مؤتمر العدوان على غزة : خريطة الحدث والدلالات الحضارية

مؤتمر العدوان على غزة : خريطة الحدث والدلالات الحضارية

21/04/2009 

عقد مركز الحضارة للدراسات السياسية بالتعاون مع برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات المؤتمر الأول للباحثين الشباب تحت عنوان ” العدوان على غزة : خريطة الحديث والدلالات الحضارية” يومى 21و22 أبريل 2009.


   فى الجلسة الافتتاحية أكدت أ.د. نادية مصطفى المشرف على مركز الحضارة للدراسات السياسية ومدير برنامج حوار الحضارات على أن
بحوث المؤتمر تركز على ما كشفت عنه مرآة العدوان على غزة والتصدي له ومقاومته.ولقد قامت بحوث الباحثين الشباب على عملية رصد منظمة للسلوك والخطابات مهد لها وتخللها جلسات عمل نصف شهرية للتعريف بالضوابط  والقواعد العلمية لمنهج الرصد والقراءة الكلية –التفكير في الدلالات ومحاور التحليل وكيفية تقديم النتائج في تقرير.

وأوضحت  أن بحوث المؤتمر هي المنتج النهائي لعملية بدأت منذ الأسبوع الثاني من وقوع العدوان وكانت حماسة الشباب وانفعالهم طاقة تحولت إلى جهد علمي منظم، لعلنا به قد نكون أدينا ما هو بوسعنا وطاقتنا المشاركة به في معركة المقاومة الحضارية.

 

   وألقى أ.د .سيف الدين عبد الفتاح مدير مركز الحضارة للدراسات السياسية ونائب مدير برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات  الكلمة الافتتاحية بعنوان ” رؤية حضارية للجدلية بين العدوان والمقاومة

 

وفيمايلى تقرير عن المؤتمر أعده أ. مدحت ماهر

 

تقرير ندوة “العدوان على غزة: خريطة الحدث والدلالات الحضارية”

 

انطلاقًا من واجب وفرض التفاعل الإيجابي مع أحداث أمتنا العربية والإسلامية ووقائعها وقضاياها، ومحاولةً للمساهمة العلمية والفكرية في مواجهة العدوان على النفوس والعقول والكرامة والدين والهوية وعلى مقدراتنا ومكناتنا وثرواتنا، وتعزيزًا لخمائر العزة والمقاومة والصمود… كان ينبغي ألا يمر “يوم غزة” الأليم على ذكر أيام العرب وهو (يوم العدوان على عزة) دون وقفة جادة وحقّة، من بابنا الذي نقف عليه: العلم والفكر، والبحث والدرْس، والفهم والحوار والتوجيه والنُصح الأمين.

وإيمانًا بضرورة تدقيق وتعميق فهم مجريات أمورنا وشئوننا، والوعي والتنبُّه لما يحيط بنا من متغيرات محلية وإقليمية ودولية، سياسية، واقتصادية، وثقافية وحضارية، وعملاً على تعميق رؤانا للذات والآخر وعلاقاتهما، ومواصلة التحليل والتفسير لمواقف أمتنا من ذاتها، ومواقفها المتبادلة مع العالم من حولها، كان تبني المنظور الحضاري، والتأكيد على ضرورة تحقق الكلية والجامعية في طريقة بحثنا، ومتابعتنا، ووعينا وسعينا: فكانت خريطة الحدث رصدًا، ودلالاته الحضارية فهمًا وتحليلاً وتفسيرًا وتقويمًا.

واعترافًا بالدور الذي يمثله شباب الباحثين (الباحثون الشباب) وما ينبغي أن ينهضوا به من مشاركة فعّالة في البحث والدراسة لقضايا الكيان الحضاري الذي ينتمون إليه، والحوار والتفاعل مع وجهات النظر المختلفة، وأن يقدموا رؤاهم وأفكارهم ويتدربوا على عرضها، أم المحاجة عنها، وتطويرها … من هنا كان هذا المؤتمر هو المؤتمر الأول لشباب الباحثين…

