جمهوريات الممكن وسبل بناء الدولة بأمريكا اللاتينية

مقدمة:

في تأمُّل سياسة العالم وحال الأمم والحضارات على مَرِّ الأزمنة، دليلٌ كاشفٌ على أن محاولات التغيير الحثيثة وإنْ باءَتْ في أحيان كثيرة بالفشل والإحباط، فإنها تظلُّ تعبيرًا قائمًا عن حيوية تلك الأمم، ورغبة في حياة أفضل وأمل في استمرارها، في مقابل حالات الجمود والثبات التي تودي بحياة غيرها.

ولعل تجربة دول أمريكا اللاتينية تعبِّر بامتياز عن حالة حركة دائمة وتقلُّبات ممتدَّة عبر التاريخ، من ركونٍ لاستعمار وحركات استقلال لم تؤدِّ بالضرورة للحرية في كلِّ الأحوال، ومن بعدها سيطرة للنُّظم السلطويَّة وبزوغ للديمقراطية ثم تراجع لها بالإضافة إلى موجات صعود اليسار، وازدهار اقتصادي وأزمات ديون طاحنة، وتنوُّع عِرقي وثقافي وتوارث هرم مجتمعي متحجِّر أحيانًا. لذا كان اختيار عالم الاجتماع الأمريكي “ميجل سنتينو Miguel A. Centeno” والمستشار الدولي “أجوستين فيرارو Agustin E. Ferraro” لتعبير “جمهوريات الممكن” لوصف دول أمريكا اللاتينية  في كتابهما اللذيْن قاما بتحريره “الدولة وبناء الأمة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا“، اختيارًا موفَّقًا إلى حَدٍّ بعيدٍ يختصر تجربةَ قارةٍ كاملةٍ في حالة سعيٍ دائمٍ ومحاولاتٍ لبناء الأمة من جديد في فترات تاريخية استثنائية تستحق دون شكٍّ الوقوف أمامها.

من هذا المنطلق، سيتم عرض كتابي “بناء الدولة في أوقات الرخاء” و”بناء الدولة والأمة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا“،  في محاولة لرسم خريطة واضحة لتجارب عدد من دول تلك المنطقة في بناء الدولة عبر التاريخ، واستخلاص نقاط محدَّدة تساهم في وضع تصوُّر عن إمكانية إعادة بناء الأمة في العالم العربي والإسلامي وفقًا لسياقات الحاضر ومآلاته.

أولًا- بناء الدولة في أوقات الرخاء: الموارد الأولية والائتلافات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا[1].

  • قدرة الدولة ومساراتها في دول أمريكا اللاتينية

عند الحديث عن بناء الدولة، يتبادر إلى الذهن دراسة سُبل ذلك البناء ومساراته وإمكانات تطويره، إلَّا أننا هنا بصدد الحديث عن دوافع بناء الدولة من الأساس وتباين تلك الدوافع باختلاف سياقات الحياة في العالم، فتصورات مواطني الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على سبيل المثال عن مستوى المعيشة وشكل الحياة وممارسات الديمقراطية، تختلف بطبيعة الحال عن حيوات أخرى يقع فيها المواطنون تحت أَسْرِ ظروف صحية متردِّية ومستويات تعليم منخفضة وانشغال بسعيٍ دائمٍ نحو توفير الحدِّ الأدْنى من متطلبات الحياة الآدمية، في ظلِّ سيطرة نُظم سلطويَّة متقلِّبة.

ينقلنا ذلك إلى قضية رئيسية تناولها الكتاب بشكل مباشر وهي تعريف ماهية قدرات الدولة وحدودها (State Capacity) وبيان دوافع بناء الدولة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، وما وراء الضرورة الملحَّة لدى الحكَّام لخلْق سُبُلِ الدخل القومي وإيرادات الدولة.

على سبيل المثال، في أوروبا، كان في القلب من مشاريع بناء الدول، وجود حكَّام يسْعون سعيًا حثيثًا لتحقيق إيرادات تسْمح بخوْض الحروب التي شكَّلت ملمحًا رئيسًا للتاريخ الأوروبي من حيث تفشِّيها واحتياجها لتكاليف باهظة، ما دفع الحكَّام لتكوين بيروقراطيات وبناء مؤسَّسي قاد دولَهم للشكل الحالي للدولة الحديثة، ومكَّنها من أن تشكِّل كيانات قومية قوية رسَّخت أركانها، واستطاعت السيطرة على حدودها وفرض الضرائب على مواطنيها وتطبيق القانون.

وقد اعتمد بعض الباحثين ذلك المنطق الذي صاغه عالم الاجتماع “شارلز تيلي Charles Tilly” في قوله “الحرب تصنع الدولة” لتفسير فشل العديد من مجتمعات العالم النامي لإعادة إنتاج نموذج الدولة الأوروبية، أي إن قلَّة الحروب في خارج العالم الأوروبي أدَّى لصياغة دولٍ ضعيفةٍ بشكلٍ عامٍّ وفقًا لرؤيتهم.

ما هي إذن قدرة الدولة؟ وما هي الدوافع الأخرى التي تؤدِّي لتكوين الدولة غير الحرب؟ يوضِّح الكاتب أن قدرة الدولة على تدبير شأنها تنعكس في تمكُّن الحكَّام من التعمُّق داخل المجتمع المدني وتنفيذ قرارات سياسة لوجستية في نطاقه. كما يشمل تفسير قدرة الدولة، تمكُّنها من فرض القانون وتوفير المنافع والخدمات العامة، وإقامة مؤسسات حكومية فعَّالة، وليس فقط جمع الضرائب وخوض الحروب.

من هذا المنطلق، يناقش الكتاب، بعض مشاريع بناء الدولة “من أسفل لأعلى Bottom up state building projects” أو في قول آخر “من داخل المجتمع إلى النخب الحاكمة”، وكيف يمكن للفاعلين الاجتماعيِّين ذوي المصلحة الذاتية تنمية نطاق قدرة الدولة في فترات ازدهار الموارد الذي يدفعهم للضغط من أجل توفير المزيد من السلع والخدمات العامة وإيجاد مؤسسات أكثر قوة.

فإذا كان السعي لتحقيق الدخل القومي من قبل الحكَّام هو تعبيرٌ عن منطق العرض في بناء الدولة (Supply Side)، فالكتاب هنا يستعرض بالأساس منطق الطلب Demand Side في بنائها من خلال تحليل دافعين أساسيَّيْن في البناء يتمثلان فيما يظهر خلال فترات الرخاء ونمو الموارد الطبيعية من رغبة الفاعلين الاقتصاديِّين في تعزيز مصالحهم، وسعْي الفاعلين الاجتماعيِّين للحصول على مزايا سياسية وضمان تواجدهم داخل البناء المؤسَّسي للدولة.

في واقع الأمر، تعبِّر فترات الرخاء وظهور خدمات عامة جديدة عن حاجة الحكومات للدفع بقوة جديدة، كما يتطلَّب الحفاظ على تلك الخدمات وضمان استمرارها، القيام بأعمال جديدة لم تكن تقوم بها من قبل. على سبيل المثال، يتطلَّب توفير البنية التحتية للنقل، أن تتيح الدول الفرصة لتطوير الخبرة الفنية البشرية اللازمة للقيام بتلك المهمَّة، فضلًا عن حاجتها للإشراف المستمرِّ لضمان صيانتها وتطويرها على المدى البعيد، ما يعني أن تطوير مجال الخدمات العامة والتوسُّع في ظهور منافع جديدة يعزِّز من نطاق قدرة الدولة، كما أن المصالح السياسية والاقتصادية للفواعل الاجتماعية والاقتصادية قد تنعكس إيجابًا كذلك على قدرة الدولة وقوَّتها إذا ما تمَّ دمجهم في بنائها المؤسَّسي عبر سياسات الائتلافات الحاكمة، بدلًا من إقصائهم بعيدًا عن بؤرة القوة السياسية ومن ثم إمكانية تحوُّلهم ليكونوا خطرًا على الحاكمين.

  • المدخل التحليلي للكاتب والنماذج المساقة

وفقًا لما سبق، ينطلق الكاتب لدراسة تأثير طفرة الموارد الأولية وسياسات الائتلاف والتحالف باللجوء لمدخل تحليل تاريخي مقارن يتناول بناء الدولة وفقًا للأساس الائتلافي الذي انتهجتْه ستة نماذج مختلفة من دول أمريكا اللاتينية تنقسم إلى مجموعتين قدَّمتا تنوُّعًا في ثنائية التحالفات السياسية وقدرة الدولة في فترات تاريخية محدَّدة.

تمثِّل المجموعة الأولى نموذجًا لقيام الفاعلين المهتمِّين بسياسات التصدير، بقيادة الائتلافات الحاكمة وتقديم مشاريع معتبرة قدَّمت منافع عامَّة جديدة لدعم الصادرات، أدَّت لنموٍّ ملحوظٍ في قدرة الدولة، بينما تمثِّل المجموعة الثانية نموذجًا لقيام الحكومات بتهميش المصدرين سياسيًّا ولفظهم خارج الائتلافات الحاكمة وعدم إفساح المجال لمشاريعهم المقدَّمة، رغبةً في الاستحواذ على ثروات البلاد والمآثر السياسية؛ ما أدَّى لتقويض قدرة الدولة في نهاية المطاف.

تتمثَّل المجموعة الأولى في: تشيلي (1840-1883) – الأرجنتين (1852-1886) – موريشيوس (1825-1895)            بينما تتكوَّن المجموعة الثانية من: كولومبيا (1880-1905) – غانا (1945-1966)- نيجيريا (1945-1966).

  • فترات الرخاء وبناء الدولة:

تشاركت النماذج الستة في شهودها وفرةً في الموارد الطبيعية وخضوعها لذات السياسات الاستعمارية قبل الاستقلال التي كرَّست من اعتمادها على صادرات الموارد الأولية وعلى الواردات بدلًا من التصنيع المحلِّي، إلَّا أنه بعد الحصول على الاستقلال، اختلف نهج تلك الدول في التعامل مع ما تملكه من موارد وفيرة، حيث تحوَّلت هذه الوفْرة إلى لعنة في بعض هذه الدول، بينما كانت دافعًا للنهوض في دول أخرى.

يطرح الكتاب تساؤلًا حول كيفية تأثير فترات الرخاء وسياسات الائتلاف في عملية بناء الدولة في النماذج الستة من حيث تناوله بالتحليل لدور الضغوط التي تلعبها الفواعل الاجتماعية من أسفل لأعلى في عملية البناء، وكيف يمكن لوفرة الموارد أن تفسحَ المجالَ لبُعْدٍ جديدٍ في قدرة الدولة بدرجة كبيرة لم تَنَلْ إلى الآن القدرَ الكافي من الاهتمام في الأدبيَّات المهتمَّة بدراسة أثر الثروات الطبيعية؛ ولا يعني ذلك أن وفرة الموارد تؤدِّي بالضرورة لزيادة مجال قدرة الدولة، ولكن الأمر يظلُّ مشروطًا بطبيعة سياسات الائتلاف التي يمكنها أن تحوِّل وفرةَ الموارد إلى لعنة أو مزيَّة ذات ثقل كبير.

بشكل عام، تشير نظرية “لعنة الموارد The Resourse Curse” إلى الاعتقاد بأن وفرة الموارد الطبيعية -كالوقود والمعادن وغيرها- تتحوَّل إلى لعنة في الدول النامية ذات البناء المؤسَّسي الضعيف، حيث تؤدِّي بها في نهاية المطاف لضعف التنمية الاقتصادية وعدم القدرة على الاستفادة من تلك الوفْرة. يوضِّح الكاتب أن الأمر لا يعود فقط لسياق ضعْف المؤسَّسات، بل إن طبيعة سياسات الائتلاف هي المفتاح الرئيس الذي مَكَّنَ المجموعة الأولى من النجاة من تلك اللعنة والقفز من وضعٍ اقتصاديٍّ متردٍّ إلى نهضة قوية الأركان.

على سبيل المثال، غلب على تشيلي وموريشيوس والأرجنتين سيادة الائتلافات الدافعة للتصدير ودمْج الفواعل الاقتصادية والاجتماعية في الحكم، بينما سيطرت النُّخب السياسية على الائتلافات الحاكمة في كولومبيا وغانا ونيجيريا، ما أدَّى بها في نهاية المطاف للإصابة بتلك اللعنة، رغم أن جميع الدول الست لم يشكِّلوا أبدًا دولة مؤسَّسات قوية في بداية فترة ازدهار الموارد، أي إن ضعف المؤسَّسات لم يكن هو المحرِّك الرئيسي لعدم الاستفادة من وفرة الموارد، بل طبيعة الائتلافات السياسية الحاكمة التي شهدتها تلك الدول كانت هي كلمة السر في الأمر برمَّته.

أدَّت الطفرة في القمح والنحاس في تشيلي (1848-1883) إلى عملية بناء للدولة مؤثِّرة. فقد شجَّعت فرصُ التصدير الجديدة على الاهتمام بالمزيد من المنافع والخدمات العامة كالسكك الحديدية لتخفيف اختنافات النقل، وتحسين الخدمات المصرفية لتوفير فرص ائتمان أكثر تطوُّرًا. في الواقع، لم يكن كلُّ المصدِّرين مشاركين في الائتلاف الحاكم، حيث تعرَّض منتجو النحاس في الشمال الصحراوي ومزارعي القمح في الجنوب للتهميش والتجاهل من قبل الحكومة؛ ما أدَّى لتضرُّرهم من السياسات العامة.

أدَّى ذلك الأمر إلى اتِّجاه هؤلاء لشنِّ حربين أهليَّتين في الخمسينيات من القرن التاسع عشر؛ ما أثار قلق النُّخب الحاكمة آنذاك الذين خشوا من امتناع هؤلاء عن المشاركة في إنتاج القمح كردَّة فعلٍ لإبْعادهم عن السلطة، واستجابةً لذلك الوضْع، اتَّجه الائتلاف الحاكم لتعزيز مؤسَّسات الدولة خاصَّة على مستوى البلديَّات كي تتمكَّن من احتواء خصومهم، كما اتَّجهوا لتهدئة الحدود الجنوبية للقضاء على الخطر القائم من جانب مزارعي القمح والذي شكَّل تهديدًا للنُّخبة الحاكمة. أدَّت تلك الجهود لزيادة قدرة الدولة واتِّساع مدى تدبيرها بصورة كبيرة.

على نحو آخر، شهدتْ كولومبيا (1880-1905) طفرةً كبيرةً للمرة الأولى في إنتاج البُنِّ في مرحلةٍ من تاريخها رسَّخت لتهميشٍ سياسيٍّ للفاعلين المهتمِّين بالتصدير، دفعت تلك الطفرةُ المصدِّرين للرغبة في تطوير البنية التحتيَّة للنقل ودعم السياسات المصرفية والنقدية مثلما كان الحال في النماذج الأخرى محل التحليل. لكن النُّخب الحاكمة في تلك الفترة من تاريخ كولومبيا لم يُولُوا اهتمامًا بسياسات التصدير، ولم تظهر كولومبيا في ذلك العهد كمعقلٍ لإنتاج البُنِّ على مستوى العالم كما كان متوقعًا، بل على العكس من ذلك، لم تساهم سياسة الدولة آنذاك في دعم إنتاج البُنِّ سوى بنذْرٍ يسيرٍ، فجاء تصميمُ السكك الحديدية بصورة مجزَّأة وبعيدةٍ عن بؤر إنتاج البُنِّ، كما شهدت تلك الفترة حربًا أهليَّةً كارثيَّةً في كولومبيا، هي حرب الألف يوم (1899-1902) زادت من تردِّي الوضْع.

على العكس من تشيلي والأرجنتين، لم يكن أعضاءُ الائتلاف الحاكم ذوي توجُّهات تصديريَّة ولم ينظروا للمصدِّرين كتهديدٍ خطيرٍ، وبالتالي شعروا أن بناء المؤسَّسات هو أمرٌ غيرُ ضروريٍّ حيث إن خصومَهم لا يشكِّلون خطرًا يرْقى لتهديد مصالحهم الأساسية.

إجمالًا تعبِّر مآلاتُ النماذج الستِّ عن وزن سياسات الائتلاف الحاكم في عملية بناء الدولة وكيف كان اختلافها عاملًا رئيسًا في خمول قدرة الدولة على تدبير شؤونها، في كولومبيا ومثيلاتها، ووقوعها في لعنة وفرة الموارد، وانطلاق تشيلي ومثيلاتها نحو نموٍّ اقتصاديٍّ غيَّر من مسار حياة شعوبها.

ثانيًا- بناء الدولة والأمة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا[2]

  • أداء الدولة وفاعليتها

عند الخروج من كَنَفِ المستعمِر، تواجه الدول حديثة العهد بالتحرُّر تحديًا جللًا لخلع ثياب الاحتلال بكلِّ ما حمله من تفاصيل، والبدء في صياغة أسلوب حياة وسياسة جديدة ترسِّخ عبرها وضعيَّة الاستقلال، وتثبِّت أركانها في الأرض ككيان قائم بذاته. على عكس الثورات الفرنسية والأمريكية، لم تَسْعَ جمهوريات أمريكا اللاتينية لصياغة يوتوبيا سياسية وصناعة نماذج مؤسَّسية لم يكن لها وجود من قبل، بل كانت من أوائل الكيانات السياسية الحديثة التي تأسَّست وفقًا لقوالب مؤسَّسية وبيروقراطيَّات مُجَرَّبَةٍ بالفعل، وحقَّقت نجاحًا ملموسًا إلى حَدٍّ كبير.

من هذا المنطلق، بدأت دول أمريكا اللاتينية المستقلَّة وإسبانيا في مشاريع بناء للدولة وهي على وعي بضعف وعدم استقرار مؤسِّساتها القائمة، سعيًا لتطوير بناءٍ مؤسَّسي يضْمن قيامَ أنظمةٍ سياسيَّةٍ مستقرَّةٍ، وذلك بتكييف وتطبيق نماذج مؤسَّسات قائمة بالفعل، بما يتوافق وأوضاع دولهم في ذلك الحين، أملًا في صناعة جمهوريات الممكن وليس جمهوريات الأمثل.

كان التساؤل الرئيسي القائم طوال منتصف القرن التاسع عشر بأمريكا الجنوبية هو كيفية تطبيق نماذج مؤسسات الدولة الحديثة بما يتوافق والأوضاع الداخلية لتلك الدول، وذلك بعد ما شهدتْه من فشلٍ لمشاريع السياسة العامة وضعف مؤسَّسي ملحوظ.

من هنا، انصبَّ اهتمام الكتاب على دراسة أساليب وسياسات بناء الدولة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، منذ بداية عهد الاستقلال إلى تراجع الليبرالية كفكرٍ رئيسٍ شَهِدَ نوعًا من الهيمنة خلال القرن التاسع عشر في هذه المنطقة من العالم، وتراجع في الثُلُثِ الأول من القرن العشرين في معظم أجزاء أمريكا اللاتينية.

يطرح الكتاب عدَّة أسئلة بحثيَّة في محاولةٍ لاتِّخاذ خطواتٍ للإجابة عليها عبر فصوله أهمها: كيف يمكن أن تحدِّد الموروثات التاريخية قدرة الدول ومداها؟ وما هي الطرق المتاحة والعوائق التي تقف أمام صياغة تنظيم فعال للقوة السياسية؟ وكيف يمكن أن تنجح الدول في تصميم مؤسَّسات قادرة على تقديم الخدمات الأساسية المرتبطة بحقوق المواطنة؟ وكيف يمكننا الجمع بين مفهوم المجتمع الذي يستوعب مجموعات متنوِّعة وثقافات مختلفة في إطار هُويةٍ واحدة، واحترام تفرُّد التقاليد والحفاظ عليها؟ إجمالًا، ما الذي يجعل من أداء الدولة أداءً فعَّالًا، مع الأخذ في الاعتبار كيف ظلَّت الدولة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا خلال القرن التاسع عشر ضعيفة حتى يومنا هذا، ولكن تفاسير أسباب ضعفها لا تزال غير كافية إلى الآن، وبحاجة للمزيد من التفصيل.

  • المدخل التحليلي للكتاب والنماذج المساقة

يرى مؤلِّفا الكتاب أن أمريكا اللاتينية مرَّت بتحوُّلات كبيرة خلال الفترة من العام 1810 إلى 1900، ورغم نجاح العديد من دول المنطقة في تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ وتطوُّر اجتماعي، لكن ضعف البناء المؤسَّسي ظلَّ قرينًا لهم ولم تتمكَّن الدراسات في هذا المجال من فتح ذلك الصندوق الأسود للفشل المؤسَّسي وتحليل أسبابه بالقدْر الكافي الذي يسْمح بإسْقاط تلك التحليلات على الحاضر المُعاش والاستفادة من دروس الماضي لتجنُّب الوقوع في العوائق ذاتها.

من هنا، يعتمد الكتاب مدخل التحليل التاريخي، لدراسة أسباب ضعف البناء المؤسَّسي في أمريكا اللاتينية وإسبانيا خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ليس من خلال مقارنة نماذج بعينها بعضها ببعض بصوة مباشرة، ولكن باعتماد تحليلات عامة بدايةً من نشأة الدول القومية وعمليات بناء الدولة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا، فضلًا عن دراسة عملية بناء الدولة في أوروبا الغربية وأمريكا خلال الفترة الزمنية ذاتها، ثم الانتقال لدراسة نماذج متعدِّدة في تلك المرحلة التاريخية كالبرازيل، والمكسيك، ونيكاراجوا، وتشيلي، والأرجنتين، وأمريكا الوسطى، وكولومبيا، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على الليبرالية في بدايات القرن التاسع عشر في إسبانيا وأمريكا، ونظرة على دور القضاء والقانون في تلك المرحلة من بناء الدولة بعد الاستقلال.

  • القوة والاقتصاد والمؤسسات

مرة أخرى، وفي محاولة للإجابة على التساؤل القائم عن ما الذي يجعل الدول كيانًا ذا أداءٍ فعَّال، يظهر مفهوم “قدرة الدولة State Capacity” والذي شكَّل عنصرًا رئيسًا من النظرية الاجتماعية الألمانية خلال القرن التاسع عشر. يأتي السؤال هنا كيف يمكن تتبُّع أنماط قدرة الدولة المتنوِّعة خلال قرن كامل في أمريكا اللاتينية وإسبانيا للوصول إلى أساليب وسياسات بناء الدولة في تلك المرحلة التاريخية وتلك الرُّقعة الجغرافية من العالم.

يحدد الكتاب أربعة أوجه لقدرة الدولة وقوَّتها. يتمثَّل الوجه الأول في صفة الإقليمية (Territoriality) التي تعبِّر عن احتكار الدولة لممارسة القوة، تلك القوة التي تتمكَّن النُّخب الحاكمة من فرضها على المجتمع المدني دون الحاجة للدخول في مفاوضات أو نقاشات مع فواعل أخرى. في قول آخر، تلك القوة هي قدرة الدولة على فرض الأوامر والنظام. ويتمثَّل ذلك الجانب من قدرة الدولة خارجيًّا من حيث فرض الدولة سيادتها على أرضها أمام الدول الأخرى، وداخليًّ تجاه أي مجموعات مضادَّة لها.

أمَّا الوجه الآخر من قدرة الدولة فهو الوجه الاقتصادي (economic) الذي ينعكس في دور الدولة في تحقيق رفاهية المجتمع وخلق مجال لسوق قومي، وتوفير البنية التحتية التي تُتيح دمجَ الاقتصاد القومي في حركة التبادل والاقتصاد العالمي. ويعتبر وجهَا القوة والاقتصاد هما الوجهان الكلاسيكيَّان لقياس قدرة الدول القومية في أوروبا حيث يتحوَّل مجال قدرة الدولة لمجال ممارسة للسيطرة على الأموال والأجساد والسلوك العام.

أمَّا الوجه الثالث من قدرة الدولة فهو المختص بالبنية التحتيَّة (Infrastructural) أو بمعنى آخر قدرة الدولة على صياغة بناء مؤسَّسي يضْمن تقديم الخدمات العامة وسُبل النقل والاتصال وتناقُل المعلومات، أي قدْرتها على ربْط أجزاء المجتمع عبر إنْفاذ القانون والإدارة في مناحي الحياة الاجتماعية وهو ما لم يكن يدْخل ضمنَ نطاقِ اهتمامِ الدولةِ قبل التوسُّع الكبير في ممارسة ذلك النوع من القوة أو القدْرة في القرن التاسع عشر.

ويمكن قياس تلك القوة على سبيل المثال من خلال تحديد مدى نجاح السياسات العامة، أو إلى أي مدى نجحت الدولة في الدفاع عن النظام العام، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية وتقديم الخدمات العامة؟ يعبِّر هذا النوعُ عن أهمِّية البناء المؤسَّسي للدولة وقدرتها على بناء هيكلها الإداري المنخرط في خدمة متطلَّبات المجتمع بصورةٍ غير مركزيَّة، وهو مساحة للتلاقي بين الدولة والمجتمع المدني.

يتمثَّل الوجهُ الأخيرُ لقوَّة الدولة في القوة الرمزية (Symbolic power) أو الشرعية أو بتعبير آخر “احتكار الدولة لممارسة الشرعية أو تلك القوة التي تثبت حتمية وجودها دون لجوء لنزاع أو فرض بالقوة”.

انطلاقًا من تلك الرؤية، يحاول الكتاب تقسيم مشاريع بناء الدولة وفقًا لتلك الأوجه الأربعة، حيث يعبِّر وجها القوة الكلاسيكية والاقتصاد عن محاولات تثبيت دعائم قوة الدولة الملموسة، وهو ما تَمَّ بالفعل في أمريكا اللاتينية وإسبانيا بنهاية عام 1860، وبناء قوة اقتصادية مدْمجة في الاقتصاد العالمي وهو ما أخذ مجْراه بين 1860 إلى 1930 بنسب نجاحٍ متفاوتةٍ. على الجانب الآخر، لم يَنَل الجانب الرمزي والمؤسَّسي الاهتمامَ ذاته في دراسة عملية بناء الدولة مثلما كان الحال مع القوة الكلاسيكية، بل تعرَّض للتهميش في أدبيَّات بناء الدولة، لذلك حاول الكتاب التركيز على بناء القوة المؤسَّسية والرمزية كأساس لدراسة مشاريع بناء الدولة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا خلال تلك المرحلة التاريخيَّة.

في هذا الصدد، من الأهميَّة بمكانٍ بيان الاختلاف بين مسارات دول أمريكا اللاتينية ومسار إسبانيا تحديدًا في عملية بناء الدولة، فرغم اشتراكها في خصائص وأحوال متشابهة خلال القرن التاسع عشر، فإن مساراتها اختلفت بشكل كبير بعد ذلك، حيث شهدت إسبانيا نوعًا من المعجزة اتَّضحت معالمها في النصف الثاني من القرن العشرين.

على سبيل المثال، نالتْ إسبانيا قدرًا كبيرًا من الثقة على مستوى أسواق المال العالمية في بدايات القرن العشرين حتى إنها كانت ملزمة بدفع أقساط من دينها أقلَّ كثيرًا مقارنة بدول أمريكا اللاتينية مع بداية الحرب العالمية الأولى. على الجانب الآخر، خاضتْ إسبانيا في ذلك الوقت عملية دمقرطة كبيرة مع ارتفاع نسبة السكَّان الممنوحين -ولو اسميًّا- حق الاقتراع مقارنةً بأمريكا اللاتينية، حيث ظلَّت النسبة ثابتةً كما هي. أيضًا، شهدت إسبانيا انخفاضًا ملحوظًا في نسبة السكَّان الذين لم يلْتحقوا بالتعليم، وهو الأمر الذي ظلَّ في تصاعدٍ مع الجمهورية الثانية، واستمر بعد ذلك منذ نهايات عام 1950.

كانت الثقة التي اكتسبتْها الحكومة الإسبانية في الأسواق العالمية، فضلًا عن النتائج الإيجابية الملحوظة في مجال التعليم وغيرها من السياسات العامة الموفقة، تعبيرًا عن ازدياد حجم قدرة الدولة خاصَّةً فيما يتعلَّق بالبنية التحتيَّة والبناء المؤسَّسي وتحوُّلها من دولةٍ مهزوزةٍ إلى دولةٍ ذات اتِّزانٍ وثباتٍ كبيريْن مع بدايات القرن العشرين، وهي الفترة ذاتها التي شهدتْ فيها معظم الدول الأوروبية الحديثة ازديادَ قوَّتها على الأوجه الأربعة وليس خلال القرن التاسع عشر كما هو شائع، ويستوي في ذلك الدول الأوروبية الكبْرى كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، أو الأقل قوَّة مثل إسبانيا.

يتَّضح الفارق بين مآلات إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية في استمرار النموِّ وخطوات بناء الدولة الحديثة عند المقارنة بين إسبانيا والأرجنتين على وجه الخصوص حيث تشارَك البلدان في بداية الأمر العديدَ من أوجه الإصلاح، وبدت الأرجنتين في السنين الأولى من القرن العشرين واحدة من أكثر دول أمريكا اللاتينية اتِّزانًا، ومرشَّحة بقوَّة للتحوُّل إلى دولة حديثة قويَّة البنيان. كان الاهتمام بالتعليم وإقامة مؤسَّسات للتعليم العام ملمحًا مشتركًا ضمن جهود التطوير في العديد من دول أمريكا اللاتينية مثل تشيلي وكوستاريكا وبيرو، ولكن إسبانيا والأرجنتين شكَّلتا أكثر النماذج نجاحًا حيث شهدت كلتاهما إصلاحات معتبرة في مجال التعليم مثل قيام الحكومة في إسبانيا بتمويل رواتب المدرِّسين من الميزانية الرئيسية للدولة، وقيام الأرجنتين بتأسيس مدارس عامة في كلِّ المقاطعات يتمُّ تمويلُها مباشرةً من الدولة. ولكن بشكل عام، اختلف مسار البناء المؤسَّسي وأُسس الإدارة والتحديات التي واجهتْها في كلِّ دولة من دول أمريكا اللاتينيَّة، ما كان له أكبر الأثر في عملية بناء الدولة في مجملها في كلِّ حالة.

وكان من التحديات الواضحة التي واجهتْها العديدُ من دول المنطقة على سبيل المثال: مقاومة النخب المحافظة للتعليم العام بما في ذلك إسبانيا، وعدم القدرة على تحقيق الاستقلال واللامركزية في إدارة السياسات العامة كما كان الحال في الأرجنتين.

بشكل عام واجهت العديد من دول أمريكا اللاتينية مشاريع تحديث مؤسَّسي غير مكتمل أَدَّتْ لحدوث ضعفٍ في بناء الدولة وعدم استقرار مساراتها في الحاضر المُعاش.

خاتمة:

تختلف سياقات كل حقبة تاريخيَّة ومفاتيح كلِّ عصر يمرُّ على الإنسانية، ولكن تظلُّ مسارات الأمم والدول والشعوب نماذج حاضرة للتأمُّل دومًا، وظلالًا تُلْقَى على حاضر ومستقبل تلك الأمم، التي تشهد أحيانًا تكرار أخطائها ومآسيها، أو تخطِّي ما يكابدها من عقبات أملًا في المزيد من القوَّة والرُّسوخ. اختلفت رؤى صنَّاع الإسهاميْن من حيث اختيارهم لزوايا التحليل ومواضع الأهمية التي يرسمون عبرها ملامح بناء الدولة في أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر والعشرين بصورة ساهمتْ في تشكيل رؤية أكثر تكامليَّة لعملية البناء في ذلك الجزءِ الهامِّ من العالم، والذي لم يَنَلْ حظَّه إلى الآن من الدراسات العميقة.

قادنَا الإسهامُ الأول “بناء الدولة في أوقات الرخاء” لرؤيةٍ مختلفةٍ لم ترَ في ضعف البناء المؤسَّسي لدول أمريكا اللاتينيَّة السببَ الرئيسيَّ لاختلاف مآلات بعضها عن بعض في النموِّ والتطوُّر بعد نَيْلِ الاستقلال، حيث انصبَّ الاهتمامُ بالأساس على طبيعة سياسات الائتلاف الحاكمة وكيف يمكن لدمج مصالح الفواعل الاجتماعية والاقتصادية في سياسات الحكم أن يكون له أكبر الأثر في تحقيق المصلحة العامة وصناعة تطوُّرٍ واقعيٍّ ملْموس يغيِّر من مسارات الدول وأوضاع شعوبها على الخريطة عالميًّا، وكيف أن وفرة الموارد لا تؤدِّي في حَدِّ ذاتِها لنموٍّ أو تراجعٍ بقدْر ما يكون الفكر الحاكم ومدى اتِّساعه وقدرته على استقراء الأوضاع الداخلية والخارجية واستيعاب مختلف فواعل المجتمع دون البحث عن استئثار بالسلطة أو الثروات هو العنصر الرئيس للنهوض من عدمه.

على الجانب الآخر، انصبَّ اهتمام الإسهام الثاني “بناء الدولة والأمة في أمركيا اللاتينية وإسبانيا” على ذلك الضعف المؤسَّسي وأسبابه ودراسة العوائق التي جعلتْ من عملية البناء في العديد من النماذج عملية غير مكتملة الأركان لم تستطع الاستمرار بوتيرة ثابتة. ولكن رغم اختلاف المنطلق ونقاط التركيز، فإن كلًّا من الإسهامين بَنَيَا تحليلَهما على قياس “قدرة الدولة” ومداها وانعكساتها، سواء تمَّ قياسها من داخلها على مختلف زواياها الإقليمية والرمزية والمؤسَّسية والاقتصادية، أو دوافع تشكُّلها وفقًا لدوافع بناء الدولة من الأساس.

وبحكم تكرار سياقات التاريخ وتشابُه الأوضاع التي تَمُرُّ بها الدولُ الناميةُ مع الاحتفاظ بخصوصيَّة كلِّ دولة، تظلُّ تلك النماذج من التحليلات قابلةً للإسقاط بشكلٍ كبيرٍ على أوضاع الكثير من دول العالم العربي والإسلامي مع الأَخْذِ في الاعتبار اختلاف طبيعة الحقبة التاريخيَّة، وتعقيدات التركيبات الداخليَّة لكلِّ دولةٍ والمرحلة التي تَمُرُّ بها. ولكن قياس قدْرة الدولة ودوافع البناء هو نموذجٌ يصْلح كأداةِ تحليلٍ مرنةٍ تُساهم في تفصيل مدى نموِّ الدول وفقًا لنقاطٍ واضحةٍ قابلةٍ للقياس دومًا.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_______

الهوامش

[1] Ryan Saylor, State Building in Boom Times: Commodities and Coalitions in Latin America and Africa, (Oxford: Oxford University Press, 2014).

[2] Miguel A. Centeno, Agustin E. Ferraro (Eds.), State and Nation Making in Latin America and Spain, (Cambridge: Cambridge University Press, 2013).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى