إسرائيل وحروب الهوية
هل تقتل الدول المدنيين؟
نعم إنها تفعل ذلك طوال الوقت، أو على الأقل بعضها يفعل ذلك. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تبدو إسرائيل مُدانة (بشكل استثنائي) على نطاق عالمي شديد الاتساع في عدوانها الأخير على غزة، رغم أنها صاحبة سجل ممتد ومخزٍ من الممارسات العدوانية؟
ثمة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، منها:
– أن الاعتداء الأخير قد خلَّف، وما يزال، أكبر عدد من الضحايا من المدنيين في تاريخ الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع؛ فبالمقارنة مع ما سبقها من مواجهات، تعد هذه المواجهة هي الأفدح من حيث الخسائر البشرية في الجانب الفلسطيني.
– أن هذا الاعتداء قد خلَّف أضرارًا غير متناسبة مع الأهداف العسكرية المعلنة، فإسرائيل تتسبب في أضرار لا تتناسب بأي وجه مع الأهداف التي تعلنها كأسباب للحرب، ويرتبط هذا بالاستخدام المفرط للقوة.
– أن هذا الاعتداء الأخير قد أحدث تدميرًا واسع النطاق للبنية التحتية الفلسطينية؛ إذ تستهدف إسرائيل كافة مكونات البنية التحتية على نحو عمدي، وبدون تمييز بين منشأة مدنية وغيرها.
– أن هذا الاعتداء قد أظهر التحدي الإسرائيلي الفج للمجتمع الدولي وللمنظمات القانونية الدولية، حيث تتصرف إسرائيل في هذه المواجهة وهي مطلقة اليد من أي قيود قانونية أو أخلاقية أو عرفية.
ولكن هذه المقالة تقترح سببًا إضافيًا تتصور أنه المسؤول عن اختلاف طبيعة العدوان الحالي؛ ومن ثمَّ المسؤول عن دفع الكثيرين عبر العالم للاصطفاف ضد إسرائيل. ذلك أن الهجمات الإسرائيلية الحالية تتجاوز الأبعاد السياسية والعسكرية (أو هي تعيد تعريف كل منهما)، وتمتد إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية والحضارية، ما يجعل من هذه الهجمات تطبيقًا مثاليًا لحروب الهوية؛ المحرمة في إطار القانون الدولي.
فإذا كانت الدول (الحديثة) تنطلق في صراعاتها عادة من اعتبارات المصلحة القومية، وتبرر ما توقعه من خسائر في الأرواح بين المدنيين وغيرهم بزعم تحقيق مصالح مواطنيها الوطنية. فإن مصالح إسرائيل في هذا الصراع ليست مصالح قومية، ولا سياسية، وإنما هي مصالح هوياتية محضة، فهي تطرح هوية إسرائيل على أنها الهوية الوحيدة التي تستحق البقاء، في إحياءٍ ربما لمفاهيم الداروينية الاجتماعية المقيتة. فإسرائيل تستهدف في عدوانها الحالي جماعة من البشر على أساس من هويتهم بغية القضاء عليهم، و”إفراغ” الأرض من النموذج الذي يمثلونه، بكل ما يشتمل عليه هذا النموذج من مقومات الانتماء، والوعي، والقيم، والهوية.
الذي يريد هذا التحليل أن يصل إليه فيما يخص الاعتداءات الإسرائيلية هو نتيجة مزدوجة: فمن جهة يريد تأكيد أن ما تقوم به إسرائيل في عدوانها الحالي يندرج ضمن حروب الهوية، على اعتبار أن هذا العدوان الإسرائيلي لا يمكن تسكينه ضمن الأسباب السياسية أو الاقتصادية، ولا تتحدد أهدافه ضمن خطابات المصالح القومية المعروفة، وإنما يستهدف وجود هوية ووجود الفلسطينيين، بحسبان هذا الوجود وهذه الهوية هي مما يُشعر “دولة الكيان” طوال الوقت أنها في خطر، ويؤكد أن مشروعها الإحلالي لم ينجح في تحقيق أهدافه (التي تتمثل في الإجهاز على الآخر المختلف حضاريًا). ومن جهة أخرى، يؤكد أن إسرائيل إنما تسلك نفس سلوك الجماعات التي جرى العرف على وصفها بالإرهابية، لكونها (أي إسرائيل) تمارس القتل على أساس الهوية، من دون تفرقة بين مدني وعسكري. وفيما يلي بسط لهذه الحجة.
حروب الهويات وصراع الحضارات
كان طبيعيًا أن يحظى كتاب صمويل هانتنجتون “صراع الحضارات” بنقد واسع وقت ظهوره، فقد كانت أطروحته الأساسية أن الصراعات الدولية سيكون أساسها اختلاف الحضارات قيميًا وثقافيًا ودينيًا. اعتبر هانتنجتون أن هذه الفروق تمثل أساس التصنيف والتمييز بين بني البشر، حيث تتحدد “الهوية” عنده بالتضاد الديني والثقافي والقيمي مع الآخرين. وفي هذا الإطار تأتي الحروب شرطًا ضروريًّا، لترسيخ الهوية وتحقيق التماسك الاجتماعي.
كان جزء كبير من النقد الموجه لهانتنجتون ينصب على أن كلامه ربما يحفز فعليًا نشوب مثل هذا النوع من الصراعات، وذلك في عالم ما بعد الحرب الباردة، الذي تقلصت فيه فعليًا الأسباب الأيديولوجية للصراع، وأصبح المجال مفتوحا أمام الأنواع الأخرى. وبالفعل كان طرح هانتنجتون مغريا بالتجربة، خاصةً مع كونه قريب الشبه بالنبوءات المحققة لذاتها.
في وقت ظهور كتاب هانتنجتون كان المزاج العالمي السائد يميل إلى اعتبار أن السبب الوحيد المقبول لنشوب النزاعات هو ذلك المتعلق بالعوامل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والتي تشكل في مجموعها ما يعرف بـ”المصلحة القومية”، وكانت العبارة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل: “لا يوجد أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، وإنما مصالح دائمة”، تلخص دوافع السياسة الخارجية لمعظم الدول.
وفي إطار “المصالح الدائمة” كانت الحروب تُشن، وكانت فاتورتها الإنسانية يمكن أن تكون كبيرة، كما أن مبرراتها لم تكن دائما لتبدو مقنعة، وكانت هناك العديد من الانتقادات التي توجه إلى الدول والأنظمة التي تَشن مثل هذه الحروب، ورغم كل هذه العيوب والانتقادات كانت هذه النسخة من الحروب معتمدة ومقبولة في إطار التنظيم الدولي القائم. على العكس كانت الحروب على أساس من الهويات الثقافية والحضارية حروبًا مستهجنة.
ففضلًا عن التوصيف القانوني الذي يجرّم هذا النوع من الحروب، فإن الخبرة العملية لها كانت دومًا ذات نتائج كارثية. على سبيل المثال عندما استخدمت مقولات الهوية في إطار حروب البلقان (1991-2001)، أدّت إلى توابع دامية غير إنسانية، وعندما استُخدمت خطابات الهوية في الحرب الأهلية بلبنان، أدّت إلى انقسامات وتصدعات اجتماعية ما زالت آثارها مستمرة حتى يومنا هذا. وفي إطار حرب الشمال والجنوب في السودان ارتُكبت بعض أسوأ أنواع المذابح في التاريخ المعاصر، وكانت حربًا على الهوية في المقام الأول، وكذا كانت حرب الشيشان، التي أخذت فيها المكونات الدينية والثقافية مكانة متميزة، ونتج عنها العديد من المآسي، وخلال حروب الإبادة الجماعية في رواندا تمّ استخدام الهوية العرقية لتبرير استهداف التوتسي على يد الهوتو، ممّا أسفر عن مقتل ما يقرب من مليون إنسان.
استخدم الهوية وفق أسماء أخرى!
لا تتعارض حقيقة كون مقولات الهوية مقولات استقطابية ومنبوذة على المستوى المعلن في السياسة الدولية، مع حقيقة أن العديد من الدول تتصرف انطلاقًا منها، ولكن بمساعدة تقنيات تنكرية، تجعل ما تنطلق منه من اعتبارات ثقافية وحضارية خاصة تبدو كما لو كانت مقولات عامة يمكن أن يتشاركها الجميع.
وقد بدأ هذا الأمر مبكرًا جدًا عندما استخدمت الأنظمة الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا بالأساس) شعارات هوياتية، تتعلق بالدور الحضاري للغرب في نشر ثقافة وقيم وحضارة الرجل الأبيض. وفي ظل هذه الشعارات قامت بإبادة أعراق كاملة، و”تطهير” مساحات شاسعة من الأراضي من سكانها الأصليين. لاحقًا تم التخفيف من حدة الشعارات الهوياتية المستخدمة مبررًا لهذه المذابح لصالح مقولات عقلانية تتضمن أن التوسع (الغزو!) نهج ضروري لتحقيق الأمن والمصالح القومية.
الولايات المتحدة أيضًا انطلقت في معظم حروبها من مقولات وأهداف ذات صبغة حضارية لا لبس فيها؛ كنشر القيم الديموقراطية (الأمريكية)، أو نشر الثقافة الرأسمالية، ولكنها كانت تحرص على أن تطرح هذه الشعارات بوصفها أهدافًا محايدة ومنافع عامة، وليست تبريرات ثقافية تناسب بعض الشعوب فيما تتعارض مع أخرى.
تفهم الدول أن استحضار المكون الهوياتي في الصراع يشحذ نفس الرغبة لدى الآخرين، وينتهي إلى حالة من الاستقطاب المتصاعد. ولهذا فإن العقلية البراجماتية للدول (الغربية) الحديثة تجعلها تحجم عن تصدير خطاب الهوية، حتى لا ينتهي بها المطاف إلى صراعات دينية/ثقافية/قيمية، لا نظامية، لا قِبل لها بمواجهة آثارها.
وعلى المستوى الداخلي أيضًا، وفي أعقاب حوادث العنف المسلح التي شهدتها العديد من الدول الغربية، كان ما يحدث فعليًا أن يتم استدعاء تيمة “الإرهاب”، وليس أي قيمة ثقافية أو هوياتية أخرى لإدانة هذه الهجمات. وذلك على اعتبار أن استدعاء “مقولة الإرهاب” يمكّن الدول التي شهدت هذه الهجمات من أن تواجهها، دون أن تقع في فخ الصراعات الحضارية والدينية. بعبارة أخرى أعطت مقولة “الحرب على الإرهاب” لهذه الدول فرصة الادعاء بأنها تعمل وفق قاعدة محايدة وعامة (القانون الدولي)، في مواجهة الطرف الآخر (الجماعات المسلحة) الذي يستحضر اعتبارات ثقافية ودينية ليبرر بها أفعاله!
ولكن، وفي إطار سياسات استقلال الاسم عن المسمى، وضمن إجراءات الدول الغربية في حربها على الإرهاب، كان يحدث أن يتم فعليًا استهداف “المسلمين” بالعديد من الإجراءات التمييزية، الأمر الذي يبرهن على أن مقولات “الحرب على الإرهاب” كانت في ذاتها مقولات هوياتية، وأن المظلة القانونية التي شرعنت من خلالها هذه الدول أفعالها لا تختلف في حقيقتها عن المظلة الهوياتية التي تستخدمها هذه الجماعات التي تصفها هذه الدول بالإرهابية.
حروب الهوية وتهديد النظام الدولي
نظرًا لطبيعتها شديدة الاستقطاب تحرص الدول على عدم التورط في صراعات هوياتية، وتستعيض عنها بصراعات وحروب المصالح القومية. ويحذر الخبراء ضمن المؤسسات الأكاديمية ومراكز التفكير من مخاطر استخدام خطاب الهويات الثقافية في السياسة، مُؤكّدين على أنّ ذلك مما يُهدّد السلام والاستقرار على نحو عاصف؛ فالنزاعات القائمة على خطابات الهوية الثقافية لا تركز على مسببات مادية يمكن الوصول بشأنها إلى أرضية مشتركة، وإنما هي تتعلق بعوامل أزلية، قائمة دائمًا، ومرشحة لأن تكون سببًا لنزاعات لا تنتهي، لدرجة يمكن أن تهدد النظام الغربي لتقسيم العالم، المعروف بنظام وستفاليا، والذي فصل الهوية الدينية والقيمية عن السياسة، أو لنقل أنه صنع هوية جديدة، قوامها المواطنة، أساس الصراع فيها هو الأفكار السياسية والمصالح الوطنية والقومية، وليس الاختلافات الدينية أو الثقافية.
كما أن مقولات الهوية في الوقت الذي تغذي فيه التحيز والتمييز ضدّ المجموعات الأخرى، فإنها تغذي رغبة هذه المجموعات في التعامل بالمثل، فتدفعها إلى إعادة اكتشاف هويتها، وإلى استهداف “الآخرين”، على أساس من هويتهم أيضا، ولهذا تحاول الدول الحديثة أن تتجنب الانخراط فيها، أو الاعتراف علنًا بها، إذا ما كانت تتصرف انطلاقًا منها على نحو أو آخر.
ومن الشواهد على هذا التحليل، أنه عندما وصف الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن حربه على الإرهاب بأنها “حرب صليبية جديدة”، أثار هذا التصريح انتقادات واسعة من الخبراء الذين اعتبروه إشارة خطرة إلى بداية الانزلاق في حروب الهويات التي يجب تجنبها. وفي نفس السياق، قوبلت شعارات “من ليس معنا فهو ضدنا” و”الغرب في مواجهة العالم” بعد هجمات 11 سبتمبر باستنكار واسع، على الرغم من أن مضمون هذه الشعارات الهوياتية كان متحققًا بشكل أو بآخر.
خصائص حروب الهوية والحرب في غزة
حرب غزة تشهد بدورها انحرافًا مماثلًا عن المعايير المصلحية المقبولة بوصفها أسبابًا للحروب الحديثة لصالح معيار هوياتي، تقوم من خلاله “دولة” باستخدام قوتها الباطشة ضد جماعة من البشر على أساس من هويتهم، الأمر الذي تدينه معايير التنظيم العالمي السائد.
وهنا قد يثور تساؤل: أليس القتل قتلًا على أية حال، فما “يضير” إن كانت أفعال القتل التي تنفذها إسرائيل في عدوانها الجاري سببها المصلحة القومية، أو سببها عدائها لهوية خصومها؟
والإجابة: إن استخدام المكون الهوياتي، في إطار حروب الدول الحديثة، كفيل بأن يؤدي إلى تغيير نوعي في طبيعة الصراعات الدولية. فصراعات الهويات المعاصرة ليست حروب تبشير أو فتح، ولكنها صراعات حول المحبة والكراهية؛ صراعات “نحن” ضد “هم”. وهو ما لخصته عبارة أحد أبطال إحدى الروايات بقوله :”لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين. إذا لم نكره ما ليس نحن، فلن نحب ما هو نحن”[1]. وما أكدته دراسات علم النفس من أن النزاعات التي تُشحن بخطابات الهوية غالبًا ما تؤدي إلى زيادة مشاعر العدوان، وتعزيز مشاعر الكراهية.
وبشكل عام فإن صراعات الهوية “الحديثة” تتسم بعدد من الخصائص التي يمكن أن نشير لبعضها فيما يلي:
1- تنطلق صراعات الهوية من مجموعة من المقولات العابرة للزمن، وتستحضر ألوانًا من التناقضات التي لا يمكن حلها، وتستبطن تعارضات لا سبيل إلى معالجتها أو التفاوض بشأنها، ما يجعل من الصعب التوصل إلى تسويات أو القبول بتنازلات في إطارها.
2- الإحساس بتفوق واستعلاء هوية ما، من جانب بعض الدول، يعزز الشعور بالتميز ورفض التفاعل على أسس متكافئة مع الآخرين، الأمر الذي يؤدي عادة إلى سياسات انغلاقية وعدائية، ويزيد من احتمال زيادة حدة الصراعات والتوترات حال نشوبها.
3- عندما تُستخدم مقولات الهوية في السياسات الداخلية بوصفها أداة لتعبئة الشعوب ضد الخصوم الخارجيين (الفعليين أو المحتملين أو حتى المتخيلين)، فإن ذلك الأسلوب يؤدي إلى تأجيج التوترات، لأنه يربط حالة العداء بأبعاد عميقة وراسخة في الوعي الجمعي، مما يزيد من تعقيد التفاعلات الدولية.
4- الهزيمة في إطار الصراعات من هذه النوعية من شأنها، لا أن تلحق فقط بالمهزوم خسارة يمكنه تعويضها، ولكن أن تضع وجوده على المحك؛ فالثنائيات الهوياتية عادة ما تأخذ شكل المعادلات الصفرية التي تهدد وجود أحد الأطراف المتصارعة.
تبريرات مختلفة لممارسة العدوان.. إسرائيل والهوية المُتخيلة
تمارس الجيوش فعل القتل في الحروب “العادية” لأسباب عديدة؛ منها تعارض الانتماءات القومية، حين يكون الصراع على الأرض والسيادة والحقوق القومية. ومنها تعارض الأيدولوجيات السياسية، فالليبراليون يقاتلون الماركسيين، واليمين يقاتل اليسار إلخ، إلى غير ذلك من الأسباب.
وقد استخدمت إسرائيل هذه الحجج وغيرها لتبرير عدوانها، فاستخدمت اليافطة القومية لتبرير نزاعها مع العرب، وذلك من خلال أطروحة العودة لأرض إسرائيل الموعودة. وتحت هذه الشعارات القومية توسعت إسرائيل في بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأعلنت يهودية الدولة، في محاولة لكي تظهر أنها في صراع قومي، من النوع الذي يقبل به العالم الحديث، مع الفلسطينيين الذين لا يعترفون لليهود بأحقيتهم في أرضهم التاريخية! بعبارة أخرى، أرادت إسرائيل أن تصدر للعالم في مرحلة ما فكرة أن النزاع الذي تخوضه هو – في جوهره – نزاع قومي بين القومية الإسرائيلية والقومية الفلسطينية العربية.
ولكن إلى أي مدى تُعد “الرواية القومية” الإسرائيلية متماسكة؟
وفقًا لمعطيات التاريخ المعاصر، لا يبدو القول بأن اليهود ينتمون قوميًا إلى أرض فلسطين مقنعًا لأحد، فالقومية اليهودية في أحسن أحوالها هي مجرد قومية سريالية، ولدت عندما أعلن حفنة من الصهاينة الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، الذي زرعهم أصلًا في أرض ليست لهم! وهذه إحدى مفارقات التكوين الشاذ لإسرائيل، أن تستقل عمن أتى بها إلى الوجود أصلًا، فالاعتراف بـ “الحق القومي” لإسرائيل في الوجود على أرض فلسطين كان عملًا من أعمال الاحتلال البريطاني، ولكن إسرائيل التي أرادت أن تضفي نوعًا من الحبكة على روايتها، أعلنت في لحظة درامية استقلالها عن هذا المستعمر (الذي قرر بنفسه أن ينسحب من أرض فلسطين التاريخية التي كان يدعي ممارسة الحماية عليها)، وكأن وعد بلفور الذي دبجه هذا المستعمر لإنشاء قوميتها المزعومة قبل سنوات قليلة كان مجرد خيال.
أيضًا في الحروب المعتادة تقاتل الدول على أساس من اختلاف الأيديولوجيات والأفكار السياسية الكبرى، وربما أرادت إسرائيل في لحظة من لحظات تاريخها الشاذ، أن تدعي أنها تلك الدولة الليبرالية الديموقراطية التي تقاتل الفلسطينيين الرجعيين المحافظين مثلًا!
ولكن هذه الحجة أيضا لا تستقيم، فإسرائيل الصهيونية لم تكن مخلصة لأي عقيدة سياسية تبنتها في الماضي أو الحاضر، فالديموقراطية الإسرائيلية كما هو معلوم هي ديموقراطية قائمة على ترسيخ نظام من الفصل العنصري، كما أن تياراتها الفكرية الكبرى تتمحور حول مصالح ضيقة، وتفشل دائمًا في اختبار الولاء للفكرة المحضة، ولهذا يصعب أن نجد داخل إسرائيل نماذج حقيقية لفكر ليبرالي أو محافظ أو اشتراكي، فالأيديولوجيا الأساسية في إسرائيل هي أيديولوجية المشروع الاستيطاني العنصري. أما الأصوات التي تنجو من عملية الترويض السياسي فعادة ما يتم قمعها، وقمع ما تعبر عنه من سرديات، ووصف أصحابها في الإعلام الصهيوني بأنهم من اليهود الكارهين لأنفسهم.
من ناحية أخرى، تورطت إسرائيل خارجيًا في نزاعات وحروب مع كافة الأطياف الأيديولوجية، فحاربت اليسار واليمين، والمحافظين والتقدميين، والليبراليين والشيوعيين، مما ينفي عن حروبها أنها كانت حروب أيديولوجية بالمعنى السياسي.
ويمكن الاستمرار في سرد أسباب أخرى تخوض الدول بموجبها الحروب، وتقتل خلالها المدنيين، ولكن اختصارًا لهذه الورقة، يمكن القفز مباشرة إلى تأكيد حجتها الأساسية؛ وهي أن القالب الوحيد الذي يمكن في إطاره فهم أفعال القتل التي تمارسها إسرائيل حاليًا هو القالب الهوياتي الديني والثقافي والحضاري. فإسرائيل التي تدعي دومًا لنفسها تفوقًا أخلاقيًا على الآخرين، تمارس فعل القتل على أساس مما تعتقده من أحقيتها الوجودية في القضاء على الآخرين ممن هم ليسوا يهودًا. فالشعب المُختار يحق له، أو هو واجب عليه، أن يقتل الأغيار، الذين لا ينبغي لأحد أن يتعاطف معهم، لكونهم أقل من أن يستحقوا التعاطف.
ويمكن العثور على شواهد متنوعة لتأكيد هذه النتيجة:
فعلى المستوى اللفظي، فإن هناك تصريحات عديدة لمسؤولين إسرائيليين تفصح عن “النية الصريحة لتدمير” سكان غزة، من خلال وصفهم جميعًا بالإرهابيين، كما أن هناك تصريحات وفيرة يتباهى من خلالها المسئولون الإسرائيليون بارتكاب جرائم حرب. أما على مستوى الفعلي، فإن الجيش الإسرائيلي متهم بالاعتقال، والاحتجاز الجماعي العشوائي؛ والقتل خارج نطاق القانون للمعتقلين الفلسطينيين العُزل، واستهداف الأطباء والصحافيين والعاملين في مجال الإغاثة، فضلًا عن قيام مجنديه بأعمال الحرق العمد، والاغتصاب؛ وتعذيب المعتقلين دون تُهم قانونية، وتدمير عشرات المدارس والمستشفيات، والسرقة، وتدنيس وتشويه جثث المتوفين، وعدم التمييز بين المقاتلين والمدنيين، واستهداف وتدمير المواقع الثقافية والتعليمية واستخدام الأسلحة غير التقليدية إلخ.
وبشكل عام، فقد جاءت الحرب الأخيرة لتكشف فقط عن هذا النهج الإسرائيلي “الأصيل” والمتجذر، ولم تنشئه، وإلا فإن إسرائيل ماضية في تنفيذ مخططها (إفراغ الأرض من الهوية العربية الإسلامية) منذ اللحظات الأولى لميلادها غير الشرعي، والذي شهد تنفيذ هجمات إرهابية متتابعة، نفذتها العصابات الصهيونية بمواجهة أصحاب الأرض من الفلسطينيين؛ تحقيقًا لذات الهدف.
وكما أنه من المهم التأكيد على الطابع الهوياتي للحرب التي تشنها إسرائيل، فإنه من المهم أيضًا التأكيد على أن العدوان الإسرائيلي السافر في هذه الجولة، يؤكد إدانة جديدة في حقها، بممارسة “إرهاب الدولة”؛ وهو الأمر الذي تأكد للجميع من خلال متابعة الممارسات شديدة العدوانية لجيش “الدفاع” الإسرائيلي، تلك الممارسات التي فاقت كمًا وكيفًا كل ما يعرفه التاريخ المعاصر من انتهاكات؛ ما يؤهل إسرائيل لتحتل نفس التصنيف الذي ما فتئت حليفتها (الولايات المتحدة) تَتَهم به خصومها، أي التصنيف كإحدى الدول المارقة.
ما الذي يمكن أن تقود إليه حرب غزة؟
بطبيعة الحال فإن ما يمكن أن يترتب على هذه الحرب من تداعيات، إن كان مقدرًا لها أن تنتهي في الأمد المنظور، هو ما يصعب حصره أو توقعه بدقة، ولكن ما يمكن الاطمئنان إليه من استخلاصات أن:
× أعمال القتل واسعة النطاق، والتي استقر الضمير العالمي على اعتبارها عملًا من أعمال الإبادة الجماعية، سيترتب عليها بالضرورة انتهاء صورة إسرائيل بوصفها ضحية، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات على المستوى العالمي.
× الفشل المتواصل للأمم المتحدة في التصدي للعدوان الإسرائيلي في غزة وتآكل مصداقيتها، ربما يؤدي إلى توفير ظروف موضوعية للتفكير في بدائل لها، أو على الأقل سوف يدفع باتجاه التفكير بتغيير استراتيجيات العمل بداخلها.
× العجز الرسمي عن الحركة والتأثير في مسار الأحداث، ربما يؤدي إلى انتقال قدر كبير من القدرة على تحريك الأحداث إلى الأفراد وبخاصة ممن يمتلكون الحد الأدنى من التنظيم (طلبة الجامعات) وإلى الجماعات من غير الدول.
× ثمة تغيرات ستلحق بمعنى “السياسة”، وذلك على المستوى النظري، فالسياسة التي كنا نعرفها، ضمن نظام وستفاليا، كإطار للمصالح القومية المنبتة عن القيم، ربما لم تُعد صالحة لوصف جوهر النزاعات التي يشهدها عالم اليوم، والتي باتت تستحضر مكونات هوياتية لا ريب فيها.
ويبقى السؤال: هل يمكن أن تنتصر إسرائيل في هذه الحرب؟
الغريب أنه: أيًا ما يكن حجم الأذى الذي يمكن لإسرائيل أن توقعه بخصومها في هذه المعركة غير المتكافئة، إلا إنها تبدو خاسرة على امتدادها، وما ذاك إلا لأن هذه الحرب القائمة على أساس من جدل الهويات قد فتحت الباب مجددًا أمام سؤال: لماذا تستحق إسرائيل أن توجد على حساب الآخرين؟ ولماذا يكون من حق إسرائيل أن تخوض صراعًا وجوديًا، ولا يكون من حق الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه؟
إن أحد المكونات الأساسية في العقلية الاستراتيجية الإسرائيلية أن إسرائيل لا ينبغي أن تخوض حروبًا على “أرض إسرائيل”، وأن الجدل حول أفعال إسرائيل لا يجب أن يمتد إلى الجدل حول “وجود إسرائيل”. ولكن الأزمة الحالية فتحت الباب أمام كافة أنواع التساؤلات، ومن ضمنها التساؤل حول الوجود الإسرائيلي ذاته.
والله تعالى أعلى وأعلم.
—————————————————
[1] الديماجوجي القومي الفينيسي في رواية «ديبون»، «البحيرة الميتة».