ولأن العدوان على غزة، وإن لم يكن جديدًا كل الجدّة، إلا أنه استقطب الاهتمام والتعاطي من سائر الدول والمؤسسات والشعوب في العالم عبر ثلاثة أسابيع كاملة، ومن ثم كان لحظة كاشفة، وعدسة لامّة للأمة العربية والإسلامية والعالم من حولها، والمواقف والاتجاهات، والخطابات والممارسات والسياسات، فقد صُممت هذه الندوة لهذا الغرض:

كشف حال الأمة والعالم من واقع المواقف القولية والعملية والسلبية والإيجابية والمؤيدة والمعادية والمحايدة… من غزة والعدوان، والمقاومة، وحقوق الإنسان والقانون الدولي ومفاهيم السياسة والمصلحة والقيم، والمثل العالمية.

بناء على هذه المنطلقات، جرى الإعداد لهذا المؤتمر الشبابي الأول، وانطلق الباحثون يتابعون ويرصدون، ويجمعون ويصنفون، ويستخلصون الدلالات والعِبْر والمعاني والنتائج، ليقدم كل منهم ما أمكنه من خطوط ترسم بمجموعها خريطة الحدث، وتتضح بها معالم الحال، ومعالم فقه الواقع، وحسن إدراك ثوابته ومتغيراته؛ من أجل الوقوف على ملامح المستقبل القريب، وما يمكن أن تسفر عنه المواقف والأوضاع.

ومن ثم كانت الأوراق الرصدية، وكان هذا المؤتمر، وكانت النقاشات والمداخلات الثرية والمفيدة التي أفرزت في النهاية ما يمكن وصفه “بالوعي الأعمق والنظر الأشمل للحدث وما وراءه من واقع محلي وإقليمي وعالمي”.

جرى المؤتمر على يومين وست جلسات، بالإضافة إلى الجلسة الافتتاحية والختامية:

وتلاحمت عروض الباحثين مع مناقشات وحوارات الجمهور الكريم… فكانت الخلاصة المهمة لهذا المؤتمر على النحو التالي:

(1) لم يكن العدوان على غزة –ويبدو أنه لن يكون- سوى حلقة من حلقات التعدي والاعتداء على فلسطين: الضفة وغزة وعرب 48، والأسرى واللاجئين، تلك التهجمات التي نالت من هذا الشعب ولم يسلم منها أهل جواره عبر نحو قرن من الزمن، منذ أن وطأرت أقدام الصهيونية هذه البقاع، وتحركت خطواتها في تشييد دولتها اليهودية كما أعلنت قيادتهم على أطلالنا وأشلائنا… إنها حلقة وراءها ذاكرة مفعمة، وأمامها مستقبل لابد من استشرافه والاستعداد له.

ولم يكن الصراع العربي- الصهيوني يومًا فلسطينيًّا صرفًا كما يحاول بعضنا الترويج له، فضلاً عن أن يختزل في حماس أو فتح أو غيرهما… إن ما تمثله إسرائيل وما يقف وراءها من امتدادات حضارية وثقافية، وتحالفات استراتيجية وسياسية وعسكرية، وكذلك ما تمثله فلسطين وغزة من معنى ومغزى لنا وللعالم من حولنا… لا يمكن لهذه الأبعاد أن تبتسر في بعد سياسي –عسكري أحادي مضيق، أو بعد إنساني عاطفي هلامي أو هائم…إن من ورائها عوامل تاريخية وثقافية وفكرية وأيديولوجية وسيكولوجية تتضافر مع رؤى المصالح وحسابات المكاسب والخسائر في صنع الواقع والتأثير فيه.

(2) ومن ثم كان من أهم مشاغل هذا المؤتمر ومكاسبه الجزئية، هو تحريك الأذهان والرؤى نحو مفهوم “الحضاري”، ودوره في إعادة تشكيل إدراكنا لمفاهيم: الديني، والسياسي، والإنساني، والعالمي، والمشترك، والخصوصية والقيمة، والمصلحة، والمقاومة، والعدوان، والقوة الناعمة والقوة الصلدة، والقانون، والواقع، والمثال، والنظر والعمل، …إلخ هذه الثنائيات المتجادلة والتي لابد من نقلها من حال التجادل والجُدل عليها، إلى حال جدْلها ووصلها في رؤية تجعل من القيمي والماوي عينين تتساندان للنظر، بلا حَوَلٍ ولا عَوَر.

(3) لقد أثبتت الأحداث منذ توقف العدوان الغاشم على غزة، وشروع الجميع في الحديث عمّا بعد غزة، من إعادة إعمار، وحوار فلسطيني- فلسطيني؛ وتقليم أظافر المقاومة، وما إلى ذلك… أثبتت أننا والعالم من قبلنا لدنيا قابلية كبيرة وعميقة على للنسيان، والتجاهل، وإهالة التراب على ما جرى، فضلاً عن إغواء الوعي وصرّفه عن قراءة المعنى والمغزى لما وقع بأهل غزة، … بل للعودة إلى أسوأ مما كان قبل غزة، بحجة أن الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني هو بيت الداء وسبب البلاء دون إشارة إلى جرائم الحرب، وواقع الاحتلال والحصار… وما مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية وما جرى فيه منا ببعيد. ومن هنا كان لابد من حفظ الوعي، وتعزيز صموده وقدراته على الاستدعاء والاسترجاع، وأخذ العبرة والخبرة والفكرة.

(4) ومن هنا أيضًا كان لابد من الانتباه إلى حزمة المعارك الأخرى التي دارت على ضفاف الحدث: وعلى رأسها “حرب المعاني” “والصراع على المفاهيم”، و”معركة الذاكرة الحية”؛ حين تنتهك حرمة مفاهيم المقاومة، والعدل، والحق (حق إسرائيل المغتصِبة في الدفاع عن نفسها المصطنعة ضد المقاومة التي توصم بالإرهاب وبكل نقيصة)، وحين تحتل كلمات السلام والرشادة وتغتصب مفاهيم الصالح والصلاح والمصلحة؛ وتظلم كلمات كالجهاد والنصرة، وتتلاعب المفاهيم “الاعتدال” و”التطرف” لتجعل من الممانعة والمقاومة نقيضًا للاعتدال والوسطية والعقلانية وما إليه، والآن تخذل الأمة مفهومًا ووعيًّا وسعيًّا، ويكون نصيبها التجني لا التبني. أثارت هذه المعارك أجواء غزة المعتدى عليها وما دار حولها من خطاب رسمي بارد، ووقوع جُدُل غزة بين: لغة الفؤاد النازف ولغة العقل الزائف… ومضىّ سنة الأولين، في ولع المغلوبين بالغالبين إلى الدرجة التي أحالت في المخيلة العامة والواقع ممكنات العرب والمسلمين إلى مستحيلات، ومستحيلات إسرائيل إلى ممكنات بل واجبات.

(5) ميزت الأزمة الموقف الفلسطيني بين المقاومة في غزة، والمهادنة في الضفة، على مستوى السلطة، ورصدت واقع المقاومة التي لم تكن حماس وحدها هي الناهضة بها، رصدت المقاومة بين المقومات المادية والقيمية والآليات: العسكرية والسياسة والإعلامية، ورأت أن التعاطي غير الاستراتيجي وغير المسئول مع العدوان آل إلى توسيع الشقة بين القوى الفلسطينية، واستمرار السجال على خيار “المقاومة”- “السلطة”. لقد نجحت المقاومة في الصمود، وفي إثبات أن نظرية الأمن الإسرائيلي لن تعود إلى ما كانت عليه، وأن إرادة الشعوب لا تنكسر بسهولة، بل هي التي تكسر القيود، وتغير الموازين والمعادلات…

خاضت المقاومة ولا تزال معركة بقائها، ومعركة شرعيتها، ومعركة أهليتها ومصداقيتها، ومعركة البحث عن محضنها الآمن ومستندها الفاعل… ولا يزال طريقها غير معبّد ولا ممهدً، بل هو مليء بالأشواك والعقبات ولابد من اقتحام العقبة.

وإذا كان موقف السلطة الرئاسية وفتح لا يزال يطرح الكثير من الأسئلة ومحاولات الاستيعاب، إلا أنه في لا شك فيه أن إدارة القوى الأخرى للحوار تتحمل مسئوليتها بنفس القدر في تفويت هذه الفرصة وسد هذه الثغرة.

لقد أثبت الشعب الفلسطيني العظيم في غزة والضفة وداخل حدود 1948 –مسلمين ومسيحيين- أفرادًا وعائلات ومؤسسات، أنه المقاوم الأول بامتياز، والصامد الذي يستلهم منه الآخرون صمودهم وروح التضحية والتفاني. لكنه بات يحتاج إلى استراتيجية مقاومة شاملة تراعي احتياجاته الاجتماعية والمدنية والمادية وضرورة تسيير مجريات الحياة قدر الوسع والطاقة، بالإضافة إلى تأمين النفوس والأرواح، وحفظ الكرامة والاستقلال.

(6) لقد زادت الأزمة كشفًا لأوراق الكيان العدو الاستيطاني العنصري، وكيف اتفقت كلمة قوى الداخل الإسرائيلي: حكومة وأحزابًا وصحافة وشعبًا على مؤازرة العدوان ومناصرة مجرمي الحرب في اغتيال النفوس وسفك الدماء وهدم البنايات… الأمر الذي أكّد الاستفهام والتساؤل عن مفهوم “المدنيين” و”الأبرياء” في هذا الكيان.

اجتمع الخطاب العدو وما ارتبط به من ممارسات وحركة مصاحبة للعدوان العسكري، على الاستهانة بالتوسلات المختلفة بوقف العدوان أو مراعاة الأطفال والنساء، والاستخفاف بكافة مطالبات القوى الكبرى، وضرب بكل صلف وتعالٍ عرض الحائط بقرار مجلس الأمن 1860 وغيره من النداءات الصادقة والزائفة. لقد أفرطت إسرائيل في استخدام القوة الغاشمة، واستعملت الأسلحة المحرمة، واستهدفت المدنيين بأحدث الأسلحة المواجهة، وخاضت في الدماء اثنين وعشرين يومًا، وارتفعت أصوات الإدانة من جهات غير مؤثرة، ثم ذهب كل ذلك أدراج الرياح… ليست القضية قضية ذاكرة وحسب، إنها قضية الإرادة؛ الإرادة بين الحقيقة والتحقق، وبين التأثرية والانفعالية التي تبرق ثم تحترق وتنطفئ جذوتها.

(7) نعم لم يكسر العدوان وجبهته ومباركوه، من إرادة المقاومة وروح الممانعة، لكنها كشفت عن تجيش العالم أو معظمه من ورائها، وأن محاولات المكر والقهر لاستئصال شأفة المقاومين في الأمة لا تزال وسوف تكون هي شغل الأجل القريب –فماذا أعدت الأمة والمقاومة لذلك: وعيًّا وعزمًا وسعيًا؟ هذا هو السؤال الرئيس والمطلب الأول الذي تفرزه الأحداث.

(8) إن وراء الدولة الصهيونية فكرًا دينيًّا وتاريخيًّا يتوجب الكشف عنه والوعي به، نظرًا للاتساق الكبير بين تعاليم رب الجنود وإله الحرب ومفاهيم شعب الله المختار، وأرض المعاد المقدّسة، ونبوءات الانتظار، واليوم الموعود وإحياء الرؤى الواعدة والمتوعّدة من تهديدات ومخاطر، وتقسيمات لهذه الروح المبالغ في عدائها المثابرة في همجيتها ووحشيتها. لقد أضحى من الأهمية بمكان رعاية الدراسات التي تفتش في أعماق الفكر اليهودي والصهيوني ومستنداته الدينية والأيديولوجية والنفسية. ومن هنا كانت المحاضرة المهمة التي قدمتها د. سالمة عبد الجبار عن البعد الديني في الصراع العربي –الإسرائيلي.

الأمر الذي حرص الحوار على تمييزه عن وضع مسيحي الشرق وموقفهم من العرب والمسلمين.

(9)  لا تزال ثمة تساؤلات تطرح وتثار حول العلاقة بين الشعوب (وبالأخص الشعب الفلسطيني) والمقاومة، ومدى مصداقية الحوارات الدائرة، وأهمية اعتماد المقاومة على تيار فكري رئيس يجمع المتناثر، وينظم الرؤى المختلفة. وتساؤلات عن مدى مسئولية المقاومة عن اندلاع العدوان ومدى نجاحها في إدارته: ما النصر؟ وما الهزيمة؟ وما معايير كلٍّ منهما. وإن للمنظور الحضاري مقارنة بالمنظورات الأخرى- رؤية في ذلك تمكن تجلت في الوقوف أمام العدوان على لبنان، كما أؤكّد هذا المؤتمر على عناصر منها.

(10) أسفرت المواقف العربية عن حالة هي من أسوأ وأوهى اللحظات العربية –على ما عبرّ عنه كثير من زعماء الدول إبان الأزمة… فقد ارتبكت الخطابات وتضاربت التحركات، تواجهت المواقف الرسمية مع المواقف الشعبية بدلاً من أن تجمعها المحنة، وانقسمت النخب السياسية والفكرية والإعلامية على أنفسها، بشكل غير مسبوق، وبدت كافة المواقف الرسمية عاجزة ومقيّدة ودون المستوى الأدنى، الأمر الذي زاده الانقسام والتقاذف والتنابز بالسوءات سوءًا وتردّيًّا… وفيما كان الموقف المصري –والرسمي بالأخص- محل مثار إشكالات وسجالات جمة، فإنه في النهاية كان هو الموقف أو الطرف الوحيد الذي يفعل شيئًا ما على أرض الواقع، وإن كان فعلاً ونشاطًا في أدنى مستوياته… ومن ثم فلابد من تحديد مفهوم “الدور” و”الموقف” والعلاقة بين الفردي فيه والجماعي على مستوى الأمة العربية والإسلامية، وثوابت الدور القائد ومتغيراته، ومعايير التعامل مع الفرص والتحديات، والضغوط والإمكانيات وكيف تتشارك الشعوب والنخب مع نظم الحكم في تقدير المواقف وحساب المصالح والمخاطر، وتفعيل المرجعية الجامعة الدافعة.

    لقد اقتصرت الأنظمة على الإدانة للعدوان، دون أن تدعم المقاومة اللهم إلا كما أُوجز الأمر في: المساعدة بالأموال والمواساة بالأقوال والحد الأدنى من الأفعال.

وبينما قمعت أنظمة حركة شعوبها وبعض الفعاليات المظاهرة كغزة ومقاوميها، فإن أنظمة أخرى دفعت بالفعاليات الشعبية للشارع ووظفتها ضمن سياستها التي لم يكن منها أي دعم مباشر للمقاومة.

ومن ثم تميز الموقف العربي بما يلي:

1-   الفصام على المستوى الرسمي بين القول والعمل، الخطاب والممارسة.

2-   الفصام عن الرسمي بين محورين خطابيين: مؤيد للمقاومة: ومؤيد للسلطة المهادنة.

3-إجماع رسمي على أن وقف العدوان يكون من خلال الوسطاء العالميين: القوة المتعاظمة وأوروبا والأمم المتحدة، ولم يتخذ إلا الأقلون مواقف خاصة ضاغطة على إسرائيل، مثل موريتانيا، وقطر نسبيًّا.

4-   الفصام في معظم كثير من الأنظمة بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي.

5-   انقسام النخب على أنفسها بين تأييد الاتجاه الرسمي وتأجيج التوجه الشعبي.

6-كثرة المزايدات البينية واندلاع المعارك الجانبية دون أي اعتبار لوطأة الحدث وما ينبغي الأنشغال به. الأمر الذي مثل ملهاه ومأساة اجتمعتا مع العدوان في زيادة معاناة أهل غزة.

7-الفصام بين إرادة المجتمع المدني العربي العالية (أو نفسيته المنفعلة) وبين قدراته على التأثير في الأنظمة وقراراتها ومواقفها.

ومن ثم كانت حصيلة لمواقف المؤثرة في مجريات الأمور هي التي اتخذها القادة والحكومات وبالأخص محور التهدئة والمواساة.

(11) أما سائر العالم الإسلامي، فقد برزت فيه أطراف وأطياف بين الفاعلية العالية التي مثلها النموذج التركي حكومة وشعبًّا، وبين نماذج أقل، ونماذج أشبة بالحالة العربية النموذجية (نظام مهادن وشعب منفعل مناصر للمقاومة) وبين نماذج. بَعُد تفاعلها مع الحدث بأكثر مما بعُدت المسافة المكانية بينهم وبين الأرض المقدسة. ويمكن ملاحظة الآتي:

1-  إذا كان الموقف التركي قد اتسق فيه الخطاب مع الممارسة، والحكومة مع الشعب فإنه في النهاية لم يفعل شيئًا أكثر من تنشيط التحركات وقيادة المواجهة الإعلامية المحسوبة، لا سيما وقد انضوى في النهاية ضمن المبادرة المصرية.

2-  أما الدور الإيراني فقد كان مدوّي الخطاب، لكنه ربما مثّل عبئًا على المقاومة من جهة، ولم يظهر أي دعم مادي أمكنه إيصاله… لكن هذا لا يقلل من أهميته بقدر ما يكشف عن قدراته وإمكانياته التي تقتصر دون الكثير من دعواته.

3-  بينما عبر الأفغان والباكستانيون عن رابطتهم العقدية، ومناصرتهم المعنوية، فإن نظامي الدولتين ما حرّكا ساكنًا بل حاولت باكستان أن توظف الحدث للإطلال على واقع كشمير الشبيه.

4-  أما آسيا الوسطى وقارة الإسلام فقد غشى الوهن انفعالهم –مجرد الانفعال- بالحدث، فلم تبدو الفعاليات الشعبية نفسها –فضلاً عن الرسمية- بذات قيمة أو معنى…

5-  أما الأقليات المسلمة والغرب ففد أكدت غزة وأزمتها على استمرار واقعهم المضغوط وحالهم المتأزم بين معطيات البيئة الغربية ومتطلباتها، وبين مقتضيات الرابطة العقدية بالأمة، والتعاطي الإيجابي مع قضاياها. وعلى رغم التنوع في الرؤى  والقدرات والسياقات الحافزة أو المحجّمة.. فإن الغرب في النهاية كان هو الحليف الأعظم للعدوان، بل خزان وقوده المعنوي والمادي.

12- وبينما تحكمت في عالمنا العربي والإسلامي عقلية الوهن ونفسية العجز، فإن القوى الكبرى والمتعاظمة كانت تعرف طريقها، وتبني مواقفها وفيه مسار سابقة ممتد في العقود الثلاثة الماضية، ومعايير أسهمت في دعم جانب المعتدين، وتثبيط وتخذيل بل مهاجمة المقاومين والفرائس. تماهت الإدارة الأمريكية والأوروبية مع أقاويل إسرائيل، وتطوعت بالترويج لمبرراته الكاذبة ودعاواه الزائفة… وصادفت على ذلك قوى الدرجة الثانية، وتحدث الجميع عن المسئول الأول، عن إسقاط التهدئة، ولم ينس أي منهم أن يحلى قبح منطقة بشيء من حديث الإنسانية والمراعاة العاطفة على الشعب المظلوم من حماس والمقاومة، وإرجاء التقدير والتعزيز لمواقف المهادنين ومبادراتهم والسلطة وحكمتها وشرعيتها.

13- لقد حصل الدور المصري –بطبيعة الحال- على النصيب الأكبر من اهتمام الحوارات والنقاشات، وتباينت المواقف تجاهه وتداخلت بعض المعاني والعبارات بما خلاصته، التي نؤكد عليها:

أ- أنه لا للمزايدة على الدور المحوري لمصر ليس في القضية الفلسطينية وحدت العدوان على غزة وحسب وإنما في حفظ الكيان العربي، وفاعلية الوجود الإسلامي. فمصر كانت ولازالت تملك من الإمكانيات ما يجعلها ركنًا وشرطًا، وفرضًا وواجبًا، وأصلاً، لا فرعًا ولا نافلة ولا أمرًا ثانويًّا.

ومن ثم فحديث المزايدة مثله مثل حديث التراجع عن الدور والدعوة إلى الأيواء والاستدفاء في داخل الحدود… كلاهما لا يعرف قدر مصر ومكانتها.

ب- لا يمكن ولا يصح أن يكون المطلوب من مصر أو سوريا أو غيرهما أن يكون الموقف من العدوان على الفلسطينيين هو الحرب والدخول في صراع عسكري وإلا فلا. إن قصر الفاعلية على هذا وحده يقع بين النزق السياسي والتلاعب.

فإن أكثر المحللين والدارسين والساسة يرون أن دون ذلك أمورًا كثيرة كان يجب أن يكون الموقف الرسمي المصري فيها أشد وضوحًا، وأكثر جرأة، وأعمق انتماءً للعرب والفلسطينيين، وليس أقل من وقف ضخ الغاز المصري إلى إسرائيل أو تأجيله أو تعطيله، وليس أقل من تأييد صريح للمقاومة بغض النظر عن الخلافات الجزئية، وليس أقل من التهديد بقطع العلاقات أو سحب السفير أو حتى استدعاء السفير الإسرائيلي. هل استعملت مصر أوراقها فعلاً؟ وهل هذه هي كل أوراقها؟ “وليس من العيب مقارنة ما فعلته مصر وغيرها من النظم العربية بما فعلته وقالته فنزويلا شافيز ”

ج- إذا كان كثيرون قد زايدوا على الدور المصري، فإن من الأمور التي لا تزال محل تساؤل واستفهام حقيقي/ هو الموقف المصري- السعودي من القمة الطارئة قبل أن تكون قمة الدوحة الأمر الذي يفتح المجال أمام التساؤلات عن مصير العمل العربي المشترك بعد هذه المحنة والأداء العربي- وفي قلبه المصري- أثناءها.!!

14- إن مؤسسات الأمة، ومؤسسات الدول خارجها والمؤسسات الدولية: الإقليمية والعالمية… لم تكن أكثر من مظاهر لسياقاتها السياسية والحضارية فقد أبرزت الجامعة العربية،  ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والقمة واللقاءات الوزارية والبيانات والتحركات… إلى أي مدى متردِّ وصل “العمل المشترك العربي والإسلامي” لفت صار أشبه بالعمل المفترق أو العمل الذي يأكل بعضه بعضًا ولقد التحقت بهم الأمم المتحدة ومجلسها الأمني العالمي مع سمة خطابية إنسانية.

فيما كان الناتو مثلاً يعرف ما يقول وما يفعل، واختار ألا يفعل إذ الحليف متفوق ولا يحتاج إلى معاونة… ولا تزال أزمة المؤسسات في الأمة والعالم رهنًا بأزمة الداخل الإسلامي: أنظمته ومجتمعاته، وأزمة العالم في ظل اختطاف في القارب الأمريكي. لقد أبرز المنظور الحضاري في ذلك جدلية الإرادة والإدارة، فإذا غابت الإرادة، هلكت الإدارة.

– وبالمثل  وقعت مؤسسة العلماء أو المؤسسات الدينية في براثن هذا الواقع الجاشر مستحكم الحلقات: (جغرافية المؤسسة) فلقد تنوعت استجابات العلماء بين الخطاب والحركة، والفردي والمؤسسي والجماعي، فصدرت فتاوي متضاربة، ودعوات للجهاد، ودعوات لالتزام الهدوء وضبط النفس، ودعوات للدعم العسكري، ودعوات للدعم غير العسكري، وتحرك وفد اتحاد وعلماء المسلمين ليلقى الساسة ويحاول أن يحرك الراكد…

لكن الخلاصة أن قدرة مؤسسات العلماء على التأثير في مثل هذه المحن يبقى محدودًا إذا كان المخاطب والمعنيّ هو النظم، فيما تعلو قدرتهم على تحريك العقول والمشاعر لدى الشعوب. ثم كانت غزة كاشفة عن الفوارق بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ودرجة القيود، وكاشفة عن فهم اتجاهات فكرية مختلفة للسياسي والديني والعلاقة بينهما، بما قد يتلاقى فيه متشددون إسلاميون مع المنطق العلماني. وتبدت نماذج تبعية، ونماذج تعضيد من الديني للسياسي، ونماذج توافق، ونماذج تفارق. وخطاب تابع وخطاب تابع.

– وبالمثل آزرت المؤسسات المسيحية مواقف التنديد بالعدوان بالصلوات، والمقالات والكثير من الخطابات والممارسات الرمزية والمواساة المادية وتميزت المواقف القبطية في ذلك. لكنها مثلها مثل المؤسسات الإسلامية لم تتمكن من ممارسة أي تأثير على الجهات السياسية الرسمية والفلسطينية واللبنانية.

 – لقد انتفضت الكثير من المؤسسات الحقوقية والإغاثية، وكان خطابها زاعقًا، ولكن التحركات تراجعت أمام حائط الصد الأمريكي-الإسرائيلي كل ذلك أبرز أهمية البعد المدني المجتمعي في إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي، وأهمية دعمه حتى يصير ذا قدرة على ممارسة تأثير وفاعلية في مجريات الأمور وتوجيه المواقف. إن عسكرية العدوان لم يحل دون محاولا وجهود.

فك الحصار وإيصال المساعدات التي ينبغي ألا تبخس حقهها.

15- أما دور وحركة الشعوب الرأي العام، فقد كان من أهم المعالم الإيجابية للتعاطي مع الحدث منذ يومه الأول. لقد مثل ذلك الشق الأبيض –وإن كان الأضعف- من مواقف الأمة والعالم من العدوان والمقاومة. إن اقتصار أغلب فعاليات الشعوب والرأي العام على البعد الإنساني العاطفي ينبغي ألا يقلل من دورة وأهمية خاصة إذ كنا نسعى –باقتدار- لتحويل الإنساني إلى سياسي وتعزيزه برؤية حضارية جامعة ودافعة ونافعة للأمة والإنسانية المضطهدة عبر الكوكب.

إن الشعوب والرأي العام العالمي –وإن كانت لا تشكل قوة متماسكة وتفتقد الرأس المنظم والمحرّك-أن أهم من مزاياها أنها قدمت صورة أخرى للعالم، وصورة أخرى للأمة غير الصورتين اللتين يسيطر عليهما المشهد السياسي الرسمي. وإذا كان دأب النخب هو الانقسام لتعقد الاعتبارات التي ترتبط بها النخب، فإن الشعوب التي تتسم ببراءة الفطرة الإنسانية.

16- يشكل البُعد الاقتصادي –مثل السياسي والعسكري- بعدًا مهمًّا في بناء التصور الكلي للعدوان ومداخله وروافده ومعضداته، وكذلك فيما يتعلق بالمقاومة. فلقد تداخل الاقتصاد فيما قيل العدوان حيث الحصار والتجويع، وأثناءه حين دخل الاقتصاد في الحرب على غزة والضغط على المقاومة، واستمر بل برز أكثر بعد توقف العدوان تحت عنوان “إعادة الأعمار”، وما ارتبط بها ومن تفصيل المزايدة على الوضع الفلسطيني الداخلي، وتراجع الإنساني فيما وراء السياسي في محاولة لبناء وتطبيق هندسة الإذغان، واستعمال عمارة البنيان في استذل وإهانة الإنسان وتسخيره لا تكريمه… الأمر الذي يبرز في النهاية ويؤكد أهمية الرؤية المتكاملة والنظرة الواصلة بين سائر المجالات ما كان منها من طبيعة مادية وما كان من طبيعة قيمية. ومن ثم فلا بد من التأصيل للاقتصاد السياسي للمقاومة ليس على مستوى غزة وحدها بل على مستوى الأمة المقاومة كلها.

بعد أن جرت عملية تغطية على بحث حالة الدمار (المتسبب فيها: العدوان الإسرائيلي).

الاقتصاد السياسي للمقاومة هو مقلوب

الاقتصاد السياسي للإدغان والوهن

لفك ارتباط الإنسان بقضاياه المعيرية.

والمحورية والوجودية الاستراتيجية.

وبعد،،،

فإن ما انتهت إليه مسيرة هذا المؤتمر المبارك المقيم –بباحثية ومنظمته وحضوره- أن العدوان على غزة، وعلى المقاومة، وفلسطين لم تكن سوى حلقة في مسار العدوان على الأمة ومقوماتها ومقاومتها وممانعتها… عدوان على الدين والنفس والعقل والنسل والمال… وأنه آن الأوان أن نقف وقفة مع النفس، نتبصر بها الحال، ونستشرف بها المآل، من منظور يتسق ومرجعية الأمة ومصالحها الحيوية… وهذا ما حاولنا الإشارة إليه وإضاءة بعض جنباته… والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

 

 



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى