مفهوم الحضاري

يدور جدل كبير حول “الحضاريّ” صفةً ومعنىً، ويتراوح الأمر بين مختزِل لهذا المفهوم بحيث يضيق ليقتصر على الشأن الديني وبين مَنْ قد يوسع هذا المفهوم والوصف بحيث يشمل كل شيء، خاصة أن هذا الوصف استُخدم بشكل يتسم بالسيولة ضمن مفاهيم أخرى (التحديات الحضارية، المقاومة الحضارية، الشهود الحضاري، العمران الحضاري… إلخ)، ومن هنا كان من المهم تحرير هذا المفهوم وتحديده بكافة امتداداته ونفي الدلالات المغلوطة عنه وحوله. ويمثل ذلك “رؤية أولية” تستحق مزيدًا من التأصيل والتفصيل. من الواضح أن هناك مشكلة. فما هو الحضاري؟ فمثلًا يرى البعض أن الحضاريّ ما هو إلا غطاء للمواجهة يستخدمه الغرب في صراعه معنا، أو تحويل النظر عن السياسي، أو قلب الموازين في الرؤية، كقولهم أن تستخدم القوة والعنف لأن العنف مركَّب لدينا في العقل والسلوك الحضاري، أيضًا يستخدمه البعض على أنه نوع من الاستدراج لمن يتحدثون عن دينية الصراع. إذن هناك مظاهر للصراع الحضاري، فالأناس العاديون يلاحظون أن قوس الأزمات كله مسلمين، وأن القوس الذي يتم ضربه كله مسلمين، بل لا نعرف أنهم مسلمون إلا بعد أن يتم ضربهم، مثلما حدث مع البوسنة، بل وعلى مستوى النخبة أيضًا وليس الجماهير فقط.
كذلك هناك ذاكرة تاريخية لما يُسمى بالصراع الحضاري. ولكن إذا قلب الآخر المواجهة بالصدام الحضاري، ماذا يكون موقفنا؟ هذا هو لُب القضية التي أريد أن أتحدث عنها. فالتفسير الحضاري ليس تفسيرًا دينيًا لكي نكون واضحين في هذه المسألة، ولا يعنى كذلك تفسير الصراعات تفسيرًا دينيًا، هذا خطأ قد يقع فيه كثيرون في هذا الإطار.
“الحضاري” هنا هو المعنى الشامل؛ أي إن الحضاري هنا هو الأنساق التي تتعلق بالمعرفة وبالتفكير والتدبير والقيم ورؤى العالم، ومن ثم “الحضاري الشامل” هنا هو بحث في الدلالات الثقافية ليس إلا. هل هذا الذي حدث في لبنان – العدوان والمقاومة الحضارية – له دلالات أو مآلات مما يتعلق بمعنى الحضاري الشامل؟ فالعنوان هنا يعبر عن المواجهة الشاملة، وليس كما يعتقد البعض أن المواجهة يجب أن تكون مسلحة، الأمر ليس على هذا النحو، ومن ثم تأتى مطالبتنا لأساتذتنا القانونيين أن يشكلوا لجنة لمتابعة الانتهاكات الإسرائيلية في لبنان وفي فلسطين لكي نقاضي إسرائيل؛ لأنها مسألة زادت عن الحد، وأصبحت إسرائيل تضرب بالقرارات الدولية عُرض الحائط، وهناك من يبرر لها ذلك داخل القانون وخارجه.
إذن “الحضاري” هو تشكيل لجوهر “الإنساني” في “الحضارة”، أي إن الإنسان الذي قُتل على أرض لبنان وفلسطين جراء العدوان الإسرائيلى عليهما فى عامى 2006 و2008 على التوالى، هو ما يعنينا في هذا الإطار. فالرئيس الفنزويلي شافيز وقف موقفًا غير الذي وقفته النخب عندنا، وعندما يُسألون عن السبب؛ يقولون: “إننا لا نريد أن نضيع إنجازاتنا”، أين هي هذه الإنجازات؟، وأنا لا أدرى ما هي تلك الإنجازات التي قاموا بها. إذن الدلالات الحضارية هنا مسألة غاية في الأهمية، حالة العدوان هي حالة بغي على الحضارة والعمران. وحالة المقاومة هي حالة حضارية وسُنة ماضية ما دام العدوان وما استمرّ الطغيان.
أما بخصوص نهاية التاريخ فقد كتب فولبرايت كتاب “غطرسة القوة” وكتب في نهايته عن نهاية التاريخ، وقال إن أسوأ ما ستؤمن به أمريكا في المرحلة القادمة أن ترى أنها ستمثل نهاية للتاريخ، ويحذرها من مسألة غطرسة القوة في هذا المقام. كيف يمكن إذن أن نرى هذه الدلالات الثقافية والحضارية للعدوان، وعملية المقاومة والمواجهة والممانعة دون الانزلاق إلى حالة الصدام الحضاري المقدور والمحتوم؟ كيف نشكل خطابًا يوازن بين هذه الأمور جميعًا؟.
في مفهوم “الحضاريّ”
وصف الحضاري إذن يعنى أكثر من مستوى ونحن بصدد معالجة التحديات؛وعلى رأسها تحدي العدوان واستجابة المقاومة ضمن امتداداتهما الحضارية ومن هذه المستويات:
1- أهمية الأبعاد الثقافية والقيمية والفكرية والمعنوية في تحليل التحديات والاقتراب منها بالدراسة والبحث.
2- شمول الرؤية الكلية التي تأخذ في اعتبارها:صعوبة الفصل بين التحديات المختلفة، واستطراق عملية التأثير بين التحديات المتنوعة، وأن الأوصاف الجزئية غير مانعة من ضرورات الرؤية الكلية، والبحث في أصول الاستجابة الحضارية للتحديات، وضرورة التركيز على الرؤى الحضارية والاستراتيجية طويلة الأمد، عدم الخلط بين عالم الأحداث الجزئية، والتحديات المتراكمة التي تشكِّل أنماطًا في التفكير أو أنماطًا في التدبير أو التغيير.
3- دراسة طبيعة الأبعاد والروابط والعلاقات الحضارية ضمن سياق البحث في ذاكراتها التاريخية، ورؤيتها الواقعية، واستشراف مستقبلها، في إطار تكتمل فيه حلقات الزمن في التحليل والرؤية.
4- إمكانات المقارنة بين الأنساق الحضارية المختلفة، بما يتيحه ذلك المنظور من سعة الأفق في التفكير، وانفراج زاوية الرؤية، فالعلاقة بين الحضارات من الموضوعات الحاضرة ضمن هذا المنظور.
5- إمكانات بناء أصول الفقه الحضاري في التعامل الممتد، وبما يحرك نظرة واقعية قيمية للتحديات: وتحديد جوهرها، وتحديد أوزانها، تحديد أنماط استجاباتها. أصول الفقه الحضاري يمكن أن تنظر إلى موضوع التحديات ليس باعتباره موضع تحليل فحسب، بل هو كذلك موضع تقويم في ضوء كليات أساسية يجمع بينها ذلك المنظور، وتتميّز زاوية الرؤية فيه.
6- إن وصف التحدي “بالحضاري” يشكل مقدمة لدراسة منظومة متكاملة تتعلق بالبحث في جوهر التحدي الحضاري وديناميكيته، وعناصر التحدي الحضاري الذي تواجهه الأمة الإسلامية والتي تكمن في (القدرة على شحن الفعالية الروحية للأمة، والقدرة على استيعاب حضارة العصر وتمثلها بما يصبّ في عافية كيان الأمة، والقدرة على التعامل الواعي مع أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل أو استثمار القدرات والفرص والإمكانات، والقدرة على حماية المنجزات الحضارية للأمة)، كما أنه قد ترد على التحدي الحضاري قيود منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو خارجي، والذاتية هي الأكثر تأثيرًا سواء ارتبطت بالقيود الفكرية أو التنظيمية المؤسسية أو الاجتماعية الثقافية، ولا شك أن مفهوم “التحدي الحضاري” الذي يواجه العالم الإسلامي لن يكون شاملًا ودقيقًا في غياب المعرفة التامة بما يحيط بهذا العالم من إمكانات وفرص وقدرات، وقيود وحدود ومتغيرات، وما لم تتحقق هذه المعرفة فإن مواجهتنا للتحدي الحضاري ستظل محدودة الفاعلية بل ربما عديمة الجدوى.
7- وأخيرًا فإن وصف “الحضاري” -بهذا الاعتبار- يتيح لنا مواكبة طبيعة التطورات الحضارية والانتقال إلى “طور الحضارة العالمية” بغضّ النظر عن تقويمنا لها.
هذه الخصائص والمستويات قد تكون في حاجة منا إلى بعضٍ من البيان ليس هذا موضعه، ولكن إلى حال:
ودون الدخول في تفاصيل تحليلية خاصة بمناقشة الآراء المختلفة حول مفهوم “الحضاريّ”، فإننا نتبنى تحديدًا منهجيًّا لمفهوم “الحضاري” يتضمن أربعة أبعاد أساسية بها يتشكل المفهوم وبها يوظف في دراسات عدة؛ وهي:
1 – البعد المرجعي (الجذور والأصول):
وبه يأخذ الفكر أصالته، وذلك بتجذره في إطار مرجعي مفهومي يستمد منه هذا الفكر محدداته وقواعده ومبادئه التأسيسية الكبرى، والتي تميزه عن كل فكر آخر لا يصدر من نفس الجذر أو المصدر المرجعي. فالفكر الحضاري “حضاري” فقط بحكم مرجعيته وتجذيريته وإلا يصبح فكرا عامًا؛ فكر إنسانٍ آخر. فمثلًا لو أن مسلمًا أنتج معرفة أو علمًا أو فكرًا فينبغي لهذا المنتوج أن يكون “حضاريًّا”؛ بمعنى أن يجسد -في مضمونه- أبعاد المرجعية الإسلامية وقيمها الكونية والحضارية والعقائدية، فكل فكر ينتمي إلى الحضارة الإسلامية ولا يعبر عن هذا البُعد أو على الأقل يتعارض معه صراحةً، فإنما هو فكر عليل من جانب كونه غير قادر على تضمين المرجعية التوحيدية وتجذيرها في الفكر ومنطلقاته ومقوماته وأنساقه.
2- البعد المنهجي الموضوعي(أصول المنهاجية):
أي خضوع الفكر لمبادئ وقواعد وضوابط منهجية موضوعية تجعله متسقًا في بنائه ووظيفته. فالمنهجية بهذا المعنى تشكل عمق الفكر الحضاري؛ إذ بها ينسجم هذا الفكر مع سنن المعرفة العامة. فالمنهجية في أي فكر حضاري هي الجهاز الإجرائي الذي ينسق الفكر وينظمه بصورة تبيّن موضوعيته ومنطقيته فبالبعد المنهجي يصبح مفهوم “الحضاري” ذا قيمة موضوعية يمكن تحليلها وإخضاعها للمقاييس العلمية ويمكن اختبار مقدماته ومسلماته، ومضمونه، ونتائجه، والتأكد من صحة هذه الأمور أو خطئها.
وبالمنهجية ينتظم الفكر الحضاري ويتسع ليكون متاحًا لأكبر قدر ممكن من العقول والثقافات؛ لأن المنهجية الموضوعية الخاضعة لقواعد عقلية ومعيارية صحيحة يمكن تعميمها.
3- البعد الواقعي الاجتماعي (اعتبار الواقع):
بهذا البُعد يقتدر الفكر الحضاري على الاستجابة للواقع وملابساته وتحولاته وتغيراته الجزئية والكلية الشكلية والمضمونية. فوصف الفكر بالحضاري يحوله إلى وعي اجتماعي مؤثر بفعل النشاط الإنساني، ويجعله أكثر تعلقًا بالحياة والحركة والسلوك. فما لم يصبح الفكر متصلا بنسق الحركة الاجتماعية متوجهًا نحو التفاعل مع المجتمع ومشكلاته، فإنه يبقى دومًا فكرًا سطحيًا مهما بدا له بريق أو ضجيج، فالفكر الذي يفتقد أدوات الوعي الواقعي المتصل بنظام المجتمع وثقافته يبقى فكرًا نظريًا.
4- البعد العالمي الإنساني (العالمية والأنسنة):
ومعناه أن تُدرس الأفكار وتُحلل المشكلات في عمقها الجغرافي العالمي الإنساني الذي يفتح الآفاق للفكر ليمتد إلى ما وراء وجوده الخاص، فيعانق أفكار الآخرين ويتحاور مع الثقافات الأخرى. فالفكر الموصوف “بالحضاري” هو فكر إنساني متجاوز لجغرافية الشخص وجغرافية وعيه الشخصي وثقافته الخاصة، ومتوجه نحو الإنسان عمومًا والعالم شمولًا. فمفهوم “الحضاري” يجعل من العلم والفكر قيمة عالمية عامة.
فالفكر الحضاري إذن هو فكر متجذر في إطار مرجعي معياري، ومنضبط بمنهج موضوعي متناسق، وهو خطاب واقعي عملي يواجه مشكلات الإنسان والحضارة، كما أنه فكر يمتد شمولًا باتجاه استيعاب الآخرين عالميًّا وإنسانيًّا. وبعبارة أخرى، لكي تؤدي الأمة دورها الحضاري العالمي حاملةً لأمانة الإظهار العالمي للدين ينبغي أن يرتفع وعيها للعلم والفكر والإنسان والحضارة إلى مستوى عصر “العالمية” و”الحضارة الشمولية” بأدواتها المنهجية والمعرفية والثقافية والتكنوإلكترونية. إن هذا الارتفاع يعني التحول الكبير في الرؤية والمنهج والمشروع الحضاري. إن نوعية المشكلة الراهنة تستدعي وجود رؤية ومنهج نوعيّ لإدارك طبيعة ووظيفة العلم والفكر والإنسان والحضارة في عصر “العالمية”. إنها المواقف الحضارية حينما تتسم بالشمول، وتتحلَّى بكل فاعلياتها، وفي مقامها تأخذ “المقاومة مكانها ومكانتها.
إن الأمة الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية النهضوية الحضارية، ولهذا فمن الطبيعى أن تعيش لحظة الانتكاسة والضعف والقهر وأن تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها ولحظة الإرهاص النهضوي ولحظة ما بعد النهضة والتحول الحضاري الكبير باتجاه التحضر والاندماج من جديد في نسق الحركة الحضارية العالمية الحديثة. إن معظم المشاكل التي تواجهها النهضة اليوم هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة والأفكار. وهي استجابة تدل على معاني النهضة والنهوض والمدافعة والممانعة والمقاومة.
التحدي الحضاري والاستجابة الحضارية:الإصلاح والمقاومة:
إن التحدي الحضاري بالنسبة للبشرية اليوم هو إيجاد النظم القيمية الأخلاقية والروحية والأطر السياسية والقانونية التي تمكّن الحضارة التي أصبحت عالمية من حلّ التناقضات المتبقية من مرحلتها القومية ومن آثار رؤى العالم الضيقة والأنانية. وهذا التحدي لا يواجه الشعوب الفقيرة والخاضعة فقط وإنما -وبالدرجة الأولى- الشعوبَ الغنية؛ لأن أهم وأخطر ما يعنيه “توحيد العالم” هو أن هذه الشعوب الفقيرة لم تعد قادرة -بالانغلاق على نفسها والانطواء على ذاتها وذاتيتها وحدهما- أن تعيد أو تستعيد قدراتها على استيعاب الحضارة والمكتسبات الجديدة، وأنه ما لم يتوافق هذا السعي نحو إصلاح الذات وإعادة تركيب العقل والنظام الاجتماعي في العالم بإعادة إصلاح النظام العقلي والسياسي العلمي، أي تكوين أخلاقية عالمية وتضامنية إنسانية جديدتين وآلية سياسية أو إدارية وتنظيمية مختلفة، فإن جهود الشعوب الفقيرة سوف تجد نفسها أمام طريق مقفل، وسوف تجد نفسها مضطرة في هذه الحالة أن تتحول من جهود إيجابية من أجل إعادة البناء إلى جهود سلبية من أجل تخريب وتدمير أسس النظام العالمي الذي يعمل على تعميق تهميشها وإخراجها من الممارسة والتاريخ.
موضوع “التحدي الحضاري” إذًا يشكل تحديًا للإسلام في الحضارة الراهنة مفاده الارتفاع بتنظيماته الدنيوية والحياتية إلى مستوى العصر؛ أي استيعاب المكتسب؛ هذا هو المقصود “بالتحدي الحضاري”: كيف يمكن الرد على هذا التحدي؟ ثم بأي معنى يشكل هذا تحديًا أمام الإسلام وهل يفترض هذا أن الإسلام هو الذي يشكل البنية العقلية والروحية والثقافية الأساسية للشعوب العربية والإسلامية؟
لكن هنا بالضبط تطرح مسألة التنمية والتقدم والنهضة والمقاومة من منظور جديد، بعد أن تكون قد زالت عنها حساسيات وحزازات المماحكة العقائدية والسجال السياسي. إن أول ما يطرح هو تحديد أهداف هذا التطور وقواه المعنوية وأطره الأخلاقية والسياسية واستراتيجيته والقوى الاجتماعية والنفسية التي يراهن عليها المجتمع في سبيل الخروج من الوضع الصعب الذي يعيش فيه، وبشكل خاص الضغط الخارجي والتبعية والميل إلى التقليد والاقتداء الأعمى وإلى استهلاك الحضارة بدل إنتاجها عندما تتوفر، كما هو الحال لدينا أو في بعض دولنا، إمكانيات مالية كبيرة لا علاقة للإنتاج وتطوره في نشأتها. إن التجديد الذي يعني -ضمن ما يعني- خلق الخميرة الروحية التي تعمل في عملية الاستيعاب الحضاري العالمي عمل الروح من الجسد والتي تحرك الجسد وتحييه. إن ما ينقصنا ليس جثثًا جديدة وآلات وإنما روح تَبُثُّ في الجسد الحياةَ، وهذه الروح لا يمكن استيرادها ولا نقلها وتقليدها وإنما هي نحن، ذاتنا ثقافتنا، تراثنا، تاريخنا، رموزنا التاريخية، إحساسنا الجماعي، تضامننا، إرادتنا، أملنا وحبّنا للحياة والمبادرة والعمل.
هذه المعاني جميعا ليست بعيدة عما نحن فيه ضمن سياقات المقاومة الحضارية كاستجابة شاملة للتحديات وعلى رأسها مقاومة الاستبداد الداخلي والعدوان الخارجي.
المقاومة عز و تمكين لا مقاولة و مساومة:
تعيش الأمة ضمن عالم أحداثها لحظات كاشفة، إلا أن هذه اللحظات الكاشفة لا يمكن أن تؤتي أُكُلهَا في التأثير في الأمة إلا أن تتحول إلى لحظات فارقة تفرق بين مرحلة مضت وأخرى آتية، نريد للأخيرة –ضمن “فارقة”- أن تتبين للأمة وهنَ أمرها ووهنَ تفكيرها وتدبيرها وعناصر تغييرها، وتفرق وتفرز بين إمكانات الأمة في المواجهة والممانعة والمقاومة وبين عناصر وآليات تخذيل الأمة ونشر اليأس في أرجائها والترويج للقبول الخانع والاستسلام الفاقع. هذه اللحظة الفارقة لابد أن تتحول -وفق وعيٍ سُنني بحركة التاريخ- لتبحث في الشروط التي تقوّم عناصر وهن الأمة، إنها لحظة التقاط العبرة في الخبرة والفكرة، تتحول فيها هذه اللحظة الفارقة إلى لحظة مقوِّمة، تُقوّم ما نحن فيه وزنًا وتأثيرًا، وتقوّم ما مرَّ بنا من أنماط واهنة وفاسدة في التفكير والتدبير؛ بحيث نشرع في عمليات “إصلاح” ومنظومة متكاملة واعية للتمكين لشروط هذا الإصلاح وتفعيل مقوماته.
إن التساؤل الذي يستحق إجابة منا يدور حول “أين الطريق للخروج من المحنة؟”(*)، إنها “المحنة” حينما نقتنص -بوعي وسعي- مقام “المنحة” منها و”العبرة” فيها. في قلب كل محنة تكمن “المنحة” التي تمكّن “للقدرة والإرادة” بالخروج منها ومن عناصر استحكامها، وربما من استمرارها وتحكّمها.
هذا الخروج من حال “المحنة” و”الأزمة” لا يمكن أن يحدث إلا بسُننه الشرطية القابلة للفعل والتفعيل والفاعلية. هذا الخروج لابد أن يمتلك الشرط التأسيسي بامتلاك “الإرادة”، وأن يستند إلى عناصر تأسيسية وبُنية أساسية من “العُدّة” والاستعداد والإعداد، تؤكد واصلة “الإدارة” بين “الإرادة” و”العدة” كما كان يشير أستاذنا الدكتور حامد ربيع –رحمه الله-.
وغاية الأمر في هذا المقام أن نتلمس معنى “المنحة في المحنة”، ونتلمس طريق الخروج من المحنة–الأزمة، ونشرع في صراط الإصلاح الحقيقي المستقيم؛ لا سبله المتفرقة الضالة والزائفة..
وغاية الأمر كذلك ألا نقف عند حدود آفاق الانحطاط الراهن مهما كان تراكمه ووهنه، فلا تتحكم هذه الحدود بنا تفكيرًا وتدبيرًا وتغييرًا وتأثيرًا.
إن الحجية المنهجية لعمل مثل هذا تقع ضمن تصور يؤكده تساؤل الدكتور علاء طاهر: “هل يمكن للبلدان الإسلامية، وصدورًا عن واقعها الآني أن تكوِّن مستقبلًا كيانًا دوليًا أو أبعد من ذلك، قوة دولية جديدة توازي في عناصرها التكوينية القوى الدولية الكبرى الموجودة حاليًا؟”(*).
ولقد برزت تعبيرات هنا أو هناك تحاول أن تزيح أكثر وأكثر معنى الأمة وعالمها الحضاري العربي والإسلامي، وفي نفس الوقت تشيع وترسخ أوصافا لمفهوم “الشرق الأوسط” فهو أحيانا كبير، وفي أحيان أخرى موسع، وفي تعبيرات أخرى “جديد”؛ لتحدد هذه الأوصاف جغرافية ومسار المنطقة ومستقبلها.
فالشرق الأوسط الجديد لم يكن إلا عنوانا لأحد كتب “شيمون بيريز” اقتطفته “كونداليزا رايس” وزيرة خارجية الولايات المتحدة لتصف الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان فى صيف 2006 بأنها “مخاض ولادة شرق أوسط جديد”، وتندَّر البعض أن هذا ليس إلا “شرخًا أوسط جديدًا” أو “شرقًا أوسخ جديدًا” يحقق عناصر كسر الإرادة والقضاء المبرم على الممانعة والمواجهة والمقاومة..
أصل المسألة إن”الشرق الأوسط في عرفهم -تاريخًا وجغرافية- عقدة استراتيجية وهو في ذات الوقت قوس للأزمات،ضُمَّ إليه ما أسمي “بعملية السلام” ليأخذ مداه في عمليةٍ التفافيةٍ كبرى تحاول إخراج كل ما تستطيع من دول المنطقة من حال التورط في الصراع العربي-الإسرائيلي و مجاله الحيوي الإسلامي، فكانت عمليات فك الارتباط للأنظمة بقضيتها الأم (القضية الفلسطينية)، والتي تحولت إلى ما صار يسمى إعلاميًّا: “النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي”. من هنا اكتفت الأنظمة بحديث “الضرورات”، وانكفأت تمارس لغة شديدة الوهن والهوان تحت كلمات من زخرف القول: “السلام خيار استراتيجي”، وحولت السلام من حالة وعملية إلى “خيار” بل “قرار” مفروض وعدّت فيه الأنظمة الشعوب برخاء موهوم وإنجازات عريضة، وأخذ خيار المقاومة يتواري والممانعة تنزوي والمواجهة تغيب. تُوّج ذلك اليوم الأمريكي في الحادي عشر من سبتمبر الذي مثل -على حد تغبير البعض- فرصة يجب أن تستغل في فرض موازين جديدة على عالم العرب والمسلمين،وبدا هؤلاء يخوضون “حربًا حضارية شاملة” شكلت ترجمة حقيقة لمقولة “صمويل هنتنجتون” حول “صدام الحضارات”.
وبرزت الولايات المتحدة بتفردها كقطب أوحد في المنظومة الدولية تمارس سياسة كونية،و بصعود اليمين الدين الأمريكي المحافظ، الذي خاض سلسلة من المعارك في أفغانستان و العراق وفلسطين التي تمثل معمل التجارب الدائم في إطار “اصطناع دولة إسرائيل”.
إلا أن هذا لم يمنع من أن تكون للشعوب خياراتها والتي تختلف عن ادعاءات ضرورات الأنظمة؛ إذ تأسست في مواجهة عمليات “عدوانية”، “احتلالية”، وكأن الزمن قد دار دورته وصرنا نعيش حلقة جديدة من الاستعمار الأمريكي تلعب فيه إسرائيل دور جماعة وظيفية تقوم بأقذر العمليات للسمسرة في مثل هذه الحروب الأمريكية.
فهذه هي المقاومة في أفغانستان، وفي العراق، والانتفاضة الأولى والثانية في فلسطين، و المقاومة في لبنان والمقاومة في غزة… صفحات من المقاومة تؤكد -ومن كل طريق- أن “خمائر العزّة” متأصلة في كيان هذه الأمة، فتحدث حركة ممانعة، وفعل مقاومة، وفعالية استجابةٍ لتحديات هذه الأمة.. إن الشرق الأوسط –بهذه المقاومة- يستعصي على التهذيب، و دخولَ كافة قواه الشعبية والسياسية “بيتَ الطاعة الأمريكي” ليس أمرًا ميسورًا..
ومن هنا شرع هؤلاء يقلبون موازين اللغة والكلمات؛ فيسمون كل مقاومة “إرهابًا”، وكل ممانعة “عنفًا وكراهية”، و كل مواجهة حالة من “عدم الواقعية”، وبدت الأنظمة تنتقل من حال الامتثال إلى حال التبنيّ لهذه الرؤية الأمريكية بل أحيانًا حال الاضطلاع بشكل مباشر وغير مباشر بأدوار “قذرة” ضمن سيناريو “الشرخ الأوسخ الجديد”، وراح هؤلاء المرجفون يتحدثون عن المقاومين بأنهم “مغامرون” و “مقامرون” يجرّون المنطقة إلى الحروب بدعوى أن القيام بأي فعل للمقاومة إنما يهدد الإنجازات التي أُنجزت.. (ربما الإنجازات في ميادين الاستبداد والفساد وفي مجالات الاستسلام والقعود).
وبدت الأمة من قلب محنتها تتساءل حول الكيفية التي تخرج بها من المحنة، والأسلوب الذي تحول من خلالها “المحنة إلى منحة”، ولسان حالها يقول: هذه مشروعات تستهدفنا فأين مشروعات هذه الأمة ونهوضها؟
هل كتب على هذه الأمة أن تظل موضوعًا أو مفعولًا به لمشروعات من هنا أو هناك؟ وتحت أسماء ما أنزل الله بها من سلطان؟! أين هذه الأمة من فاعليتها وخياراتها؟ إن مشروعات هذه الأمة يجب أن تنهض بها وتؤكد على عزتها وكرامتها وشرفها.
” المقاومة ” تصدع كل يوم: إن “المقاومة خيار بل قرار استراتيجي”. فكتبت هذه المقاومة صفحات، الصفحة تلو الصفحة، في سياق يؤشر على “بلاغة هذه المقاومة وبيانها”، على الأرض تقدم فاعليتها في مواجهة العدوان والاحتلال على الأمة وحياضها.
“المقاومة عملية حضارية و استراتيجية ممتدة” وخيار لابد أن يتحول إلى إصرار، وإصرار يجب أن يتحول إلى قرار.
مقاومة الأمة فعلها الحامي لكيانها، الضامن لفعاليتها، القادر على حفظ بقائها واستمرارها.
المقاومة حالة شاملة متكاملة تتكافل فيها عناصر مقاومة الاستبداد في الداخل ومقاومة العدوان القادم من الخارج.
ليس هذا فائض كلام وإنما هي بلاغة المقاومة حينما تبلغ بيانها، وتفعل فعلها على الأرض فتتقدم انتصارت مهمة، التي تعني ضمن ما تعني أن هذه الأمة تستعصي على الموت كما تستعصي على الاحتواء وأن عناصر ممانعتها هي حقيقة مناعتها وحصانتها.
والمقاومة عملية معرفية وثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، حضارية في محتواها، وحضارية في مقاصدها، تملك عناصر تمكينها من “المفاهيم الحرة” التي تشكل أساس خطابها للأمة: “مفاهيم الحرية والتحرر” في مواجهة مفاهيم “العدو والعدوان والعبودية والاستسلام”.
هذه أولى معاركنا: المفاهيم والكلمات كالحياض، وجب الدفاع عنها كالأرض والعِرْض، لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس معانيها.
وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتدٍ من خارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلّس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي كذلك من داخلٍ حيث تهون فيه الكلمات وتُهان، أين نحن من كلمات “الكرامة”،و”المقاومة”؟! التي توصف حينا بالمقامرة أو المغامرة؛ ومن عقلية “العزة” ونفسية “الأحرار”، أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟
هل تعلمنا درس المقاومة من خبرة المقاومة فى لبنان وفلسطين و التي استطاعت أن ترد العدوان وأن تحمى شرف الأمة وكرامتها؟ أم أن البعض لم يعد يعرف لمعاني الشرف و الكرامة و العزة معنى؟ إنها المقاومة لا المساومة ولا المقاولة.
*****

الهوامش:

(*) المستشار طارق البشري: أين المحنة التي تواجه الأمة؟ – حولية أمتي في العالم (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،2005)
(*) راجع: د. علاء طاهر، العالم الإسلامي في الاستراتيجيات العالمية المعاصرة، مركز الدراسات العربي- الأوروبي، باريس، الطبعة الأولى، 1998

للحصول علي الملف
اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى