نشأة الحركة السياسة الإسلامية من الوهابية للإخوان

تحولات الفكر والحركة

مقدمة

جاءت أحداث الربيع العربي 2011 لتؤكِّد امتداد وتطوُّر الحركة السياسة الإسلامية التي نشأت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وتبلورت مع ثورة 1919 في نشأة جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928، حيث كانت هذه الحركة بمختلف أنواعها وأشكالها ومسمَّياتها ونشاطاتها في مركز وقلب الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011 تفاعلًا وتشابُكًا، ومثَّل وصول جماعة الإخوان المسلمين لسُدَّة الحكم عام 2012 تجلِّيًا لهذا التطور.
وتهدف دراسة ثورة 1919 -باعتبارها حدثًا تاريخيًّا تجلَّت من خلاله ثمرة العمل الوطني والإسلامي- إلى تقصِّي الأحداث واستخلاص الخبرات للاستفادة منها واعتمادها في تغيير الواقع وصياغة المستقبل. ولما كانت هذه الثورة تمثل نقطة فارقة في تاريخ الأمة باحتضانها لنشأة الحركة الوطنية ووضع الأُسس التي سارت عليها لنيل الاستقلال، فإنها بذلك كانت دافعًا للحركة السياسية الإسلامية لحشد الجهود المترامية لتحقيق هدف الاستقلال، وسدِّ الفراغ الذي نجم عن سقوط الخلافة العثمانية 1924. ولا شك أن دراسة ثورة 1919 -بما تشمله من دراسة تاريخ ونشأة الحركة السياسية الإسلامية- تعود بالنفع في معالجة الأخطاء وتصحيح الخلل الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية في الفترات الراهنة.
كما أن تفسير ثورة 1919 بأنها ثورة سياسية فقط يعد تفسيرًا قاصرًا، فهي ثورة شاملة، وللعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية أهمية بالغة في قيامها، كما أن للعامل الديني مكانته الكبيرة أيضًا ضمن هذه العوامل، حيث توافقت جهود الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا مع سعي مصطفى كامل ومحمد فريد في وضع صيغة مقبولة للحركة ربطوا فيها بين الانتماء العقائدي (دعوة الجامعة الإسلامية) والانتماء الوطني (السعي لاستقلال مصر)، وظهر هذا الاتجاه الإسلامي في ثورة 1919 في كثير من الأحداث والتفاعلات(1)، غير أن ظهور وصعود جماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة التي استلمت الراية من الحركات السياسية التي سبقتها واستمدَّت من الثورة والأحداث التي لحقتها الخبرات، كان ذلك بمثابة تأكيد على أهمية العامل الديني في تفسير ثورة 1919.
هذا التقرير يرسم خريطةً لنشأة وتطور الحركة السياسية الإسلامية الحديثة، متَّخذًا من ثورة 1919 مركزًا لهذه الخريطة للوصول لرؤية شاملة لهذه النشأة والظروف المحيطة بها. وعليه يكون التساؤل الرئيس: كيف نشأت وتطورت الحركة الإسلامية في مصر؟ وإلى أي مدى كانت ثورة 1919 حاضنة وفاتحة طريق لتبلور هذه الحركة ممثلة في نشأة جماعة الإخوان المسلمين كأكبر الحركات الإسلامية انتشارًا وتأثيرًا؟
وللإجابة على هذا التساؤل، ينقسم التقرير إلى قسمين: القسم الأول- يدور حول تساؤل فرعي مفاده: كيف كانت الحركة السياسية الإسلامية قبل ثورة 1919؟ ونستعرض في هذا القسم نوعين من الحركات الإسلامية، 1- الحركات الجهادية متمثلة في الوهابية والسنوسية والمهدية، 2- مدرسة الجامعة الإسلامية ممثلة في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، باعتبارهم أول الصيحات في الحركة الإسلامية الحديثة، أما القسم الثاني- فنتناول فيه جماعة الإخوان المسلمين -كنموذج للحركة الإسلامية السياسية- من حيث النشأة والتطوُّر في الجانب الفكري والحركي، فضلًا عن جوانب التشابه بينها وبين ما سبقها من حركات، ونختم التقرير بما توصَّلنا إليه من ملاحظات وخلاصات.

القسم الأول- الحركة السياسية الإسلامية قبل ثورة 1919

يمكن إجمال التحديات التي واجهت الأمة في الفترة التي سبقت ثورة 1919، والتي أوجدت الحركات السياسية الإسلامية، في ثلاثة تحديات: الأول- فكرية العصور المظلمة، التي أصبحت قيدًا على حركة الأمة في مواجهة المتحدي الحضاري الغربي، الثاني- السلطة العثمانية التي اتخذت من الدين رباطًا قوميًّا يربط الأمة العربية بالحكم التركي بعد أن افتقدت إلى رباط قومي يربط الحاكم بالمحكوم، بجانب فقدان القوة العسكرية والمناعة الحضارية فأصبحت ثغرة للتسلُّل الاستعماري للشرق، الثالث- بلوغ الحضارة الغربية مرحلة فتوة الشباب ونضج الحكماء، وسعيها لإنهاء الصراع التاريخي لصالحها باحتواء العرب حضاريًّا بالقوة المادية تارة، وبالغزو الثقافي والإغراء الحضاري تارة أخرى(2)، وهكذا ظهرت دعوات وحركات إسلامية اختلفت من حيث الرؤية والمنهج في تعريف ومواجهة هذه التحديات.

أولًا- الحركات الجهادية

نقصد بالحركات الجهادية مجموعة الحركات التي اتَّخذت من العمل المسلَّح سبيلًا لإحياء العالم الإسلامي من خلال مواجهة الاستعمار، والدعوة إلى الوقوف ضد الخلافة العثمانية التي ارتأت فيها ثغرة عصيَّةً على الإصلاح، ومن ثم فينبغي تعريبها، ومنها:

1- الحركة الوهابية:

مثَّلت الحركة الوهابية التي تأسَّست في الجزيرة العربية منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب أولى الدعوات الإصلاحية الحديثة في العالم الإسلامي. وقد اتَّخذت الحركة في البداية من العمل الدعوي منهجًا للتجديد الديني، إلى أن التقى محمد بن عبد الوهاب بالأمير محمد بن سعود عام 1745، واتفقا على قيام شراكة بينهما لبناء دولة تخدم الدعوة. وبفكر ابن عبد الوهاب وتنظيمه، وبجيش ابن سعود وسلطانه؛ انتقلت دعوة ابن عبد الوهاب من البيان والوعظ إلى الجهاد والقتال، ومن مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، وهكذا أصبح هذا التحالف أساس الدولة السعودية الوهابية. وعلى الرغم من أن الحركة الوهابية جاءت في وقت اشتدَّت فيه حاجة الأمة لمثلها، حيث موجة الاستعمار وضعف الخلافة العثمانية وبداية تغلغل الفكر الغربي في الأقطار العربية، إلا أنها تأثَّرت بالبيئة التي نشأت فيها وتوقَّفت على حدود الدولة التي تبنَّتها، ولم تتصدَّ لكل التحديات التي واجهت الأمة(3). هذا وإن توقفت الوهابية من ناحية النطاق الجغرافي، إلا أنها أثَّرت بشكل كبير في فكر وحركة الحركات الإسلامية التي نشأت بعدها حال المهدية والسنوسية.

2- الحركة السنوسية:

تأسَّست الحركة السنوسية في المغرب العربي على يد محمد بن علي السنوسي الذي ولد بالجزائر عام 1787(4)، وكانت في بدايتها حركة دعوية صوفية. إلا أنها تطورت على يد الجيل الثاني لتصبح حركة مقاومة مسلحة ضد الاستعمار والغزو الفرنسي والإيطالي لدول المغرب العربي، بجانب محاربة الفرنسيين بالسودان لمدة قاربت 15 عامًا. واتَّفقت السنوسية مع الوهابية في التأكيد على الأثر العروبي وأثره في الخلافة الإسلامية، وعدم التبعية للخلافة العثمانية. وتشابهها كذلك في تبنِّي فكرة الجهاد لمجابهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، مع مراعاة أن جهاد الوهابية كان موجَّهًا للداخل الموروث، في حين أن جهاد السنوسية كان موجَّهًا للتحديات الخارجية الوافدة ممثلة في الاستعمار الفرنسي والإيطالي في شمال إفريقيا ومطاردة حملات التنصير حتى أواسط إفريقيا(5).

3- الحركة المهدية:

قامت المهدية على يد محمد أحمد المهدي بن عبد الله في السودان عام 1881، وكان الهدف الأول للحركة المهدية متمثلًا في مواجهة الاستعمار البريطاني، حيث نجحت الحركة في تأسيس نظام إسلامي في المناطق التي امتدَّ إليها نفوذها، وسارت المهدية على خطى الوهابية والسنوسية في معارضة الأتراك والدعوة إلى تعريب الخلافة، بجانب التضامن مع المد الوطني في الأقطار العربية، حيث أيَّدت الثورةَ العرابية في مصر ضد الخديوية(6).
إجمالًا، كانت هذه الدعوات والحركات الثلاثة -الوهابية والسنوسية والمهدية- طلائع الصحوة الإسلامية فكرًا وحركةً لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وجدير بالملاحظة أنه بالرغم من أن ظهور هذه الحركات الثلاثة في لحظة فارقة من تاريخ الأمة فإنها كانت في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذا الفكر وهذه الحركة، إلا أن النطاق المحلي قد حدَّ من فاعلية هذه الحركات، فحجب تأثيرها من أن يتحوَّل لتيار عام عربي، ويعود ذلك للبداوة التي اتَّسمت بها هذه الحركات -الوهابية-، والاستغراق في مناهضة التحديات التي أثقلت كاهلها حتى أعجزتها -السنوسية-، واتخاذ الأسطورة سبيلًا لتوحيد الشعب -المهدية-(7). وإذا كان هذا الطابع العام لمجموعة الحركات الجهادية، فإن الأمر لم يكن كذلك مع تيار أو مدرسة الجامعة الإسلامية.

ثانيًا- مدرسة الجامعة الإسلامية

مثلت دعوة الجامعة الإسلامية(8) ذلك التيار من الحركات السياسية الإسلامية الحديثة التي اتَّخذت من النشاط السلمي منهجًا لمواجهة التحديات والنهوض بالأمة الإسلامية، وإذا كانت هذه الدعوة شملت قطاعًا كبيرًا من المفكرين والدعاة الإسلاميين في الفترة التي سبقت ثورة 1919، مثل: الشوكاني، والكواكبي، وابن باديس .. وغيرهم، إلا أننا سنتناول من نلمس في فكره وحركته ما هو سياسي من أعلام هذه التيار -وارتباطًا مع الإطار العام لموضوع التقرير- وهم: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا.

1. جمال الدين الأفغاني:

يُعد الأفغاني الذي ولد في كابل عاصمة أفغانستان عام 1839 -وهو عربي النسب- أبرز أعلام الجامعة الإسلامية، وعلى عكس الحركات السابقة -الوهابية والسنوسية والمهدية- لم يكن للأفغاني موقف صلب من التخلُّف العثماني أو قضية التغريب -الذي اعتبرهما وجهين لعملة واحدة-، وإنما تبنَّى موقفًا وسطيًّا إصلاحيًّا، حيث رأى أن أخطر الأمراض التي تواجهها الأمة هو التشتُّت والانقسام. لذلك سعى للإصلاح السياسي للحكومات العربية، واعتبر أن هذا المسعى هو السبيل لمواجهة الاستعمار. ولوسطية فكر الأفغاني -الذي أصبح هاديًا لفكر الجامعة الإسلامية- فقد انتشرت أفكاره في الكثير من البلدان الإسلامية، وكانت الفترة التي عاشها في مصر (1871 – 1879) أخصب فترات حياته الفكرية والنضالية التي فيها تبلور تياره(9).

2. محمد عبده:

ولد محمد عبده عام 1849 بمحافظة البحيرة، وتتلمذ ونشأ على يد جمال الدين الأفغاني(10)، وتشارك كلاهما نفس الرؤية لعملية الإصلاح والنهوض بالأمة الإسلامية، فإذا كان الأفغاني يرى ضرورة إصلاح الحكومات والنظم السياسية، فإن تلميذه يرى أن هذه الخطوة يجب أن تُسبق بالإصلاح التعليمي الجذري الذي يهيِّئ الأمة بطرق متدرِّجة لقبول الإصلاح السياسي، وبالتالي كانت أفكار محمد عبده تمثل أسلوبًا معيَّنًا لمواجهة التحديات الوافدة مع تسرُّب الفكر الغربي الذي يمثِّل مجابهةً للفكر الإسلامي والثقافة الموروثة، من خلال التوفيق بين الجانبين والاستجابة المثمرة، بما تعنيه هذه العملية من قبول التعايش مع الحكم الأوروبي ومؤثِّراته الحتميَّة في كافَّة المجالات، والمجاهدة قدر الإمكان لصياغة تلك المؤثِّرات صياغة إسلامية، وبذلك بدأت مرحلة خلق صيغة جديدة متوازنة بين قيم الإسلام والوافد الغربي، بما يؤكِّد رفض الاستسلام لهذه الأخيرة(11).

3. محمد رشيد رضا:

استكمالًا لعِقد دعوة الجامعة الإسلامية، يأتي محمد رشيد رضا الذي ولد عام 1865 في لبنان ثالث ثلاثة شكَّلوا حجر أساس هذه الدعوة، تأثَّر رشيد رضا بأستاذه محمد عبده وأستاذ أستاذه الأفغاني، وحاول إيجاد صيغة متوازنة بين فكرهما الإصلاحي. فإذا كان الأفغاني وجَّه جلَّ جهده لإصلاح الخلافة باعتبارها قلعة الإسلام الأولى، وإذا كان محمد عبده توجَّه لإصلاح التعليم والأزهر باعتبارهما قلعة الإسلام الأولى، فإن رشيد رضا حاول إصلاح القلعتين، وهو بذلك زاوج بين الإصلاح التربوي والديني والإصلاح السياسي، وهو أمر تجلَّت ملامحه عند جماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة التي أسَّسها حسن البنا تلميذ محمد رشيد رضا (12).
بهذا نكون قد رسمنا صورة للحالة التي كانت عليها الحركة السياسية الإسلامية قبل ثورة 1919 بأشكالها المختلفة وأساليبها المتنوعة التي جاءت لتواجه تحديات هذه الفترة. ومع قيام ثورة 1919، شهدت الأمة الإسلامية أحداثًا جسيمة تمثلت في زيادة حدة الحراك الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى والتغلغل في الداخل الإسلامي؛ انتهى بسقوط الخلافة العثمانية عام 1924، وما صاحب ذلك من موجات التغريب والتحلُّل الاجتماعي، الأمر الذي مثَّل نقلة نوعية في التحديات التي واجهت الحركة الإسلامية، وكان من الطبيعي أن تسعى هذه الحركة لإيجاد سبل جديدة لمواجهة هذه التحديات والاستفادة من تجربة الحركات التي سبقتها. وفي هذا الجزء من التقرير نلقي الضوء على جماعة الإخوان المسلمين، انطلاقًا من كونها أكبر الحركات الإسلامية وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا، وذلك في ثلاثة محاور: أولها- النشأة والتطور، ثانيها- الجانب الفكري للجماعة، ثالثها- الجانب الحركي، مُتتبعين في ذلك التحولات التي حدثت سواء على الجانب الفكري أو الحركي، غير غافلين ما سبقها من تكوينات اجتماعية اصطبغت بالصبغة الإسلامية وسارت في نهج مقارب -مثل جمعية مصر الفتاة التي تأسَّست عام 1878-، إلا أنه ولظروف عديدة تقلَّص نشاطها وتأثيرها.

القسم الثاني- الحركة السياسية الإسلامية بعد ثورة 1919: «الإخوان المسلمون»

شكَّلت جماعة الإخوان المسلمين تجلِّيًا غير مسبوق في العصر الحديث للمزج بين الدين والسياسة، مارست الجماعة العمل الدعوي كحركة أصولية، والأنشطة المجتمعية باعتبارها جمعية خيرية، وزاولت السياسة كأي حزب، وحملت السلاح كحركة مقاومة يتبعها جهاز مخابرات، حتى شكلَّت في غضون عشرين عامًا ما يشبه تنظيمًا شاملا لمختلف مجالات الحركة في المجتمع، يلخِّص ذلك حسن البنا -مؤسس الجماعة عام 1928- في إحدى خطبه قائلا: “..إننا لسنا حزبًا سياسيًّا، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا. ولسنا جمعية خيرية، وإن كان العمل الخيري والإصلاح من أنبل مقاصدنا. إننا لسنا شيئًا من هذه التشكيلات، إننا -أيها الناس- فكرة وعقيدة، نظام ومنهاج، لايحدده موضع ولا يقيِّده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي به أمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها..”(13). وهنا يأتي السؤال: إلى أيِّ مدى مثَّل صعود جماعة الإخوان تحوُّلًا مجتمعيًّا على صعيد العمل السياسي الإسلامي؟ وكيف استفادت الجماعة من الحركات الإسلامية التي سبقتها؟ وكيف طوَّرت من أدواتها لتواكب تواتر الأحداث والتحديات؟
أولًا- النشأة والتطور
تأسَّست جماعة “الإخوان المسلمين” في الإسماعلية على يد حسن البنا عام 1928، وقد شارك البنا في المظاهرات الطلابية التي اندلعت مع ثورة 1919 حينما كان طالبًا بمدرسة المحمودية الإعدادية، ويذكر البنا أنه قد كتب ديوانًا من الشعر الوطني تأثُّرًا بهذه الثورة(14). وعندما تخرَّج في “دار العلوم”، انتقل إلى الإسماعلية عام 1927 ليتسلَّم عمله الجديد مُدرسًا بمدرسة الإسماعيلية الأميرية، وفي شهر مارس عام 1928 وُلدت جماعة “الإخوان المسلمين”(15).
وكعادة البنى المجتمعية في بداية تكوينها، لا بد أن تشتبك مع باقي فصائل المجتمع وتأخذ منها وترد عليها، إلا أن الجماعة في هذه الفترة تميَّزت بعدَّة خصائص كانت السبب الرئيس في انتشارها الواسع، ومن بين هذه الخصائص: البعد عن مواطن الخلاف، والبعد عن هيمنة الأعيان، وعدم مساندة حزب أو هيئة، والعناية بالتدرج في التكوين، وإيثار العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات(16).
أخذت الجماعة في الانتشار والتوسُّع حيث “لم تكن الفكرة الأساسية لدى البنا قاصرة على إنشاء جمعية خيرية أو جمعية تقوم بالخدمات الاجتماعية، وإنما كانت فكرة أبعد وأشمل تتَّصل بالمجتمع كله، وتحاول أن تحيط بظواهره المختلفة، وتردها إلى سبب واحد، وتقترح لعلاجها منهجًا واحدًا، وتحاول أن ترسم للمستقبل صورة سلفية مستمدة من التاريخ، وكان أسلوب نشرها يعتمد على إثارة الوجدان الديني إثارة ترتبط بذكر المفاسد والشرور الاجتماعية، مع التنقيب عن أوجه ارتباط المشكلات الشخصية على المستوى الفردي والمشكلات الاقتصادية على المستوى الاجتماعي بهذا الفهم العام”(17).
ومع انتقال الجماعة إلى القاهرة عام 1933، دخلت الجماعة طورًا جديدًا من أطوار الدعوة(18)، حيث توسع نشاطها وازداد عدد المنضمين إليها. وفي هذه الفترة اقتحم الإخوان الميدان السياسي حيث راسل البنا الملوك والحكام العرب ودعاهم إلى الإصلاح السياسي على المنهج الإسلامي، حيث دعا البنا إلى القضاء على الحزبية[19] وتوجيه الأمة في اتجاه واحد، “بهذا تبيَّن أن حركة الإخوان خلال العشر سنوات الأولى لها لم تكن حركة اجتماعية أو دينية فقط، بل كانت ذات لون سياسي مستتر نوعًا ما. وفي مايو 1938 أصدرت الجماعة مجلة «النذير»، وهي مجلة سياسية أسبوعية اتَّخذ عملها السياسي أسلوبًا سافرًا”(20). ومن ذلك الحين، شهدت الجماعة تطورات أثَّرت على مسارها بشكل كبير. ومن بينها ابتداء نشاط الجماعة داخل الجيش، وانتقال المركز العام لمقر أوسع يسهل من الأنشطة التي تقيمها الجماعة -مثل المؤتمرات والمناسبات الدينية- بما يساهم في إبراز الجماعة كفِئةٍ مؤثِّرة في المجتمع، ودعوة البنا لتشكيل لجنة من 24 عضوًا تقوم على تنسيق الجهود بما يبرز دخول الجماعة في طور جديد من التنظيم والإدارة، وانعقاد المؤتمر الأول لطلاب الإخوان الذي مثَّل إشراك العنصر الطلابي، ورفض المنتمين لأحزاب سياسية. ومع عقد المؤتمر السادس عام 1941 أصدرت الجماعة بيانًا وصفه البعض بالإنذار؛ إذ أدركت الدوائر السياسية الوطنية والأجنبية من خلاله أن الجماعة قد دخلت مرحلة حاسمة، حيث وقعت الجماعة بين سندان الملك والحكومة من ناحية، ومطرقة القوى الخارجية ممثلة في الإنجليز، الأمر الذي انتهى باغتيال البنا عام 1949(21).

ثانيًا- الجانب الفكري للجماعة

نتناول في هذا الجزء أبرز معالم الفكر السياسي لحسن البنا مؤسس الجماعة، حيث إن الجماعة لا تنفك عن مؤسِّسها وقائدها، لا سيما في المرحلة الأولى من عمر الجماعة (1928-1949) -والتي هي محط اهتمامنا-، وجدير بالإشارة أن تناول الجانب الفكري والحركي بشكل منفصل -لا يعني بأي حال- انفصال الجانبين بعضهما عن بعض بشكل عام أو عند الجماعة، فحركة الإصلاح تتطلَّب رؤية فكرية لوجوه الإصلاح المطلوب، كما أن الفكر -وخاصة ما هو سياسي منه- لا يكون فكرًا إلا إذا اشتبك مع الواقع، ونحن آثرنا هذا الأسلوب لغرض واحد هو تتبُّع التحوُّلات التي تواترت على كل جانب بشكلٍ لا يدع مجالًا للخلط بين هذه التحوُّلات ودلالاتها.
إن السِّمة الرئيسية في فكر البنا هي “شمول الإسلام”، أي الدعوة للإسلام الشاملة لكل أوضاع المجتمع والفرد والجامعة لكل أطراف الحياة. وبسبب الجزئيَّة التي وُجدتْ عند المسلمين في العصر الحديث، أصبح الإسلام الشمولي غريبًا بين التيارات التفكيكيِّية حيث نقد الأوضاع المجتمعية دون تقديم رؤى إصلاحية بديلة، واشتهرت أنواع مجزأة من الإسلام تدعو لمحاصصة الدين بين مجالات الحياة، فجاء الإخوان ليعيدوا الإسلام الشامل إلى الواجهة(22)، وربما كان للنزعة العلمانية وموجات التغريب التي واجهت الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة دور في تعزيز الاتجاه نحو تبنِّي فكر الإسلام الشمولي الذي يوازن بين مناحي الحياة بفهم واعٍ لطبيعة تحديات الزمان والمكان، وتقديم رؤى معاصرة شاملة للتعامل مع هذه التحديات.
من قراءة الأدبيات التي تناولت فكر الجماعة -ممثَّلًا في فكر مؤسِّسها-، نجد أن هناك شبه إجماع على أن البنا كان فكره عملًا وعمله فكرًا، ويبلور هذا التناول المستشار طارق البشري في تسكين فكر البنا ضمن قائمة “الفكر الحركي” تمييزًا له عن أصحاب “الفكر المعملي”، حيث يعرِّف -البشري- المفكر الحركي بأنه يتوجَّه بفكره إلى الناس عامة ولا يحصر نفسه في جدل المتخصِّصين، وهو يهدف مباشرة إلى تغيير أوضاع البيئة الاجتماعية وتعديل ما يشيع من فهم يراه خاطئًا، ويهدف إلى إعادة بناء العلاقات بين الناس وفقًا للتصور الذي يرى فيه الصلاح، وحشد الجماعات في مواقف معينة لدفع ما يراه خطرًا أو لجلب ما يراه نافعًا(23). ولا يتصور أن يكون هذا الفكر الحركي دون وعاء يحتويه وإطار تنظيمي يحكمه، فكان من الضروري أن يسعى البنا لخلق تنظيم يعمل على تنفيذ هذا الفكر، فكانت سمة التنظيمية من أهم ما يميز جماعة الإخوان المسلمين عما سبقها من دعوات وحركات(24).
وتأسيسًا على شمولية الإسلام وحركية الفكر، تأتي الثورية التغيرية -أو تبنِّي الثورة منهجًا في التغيير- كسمة من سمات فكر جماعة الإخوان، إذ تحدَّث البنا عن الثورة بأن “الإسلام إنما جاء ثورة كبرى بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين وفي كل ميادين الإصلاح والتغيير..”(25). غير أن فكرة الثورة كمنهج للعمل لم تكن جاهزة لدى البنا في تصوُّره لحركته، وإذا كان في بدايات مسيرته الفكرية والحركية قد رفض الكثير من أوضاع مجتمعه، ورأى ضرورة الثورة على تلك الأوضاع وإعادة صياغتها على أسس إسلامية، إلا أنه انشغل بالتأصيل النظري لأفكاره بقدر ما توجَّه إلى الواقع يمارس ويجرب فيه هذه الأفكار، فكانت حركته نابعة عن إطار مرجعي محدَّد على ضوء معطيات الواقع ومستفيدًا من جهود ودروس حركات الإصلاح التي سبقته(26).
وفي شأن تأثُّر جماعة الإخوان بالحركات التي سبقتها، فقد أخذ البنا عن الوهابية التأكيد على عروبة الخلافة، وفي العمل على إيجاد دولة تحمى الدعوة وتنشر أفكارها، وعن السنوسية -بجانب ما أخذه عن الوهابية- مكافحة التنصير بنشر الثقافة الإسلامية، وعن المهدية أهمية وجود قاعدة جماهيرية للدعوة؛ فقد استخدم الإخوان الحشد والتعبئة والتنظيم لإبراز دعوتهم(27). كما أخذ الإخوان الكثير عن دعوة الجامعة الإسلامية، لدرجة أن اعتبرهم الدكتور محمد عمارة بمثابة الجامعة الإسلامية في طور جديد(28)، حيث أخذ البنا عن الأفغاني فكرة الأممية بما يتفق مع شمولية الإسلام حتى أصبحت العالمية من أهم خصائص دعوة البنا، وتأثر البنا بمحمد عبده في إيلاء الإصلاح التحتي أهمية كبيرة، وكان رشيد رضا آخر حلقات الجامعة الإسلامية، وتتلمذ على يده حسن البنا وأخذ عنه فكرة الدائرة الشرقية بعد الدائرة الإسلامية كمناطق اهتمام كرد فعل على تعصُّب وتوغُّل الغرب(29).
لم تكن جماعة الإخوان المسلمين تطوُّرًا لحركة معينة، بل هي تطوُّر طبيعي للحركة السياسة الإسلامية بشكل عام، لذا فطبيعة التكوين باعتباره وليد لحظة تاريخية معينة أن يتفاعل مع الحاضر في ضوء الماضي بما يهيِّئ له جذورًا وامتدادًا يهذِّبه ويعينه، وبقدر ما تأثَّرت الجماعة بالحركات التي سبقتها، بقدر ما عالجت الخلل الذي واجهته في هذه الحركات، وطوَّرت الأفكار لاستيعاب متطلبات الواقع وظروفه. وعليه، فإن الجماعة أخذت ما وجدته نافعًا وأضافت عليه بما يتناسب مع رؤيتها، وأول هذه الإضافات هو الدمج بين الإصلاح السياسي لدى الأفغاني والإصلاح الفكري عند محمد عبده، والجمع بين إصلاحية محمد عبده ومحافظة رشيد رضا وحيوية الأفغاني، وإذا كان الأفغاني قد انتهج الكفاح السياسي، ومحمد عبده الكفاح العلمي، فإن البنا قاد الكفاحين معًا. الأفغاني قاوم الاستعمار، ومحمد عبده قاوم القابلية للاستعمار، والبنا قاوم في الميدانين، لذلك فإن منهج الأفغاني اتَّسم بالثورية ومنهج محمد عبده اتَّسم بالإصلاحية المتدرِّجة، ومنهج البنا جمع بين الثورية التغييرية والإصلاحية المتدرجة(30)، كما جاوزت جماعة الإخوان أفكار الجامعة الإسلامية في نقل نظرية الإصلاح إلى الممارسة السياسية، حيث مثَّلت “العملية” التي تعني إيثار العمل على القول -كما سبق وأن أشرنا- إضافة جديدة ميَّزت البنا.
وإذا كانت الوهابية قد ولَّتْ جهودها نحو الفساد الداخلي المتمثِّل في التخلُّف الموروث عن الخلافة العثمانية، والسنوسية والمهدية سخَّرت إمكاناتها لمواجهة الخطر الخارجي الممثِّل في الاستعمار، فإن جماعة الإخوان قد وازنت بين هذه الميادين، فتارة نجد الإخوان يقاومون الخطر الداخلي -الحزبية والتحلُّل الاجتماعي مثلًا-، وتارة نجدهم في صراع محتدم مع العدو الخارجي -الإنجليز وحملات التغريب والتنصير-؛ وعليه فقد وقف تيار الإخوان بين بين، فلا هم كانوا حركة صفوة فكرية مثل أعلام فكرة “الجامعة الإسلامية”، وإنما كانوا تنظيمًا جماهيرًا انخرط فيه العامة، ولا هم كانوا متواضعين إلى مستوى تقديم أفكارٍ جاءت لتلائم بيئات بسيطة أو بدوية، كما هو حال الوهابية والسنوسية والمهدية(31).

ثالثًا- الجانب الحركي للجماعة

عمل حسن البنا على إيجاد مجموعة من الأساليب والوسائل الفعَّالة التي تساعد في انتشار الجماعة وتوسُّعها، وتطبيق أفكارها كي لا تبقى حبيسة الأذهان والسطور، وذلك ارتباطًا بفكرة العملية والحركية التي تميَّزت بها الجماعة عمَّا سبقها من حركات ربما كان لديها نفس التصورات أو جزء منها، لكن غياب الأدوات والآليات العملية حال دون وصول هذه الأفكار إلى الواقع.
وكان من بين هذه الأساليب ما ذكره محمود عبد الحليم -وهو عضو الهيئة التأسيسية للجماعة- في كتابه “الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ”(32)، حيث تحدَّث عن خمسة أساليب تساعد في إبراز الجماعة كفئة مميَّزة في المجتمع المصري، ونشر الدعوة في الداخل والخارج، وهي: الأول- الشارة والمجلة، في معنى اتِّخاذ أفراد الجماعة شارة معيَّنة تميِّزهم عن باقي أفراد المجتمع، ومجلة تعبِّر عن رؤية الجماعة وأخبارها، وكانت أول مجلة سياسية تصدرها الجماعة عام 1938 -كما سبق وأن أشرنا-، الثاني- الاتصال بالتجمُّعات في مصر، حال النقابات والجمعيات واستغلال ذلك في نشر أفكار الجماعة في أنحاء مصر، الثالث- عقد المؤتمرات، وهي مؤتمرات موضوعية يتناول كل منها موضوعًا معيَّنًا، حيث عقدت الجماعة ستة مؤتمرات عامة كان لها صدى واسع في الفترة التي عاصرها البنا، الرابع- الاحتكاك بالأحزاب والهيئات، فكان البنا يتبنَّى موقفًا رافضًا للحزبية إلا أن مقتضيات الواقع قد دفعت للاشتباك مع هذه الأحزاب في قضايا مختلفة مثل: المفاوضات مع المستعمر الإنجليزي واتفاقية 1936، وقد حرص الإخوان على استغلال هذا الاحتكاك بما يخدم دعوتهم وانتشارها، الخامس- الاتصال بزعماء المسلمين بمصر والخارج، حيث تواصل البنا مع الجهات الرسمية مثل: الملوك والأمراء والرؤساء المسلمين، والجهات غير الرسمية مثل: الحركات المقاومة للاستعمار كالسنوسية في المغرب العربي، ودعم الفلسطينيِّين في ثورتهم عام 1936، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في انتشار الجماعة داخل مصر بكسب تعاطف الجماهير، وخارج مصر بتكوين أفرع جديدة تعمل في إطار الجماعة الأم في مصر.
يلاحظ في هذه الأساليب التدرُّج من البساطة والسهولة إلى العمق والصعوبة النسبية في التنفيذ لكي تؤتي ثمارها، لذلك فإن الحركة قد تطوَّرت مع تطوُّر الجماعة، ففي المرحلة الأولي كانت حركة الجماعة منبثقةً عن خطةٍ مُحكمة لها عدَّة وسائل تمثَّلت في الأساليب السابق ذكرها، ومع توسُّع الجماعة وزيادة نشاطها -وبالتالي التطلُّع لأهداف أبعد- ظهر سلوك الجماعة مختلفًا بعض الشيء، فقد أصبح محكومًا بمقتضيات الواقع وظروفه. فعلى سبيل المثال: لم يكن للجماعة قبل عام 1936 -عام الثورة الفلسطينية والاتفاقية بين مصر وبريطانيا- أخصام بعينهم داخل مصر، أما بعد 1936 -أي بعد أحداث فلسطين والمعاهدة- فقد رأى البنا ضرورة تحديد موقفهم من هذه الأحداث، وبالتالي حتمية الصدام مع الأحزاب والهيئات الموجودة؛ ما أدَّى لظهور تيار داخل الجماعة يرفض العمل السياسي(33)، وقد كان ترشُّح البنا للانتخابات البرلمانية تحوُّلًا سلوكيًّا مَيَّزَ الجماعة عمَّا سبقها من حركات، فلم يسبق وأن شارك زعيم أو قائد لأيٍّ من الحركات الإسلامية التي سبقت في العملية السياسية بهذه الجرأة، ليضع البنا حجر الأساس لفلسفة الإصلاح من الداخل عند جماعته، التي جعلت من الجماعة أقوى الفصائل الإسلامية حضورًا وتأثيرًا في الحياة السياسية في مصر -بل وفي العالم الإسلامي أجمع-، الأمر الذي انتهى بوصول الإخوان لسدة الحكم في مصر عام 2012.
إجمالًا، مثَّلت جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها عام 1928 على يد حسن البنا تطوُّرًا محوريًّا للحركة السياسية الإسلامية التي بدأت مع الحركة الوهابية في منتصف القرن الثامن عشر، وبالرغم من وجود هدف مشترك بين الجماعة وما سبقها من حركات، وهو إحياء الأمة الإسلامية، إلا أنها أظهرت اختلافًا واضحًا في الفكر والممارسة، ولم تكن الجماعة تيارًا مُقلِّدًا، وإنما استجابت لتحديات الزمان والمكان بفكر واعٍ وبصيرة مستمدة من دروس وخبرات الماضي.
لا شك أن أهمَّ ما يميِّز دعوة جماعة الإخوان المسلمين هي فكرة الأممية، إذ انطلق حسن البنا بمفهوم شمول الإسلام يدعو إلى استرداد الخلافة الإسلامية وتوحيد الأمة في مسار واحد، وهنا نلمس أثر ثورة 1919 التي نجحت في جعل الأمة قوة ثالثة مؤثِّرة وفاعلة بين السلطتين الشرعية (الملك) والفعلية (الإنجليز)(34)، بتهيئة المناخ لنشأة الجماعة التي اتَّخذت من مفهوم الأمة الجامعة أساسًا فكريًّا وإطارًا حاكمًا.

خاتمة

من مطالعة سياق نشأة الحركة السياسية الإسلامية نخلص إلى عدد من الملاحظات نوردها فيما يلي:
منذ نشأة الوهابية وصولًا لدعوات الجامعة الإسلامية، كانت الخلافة العثمانية ما زالت قائمة، وهي -بالرغم من مشكلاتها وعوامل ضعفها- تعد وعاء يحتوي العمل الإسلامي في مختلف المجالات وبشتَّى السبل، وحتى لو كان هذا العمل يدعو إلى تجديد الخلافة بشكل كلِّي، فإن استيعاب مفهوم الأمة كمستوى للتحليل -أي إن الأمة ليست ظاهرة مفتوحة بل يحدها إطار زمني يفصل بينها وبين ما يليها من أمم وإن شاركتها في خصيصة أو أكثر(35)-، يفسِّر ذلك السعي بل ويبرِّره، ويعيد الاعتبار إلى وجود الخلافة كإطار حاكم للعمل الإسلامي، غير أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت في سياق مختلف، حيث سقطت الخلافة العثمانية واشتدَّت وطأة التغريب والاستعمار، لذلك فإن خيار تجديد الخلافة أصبح سرابًا، وتحوَّل إلى خيار أصعب تمثَّل في استرداد الخلافة في زيِّها العروبي، ومن ثم فإن توحيد المنطقة العربية والإسلامية يعد أولى الخطوات لعودة الخلافة، الأمر الذي فرض على الجماعة قيودًا مثلما قدَّم لها فرصًا للتجديد في الفكر والحركة.
إن الحركة السياسية الإسلامية باعتبارها تندرج ضمن التكوينات الاجتماعية، لا بد أن يكون لها دور فعَّال في مواجهة تحديات المجتمع بمختلف مجالاته، وموقف معيَّن من قضاياه، لذلك كانت جماعة الإخوان المسلمين في قلب المجتمع المصري تلعب دورًا في تطويره، وتتفاعل مع قضاياه، وتشتبك مع باقي مكوِّناته.
إن ثورة 1919 باعتبارها نقطة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية والعربية، قد مهَّدت الطريق لقيام حركات التحرر الوطني، إذ أعقبتها ثورة العشرين في العراق وثورة الريف المغربي وثورة سوريا الكبرى، فكانت -أي ثورة 1919- بمثابة حاضنة لتبلور الحركة السياسية الإسلامية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين كأكبر الحركات الإسلامية تأثيرًا وانتشارًا، حيث أعادت للأمة الإسلامية اعتبارها كقوة فاعلة.
إن تجربة الحركة السياسية الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى تقويم في ضوء مراجعات النشأة والتطور واستخلاص الدروس والعبر منها، وبهذا يأتي السؤال التأسيسي: لماذا فشلت الحركة السياسية الإسلامية بمختلف فروعها وأنماطها في إقامة نظم حكم إسلامية في الأقطار العربية بينما نجحت حركات ذات جذور إسلامية في مناطق أخرى -تركيا وماليزيا مثلًا-؟ إن فشل الإخوان في مصر وسوريا وتونس بعد الربيع العربي في الوصول إلى الحكم -أو الاستمرار فيه- لتطبيق النموذج الإسلامي لم يكن فشلًا في التصوُّر أو الرؤية بقدر ما كان قصورًا في تقويم هذا التصوُّر وفق مقتضيات الواقع وتحديات اللحظة الراهنة في ضوء خبرات الماضي حيث منهج البنا، “الذي طوَّر أسلوبًا في العمل أسمته كريستينا هاريس ذا فاعلية واقتدار، فأكَّد على الطابع الديني للدعوة إذا وجد في الحكومة رئيسًا قويًّا، وانغمر في الصراعات السياسية إذا وجد رئيسًا ضعيفًا”(36)، وربما نجح في ذلك العدالة والتنمية في تركيا أو مهاتير محمد في ماليزيا.
*****

الهوامش

(*) باحث في العلوم السياسية
(1) راجع في هذا الصدد: زكريا سليمان بيومي، الاتجاه الإسلامي في الثورة المصرية 1919، (المنصورة: دار الكتاب الجامعي، ط 1، 1983)، ص ص 23-52. وانظر أيضًا في هذا المعنى: محمد مورو، الحركة الإسلامية في مصر من 1928 إلى 1993.. رؤية من قرب، (القاهرة: الدار المصرية للنشر والتوزيع، ط 1، 1994)، ص 64.
(2) محمد عمارة، العرب والتحدي، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 29، مايو 1980)، ص 127.
(3) راجع في هذا الصدد:
– فؤاد عبد الرحمن محمد البنا، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية في مصر، (الخرطوم: جامعة أفريقيا العالمية، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، د. ت.) ص ص 3-5.
– محمد عفان، الوهابية والإخوان: الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية السلطة، (بيروت: جسور للترجمة والنشر، ط 1، 2016)، ص ص 118-124.
– عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الأولى 1745-1818 وأثرها على مجتمع شبه الجزيرة العربية، (الكويت: مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، 1981).
(4) محمد عمارة، العرب والتحدِّي، مرجع سابق، ص 127.
(5) فؤاد عبد الرحمن، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية، مرجع سابق، ص 6.
(6) محمد عمارة، العرب والتحدِّي، مرجع سابق، ص ص 137-150.
(7) محمد عمارة، الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري، (القاهرة: دار الشروق، 1991)، ص 22.
(8) في شأن فكرة الجامعة الإسلامية وتصوراتها عن العمل الدعوي والنشاط السياسي وروابطها مع الفكرة القومية والجسور التي جمعت الفكرتين، انظر: محمد عمارة، الجامعة الإسلامية والفكرة القومية: نموذج مصطفى كامل، (القاهرة: دار الشروق، ط 1، 1994).
(9) راجع في هذا الصدد:
– محمد عمارة، الطريق إلى اليقظة الإسلامية، (القاهرة: دار الشروق، ط 1، 1991)، ص ص 185-188.
– محمد عمارة، الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري، مرجع سابق، ص ص 25-40.
– محمد عمارة، جمال الدين الأفغاني: موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، (القاهرة: دار الشروق، ط 2، 1988).
(10) محمد عمارة، الطريق إلى اليقظة الإسلامية، مرجع سابق، ص 188.
(11) أحمد محمد جاد عبد الرازق، فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي، (فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995)، ج 1، ص ص، 306-394. وللمزيد حول الآراء السياسية والجهود الإصلاحية لمحمد عبده، راجع أيضًا: زكريا سليمان بيومي، التيارات السياسية والاجتماعية.. بين المجددين والمحافظين: دراسة تاريخية في فكر الشيخ محمد عبده، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983).
(12) انظر:
– محمد عمارة، المشروع الحضاري الإسلامي، (القاهرة: دار السلام، 2008)، ص ص 11-44.
– أحمد محمد جاد عبد الرازق، فلسفة المشروع الحضاري، مرجع سابق، ص ص 395-411.
(13) ورد ذلك في فيلم وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة عام 2011 بعنوان “الإخوان المسلمون وحسن البنا”، 23 نوفمبر 2009، متاح عبر الرابط التالي: https://youtu.be/pjGChZhJgOE
(14) محمد مورو، الحركة الإسلامية في مصر، مرجع سابق، ص ص 66-77.
(15) إسحاق موسى الحسيني، الإخوان المسلمون: كبرى الحركات الإسلامية الحديثة، (بيروت: دار بيروت، ط 1، 1952)، ص 17.
(16) محمد فريد عبد الخالق، الإخوان المسلمون: لمحة تاريخية عن المراحل التي مرَّتْ بها الجماعة، (المنامة: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1987)، ص445.
(17) طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، (القاهرة: دار الشروق، ط 2، 2002)، ص 110.
(18) إسحاق موسى الحسيني، الإخوان المسلمون: كبرى الحركات الإسلامية الحديثة، مرجع سابق، ص21.
(19) في شأن موقف الإخوان من الحزبية، راجع، فؤاد عبد الرحمن، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية، مرجع سابق، ص ص، 206 – 219.
(20) طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، مرجع سابق، ص 113.
(21) فؤاد عبد الرحمن، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية، مرجع سابق، ص 77.
(22) المرجع السابق، ص 99.
(23) ورد ذلك في تقديم المستشار طارق البشري لكتاب الفكر السياسي للإمام حسن البنا، انظر: إبراهيم البيومي غانم، الفكر السياسي للإمام حسن البنا، تقديم: طارق البشري، (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، ط 1، 2013)، ص ص 17-20.
(24) في شأن التركيب الداخلي للجماعة وتنظيمها، راجع: محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ: رؤية من الداخل، (الإسكندرية: دار الدعوة، ط 5، 1994)، الجزء الأول، ص ص 221-224.
(25) محمد عمارة، من أعلام الإحياء الإسلامي، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط 1، 2006)، ص 114.
(26) إبراهيم البيومي غانم، الفكر السياسي للإمام حسن البنا، مرجع سابق، ص 309.
(27) فؤاد عبد الرحمن، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية، مرجع سابق، ص ص 34-35.
(28) محمد عمارة، من أعلام الإحياء الإسلامي، مرجع سابق، ص ص 88-90.
(29) فؤاد عبد الرحمن، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية، مرجع سابق، ص ص 36-38.
(30) المرجع السابق، ص 41.
(31) محمد عمارة، الطريق إلى اليقظة الإسلامية، مرجع سابق، ص ص 226-227.
(32) محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ، مرجع سابق، ص ص 111-168.
(33) طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، مرجع سابق، ص 114.
(34) طارق البشري، مقدمة عن ثورة 1919، فصلية قضايا ونظرات، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 12، يناير 2019)، ص 27.
(35) أماني صالح، الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية، (في): نادية مصطفى ومنى أبو الفضل (تحرير)، العلاقات الدولية: البعد الديني والحضاري، (دمشق: دار الفكر، ط 1، 2008)، ص 41.
(36) طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، مرجع سابق، ص 121.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى