وتعزيز النمو الاقتصادي، وذلك من خلال تحسين بيئة الأعمال ومكافحة الفساد وتعزيز الاستقرار السياسي، وهو ما يعتبر ضروريًّا لتحقيق التقدُّم المستدام في البلاد[22].

لكن كيف يمكن تفسير جذور الأزمة الاقتصادية المستحكمة في كينيا؟

يُعَدُّ الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية المتهم الأول بالتأثير السلبي على مستوى فعالية السياسات الاقتصادية وإهدار الموارد، في ظل سوء الإدارة وعدم الكفاءة في إدارة المشاريع العامة والموارد الطبيعية بما يزيد من الأعباء الاقتصادية.

كما يؤدِّي اعتماد الاقتصاد الكيني على الزراعة بشكل كبير نقطة ضعف، إذ يجعلها عرضة لتقلُّبات المناخ والأسعار العالمية، فالجفاف والفيضانات يؤثران بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي، كما تُعاني البلاد ضعفًا في البنية التحتية للنقل والطاقة مما يعيق التنمية الاقتصادية ويزيد من التكاليف، في ظل عدم كفاية الاستثمارات الموجَّهة نحو تطوير البنية التحتية وهو ما يؤدِّي إلى تراجع النمو.

في هذا السياق، يتفاقم تأثير الاضطرابات والنزاعات السياسية والعرقية التي تؤثر على الاستقرار العام، مما يعيق الاستثمار والنمو، وهو أمر تؤكده طبيعة الانتخابات التي تشهد أعمال عنف تضر بالثقة في المؤسسات الحكومية. وهنا تجدر الإشارة أيضًا إلى أن اعتماد الاقتصاد الكيني على المساعدات الخارجية، يجعل الحكومة عرضة للتأثيرات الخارجية، خاصة مع ارتفاع مستويات الدين العام نتيجة للاقتراض غير المدروس، وهو ما يؤثِّر على طبيعة برامج الإصلاح الاقتصادي من جهة وطبيعة دور المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد من جهة ثانية.

ب) دور المؤسسات الدولية في رسم روشتة الإصلاح:

تتمتَّع مؤسسات التمويل الدولية بسمعة سلبية في كثير من الدول النامية، ومنها كينيا، كما هو الحال في العديد من الدول الأفريقية الأخرى. لقد انتقد الزعماء الأفارقة، بما في ذلك الرئيس وليام روتو، المقرضين الدوليين بسبب أسعار الفائدة المرتفعة بشكل غير متناسب مقارنة بالدول النامية الأخرى. هذا الموقف السلبي تجاه مؤسسات التمويل الدولية تبيَّن أكثر إبان محاولة فرض الزيادات الضريبية التي تمَّ إلغاؤها منتصف عام 2024، بالإضافة إلى التشريعات المماثلة التي أُقِرَّتْ في عام 2023، والتي كانت مرتبطة بقروض صندوق النقد الدولي في ظلِّ تعرُّض الحكومة لضغوط كبيرة نتيجة أزمة ديونها الثقيلة[23].

في أبريل 2021، أبرمت كينيا، تحت قيادة الرئيس السابق أوهورو كينياتا ونائب الرئيس آنذاك وليام روتو، اتفاقية إنقاذ مع صندوق النقد الدولي. تمثل هذا الاتفاق في برنامج يمتدُّ على 38 شهرًا، حيث أشار الصندوق إلى أن الهدف منه هو مساعدة نيروبي في إدارة ديونها وخلق بيئة اقتصادية جاذبة لاستثمارات القطاع الخاص. بموجب هذا البرنامج، كان من المقرر أن تحصل كينيا على تمويل بقيمة 3.9 مليارات دولار، بالإضافة إلى صندوق منفصل للمناخ بقيمة 542 مليون دولار. إلا أن صندوق النقد الدولي جعل هذه القروض مشروطة بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات، تشمل زيادة الضرائب، وتقليل الدعم الحكومي، وخفض الهدر في الإنفاق. وقد اعتُبرت هذه الإجراءات ضرورية لزيادة الإيرادات الحكومية مع تقليل النفقات.

بدأت كينيا تنفيذ هذه الإجراءات منذ العام الماضي، وأصبح برنامج صندوق النقد الدولي أولوية بالنسبة لروتو منذ عام 2022. تعتمد المدفوعات على مراجعات دورية لتقييم مدى نجاح الحكومة في تطبيق الإصلاحات المطلوبة. وقد كشفت المراجعة الأخيرة في يناير عن نتائج إيجابية، حيث تم تحديد 941 مليون دولار كمدفوعات مستحقة، مما يعكس التقدم المحرز في تنفيذ البرنامج[24].

مَرَّ البرنامج بستِّ مراجعات، حيث حصلت كينيا من خلال المراجعة الأخيرة التي أقرَّها صندوق النقد الدولي في يناير 2024 على 624.5 مليون دولار. في الوقت ذاته، توقع الصندوق ارتفاع معدل التضخم في كينيا خلال النصف الأول من عام 2024، مدفوعًا بشكل رئيسي بتقلُّبات أسعار النفط العالمية وارتفاع قيمة العملة المحلية. ومع ذلك، أشار إلى أن التضخُّم سيبقى تحت السيطرة بفضل تشديد السياسة النقدية خلال عام 2023.

ودعا صندوق النقد الدولي كينيا إلى خفض عبء الدين إلى مستوى دين جديد يبلغ 55٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029. كما أوصى بتنفيذ “استراتيجية لزيادة القاعدة الضريبية، مما سيساعد على خلق مساحة أكبر للإنفاق لتحسين الخدمات العامة. وحث الصندوق كذلك على مراقبة المخاطر التي قد تواجه جهود ضبط الأوضاع المالية العامة، وتفعيل ثلاث خطط طوارئ عند الحاجة.

بناءً على ذلك، دافع صندوق النقد الدولي عن إجراءات الحكومة الرامية إلى زيادة الإيرادات، مؤكدًا أن الحكومة بحاجة إلى رفع مستوى جمع الضرائب لتقليل عجز الموازنة والحد من الاقتراض. يأتي ذلك على اعتبار أن الصندوق هو الجهة المانحة الرئيسية لكينيا، ومن ثم يضغط على الحكومة لخفض العجز المالي بغية الحصول على تمويل إضافي، رغم معاناة المواطنين من ارتفاع تكاليف المعيشة[25].

  • أعباء الإصلاح في عهد الرئيس روتو.. بين المواطنين والسلطة

بعد تولِّيه منصبه، قرَّر الرئيس وليام روتو تعليق الدعم على الوقود والأسمدة كجزء من البرنامج المتَّفق عليه مع صندوق النقد الدولي. ومع ذلك، تم استئناف دعم الوقود في عام 2023 بعد اندلاع احتجاجات واسعة. دعم الصندوق مشروع قانون المالية لعام 2023، حيث فرض ضريبة إسكان بنسبة 2.5٪ على العاملين، ورفع ضريبة القيمة المضافة على الوقود من 8٪ إلى 16٪.

حاول روتو فرض زيادات ضريبية جديدة منتصف العام الجاري لكنها تسبَّبت في احتجاجات واسعة أدَّت إلى تراجع الرئيس عن تنفيذها ضمن مشروع قانون المالية 2024، رغم دعمها من جانب الصندوق، وقد كان من المتوقَّع أن تُدِرَّ 2.7 مليار دولار. جاء هذا التراجع، بعد يوم واحد من تحوُّل الاحتجاجات إلى أعمال عنف، حيث فتحت الشرطة النار على المتظاهرين الذين اخترقوا الحواجز لدخول مبنى البرلمان، مما دفع النواب إلى الفرار.

حاولت مديرة الاتصالات في الصندوق “جولي كوزاك” الدفاع عن إجراءات الحكومة بالقول إن “هدفنا الرئيسي في دعم كينيا هو مساعدتها على تجاوز التحديات الاقتصادية الصعبة وتحسين آفاقها الاقتصادية ورفاهية شعبها”.

كبديل عن الزيادات الضريبية، أعلن روتو عن إجراءات تقشُّفية جديدة تهدف إلى سَدِّ الفجوة الناجمة عن سحب مشروع قانون الضرائب. وأوضح الرئيس أن حكومته ستوفِّر الأموال اللازمة عن طريق خفض 1.39 مليار دولار من الميزانية للسنة المالية التي تبدأ في يوليو 2024، بالإضافة إلى اقتراض حوالي 1.31 مليار دولار. كما أعلن عن حل 47 شركة حكومية، وتقليص عدد المستشارين الحكوميين إلى النصف، وتعليق السفر غير الضروري للموظفين العموميين، وإلغاء ميزانيات زوجات الرئيس ونائبه[26].

ويثير ذلك تساؤلات حول لماذا لا تطبِّق الحكومات إجراءات التقشُّف هذه من البداية طالما أنها تتبنَّى شروط وبرامج صندوق النقد الدولي؟ ولماذا يتم الإصرار على نقل التكاليف إلى الناس؟

تزداد أهمية هذا السؤال بالنظر إلى مسارعة الحكومة الكينية إلى تبني إجراءات التقشف والتشدد المالي، في وقت يُنظر فيه إلى الرئيس وليام روتو على نطاق واسع على أنه شخصية مثيرة للجدل، حيث يُلقب بـ”الرئيس الطائر” بسبب سفره المستمر في طائرات كبيرة وهو ما يبرره بأنه ضرورة لجذب الاستثمارات إلى بلاده التي تُعاني من ضائقة مالية.

لذا، قوبلت سياسات وبرامج التقشُّف التي تفرضها مؤسسات التمويل الدولية بانتقادات حادة داخل كينيا. حيث يُنظر إلى الرئيس على أنه خاضع لتأثير هذه المؤسسات الغربية، مثل صندوق النقد الدولي، الذي دعم البلاد في الإصلاحات الضريبية المرفوضة حاليًّا. ويُعتبر هذا الدعم جزءًا من تسهيل قرض قال الرئيس إنه ضروري لـ”الحفاظ على القدرة على تحمُّل الديون”، ممَّا يثير مخاوف لدى المواطنين بشأن تأثير هذه الإجراءات على مستوى المعيشة[27].

لم يكن صندوق النقد الدولي بمنأى عن انتقادات الناس فحين خرج المتظاهرون إلى الشوارع في يونيو 2024 احتجاجًا على الزيادات الضريبية المقترحة، لم يكن الرئيس وليام روتو وأعضاء البرلمان وحدهم من تعرَّضوا لانتقادات شديدة. فقد تحوَّلت هذه الاحتجاجات إلى أحداث دموية، حيث رُفعت لافتات تُدين صندوق النقد والبنك الدوليين، بدعوى التسبُّب في الأزمة الاقتصادية. وتعكس هذه الأحداث تزايدَ الشعور العام بالاستياء من التدخُّلات الخارجية والضغط الذي تمارسه مؤسسات التمويل الدولية على الحكومة، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية جسيمة[28]. دفعت هذه التطورات منظمة هيومن رايتس ووتش إلى التأكيد على ضرورة التعاون بين الحكومة الكينية وصندوق النقد الدولي لضمان توافق برنامج الصندوق مع حقوق الإنسان[29].

خلاصة:

تواجه كل من الأرجنتين وكينيا حاليًّا تحديات كبيرة بسبب الديون والأزمات الاقتصادية، ويحتاج كلا البلدين إلى استراتيجيات فعالة للتعامل مع هذه القضايا، مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يتطلب تحديد أولويات السياسات لمواجهة الأزمات الاقتصادية من جذورها وعدم الاكتفاء بالعلاج المؤقت لها، وقد يكون تحفيز القطاع الخاص للمشاركة في عمليات إنتاج وتوزيع السلع والخدمات بكفاءة أكبر، من خلال تعزيز المنافسة، وتوفير الوصول إلى المعلومات، وتطوير إطار قانوني يحدد قواعد التفاعل بين المشاركين في السوق بما يضمن تنامي الاستثمار في بيئة تنافسية متكافئة. ومن المهم أن تسير برامج الإصلاح الاقتصادي متوازية مع برامج لدعم حقيقي للفئات الضعيفة عبر العمل على وضع وتطبيق حقيقي للحد الأدنى للأجور وتوفير الخدمات والسلع الأساسية بتكاليف ميسورة لمساعدة الأسر الأكثر احتياجًا على تجنُّب الوقوع في فقر مدقع نتيجة الصدمات والنفقات الطارئة.

وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظة مهمَّة فيما يتعلَّق ببرامج الإصلاح التي تتبنَّاها دول الجنوب مثل الأرجنتين وكينيا وغيرهما، فعلى الرغم من التمايزات بين كل من الأرجنتين وكينيا، فإنهما تتقاطعان فيما يتعلق بموقع الديون في خريطة الأزمة الاقتصادية التي تمرُّ بها كلٌّ منهما من ناحية الاستغراق في الاستدانة وبفوائد مرتفعة تفاقم أعباء خدمة الديون وتعمق الأزمة، وحين تلوح في الأفق ضرورات الإصلاح فإن المسلك يبدو واضحًا بالنسبة للسياسيين في البلدين كما في غالبية الدول النامية وهو المسارعة إلى المقرضين الدوليين وخاصة المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي الذي يقدِّم أجندةً تبدو واحدة في كلِّ الحالات بغضِّ النظر عن التمايزات وعن خريطة توزيع القوة في المجتمع وفيما يتعلق بالعلاقة بين المجتمع والسلطة وفيما يتعلق بأركان توزيع القوة الاقتصادية، فتبادر السلطات ضمن عمليات تنفيذ أجندات الإصلاح الاقتصادية إلى قطع الدعم أو خفضه على الأقل دون أن تبحث عن حلول بديلة تحمي الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ثم تجادل بأنها تتعامل مع أزمات موروثة لم تتسبَّب فيها!

يأتي ذلك بالتوازي مع مقولات تروِّجها السلطات في البلدين كغيرهما من بلدان العالم النامي التي تلجأ إلى مؤسسات التمويل الدولية دون أن تبحث عن بدائل وطنية فيتم تبرير المعاناة الاقتصادية بأنها “ميراث الماضي” وليست نتاج سياسات السلطات القائمة، وكأنها لا علاقة لها بهذه الأزمات، وكأنها أيضًا لم تكن على علم بهذه الأزمات قبل أن تخوض غمار المنافسة للوصول إلى السلطة سواء عبر انتخابات أو بوسائل أخرى.

ومن ثم ينبغي البحث عن جواب لسؤال: لماذا لا تقوم الدول التي تعتمد على برامج مؤسسات التمويل الدولية بعمليات مراجعة لسياسات الإصلاح؟ ولماذا لا تقوم بنقد ذاتي لتقييم أسباب عدم النجاح في تنفيذ سياسات تنموية متكاملة رغم تبنِّيها نصائح الصندوق في كثير من الحالات؟ هل تساعد هذه المؤسسات في تقديم حلول جذرية للأزمات؟ أم تقدِّم مسكِّنات فقط؟ أم أن الأزمة تكمن في السلطات التي تنفِّذ هذه البرامج فتقوم في كثير من الأحيان بإنهاك المواطنين بضرائب إضافية دون أن تحاول خفض نفقات كبار المسؤولين؟ في كينيا على سبيل المثال أعلنت السلطات عن تخفيضات في مزايا بعض الشخصيات العامة لتحجيم الإنفاق ولتعويض الزيادات الضريبية التي كانت في طريقها للتطبيق لولا الاحتجاجات الشعبية عليها والتي اضطرت الرئيس لتعليقها. ولماذا لا تراعي سياسات الإصلاح عند الاضطرار لفرض ضرائب جديدة أن تكون القاعدة المستهدفة من الأغنياء وليس عموم المواطنين الذين يعانون من الأساس معدَّلات تضخُّم مرتفعة وزيادة في تكاليف المعيشة في ظل تآكل القدرة الشرائية لتدبير احتياجاتهم الأساسية.

لماذا لا تفكر البلدان التي طبَّقت وصفات صندوق النقد الدولي مرات عديدة وعبر قرون طويلة في بدائل أخرى؟ كيف يمكن الاستفادة من تجارب دول فضَّلت عدم اللجوء إلى مؤسسات بريتون وودز لحلِّ أزماتها الاقتصادية، بل وآثرت الاعتماد على المقدَّرات الوطنية وتحفيز القوى المجتمعية للمشاركة في حل الأزمات وتحقيق النهضة الاقتصادية كما في حالة ماليزيا إبان أزمتها الاقتصادية 1997؟ بالنهاية ألا يمكن أن تكون برامج صندوق النقد الدولي أصلًا جزءًا من المشكلات الاقتصادية لكثير من البلدان النامية، عبر إغراقها في مزيد من الديون وإطلاق العنان لعمليات الخصخصة التي تتم في كثير من الحالات دون شفافية في ظل افتقاد الأدوات الديمقراطية، وهو ما يتسبَّب في مزيد من الفساد وسوء إدارة الموارد؟ بصيغة أخرى؛ هل تراعي برامج الصندوق الأطر والسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل فرض أجندته على الدول التي تطلب مساعدته؟

قد تكون التساؤلات السابقة موضع اهتمام دراسات أخرى، وقد تكون مهمة إحدى هذه الدراسات القيام برسم خريطة متكاملة لتدخُّلات صندوق النقد الدولي عبر تاريخه أو لحالات ممثلة لأقاليم العالم للوقوف على التباين في طبيعة التدخل وشروطه وأهدافه، والنتيجة التي حققها فيما يتعلق بالتقدم الاقتصادي أو الانغماس في مزيد من الأزمات أو بقاء الوضع على ما هو عليه. وبطبيعة الحال، من المهم إدراك الطبيعة السياسية لتدخُّلات صندوق النقد الدولي فيما يتعلَّق بعلاقة المقترض بالقوى المهيمنة على النظام الدولي، والاشتراطات التي تفرض عليها، وقد سبقت الإشارة لنموذج الأرجنتين وكيف أن تدخُّلات الصندوق كانت تتوقَّف على أيديولوجية السلطة.

________

هوامش

[1] Anusha Rathi, The International Monetary Fund: Holy Grail or Poisoned Chalice?, Foreign Policy, 29/7/2022, available at: https://2u.pw/Df00Aylq

[2] María Victoria Murillo, Argentina Is Still in Crisis: Why Lower Inflation – and Milei – Might Not Last, Foreign Affairs, 23/9/2024, available at: https://2u.pw/KXGu7RoI

[3] الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي.. “الرأسمالي الفوضوي” الداعم لإسرائيل، الجزيرة نت، 21/11/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/wKa5eRWl

[4] «قنبلة الديون» تضع الحكومة الأرجنتينية الجديدة أمام اختبار صعب، الشرق الأوسط، 14/12/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/rfnxxRvc

[5] Gross public debt of Argentina as percentage of gross domestic product from 2004 to 2023, by type of currency, Statista, Retrieved on: 15/10/2024, available at: https://2u.pw/AglwNNmj

[6] «قنبلة الديون» تضع الحكومة الأرجنتينية الجديدة أمام اختبار صعب، مرجع سابق.

[7] أكثر الدول اقتراضا من صندوق النقد.. بلد عربي بالمركز الثاني، الجزيرة نت، 6/4/2024، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/r50Yeb3t

[8] نجوى عسران، أزمة الأرجنتين.. حصيلة من السياسات الخاطئة، CNBC عربية، 5/2/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/H2HHTP8T

[9] المرجع السابق.

[10] رغم تباطؤ التضخم… معاناة الأرجنتينيين مستمرة، الشرق الأوسط، 10/10/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/1QBb7f6L

[11] Jorgelina Do Rosario, IMF has a tough call on Argentina: force major reforms or pull the plug, Reuters, 15/9/2023, available at: https://2u.pw/HmF3XLSK

[12] IMF unlocks $4.7bn for Argentina amid economic crisis, Milei austerity cuts, Aljazeera, 11/1/2024, available at: https://2u.pw/kukUv40U

[13] في الأرجنتين .. البيزو يحتفي بتدابير التقشف وسط ركود الاقتصاد ومعاناة الفقراء، أرقام، 1/5/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Lna7RrQ7

[14] رغم تباطؤ التضخم… معاناة الأرجنتينيين مستمرة، مرجع سابق.

[15] معدل الفقر في الأرجنتين يتجاوز 50٪ تحت قيادة مايلي، أرقام، 27/9/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/IfDHL3uT

[16] رغم تباطؤ التضخم… معاناة الأرجنتينيين مستمرة، مرجع سابق.

[17] الأرجنتين وصندوق النقد… كرّ وفرّ منذ 1956، نداء الوطن، 20/5/2022، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/hLGzI625

[18]  تامر الهلالي، كينيا: تصاعد الاضطرابات الاقتصادية وسط مخاوف من عودة الاحتجاجات، الشرق الأوسط، 14 أبريل 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/YnbxXab9

[19] 6 نقاط تشرح علاقة صندوق النقد والديون الخارجية بأزمة كينيا، الجزيرة نت، 8/7/2024ـ متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/3aNni6bE

[20] Kenya’s cost of living crisis: expert unpacks what’s driving it and what should be done, The Conversation, 16/10/2023, available at: https://2u.pw/w1woqoWH

[21] في 5 أسئلة.. لماذا تستمر احتجاجات كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، الجزيرة نت، 27 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Ztmmved8

[22] Kenya’s cost of living crisis: expert unpacks what’s driving it and what should be done, op.cit.

[23] 6 نقاط تشرح علاقة صندوق النقد والديون الخارجية بأزمة كينيا، مرجع سابق.

[24] المرجع السابق.

[25] في 5 أسئلة.. لماذا تستمر احتجاجات كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، مرجع سابق.

[26] 6 نقاط تشرح علاقة صندوق النقد والديون الخارجية بأزمة كينيا، مرجع سابق.

[27] في 5 أسئلة.. لماذا تستمر احتجاجات كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، مرجع سابق.

[28] 6 نقاط تشرح علاقة صندوق النقد والديون الخارجية بأزمة كينيا، مرجع سابق.

[29] Kenya/IMF: Align Economic Reform with Rights, Human Rights Watch, 16/7/2024, available at: https://2u.pw/PaIkgh58

  • فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والثلاثون – أكتوبر 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى