مقدمة العدد الأول: الأمة والعولمة

بعد عشرة أعوام من العمل في مشروع العلاقات الدولية في الإسلام (1986-1996) صدر إثنا عشرة جزءًا من أعماله 1996. وتمت مناقشة نتائج هذه الأعمال في مؤتمر انعقد في رحاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة في الفترة من 30نوفمير1997- 2 ديسمبر1997. واشترك في الإعداد لهذا المؤتمر جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في واشنطن ومركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد.

وبعد عملية البحث في العلاقات الدولية في الإسلام على مستوى الأصول، ومستوى التاريخ الإسلامي، ومستوى الفكر السياسي الإسلامي (والمستوى الأخير جاري إكماله)، وهي المستويات الثلاثة التي تعد بمثابة القاعدة والأساس لعملية تطوير منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية كان ولابد وأن يقفز مستوى “واقع الأمة الإسلامية” في العلاقات الدولية الراهنة إلى دائرة البحث باعتباره المستوى الرابع من مستويات المشروع ومن هنا كان أحد أهداف تأسيس مركز الحضارة للدراسات السياسية هو التخطيط لعملية البحث والدراسة في هذا المستوى وتنفيذها من خلال قنوات علمية متنوعة وكان من أهم قنوات هذه العملية إصدار حولية تطرح الأمة الإسلامية كمستوى للاقتراب والتحليل، أي أن يبحث في الخيوط التي تربط بين قضايا الأمة والتي تحيط بالتفاعلات فيما بين مكوناتها وبينها وبين القوى الأخرى في العالم. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن تستجيب الحولية لأهم التحديات التي تواجه دراسة أوضاع هذه الأمة ومشاكلها ألا وهو تحدي كيفية التعامل مع واقع الأمة المجزأ، والتابع والمتخلف في حين أن هذه الأمة تمثل في الأصل أمة واحدة.

ويعقب ذلك، الحديث حول أربعة عناصر أساسية الأول منها يتعلق بمنهاجية الحولية، والثاني يتعلق بالخيط الناظم لموضوعات وقضايا الحولية المختلفة، والثالث يتصل بتقسيم العوالم المختلفة في الأمة بما يؤثر على تقسيم الموضوعات في عوالم متكاملة. أما الرابع فيتصل بالنطاق ودائرة المشاركين.

 

أولًا: منهاجية الحولية

ضمن هذه المقدمة يحسن أن نشير إلى منهجية هذه الحولية والتي نشير فيها إلى أربعة نقاط أساسية:

 

الأول: أن الحولية تتحدد منهاجيتها وفق ثلاثة عناصر أساسية:

الطبيعة والهدف والمحتوى، والحولية بطبيعتها لا تتضمن بعدًا تحليليا إلا في أضيق نطاق، يغلب عليها جانب الرصد والوصف، فضلا عن إن التصنيف الرصد والوصف، هي من الخطوات المنهجية التي لا تتضح فيها خصوصية مناهج النظر والتعامل والتناول. أما الهدف فإن الحولية غالبا ما تهدف إلى تقديم مادة نصف مصنعة، تمثل قاعدة معلوماتية كمقدمات للقيام بعمليتي التحليل والتفسير، والحولية بهذا الاعتبار ومدى فاعليتها ترتبط بتحقيق وإنجاز ذلك الهدف. ولاشك أن الحولية طبيعة وهدفا يحدد محتواها في رصد (الحدث، أو الاتجاهات حياله، أو خريطة التوجهات)، وغاية الأمر أن تقوم هذه الحولية برصد مجموعة الدلالات الأولية في هذا المقام كما أن رصد عالم الأشخاص في العوالم المختلفة أمر قد يمثل أحد اهتمامات هذه الحولية، فضلا عن عالم النظم والرموز. وأخيرًا كيف تمثل هذه العوالم عالم أفكار يعكسها أو يتعلق بها. الحولية بهذا الاعتبار عمل رصدي ليس تحليليا إلا فيما ندر.

الثاني: أن الحولية تهدف من الرصد والوصف، وعمليات التصنيف إلى رسم صورة عن المناطق المختلفة موضع المعالجة، بحيث يتحدث الحدث عن نفسه.

وربما قد يعتبر البعض أن الحولية وفق هذا الهدف تتشابه وتتقاطع مع التقارير الأخرى، من ذات الطبيعة والهدف والمحتوى.

إلا أن ذلك لا يعني عدم تميزها في سياق الرؤية الإسلامية وتتضح مؤشرات تميزها في:

  • تحديد مناطق الاهتمام، المجال الحيوي لهذه الحولية يقع ضمن عالم أحداث وأفكار ونظم ورموز يخص عالم المسلمين، وهو ما يشير إليه معنى “أمتي في العالم”.
  • الأمة كوحدة تحليل، لا يعني بأي حال الحديث عن معنى الأمة كفكرة مثالية، الأمة كوحدة تحليل لا تعني تخطي الواقع أو القفز عليه. بل هي تعبير عن كيف يفتقد الواقع معنى الأمة بهذا الاعتبار؟، وكيف يمكن السعي إلى الأمة كهدف ومقصد؟، إن هذا المعنى قد يشير إلى الأمة الجامعة في إطار الإسلام، والجماعة الوطنية كإشارة لمعنى الدول القومية التي استقرت حدودها وفق متغيرات أدت إلى تقسيم أمة الإسلام، هذه إذن جماعات وسيطة، ثم هناك تكوينات جمعية اجتماعية وسياسية تشكل وحدات لشبكة علاقات اجتماعية وسياسية. وفي كل الأحول يشكل معنى الأمة نسق جامع بين هذه الوحدات، والذي يقرن ذلك بإمكان توظيف هذه التكوينات المتنوعة في خدمة المصالح والأهداف الكلية التي تصب في قوة الكيانات ضمن الكيان الأكبر وفاعليته.
  • إن وصف واقع التجزئة والتبعية، وواقع العلاقات والتفاعلات المترتب عليهما هي من الأمور لتشخيص حجم هذه الإشكالات في الواقع، إن هذا الوصف يقدم قاعدة معلوماتية مهمة تشكل مقدمات للتحليل من مثل موضوعات كالتحديات المختلفة التي تبرز في عالم المسلمين، كما أنها ترصد المواقف حيالها، وربما توجهات الخطاب، وفي كل الأحوال فهي تقدم مادة قابلة للتحليل، والنَظْمُ فيما بينها لتقديم ليس فقط رؤية متكاملة، بل خطة تحليلية واستخدام مداخل للتفسير، وربما معايير للنقد والتقويم، وضمن ذلك فإنها تتعامل مع “وحدات تحليل متنوعة وفئات تحليل ومستويات تحليل” .. وغير ذلك من أمور.

والاكتفاء بهذه الصفة التقريرية لا يعني قابليتها للمتابعة البحثية ضمن تفعيل عمليات منهجية مترتبة عليها مثل التحليل والتفسير والتقويم.

الثالث: أن هذه الحولية تتميز بوجود ناظم متغير، وناظم ثابت أما الناظم المتغير فهو يعني “الفكرة الحاكمة” التي تمثل الحولية في كل عام والتي تنظم بين موضوعاتها المختلفة وقضاياها، وهي بهذا الاعتبار تتحرك ضمن الدلالات المرصودة حول هذه القضايا والموضوعات بحيث يشكل ذلك إمكانية تحليلية وتوظيفية للقاعدة المعلوماتية في الموضوعات المتنوعة، ومن خلال الفكرة الحاكمة المتكاملة، والتي تقدم دالة في هذا المقام. أما الناظم الثابت فهو الذي يحدد تقسيم الحولية الذي يعتمد الأمة كوحدة تحليل (عبر الأفكار الإقليمية والجغرافية والقومية) ومن ثم كان من الأوفق لهذه الوحدة التحليلية تصنيف موضوعات الحولية وقضاياها في إطار تصنيفات مالك بن نبي حول “عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء والنظم والرموز، وعالم الأحداث” وذلك ضمن تفاعل بين هذه العوالم وتداخلها وتقاطعها، مع التركيز على الدلالات الفكرية التي تفرضها الأمة كوحدة رصدية كمقدمة للتحليل والتفسير والتقويم.

الرابع: أن الحولية -وفق هذه الحدود المنهجية- يمكن أن تشير إلى الإمكانية البحثية المترتبة على ذلك، وإمكانية رسم خريطة وأجندة للبحث لمتابعة هذه الموضوعات، فضلا عن إمكانية تفعيل مداخل تحليل وأدوات ومستويات للتحليل متمايزة مشتقة ومؤسسة على قاعدة من المنظور الإسلامي، أو النموذج المعرفي ضمن الرؤية الإسلامية.

ومن هنا كان من أهم أهداف تلك الحولية سد فجوة الإغفال والإهمال لموضوعات متعددة ضمن التقاير الأخرى، التي لا تتخذ من الأمة فكرة محورية لعملها، وهي:

*تقديم قاعدة معلوماتية عن الأحداث والأشخاص والأفكار والنظم والرموز.

  • توفير مادة بحثية تتراكم في معالجة القضايا والموضوعات المتنوعة والمتكاملة.
  • تحديد أجندة بحثية متواصلة تتابع هذه القاعدة المعلوماتية والمادة البحثية واستثمارها.

فبين الفكرة الحاكمة، وتصنيف العوالم المختلفة، وتحديد مناطق الاهتمام وزوايا النظر، والمدخل الرصدي الوصفي التقريري، والإشارة إلى الدلالات المترتبة، وتصنيف الاتجاهات حول القضايا ورصدها تتكامل هذه المداخل جميعا لتصوغ منهجية هذه الحولية، وتعبر كل هذه الأمور عما تتميز به وعما تتقاطع فيه مع التقارير الأخرى، ولكنها تهدف كما عنوانها، إلى إحياء معنى الأمة في تحديد اختيار أجندة القضايا، ومعناها في الرصد والوصف ومغزاها في الدلالة ضمن وسط جامع بين الداخل والخارج، بين الداخلي والإقليمي والدولي.”أمتي في العالم”، تشير وبقدر لا بأس به من الوضوح إلى قضايا، ووسط، ودلالات، وإلى علاقات متفاعلة بين الداخل والخارج، وإلى متغيرات يجب ملاحظتها ومراعاتها في الرصد والوصف.

ثانيًا: الناظم المتغير: الفكرة الحاكمة للحولية

تنبني الحولية على فكرة أساسية وتتراكم موضوعاتها وأجزائها حولها. وينبثق عن هذه القاعدة -التي ستتغير من حولية إلى أخرى- الخيط الأساسي الذي يمتد من بداية الحولية إلى نهايتها ناظما بين موضوعاتها من زوايا متعددة.

وتقوم حوليتنا الأولى على قاعدة “العولمة”: كيف ولماذا؟

نحن بالطبع لسنا بمعرض تقديم دراسة عن العولمة ولكن نقدم مجموعة من الملاحظات ذات الدلالات المنهاجية من ناحية كما نرسم خريطة عن دلالات موضوعات الحولية بالنسبة للعولمة من ناحية أخرى.

  • الملاحظات المنهاجية تنطلق من ملاحظة أولى أساسية، وهي أن الأمة الإسلامية دائما في قلب العالم سواء في مرحلة نموها وقوتها ووحدتها وصعودها أو سواء في مرحلة جمودها وتخلفها وضعفها وتجزئتها. وإذا كانت المراحل المتعاقبة من تاريخ الأمة تبرز التطور في هذا الوضع المحوري سواء كانت الأمة شاهدة أو مشهودة، فإن المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة، في نهاية القرن العشرين بعد انتهاء الحرب الباردة، تمثل مرحلة من مراحل إعادة تشكيل مناطق هذه الأمة والعلاقات فيما بينها والعلاقات بينها وبين بقية العالم. وهذه المرحلة من إعادة التشكيل ليست إلا حلقة من حلقات سابقة في مسلسل التحول من الشهود إلى المشهودية خلال القرن 19 والقرن العشرين، والتي مارس فيها “الخارج” و “الآخر” أو “الغير” تأثيراته على الأمة، وبصورة متصاعدة لا تعكس فقط ما أضحى عليه “الخارج” من قوة ومكنة ولكن ما أضحى عليه “الداخل” من ضعف. ومن ثم فإذا كان عنوان الحولية هو أمتي في العالم فهو إذن لابد وأن ينطلق من منظار جدلية العلاقة بين الداخلي وبين الخارجي ومن ثم التفاعل بين دوائر متقاطعة ثلاثة: داخلية، إقليمية، وعالمية. وحيث إن النظام الدولي يدخل مرحلة تحولية هامة تلقي بانعكاساتها على نظمه الفرعية المختلفة فكان لابد أن ننطلق منه. وإذا كانت مصطلحات “ما بعد الحرب الباردة” “النظام العالمي الجديد” قد شغلت في بداية هذا العقد الأخير من القرن العشرين أذهان الباحثين والساسة في أرجاء مختلفة من العالم، وإذا كانت المفاهيم المختلفة التي تشكلت حولها هذه المصطلحات قد حاولت -ولو من منظورات مختلفة- الإجابة على السؤال الكبير التالي: هل العالم يدخل عصرًا جديدًا؟ فإن السنوات الأخيرة من نهاية هذا العقد قد شهدت استمرار محاولة الإجابة على نفس السؤال ولكن عبر “جدالات العولمة”.

وننتقل في الملاحظة الثانية إلى تبيان طبيعة هذه الجدالات وأسبابها. فقد حظي مصطلح العولمة بنصيب وافر من اهتمام الأدبيات الغربية في مجالات معرفية مختلفة قبل عدة سنوات من انتقال حمى هذا الاهتمام إلى الدوائر العربية وغير العربية الإسلامية الأكاديمية منها والسياسية حيث شهد العامان 97-98 تكثف الملتقيات والندوات والمؤتمرات والمؤلفات والتي اتخذت من العولمة عنوانًا لها. ولقد أضحى هذا المصطلح من الانتشار إلى درجة وصف البعض له بالمصطلح الطنان والذي يحيط به الغموض. ومن واقع القراءة التراكمية المقارنة في تيار من أدبيات العولمة في نطاق علم العلاقات الدولية وغيرها يتبين لنا عدة أمور:

من ناحية عدم وجود تعريف للعولمة متفق عليه بل تتعدد التعريفات بتعدد الإقترابات- اقتصادي، سياسي، ثقافي.. وباختلاف المنظورات (ليبرالية، ماركسية، قومية ..أو واقعية أو تعددية) ومن بين هذه التعريفات نذكر ما يلي:

  • التداخل الواضح لأمور الاقتصاد الاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى اجراءات حكومية (د.إسماعيل صبري عبد الله).
  • ترجع إلى كل العمليات التي تندمج بها شعوب العالم في مجتمع عالمي واحد ومجتمع كوني.
  • العولمة يمكن ..تعريفها بأنها تكثيف العلاقات الاجتماعية العالمية والتي تربط بين المحليات المتباعدة حيث تتأثر الوقائع المحلية بواسطة الأحداث التي تقع على بعد أميال عديدة منها.
  • هي الشبكة الكونية التي جمعت معا جماعات متفرقة ومعزولة جعلت منها وحدة في عالم واحد ذات علاقات اعتماد متبادل.
  • تتضمن خصائص اتجاه العولمة تدويل الانتاج، والتقسيم الدولي الجديد للعمل ..حركات الهجرة الجديدة من الجنوب إلى الشمال، البيئة الجديدة التنافسية التي تسرع من هذه العمليات، تدويل الدولة وجعلها من قبيل مؤسسات العالم المتعولم.
  • العالم أصبح مجمع كوني للتسويق حيث تتوافر فيه الأفكار والمنتجات في كل مكان وفي نفس الوقت.
  • لا ترجع العولمة إلى زيادة التفاعلات والروابط الموضوعية فقط ولكن ترجع أيضا إلى الأمور الثقافية والذاتية وخاصة نطاق وعمق الوعي بالعالم كمكان واحد.
  • العولمة هي ما اسميناه نحن في العالم الثالث ولقرون عديدة الاستعمار.

نقلًا عن:

 Ian Aart Scholte: The Globalization of World Politics  (in) John Baylis , Steve Smith The Globalization of World Politics(1997)

ومن ناحية أخرى لا تتفق التحليلات -ليس فقط على مضمون العولمة وطبيعتها: هل هي عملية أم ظاهرة أم حالة مبتغاة، أو على القوى المفسرة لها أو على درجة حداثتها أو قدمها، وإنما لا تتفق أيضا على أثار العولمة على العالم وهنا نواجه مجموعتين من الأسئلة: المجموعة الأولى تتلخص كالآتي هل تتحرك العولمة بالعالم نحو درجة أكبر من الرخاء والاستقرار والتعاون ونحو درجة أكبر من التجانس والتوحد أو التنميط وفق القواعد الاقتصادية الرأسمالية العالمية ووفق القواعد السياسية الديموقراطية الليبرالية ومفهومها عن حقوق الإنسان ووفق أسس الثقافة الغربية؟ وكيف يتم هذا التحرك؟ هل وفق عمليات هيكلية تاريخية  تحمل بصمات الإكراه والإجبار والقسر أو العكس؟ أما المجموعة الثانية من الأسئلة فهي هل يظل العالم -أي كانت تجليات عملية العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية -معايشًا لأوضاع التمايز والاختلاف بل وتزايد الفجوة -كنتاج للعولمة وكرد فعل لها -بين أغنياء العالم وفقرائه أو بين الخصوصيات الثقافية المختلفة أو بين “الأنا” و”الآخر”؟ ولماذا تظل هذه المقاومة للتجانس أو التنميط أو التوحد وفي أي المجالات يعظم ظهورها؟ هل في المجال السياسي أم الاقتصادي أم الثقافي؟

وتختلف الإجابات على المجموعتين من الأسئلة مظهرة تنويعات مختلفة بين المدارس الفكرية الكبرى وفي داخلها.. هذا ويمكن إجمالا إيجاز حجج كل من الفريق الذي يرى أن العالم دخل عصرًا جديدًا بإيجابيات العولمة وذلك الآخر الذي يرى العالم من خلال ما للعولمة من سلبيات لم يدخل عصرًا أفضل. وتدور حجج الفريق الأول حول مقولات التنميط: عالم واحد، اقتصاد عالمي، ثقافة عالمية .. وهي تتلخص كالآتي:

ضخامة وسرعة التحول الاقتصادي مما أوجد سياسات عالمية جديدة. لم تعد الدول وحدات مغلقة ولم تعد تسيطر على اقتصادياتها. وأضحى الاقتصاد العالمي يشهد درجة أكبر من الاعتماد المتبادل حيث تنامت التجارة الدولية وحركات رؤوس الأموال.

الثورة في مجال الاتصالات بين أرجاء العالم على نحو أثر على الوعي بالذات بالمقارنة بالآخر. حيث يمكن القول أنه يوجد الآن ثقافة كونية حيث أضحت المناطق الحضرية متشابهة. ولذا فإن العالم أضحى أكثر تجانسا حيث تتناقص الاختلافات بين الشعوب. ونظرًا لانهيار عامل الزمن والوقت أضحى هناك وحدة كونية تعرف درجة عالية من التفاعلات العبر قومية بين مجموعات وطنية مختلفة إلى جانب تفاعلات بين شبكات عالمية في مجالات متنوعة.

ويعبر عن هذه الآراء تيارات الليبرالية الجديدة. كما تنعكس في خطاب قادة المؤسسات العالمية المالية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي وخطاب مسئولي المالية والاقتصاد الأمريكيين.

أما حجج الفريق الثاني – والتي تدور حول مقولات رفض هيمنة المحتوى “الغربي” لعمليات العولمة فهي تتلخص كالتالى:

إن العولمة مصطلح طنان يشير إلى المرحلة الأخيرة من الراسمالية، ولا يوجد اقتصاد كوني واحد، فالفواعل من غير الدول ليست إلا أدوات حكوماتها في تنفيذ سياساتها، والتجارة والاستثمار العالمي مازالت متركزة بين الكتل الثلاثة الاقتصادية الكبرى، أوربا، أمريكا الشمالية، اليابان. العولمة ذات أثار غير متساوية فهي لا تصدق إلا على جزء من البشرية وذلك في العالم المتقدم فقط، العولمة لا تعكس إلا قيم واقتصاد الغرب فقط ولكن أين قيم ومصالح الشعوب والحضارات غير الغربية حيث أن كل الذي يتضمنه خطاب العولمة ليس إلا ترديدًا لرؤية الغرب للعالم على حساب رؤى الثقافات والحضارات الأخرى، لا تحقق كل الشعوب مكاسب من العولمة ولكن كثير منها سيعاني من خسائر ومن ثم فإن العولمة ليست إمبريالية فقط ولكنها أيضا إستغلالية، لا يوجد بعد ثقافة غربية عالمية بل مازال الصدام بين الثقافات قائما حول قضايا حقوق الإنسان، والمرأة، والدين.

ويعبر عن هذه الحجج تيارات الفكر الواقعي، القومي، الهيكلي وكذلك يشترك فيها الفكر الإسلامي وخاصة فيما يتصل بالأبعاد الحضارية -الثقافية.

وهنا نلحظ أن التساؤل حول مدى الرؤية الناقدة إنما يتطلب إجابة يجب أن تتعدى مجرد التميز بين العالمية التي هي جوهر دعوة الإسلام وبين العولمة.

أما الملاحظة المنهاجية الثالثة فتتصل بكيفية إدارة ما يبدو من غموض “العولمة” كتوطئة ضرورية لاتخاذ موقف فكري من هذه القضية. وهنا نشير إلى ضرورة التمييز بين ثلاثة مستويات للحديث عن العولمة: مستوى التنظير لخصائص العلاقات الدولية الراهنة وكيف تعكس -تحت تأثير القفزة النوعية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتي يسميها البعض بالثورة الثالثة (بعد الثورة الزراعية والثورة الصناعية) – ما أصاب عامل المسافة وعامل الزمن من ضعف وإن لم يتلاشيا كلية بالنسبة لجميع دول العالم .بعبارة أخرى هنالك صعوبة رفض أو إنكار أن هناك عولمة – ولو نسبية – بمعنى أن هناك عمليات جارية على أصعدة التفاعل المختلفة بين أرجاء العالم على نحو يزيد من درجة التأثير الخارجي وتخطيه حواجز الحدود القومية. أما ما يمكن انتقاده أو رفضه أو التحذير من عواقبه فيتصل بالمستوى الثاني. مستوى أيديولوجيا العولمة ومن ثم طبيعة محتوى العمليات الجارية سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي فمما لاشك فيه أن هذا المحتوى يعكس أثار “انتصار النموذج الغربي على النموذج الشيوعي” انتصارًا بلا حرب. ومن ثم ظهور هذا النموذج الغربي كنموذج بلا منافس أو متحدي في الوقت الحالي ولذا فإن الأيديولوجيا المتحكمة والمسيطرة على عمليات العولمة المختلفة إنما تنبثق عن النموذج الليبرالي الغربي وعن سياسات القوى الكبرى التي تتبناه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. بعبارة أخرى فإن فهم “أيديولوجيا” العولمة وتحديدها يتطلب الإجابة على ماذا الذي يتم عولمته؟ ومن الذي يقود عملية العولمة ويوجهها وكيف؟ وهذا يقودنا إلى المستوى الثالث والأخير وهو مستوى السياسات. وهو المستوى الذي تترجمه بوضوح مؤتمرات العولمة إبتداء من مؤتمر البيئة 92 ثم حقوق الإنسان في فينا (1993) والفقر والبطالة والتنمية في كوبنهاجن(94) ومؤتمر تجديد معاهدة منع انتشار الأسحلة النووية (1995)، ناهيك بالطبع عن مؤتمرات الجات التي أدت بعد أكثر من عقدين من الدورات إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية 1995. إن السياسات التي تناقشها هذه المؤتمرات وغيرها من التي تتبناها القوى الكبرى تمثل تحديات هامة تواجه الأمة سواء على صعيد الفكر فرض منظومة القيم الغربية في المجالات المختلفة ناهيك عن الجدال حول “صدام الحضارات” و”نهاية التاريخ” أو سواء على صعيد الحركة. وإذا كانت التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تبرز من إطار سياسات العولمة وفي ظل عملياتها إنما تمثل نظرًا لما تتسم به من إكراه وإجبار درجة متقدمة من الخطورة التي سبق وواجهتها الأمة ولو في ظل سياقات أخرى مثل الإصلاحات والتنظيمات، الاستعمار، عملية الاستقلال الرسمي في ظل شعارات حقوق تقرير المصير للشعوب، الحرب الباردة، إلا أن المجال الحقيقي للتحديات الأكثر خطورة والتي اكتسبت أبعادًا متطورة في ظل عمليات العولمة الراهنة هو المجال الثقافي -الاجتماعي الحضاري. وهو المجال الذي تتركز عليه الآن الأضواء والاهتمامات سواء في الدوائر الأكاديمية أو الدوائر السياسية. وفي هذا المجال يظهر تميز ما تمثله العولمة من تحديات بالنسبة للأمة، مقارنة بغيرها من أمم وشعوب ” الجنوب في نهاية القرن العشرين ولذا وبغض النظر الآن عن جوانب النقد المختلفة التي تعرضت لها مقولة ” ولا أقول “دراسة” “صدام الحضارات” فيبقى لها فضل الكشف عن وحدات تحليل أخرى وأبعاد تحليل أخرى غير تلك المادية التي درج على تبنيها الفكر الغربي العلماني -سواء في رافده الليبرالي أو الماركسي – رافضا الأخذ في الاعتبار وبصورة أساسية وحدات وأبعاد أخرى غير مادية يمكن أن ينبني عليها تفسير الظواهر والتفاعلات وتحليلها وعلى رأسها العوامل الحضارية وفي قلبها وفي صميمها ما يتصل بالدين. ومن ثم فإن مقالتي هانتجتون ” صدام الحضارات ” و”الغرب متفرد وليس عالميًا” إنما تعكس ما أخذت تحظى به الأبعاد الثقافية الحضارية من أولوية على صعيد دراسات العلاقات الدولية الراهنة. وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل ما هي المناطق المشتركة مع المنظور الإسلامي لدراسة الظواهر الإجتماعية والسياسية ومن بينها الظاهرة الدولية مناط دراسة العلاقات الدولية وخاصة وقد تزايدت مؤشرات الاهتمام بوضع الدين في دراسة ظواهر اجتماعية شتى

  • وعلى ضوء كل ما سبق فإن اقتراب الحولية من موضوعات عالم الأحداث وعالم الأفكار وعالم الرموز والأشخاص التي فرضت نفسها على تفكير الفريق البحثي (خلال عام 98) حاول -هذا الاقتراب – أن يبحث في دلالات هذه الموضوعات-بالنسبة ” للعولمة ” إيجابًا وسلبًا فإذا كانت العولمة تهدف – وفق أيديولوجية من يقود عمليتها – إلى التنميط، فإن العالم الإسلامي الذي يحمل معان الخصوصية التي تتمثل في ثقافته وحضارته ودينه قد يستعصي على التنميط، ومن ثم كان لابد وأن يواجه أشكالا مختلفة من الإضعاف والإقصاء والتهميش والتفكيك. وهذه الممارسات – من الخارج – وتمكينه من الداخلي، لا بتحقق إلا من خلال ضعف الداخل. وهذه هي قضية “أمتي في العالم” فمع التخلي عن الشهود سنظل مشهودين. وليست هذه الدلالة ليست إلا واحدة بين دلالات أخرى عن رؤية إسلامية ” للعولمة. وليس هدفنا هنا تقديم أبعاد هذه الرؤية – فهذا الأمر له موضع آخر غير هذا التقديم للحولية. ولكن يبقى أن نتساءل أين انعكاسات هذه الدلالة الأساسية بالنسبة لموضوعات الحولية. فإننا لا نريد الاجتزاء من مضمون التقارير ولكن نشير إلى الدلالات التي أفرزتها مناقشات الفريق البحثي وأحاطت بها خلال الاجتماعات الشهرية التي توالى انعقادها طوال العام.

ويمكن تقدير آثار عمليات العولمة وسياساتها وانعكاساتها على العالم الإسلامي في تفاعلاتها مع الداخل في مجموعات أربعة من التحديات. ويمكن تسكين موضوعات هذه الحولية على صعيدها.

الدائرة السياسية:

تثير تحدي فرض منظومة القيم السياسية المتمثلة في نمط الديموقراطية الغربية العلمانية، بل واعتبار التحول الديموقراطي شرط الحصول على المعونات والابتعاد تباعد عن المسار الديموقراطي مبعثا للعقوبات ومن ناحية أخرى هناك التدخل باسم حماية حقوق الانسان -وفق المفهوم الغربي ووفق معايير المصالح الغربية. وهنا تبرز لنا أحداث الجزائر ونيجيريا والدلالات الفكرية لقانون الاضطهاد الديني، ومحاكمة جارودي، ومن ناحية أخرى. تبرز لنا دلالات المقارنة بين أحداث الجزائر (إلغاء نتائج انتخابات 91 وحظر جبهة الانقاذ وتصاعد العنف) وبين التطورات في إيران منذ فوز خاتمي بالرئاسة وتنامي الصراع بين “المتشددين” و”المعتدلين”، وبين التطورات في تركيا منذ فوز حزب الرفاة الإسلامي بأغلبية نسبية في انتخابات 95 وانكشاف الصراع بين التيار الإسلامي وبين المؤسسة العسكرية. إن دلالات هذه المقارنة تصب جميعها في إطار عملية التحول الديموقراطي وأنماط الممارسة الديموقراطية وفق معايير النموذج الغربي وقيمه ومن خارجها وفي محاولة لتحديها. وتختلف نتائج هذه الأحداث بالطبع على الصعيد الداخلي والخارجي -باختلاف هذه الحالات الثلاثة: دولتي الأركان في الأمة – أي تركيا، إيران، الجزائر دولة من دول القلب العربي المسلم.

الدائرة الاقتصادية:

تفرض الأبعاد الاقتصادية للعولمة وخاصة أبعادها المالية والتجارية تحدياتها على اقتصاديات الجنوب بصفة عامة، وكان لأزمة جنوب شرق آسيا مدلولاتها الهامة بالنسبة للجدال حول العلاقة بين الداخلي والخارجي عند تقدير آثار هذه التحديات. ومن ثم كان لهذه الأمة مدلولات أخرى بالنسبة لمستقبل التوازن العالمي ومن ثم بالنسبة لمصداقية القول أن القرن 21 هو قرن آسيا كما كان القرن 20 هو قرن الولايات المتحدة. ويبدو أيضًا أن هذه الأزمة كانت اختبارًا للقيم الآسيوية في مواجهة القيم الغربية من حيث مسئوليتها من نجاح تجربة النمور الآسيوية ومن ثم مدى قدرتها على مواجهة الأمة التي تتعرض لها هذه التجربة، أم ستصبح تلك الأخيرة بدورها مجالًا لضغوط المؤسسات المالية العالمية من  ناحية ولضغوط نماذج التحول الديموقراطي على النمط الغربي من ناحية أخرى. وعلى صيد آخر إذا كان هذا نصيب قارة آسيا من أثار العولمة فإن قارة إفريقيا -قارة الإسلام المنسية- تستعد لإعادة اكتشافها من حديد في سياق إعادة ترتيب التوازنات العالمية من حولها. ومن هنا مغزى زيارة كلينتون بأبعادها الاقتصادية التي لم تنفصل عن أبعاد قضية التحول الديموقراطي وحقوق الإنسان.

الدائرة العسكرية الأمنية:

يعد منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وأحكام النظام الدولي لهذا المنع من أولويات أهداف الاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وكانت آليات تدمير القدرة العراقية وآليات التفتيش عليها من أهم التطوارت في سياسات منع الانتشار التي لم يسبق لها مثيل وكانت -وما تزال- حالة العقوبات على العراق من أهم المؤشرات على ازدواجية معايير السياسات الدولية في هذا المجال وذلك بالنظرة المقارنة مع إسرائيل التي تحوز أسلحة الدمار الشامل المختلفة وعلى رأسها الأسلحة النووية دون أن تواجه أية عقوبات أو اتهامات. ومن ناحية أخرى جاءت التفجيرات النووية الهندية والباكستانية لتمثل تحديا خطيرا للنظام الدولي لمنع الانتشار في مرحلة هامة من اختباره. وفي المقابل فإن محدودية ردود فعل القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة تجاه هذه التفجيرات لتثير التساؤل بدورها حول مصداقية مقاومة الولايات المتحدة لحايزة الأسلحة النووية في كل الحالات وبنفس الدرجة. فمن المتيقن أن الإجابة على هذا السؤال إنما ترتبط بحقيقة وضع التوازن الآسيوي النووي الجديد في لعبة التوازنات العالمية حول آسيا، جنبا إلى جنب مع أوضاع عدم التوازن الاقتصادي في ظل أزمة جنوب شرق آسيا.

وإلى جانب سياسات منع الانتشار وأدواتها المختلفة وعلى رأسها العقوبات الاقتصادية يبرر اهتمام الغرب بقناة أخرى لتدعيم أمنه في مواجهة “الشرق” وفي مواجهة الجنوب. ونقصد بهذا حلف الأطلنطي الذي أضحى منظمة أمن الغرب. وهو يتدخل بالقدر الذي يحتوي مخاطر وتهديدات هذا الأمن وليس بالقدر الذي يحفظ حقوق الإنسان ويحمي حق تقرير المصير للشعوب.

وتقدم البوسنة نموذجًا ما لبثت أحداث كوسوفا إن دعمت من مدلولاته.

الدائرة الحضارية- الثقافية:

من أهم المقولات المتضادة في خطابات العولمة تلك التي تقول بالاتجاه نحو بزوغ نوع من الثقافة العالمية وتلك التي ترفض عولمة الثقافة مبرزة استمرار الخصوصيات والمحليات الثقافية وإن أضحت أكثر عرضة للتأثير والتأثر. وتقدم لنا بهذا الصدد موضوعات “الثقافة العربية، الاحتفال بالحملة الفرنسية والسكوت عن الفتح العربي، حوار الأديان، دلالات هامة بعضها تتصل بذاكرة الأمة الراهنة حول الثقافة الإسلامية وبعضها يتصل بالذاكرة التاريخية عن نقاط تحول في تاريخ الأمة. وكلا الذاكرتين تتعرضان للوهن والتزييف تحت ضغوط عمليات العولمة وخطابها عن الثقافة العالمية والتاريخ العالمي للإنسانية وعن حوار الحضارات وحوار الأديان.

وإذا كانت أحداث تركيا تعكس أبعادًا داخلية وخارجية هامة في سياسة هذا الركن من أركان الأمة فإن أبعادًا ثقافية تكمن في قلبها.

وتقدم تركيا الحديثة منذ تكوين جمهوريتها 1924 نموذجًا لإعادة تشكيل الهوية ” والتي يسميها هانتجتون -مع حالات أخرى- نموذج البلدان الممزقة بين هويتها الأصلية -غير الغربية- وبين الهوية الغربية التي تسعى إلى اكتسابها. ولعل هذا النموذج يقدم الكثير من الدلالات عن جانب هام من جوانب الجدال الدائر حول عمليات العولمة هل تتجه بالعالم نحو درجة من التجانس الثقافي وغيره أم تظل الخصوصيات في الهوية والثقافة قائمة بكل موازينها التاريخية لتقاوم هذا التنميط وفق النموذج الغربي بل ولتؤثر على قرارات وتوجهات الغرب نحو قضايا هامة مثل قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. وإذا كانت الشروط التي حددها هانتجتون لنجاح عملية إعادة تشكيل هوية البلدان الممزقة هي: اتفاق النخبة على الهوية الجديدة وإذعان الرأي العام للتحول نحوها وقبول المجتمعات المتلقية لانضمام هذه البلدان إلى عالمها، فإن خبرة التطورات التركية في الأعوام الثلاثة الماضية تقدم مدلولات هامة عن عدم انطباق هذا الشروط مكتملة حتى الآن، وهو الأمر الذي لابد وأن يثير التساؤل ويفرض الحاجة إلى مزيد من التحليلات المعمقة عن مآل أزمة الهوية في تركيا: هل ستستمر مقاومة الرأي العام والقاعدة وهل سيستمر اتفاق النخب المختلفة، هل سيحسم الاتحاد الأوربي التأرجح بتغير موقفه من عدم قبول تركيا عضوا أم باستمرار رفض هذا القبول؟

وأخيرًا -وليس آخرًا- وإذا كانت قضية القدس تقع في قلب عملية التسوية النهائية المرتقبة منذ أن بدأت عملية السلام في 1991 باعتبارها من القضايا المعقدة التي استدعت المناورات تأجيلها حتى لا تقف العملية من البداية، إلا أن للقدس بعدًا أخر وهو البعد الحضاري -الثقافي- العقيدي وهو أكثر أهمية من بعدها السياسي بل ويغلف هذا البعد ويشكله. ولا أدل على هذا من مقولة طارق البشري أن القدس وعاؤها فلسطين، وأن فلسطين لن تكون أندلس ثانية بإذن الله.

مجمل ذلك:

أن عمليات العولمة وسياساتها تتكاتف في دوائرها المختلفة في مواجهة المسلمين تفكيكا وتأكلا لإمكانات القوة. وفي المقابل فإن الصهيونية العالمية وإسرائيل تأتي على رأس المستفيدين من نتائج هذه المواجهة على مختلف مستوياتها من ناحية، كما نجد بصمات الوجود الإسرائيلي وراء هذه العمليات والسياسات المختلفة من ناحية أخرى ولا يمكن القول أن الانقسامات في داخل إسرائيل أو مرحلة ما بعد الصهيونية يمكن أن تخفي هذه الاستفادة أو هذه البصمات. ومن هنا أهمية دراسة هذه الانقسامات في مرحلة ما بعد الصهيونية.

ثالثًا: فلسفة تقسيم العوالم في الأمة:

كذلك فإن أهم ما تتميز به هذه الحولية هو تصنيفها للعوالم المختلفة فيما يتعلق بالأمة كوحدة تحليل، ذلك أن التقسيم المناطقي لاعتبارات جغرافية أو قومية أو غير ذلك قد تشير من طرف خفي إلى غض الطرف عن “الأمة” كوحدة تحليل جامعة. وضمن هذا الاعتبار يأتي تصنيف مالك بن نبي للعوالم بين عالم أحداث الأمة وعالم أفكارها وعالم أشخاصها وعالم رموزها ونظمها والذي يشكل أهم تجليات عالم الأشياء فيها.

إن عالم الأحداث في الأمة هو نتاج للتفاعل بين العوالم الثلاث الأخرى (الأشياء والأفكار والأشخاص) فضلا عن العوالم المشتقة التي ترصد العلاقات اولتفاعلات، إنه العالم الذي يتشكل في إطار الفعل والفاعلية عالم الأحداث يشكل بكل تنويعاته دالة حول حقيقة الفاعلية، وضمن هذا السياق قد يتحرك هذا العالم صوب إهدار الإمكانات والقدرات والطاقات في إطار يجعل من عالم المسلمين موضوعًا لا طرفًا فاعلاً في حركة الأحداث أو تحريكها، مفعولاً به أو منفعلاً، تتحرك الأحداث عليه وليست له، في مصلحته غيره لا مصلحة. وفي إطار داخلي يمثل القابليات لتمكين فعل الخارج وتعظيم تأثيره، إن تمكين الخارج في التأثير ليس إشارة إلى معنى المؤامرة في الحركة أو في تفسير عالم الأحداث، أكثر مما يشير إلى  كيف مكّن وهن الداخل لتعظيم تأثير الخارج في صناعة عالم الأحداث على نحو يصب في وهن الفاعلية وإقصاء طاقات الفعل الحضاري، وهو ما يعني أن الضرر اللاحق بالكيانات الإسلامية قد أسهمنا في وجوده إبتداء، وربما في استمراره وآثاره السلبية إنتهاء. هل يمكننا أن نفسر الحدث الجزائري وأزمته الراهنة والتي اتخذت حالة من تكرار الفعل في مسلسل العنف والعنف المضاد، في صورة صارت أحداث العنف اليومية حالة معتادة أنهكت الدولة وأضعفت قواها وفككت لحمة المجتمع وبدت قواه تمارس أقسى درجات الإنقسام والتنافي، إن الجزائر كقوة مضافة في الكيان الحضاري للأمة فقد معناه، وصارت إحدى العلامات السلبية للدلالة على القابليات المواتية لإحداث حالة إنهاك الدولة وتفكيك المجتمع وأوصاله وتأثيرات الخارج الفاعلة بمقدار ما مكنّ له ضعف الداخل وانقسامه.

الأمر يتعلق أيضا بالعراق التي تشهد نمطا من التفكيك ولكن عن طرائق العقوبات الممتدة ضمن سياسات إحتواء أدت إلى تكسير أهم عناصر القوة العراقية المادية (عسكرية واقتصادية ..) العراق يمثل نموذجا آخر لمؤامرة الصمت العربي كما يمثل واحدة من حلقات إضعاف الأمة وماذا عن دول الأركان التي تمثل عمقا استراتيجيا للدائرة العربية والإسلامية، تركيا في أزمة الهوية يتنازعها التوجه إلى عالم المسلمين المجال الحيوي لفاعليتها، وبما تشير إليه ذاكرة الدولة العثمانية، والتوجه إلى العالم الأوربي الذي يتحفظ وربما يرفض أن يعتبر تركيا منه بفعل ذلك الهاجس العثماني، وتركيا في الداخل تمثل هذا النزاع بين العلمانية الكمالية، والهوية الإسلامية، والتي تحدث استقطابًا مهمًا يمثل صورة واضحة لأزمة الأمة في العلاقة بين العلمانية والإسلام “وأزمة الهوية” التي تشكل واحدة من أهم أزمات النظم السياسية في عالم المسلمين.

وليس عجيبًا أن مسائل الهوية تحدد القبلة والاتجاه، فبينما حاول التعاون مع إسرائيل على عهد أربكان أن يتقلص إذ بهذا التعاون يتمدد بعده، وهو ما يحرك عناصر القصور والتقصير في العلاقات التركية العربية.

إيران تمثل حلقة أخرى من مناطق إهتمام وركائز الأمة والتعرف على حجم التحولات فيها، صعود خاتمي قد يمثل فرصة لتوطيد ركن آخر من العمق الاستراتيجي للأمة.

وهاهي مناطق البوسنة وكوسوفا بعالم أحداثها يعبر عن دائرة عالم المناطق الإسلامية المهملة والمخذولة، تعرفنا على أحداثها بمناسبة سياسات التطهير الديني للمسلمين، تعبر عن غياب شعور الأمة (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم)، أين نحن من كل ذلك؟‍‍!

كذلك علينا أن نتعرف على عالم الأمة على امتداده الجغرافي والبشري .. إن أزمة جنوب شرقي آسيا طالت اثنتين من الدول المسلمة (أندونيسا وماليزيا) ومثلت الأزمة الإقتصادية، ووسط الفساد، وتدخلات الغرب عوامل مهمة في تلك الأزمات ضمن الظاهرة والقابلية لها، إن المشاهد الآن على أرض الواقع يحيلنا إلى أنماط أخرى من التفكيك أندونيسيا التي تشهد صراعا سياسيا حادًا أحدث انقساما تتآكل فيه هيبة الدولة وتتفكك فيه قوى المجتمع وأوصاله.

ماليزيا تشهد أزمة سياسية لا يعرف متى ستنتهي، إلا أن الصراع فيها والآليات المستخدمة (محاكمة أنور إبراهيم وإقالته) تشير إلى وهن التجربة الماليزية في التنمية، ونظن أن أهم ما يميز الخبرة الماليزية قد تلقى ضربة قاضمة ستؤثر على هيبة الدولة وقوة المجتمع كأهم سندين للتجربة التنموية الماليزية.

ومرة أخرى يبدو حجم الاهتمام الغربي بعمليات التفجير النووي الباكستانية كان أعظم وأشد وأكثر إدانة وتنكيلا من مثيله الهندي، وارتفعت التحذيرات الغربية من القنبلة الإسلامية، متغاضية أو يكاد عن التفجيرات الهندية والبدء بها، وإسرائيل تحذر من امتلاك باكستان لأسلحة دمار شامل، وهنتنجتون يصدق نظريته ويتحدث عن صدام الحضارات متخذا من التفجيرات الباكستانية مؤشرا على صدق رؤيته ونظرته.

وأفريقيا تمثل القارة المنسية، وهي تشكل مجالاً حيويًا لعالم المسلمين، ومتابعة عالم أحداثها الذي يشير إلى تاثير الخارج، بينما يندر أن يكون للأمة تأثيرات في هذا المقام وفق رؤية استراتيجية وحضارية تمثل أصول الإشتراك في المصالح والمقاصد. رصد عالم أحداثها عملية مهمة ليس فقط للمعرفة، بل من الضروري أن ترسم خطة علاقات استراتيجية مع العمق الأفريقي بما يمثله ذلك من تبادل المصالح والمنافع خاصة أن سياسات الالتفاف الإسرائيلية في عمليات تطويق لكيانات عربية هي سياسة إسرائيلية ثابته، يجب التنبه إلى مخاطرها، وتفعيل العلاقات الذي يمثل الخط الحقيقي للدفاع عن المصالح المشتركة والمتبادلة.

وفي عالم أحداث الأمة تقع إسرائيل لتشكل مع تعاظم قوتها مؤشرًا على ضعف أمة العرب والمسلمين، الصراع العربي الإسرائيلي يشكل واحدا من الصراعات المصيرية، وفهم مصادر “قوة العدو” ومفاصل “الضعف” فيه وعنده عمليات مهمة، خاصة أن التفاعلات داخل تركيبة المجتمع الإسرائيلي فكريًا وإجتماعيًا تمثل منطقة جديرة بالفحص والدرس وقبل كل ذلك بالوصف والرصد.

عالم أحداث متنوع هل تشكل الأمة أحد أطراف صياغته، أم أنه يتشكل بعيدًا عنها وعلى حسابها؟!

تساؤل الإجابة عليه لا تتأتى ابتداء إلا برصد هذا العالم والإشارة إلى أهم دلالته، لتكون صورة متكاملة أو تكاد لـ”أمتي في العالم”.

إن هذه الحولية تحاول أن ترصد كل آلام وآمال هذه الأمة في مساحات الفعل الحضاري والعوالم المتعلقة به “الأفكار والأحداث والأشخاص والأشياء” ويتعامل مع هذه العوالم بذلك الرصد الذي يشير إلى معاني السنن الحضارية.

إن عالم الأحداث في الأمة قد يجري لنا كما قد يجري علينا، وإن صناعته والتأثير في مجرياته يتحرك بسنة سواء عقلها المسلمون أو وعاها الآخرون فإن السنة لا تعطي إلا عن عمل لها وبها ووعي حركتها وسيرها.

وإن عالم الأحداث يفرز عوالم أفكار وأشخاص وأشياء على شكله كما قد تعبر بعض فاعليات هذه العوالم عن عالم أحداث يشير إلى ضرورة البحث عن عناصر العقل والفاعلية من جانبنا.

وضمن هذا السياق فإن التقرير يقدم مادة الوعي، وشواهد القعود وعدم الفاعلية، ومؤشرات السعي الحضاري الفعّال، فهل آن لأمتنا أن تتعلم من عالم أحداثها وأن تفرز عالم أفكارها وأن تبحث عن القدوة والفكرة في عالم أشخاصها، وأن تبحث في مخزون عالم أشيائها ورموزها ونظمها عن كل ما يحفز معاني تنشيط الذاكرة الحضارية، وهوية الأمة واختصاصها. أم ستظل تهدر عناصر إمكانها الحضاري وقدراتها وطاقاتها الحضارية فتفقد ممكنها بعد أن فقدت تمكينها، والتمكين له من السنن التي تتعلق به، فإن معنى التمكين لا يبلغ بحال إلا بفعل التمكين.

إن عوالم هذه الأمة تشهد لنا أو علينا فماذا فعلنا لصياغتها أو على الأقل للتنبيه عليها والاعتبار بمعنى الفكرة فيها؟!

هذه الحولية التي  ترصد هذه العوالم قد توضح أدوارنا المتخاذلة ضمن هذه العوالم، وربما تشير إلى بعض صفحات تؤكد خمائر الوعي وعقلية العزة في الأمة، ولكنه في كل الأحوال يشير إلى تحول عالم العرب والمسلمين ليكون موضوعا للفعل وليس أدوارا وأطرافا في الفاعلية.

إن هذه العوالم المترابطة (الأحداث، الأفكار، الأشخاص، الأشياء، والنظم والرموز) التي تتفاعل وتستطرق من حيث تأثرها ببعضها البعض ومن حيث تأثيرها في عالم الواقع.

أما عن عالم الأشخاص وعالم الأشياء والرموز والنظم فنحن لا نتعرض إليه بذلك الاعتبار وما يشير إليه، إننا نتعرض له بمقدار ما يمثل وما يعكس من أنساق للأفكار الحية الفاعلة، الشخص بهذا الاعتبار فكرة، والرمز فكرة، والأنظمة فكرة، إننا أمام عالم تتشابك فيه القوى الفاعلة فتشكل مادة الوعي ومسارات السعي.

إن عالم الأشخاص تمثل في أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع العالم الذي حمل هم أمته في عقله وكتاباته واستلهمنا منه إسم تلك الحولية، ورجاء جارودي الذي حوكم ليس كشخص إنما كفكرة، تربصت به الدوائر الصهيونية لتحاكمه في أمر معلومة تاريخية وليست دينية، إلا أن هؤلاء استطاعوا أن يحولوا الموقف الفكري إلى موقف ديني وإلى معاداة للسامية وحاكموا جارودي لأنه تجرأ ومسّ التابو الصهيوني في أوربا وفي غيرها.

ومن عالم أشخاص الأمة أوجلان والقضية الكردية الذي يمثل واحدا من عالم أشخاص الأمة يبين وهنها، أوجلان يرسل برسالة لبابا الفاتيكان يستعديه فيها على ما تمثله ذاكرة الدولة العثمانية وعلى نشرها للإسلام، أين أوجلان الكردي من صلاح الدين الأيوبي الكردي؟!

بينما عالم الرموز أشار إلى قدسنا الذي يحتوي على المسجد الأقصى السليب القدس التي لا تعبر عن مجرد مكان، إنها فكرة وعالم أحداث وعالم أشخاص يستجلب من ذكرياتنا التاريخية عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي.

والقدس بما تمثله لنا تتمسك بها إسرائيل، ورغم ذلك تنشأ جماعات السلام لتبشر به، بينما هنالك ألف سبب وسبب ليستمر الصراع مصيريا فإن التنازع بين القدس الرمز والموقف الذي يستدعي كل عناصر المقاومة القدس بهذا الاعتبار تمثل الحجة على عالم المسلمين، إنتهاك القدس وتهويدها وطرد المسلمين منها والعرب، تمثل أدوات في فرض أمر واقع في القدس لمصلحة الخيار الإسرائيلي.

وتبدو ردورد الأفعال العربية والإسلامية التي غالبا ما تتخذ شكل التأجيل أو الإدانة تمثل ردود أفعال باهتة وواهنة لا تتوافق بأي حال مع القدس كذاكرة تاريخية وحضارية ودينية.

القدس بهذا الاعتبار تستدعي كل رموز المقاومة والتحدي، وهي بين حلقات الاغتصاب والاسترداد التي ربما تستمر بالعقود وربما بالقرون التي تحرك ذاكرة المقاومة.

وفي قبالة ذلك تأتي جماعة كوبنهاجن التي تستدعي موقف السلام كخيار استراتيجي في وسط غير مواتٍ.

والظاهرة الدينية صارت تمثل أهمية متزايدة في سياقاتها السياسية قانون الاضطهاد الديني يشكل دالة مهمة في هذا المقام، وأحد الأدوات التي تتعلق بتعدي قضية حماية الأقليات الحدود القومية للدولة، وهي أمور تستدعي حماية الأقليات التي كانت مدخلا من أهم مداخل التعامل مع المسألة الشرقية والرجل المريض، وحلقة الامتيازات الأجنبية في هذا المقام، الأمر لا يزال يستدعي ولكن في ظل متغيرات دولية وعالمية مستجدة أظنها تستخدم كورقة ضاغطة مثل سجل حقوق الإنسان، وقوائم الإرهاب إنها تشير إلى قائمة جديدة.

وواحد من الأمثلة الدالة في هذا المقام يشير إلى قضية حوار الأديان واتفاقية الأزهر في هذا السياق تمثل دورًا بدا يتنامى للمؤسسات الدينية على مستوى العالم، حوار الأديان فحوار الحضارات والثقافات وربما كلها تصب في أهداف سياسية ربما تعني الكثير في هذا المقام.

وفي عالم النظم الذي يرتبط بالأمة الإسلامية تأتي قمة منظمة المؤتمر الإسلامي بطهران، لتعبر عن أجندة مليئة بالقضايا والتحديات كلها ترتبط بعالم أحداث يرتبط بعالم المسلمين، وصدرت بيانات، فهل ستتحول هذه التوصيات إلى أفعال على الأرض ونظم تحققها وآليات تمثل وسائط ووسائل لبلوغ الأهداف.

وفي عالم الرموز بما يشير إلى قضايا احتفالية فإن تزامن ثلاث إحتفاليات: الاحتفال بالحملة الفرنسية والذي ارتبط به حوار ساخن بين توجهات فكرية متنوعة، ومقترح باحتفال الفتح الإسلامي لمصر، واحتفال الصهاينة في كل أنحاء العالم وخاصة في إسرائيل بمئة عام على الصهيونية، إنها احتفالات دالة على عالم أفكار وأحداث وعالم أشخاص أسهم في توجهات الحوار، الاحتفال بالحملة الفرنسية أيده فريق اعتبرها نقطة فاصلة في نهضة مصر الحديثة (هكذا ؟)، ذاكرة أراد لها هؤلاء أن تحيى، بينما ربما نفس رموز الفريق أو ما هو في حكمهم اعترض على الاحتفال بالفتح الإسلامي لمصر، فهذا نمط من الذاكرة أريد له أن يُطمس، وذاكرة مثلت مشروعا صهيونيا يتجسد الآن على الأرض بكل عناصره التي كتبت في هذا المقام.

إن ممكن العرب والمسلمين تدهور إلى الحد الذي صار به مستحيلا، ومستحيلات الصهيونية صارت إمكانًا بعد مئة عام. فهل تعلمنا درس الفاعلية؟!

إن الاحتفال بالصهيونية كان تتويجا لنجاحات على الأرض تفرض من خلالها إسرائيل أمر واقع، ويتراجع العرب مرة بعد مرة عن حقوقهم، وبين معادلة تآكل الحقوق العربية وتعاظم دائرة الاغتصاب الإسرائيلي بإسم الأمن يمكن رؤية موقف العرب الذي يمثل أسفل دركات الوهن والضعف. إن هذا يسوقنا إلى التعبير عن عالم الأفكار في العالم العربي تمثله سمات مهمة دالة على حال الثقافة العربية وموقفها حيال قضايا معينة تشكل انعكاسا لحالة الوهن العربي على أرض الواقع.

إنها عوالم أفكار وأحداث وأشياء ونظم ورموز وأشخاص هذه الأمة تعبر عن الأفكار الكامنة في الحدث والنظم والأشخاص والرموز، وتعبر عن حال “أمتى فى العالم“.

والمهم في هذا الرصد من خلال تلك الحولية ليس إلا البحث في كل ذلك عن مناط الفكرة، ومناهج التفكير التي تصوغ بدورها مناهج التدبير والتأثير.

عالم أفكار الأمة يحمل أنماط من الأفكار علينا أن نقوم على فرزه لنحدد النافع في كيان الأمة، النافع للناس الماكث في الأرض، وعلم أفكار الضرر الحضاري والتعرف على تأثيراته التي تفت في عضد الكيان ولحمته وقدرته وطاقاته وفاعلياته، أو أفكار الزبد الرابي التي لا تحدث تأثيرا يذكر في حياة الأمم وبناء الحضارات، البحث عن الأفكار “القاتلة” أو “المميتة” المؤثرة في البنيان الحضاري وشبكته الاجتماعية والعصبية ونسيجه المتشابك والمتفاعل، وهناك “الأفكار المخذولة” التي تحرك ذاكرة الأمة وتنشط من مقصد اعتبارها “بأيام الله”، وهناك من الأفكار الميتة التي لا تضيف للكيان بل تضره وتبدد طاقاته الذهنية والفكرية والحركية. وهناك “الفكرة الوثن” التي تحدث وهم الفاعلية ولا تؤدي إلا سرابية الفعل الحضاري مجرى ومقصدًا.

وفي كل الأحوال لابد أن نبحث عن موقعنا من هذه العوالم جميعا صياغة وتشكيلاً فعلاً وفعالية، وعيًا وسعيًا.. فأين “أمتي” من كل ذلك؟!

رابعًَا: نطاق الحولية

وحول نطاق الحولية ودائرة المشاركين فيها تفرض الملاحظات التالية نفسها. فمن ناحية:

حقيقة يتم إخراج هذه الحولية في مصر “حاضرة العالم العربي” وركن أساسي من أركان الأمة الإسلامية على مدار تاريخها ولكن تجتهد الحولية -اتساقًا مع مستوى التحليل ومنطلقاته المنهاجية- أن تتسع دائرة المشاركين في إعدادها فلا تقتصر على الدائرة المصرية فقط. ولذا وفي محاولة أولية -سنحرص على تدعيمها بعد ذلك بإذن الله- فإن إثنين من الموضوعات (التفجيرات النووية الباكستانية/ الهندية، وحلف الأطلنطي وكوسوفا) وقد تم إعدادها من واقع مصادر أصلية -هندية وباكستانية، ومصادر أصلية ألبانية. والموضوع الأول تم إعداده بواسطة أستاذ مصري متخصص في اللغات الشرقية، والثاني تم إعداده بواسطة أحد أبناء كوسوفا. ونأمل أن يساهم باحثون من مناطق العالم الإسلامي المختلفة في تغطية موضوعات الحوليات التالية سواء في عالم الأحداث أو عالم الآراء والأفكار.

ومن ناحية أخرى لا يقتصر نطاق الحولية على الدول الإسلامية فقط ولكن يمتد إلى الشعوب الإسلامية في نطاق دول غير مسلمة (في كوسوفا مثلاً). كما يمتد إلى “الجماعات المسلمة” في الدول غير المسلمة في أوربا وفي الولايات المتحدة وغيرها. وإذا كانت الحولية الأولى تتضمن رصد لبعض ردود الأفعال من جانب الجماعة المسلمة في الولايات المتحدة تجاه الضربة العسكرية الأخيرة ضد العراق فإننا نأمل أن تتضمن الحوليات التالية ما هو أكثر من ذلك بواسطة أقلام من بين هذه الجماعات فإن هذه الجماعات هي جزء من الأمة.

ومن ناحية ثالثة وفي نطاق “عالم الأحداث” فلقد حكم اختيار الحالات موضع الدراسة ما اكتسبته من إلحاح واهتمام في العام المنصرم وما تقدمه من دلالات بالنسبة لقاعدة هذه الحولية (العولمة). ولذا فإذا كانت أحداث العنف في الجزائر قد فرضت نفسها خلال 1998-ومن قبل- وكذلك التغيرات السياسية الداخلية في إيران وتركيا وكذلك الأحداث الدموية في كوسوفا فإن موضوعات الحولية التالية -بإذن الله- على صعيد العوالم الأربعة التي نستلهمها كأساس لتقسيم الحولية يمكن أن تمتد إلى دول أخرى ووفقًا للخيط الجامع الذي ستنطلق منه الحولية التالية وهكذا.

هذا ويجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت الحولية قد تم إنجازها حول 1998 إلا أن بحوث عالم الأحداث معظمها تتخذ نقطة بداية لها قبل عامين أو ثلاثة حيث أن أحداث تطور هذه الموضوعات في 1998لا تكتسب مغزاها بدون هذه الامتدادات. فمثلاً الأوضاع الحالية في البوسنة ليست إلا حلقة في تطبيق دايتون منذ 1996، والأزمات المتكررة التي شهدتها قضية العقوبات المفروضة على العراق ليست بدورها إلا حلقة من عدة أزمات سابقة .. وهكذا.

هذا وإذا لم تكن “مصر” قد حازت نصيبا على صعيد دراسات عالم الأحداث فإن نصيبها قائم ومتنوع على صعيد عالم الأفكار.

ويبقى أخيرًا القول إن هذا العمل قد تم بالاستعانة بباحثين من جيل شباب الباحثين وفي إطار عمل جماعي وبروح الفريق، وتحت إشراف جيل أسبق خاض تجربة البحث الجماعي في شئون الأمة المختلفة، الفكرية والعملية. والله المستعان والحمد لله رب العالمين.

القاهرة

24 من رمضان 1419هـ

12 من يناير 1999م

*نُشرت ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى