لماذا نعيد نشر تراث الدكتور حامد ربيع؟

اهتمَّ مركز الحضارة منذ تأسيسه، وخلال تعاونه مع المراكز البحثية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بالإنتاج العلمي لمفكري الأمة العربية والإسلامية وإحياء تراثهم الفكري وتفعيله والاستفادة منه عبر الأجيال؛ وذلك على مستوى مجموعتين من الأعمال والمؤلفات: أولهما: مفكرو الأمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وثانيهما: مؤسسو المنظور الحضاري الإسلامي في العلوم الاجتماعية من داخل الجماعة العلمية لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ وعلى رأسهم العالمان الجليلان الدكتور حامد ربيع والدكتورة منى أبو الفضل، رحمهما الله.

وقد بدأت هذه المساعي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الحاضنة الأساسية لأعمال الدكتور ربيع؛ حيث كانت هناك مبادرة سابقة من قسم العلوم السياسية بالكلية لجمع أعماله، أسفرت عن تقديم قراءة في مجمل هذه الأعمال[1]، غير أنها توقَّفت عند هذا الحد. كما جرت محاولات متفرقة لنشر بعض أعمال ربيع التي سبق نشرها أو التي لم تُنْشَرْ من قبل[2]، أسفر بعضها عن نشر بعض الأعمال وبعضها الآخر لم يكتمل.

وفي هذا النطاق، يأتي قيام مركز الحضارة على هذا المشروع المهم؛ لإعادة إخراج بعض أعمال العلامة الدكتور حامد ربيع، بعد مراجعتها وتنقيحها، في حدود ما أتيح لنا الوصول إليه من كتب ودراسات وبحوث، وما تمكَّنَّا من الوصول إليه من نسخ يمكن الاعتماد عليها للمراجعة والنشر من التراث الواسع للدكتور ربيع، بين أعمال مطبوعة وأخرى غير مطبوعة.

يجتهد مركز الحضارة للدراسات والبحوث لإعادة نشر تراث الأستاذ الدكتور حامد ربيع بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمان من رحيله؛ إيمانًا بأن هذا التراث لا يزال فيه الكثير مما ينفع الأمة بأجيالها الحالية والتالية، في الوقت الذي تغيب فيه المعرفة بهذا التراث؛ بدءًا بشخصية حامد ربيع، فإسهامه الذي أهداه إلى أمَّته في حياته، وصولًا إلى ثمرات هذا الإسهام الذي لا يزال يُؤتي أُكله بعد وفاة صاحبه رحمه الله تعالى. وفي هذه الأسطر نحاول الإطلال على هذه المحاور، قبل الإشارة إلى ما قام به المركز لإعادة نشر تراث هذا الأستاذ الجليل.

من هو حامد ربيع؟

هو حامد عبد الله ربيع عبد الجليل، اسمه مركب ثلاثي هو (حامد عبد الله ربيع)، وعبد الجليل هو اسم والده. ولد في القاهرة التي يصفها بـ(العاصمة التي عرفت طفولتي) عام 1924. وهو العام نفسه الذي أسقطت فيه آخر دولة خلافة إسلامية، وتشكَّلت فيه أول حكومة وطنية منتخبة في تاريخ مصر، وإن كانت تحت الاحتلال البريطاني؛ ما انتهى بسقوطها في العام ذاته. قضى حامد ربيع طفولته في القاهرة فتفتَّحت عينُه النابهة على تحديات الأمة والوطن؛ وبالأخصِّ سجال الإسلام والعلمانية أو الأصالة والتغريب، وسجال التحرر الوطني العسير أمام الاحتلال الأجنبي البغيض. وبينما هو ابن 12 عاما كانت القاهرة تشتعل بتظاهرات الوطنيين ضد معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا مع مجيء الملك فاروق إلى الحكم. وهو في الخامسة عشرة من عمره اندلعت الحرب العالمية الثانية 1939، وتفتَّق وعيه على آلام الوطن والأمة في أتون السياسة الداخلية، وبين أيدي القوى الكبرى خارجيًّا. ومع نهاية هذه الحرب وفي العام 1945 التحق ربيع بكلية الحقوق – جامعة القاهرة، وقد كانت هذه الكلية مشتركًا بين من سلكُوا طريق السياسة في مصر ساعتئذ.

اختار حامد ربيع طريق العلم؛ لينهلَ من مصادر الثقافة والعلم في الغرب والشرق، ويذكر ويتذكَّر يومًا قادتْه فيه الأقدار -وهو صبي تعتمل في نفسه تمزُّقات- إلى شيخ وقور نظر إليه صامتًا ثم قال له: “اذهب يا بني وأكمل ثقافتك، وانهل من مصادر العلم، فنحن في حاجة إلى مثلك”. ويتذكَّر حامد ربيع كيف مضت الأيام، ليقضي قرابة عشرة أعوام -ضمن بعثة علمية بين عامي 1948-1958- معتكفًا في دير “سان فرانشيسكو” بمدينة الفاتيكان على مشارف روما(!)؛ حيث اطَّلع على ما لم يُتَحْ لغيره من أبناء أمَّته الاطِّلاع عليه من المصادر الأصلية. هذا الاطلاع الواسع والمكثف صادف عقلًا ذكيًّا بل عبقريًّا، وروحًا وقَّادة منتمية ومعتزَّة بحضارتها وقيمها، فكان له ما بعده من تميز دراسي وعلمي.

يعود ربيع إلى القاهرة ثم يرجع تارة أخرى إلى أوروبا ثم يتنقل بين معظم الدول العربية؛ ليحصِّل في كلِّ خطوة معرفةً واسعةً متنوعةَ المجالات، قبل أن يبرز عطاؤه تدريسًا وتأسيسًا وتأليفًا وتوعية وتثقيفًا. حصل حامد ربيع خلال الخمسينيات على عدَّة شهادات دكتوراه وماجستير في مجالات: الاجتماع التاريخي، القانون -وبالأخص الروماني- وفلسفة القانون، والعلوم النقابية من جامعات روما وباريس، (ثم على الدكتوراه فيما بعد في العلوم السياسية من جامعة باريس عام 1963م)، ومُنح درجة «الأجريجاسيون» المرموقة من الجامعات الفرنسية. وفي أول الستينيات كان ربيع قد عاد إلى مصر ليعمل -منذ 1961م- مساعِدًا للمستشار الشخصي العلمي للرئيس جمال عبد الناصر. ثم عمل ربيع بالتدريس ورئاسة قسم العلوم السياسية في كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» بجامعة القاهرة، التي عدَّها ساعتها قلعة للفكر التغريبي بل للاهوت الغربي(!)، وجعل منها معقل نضاله العلمي ومنطلق مشروعه في تجديد دراسة التراث السياسي الإسلامي والاستفادة منه في تجديد علم السياسة على وضعه الحديث. طالَع ربيع وكتب بعدَّة لغات: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، واللاتينية، بالإضافة إلى العربية.

أسَّسَ ربيع مركز «الدراسات الإنمائية» بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، ورأس قسم العلوم السياسية بالكلية ذاتها كما أشرنا، وأشرف على إنشاء المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية فيما بعد. كما رأس معهد البحوث والدراسات العربية ببغداد ثم عمل مستشارًا سياسيًّا للرئيس العراقي صدام حسين منذ العام 1979 ولنحو ثماني سنوات. وعمل أستاذًا زائرًا في جامعات: الخرطوم، وبغداد، وروما، وباريس، ودمشق، والجزائر، والكويت، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة ميتشيجان الأمريكية. وتعدَّدت أسفاره في المؤتمرات العلمية وخطاباته المباشرة إلى الملوك والرؤساء العرب، وانتقل خطابه في المرحلة الأخيرة من حياته من التنظير وتطوير مناهجه وتنويع مصادره إلى التوجيه العام لرجل الشارع من أجل التغيير في الإطار العربي والإسلامي.

توفي حامد ربيع في 9 سبتمبر 1989 رحمه الله تعالى، في ظروف غامضة؛ إذ لم يسْبقها مرض ولا شكوى، وقال البعض باغتياله على أيدي جهات عربية أو صهيونية، لكنه في النهاية أدَّى ما عليه، واجتهد ونصح، وترك تراثًا وعطاءً لا يزال ينضح بالفوائد.

عطاء حامد ربيع

تعبر كتابات حامد ربيع (نحو 57 كتابًا وعشرات الدراسات ومئات المقالات) عن التقاءٍ قويٍّ بين الفكر والحركة، والعلم والعمل، والتنظير والواقعية. يصعب تصنيف حامد ربيع ضمن التصنيفات الفكرية أو السياسية الحدِّية المعهودة في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر؛ إذ يجمع بين الوطنية والقومية والإسلام، وبين عالمية العلم وخصوصية النماذج الحضارية ومنظومات القيم، وبين النقد المعرفي والمفاهيمي لأسس العلوم الاجتماعية -لا سيما العلوم السياسية والعلوم السلوكية- وبين الانخراط العميق والتفصيلي في قضايا الوقت والأمة. ولكنه بلا شك يعدُّ امتدادًا للمدرسة العمرانية في التحليل التاريخي والاجتماعي التي أسَّسها ابن خلدون، وأشار إليه ربيع في مواضع عدَّة وإلى ريادته في هذا المجال.

ومن خلال العناوين الرئيسية لإسهاماته وكتاباته، يمكن القول إن أجندة حامد ربيع تتَّسع لخمسة أقسام أساسية:

1- التنظير والتطوير العلمي لا سيما لعلم السياسة بأفرعه (النظرية والفكر، والنظم والحكومات، والعلاقات الدولية والسياسة الخارجية): ويعدُّ حامد ربيع رائدًا في هذا الصدد للمدرسة التي أسْمتها زميلتُه بالكلية نفسها د. منى أبو الفضل (1948- 2008م) بمدرسة المنظور الحضاري الإسلامي في العلوم الاجتماعية والسياسية. وتعتمد هذه المدرسة على نقد الأسس المعرفية ثم المسارات المنهجية التي قدَّمتها الخبرة الغربية الحديثة في هذه العلوم، مع الاتصال الدائم بها والاستفادة من معطياتها اللائقة والمفيدة. وقد تطوَّرت هذه المدرسة من بعد حامد ربيع ومنى أبو الفضل ولا تزال تدين لهما بفضل التأسيس والإشارة إلى أهمية مصادر المعرفة الإسلامية بوصفها مصدر تنظير في العلوم الاجتماعية الحديثة.

2- الوطن العربي وأمنه القومي وتقاليده السياسية وآفات واقعه الراهن، والمخارج منه: ومن ذلك خصَّصَ فرعًا لدراسة قضية البترول العربي وتحوله من سلاح عربي نافذ إلى سلاح مضاد للعرب، وقدَّم دراسات عدَّة حول استراتيجيات توظيفه. ويمكن من خلال هذه المجموعة من كتاباته، أن يرى البعض حامد ربيع قوميًّا عروبيًّا -ناصريًّا أو غير ناصري- مدافعًا بقوة عن الرابطة القومية العربية وهويتها وعمقها التاريخي وثقافتها السياسية وحقوقها المعاصرة. لكن من ناحية أخرى، فإن علمية حامد ربيع، ثم حضاريته التي أينعت وهيمنت على فكره مع الوقت، غلَّفت هاتان الخاصِّيَّتان قوميةَ حامد ربيع حتى يمكن القول بدرجة عالية من الثقة إنها قومية حضارية، وبالتأكيد ليست قومية علمانية أو لادينية. فهو الذي يردِّد في نفَسٍ واحدٍ في ذروة وضوح انتمائه للأمة الإسلامية: سوف أظل عربيًّا.. أمتي أمة القيم، أمتي في العالم، أمتي والعالم!

3- دراسات حول الصهيونية وتطورات الكيان الإسرائيلي والحرب العربية مع هذا الكيان وفي قلبها مصر وفلسطين، والدول العربية الكبيرة: وقد توسع وتعمق ربيع في تحليل الظاهرة الصهيونية وتطوراتها وخصائصها وأهدافها وآلياتها وأنواع مكرها بالعالم العربي، وعلاقتها بالمشروع الاستعماري الغربي واستراتيجيته في المنطقة. وأعطى ربيع في هذا المستوى والذي قبله اهتمامًا بالفكر الاستراتيجي والصراع العسكري وأنواع الأسلحة المستعملة فيه: التقليدية، والنووية أو أسلحة الدمار الشامل، وأسلحة الدعاية الصهيونية والحرب النفسية على العقل والوجدان العربي، وكان سبَّاقًا في هذا. وقد جاءت دراساته ومقالاته حول القضية الفلسطينية ومخاطباته للنظم السياسية المحيطة بها والمعنية بنصرة القضية أو خذلانها لتعبر عن خلاصة هذا المحور وسابقه.

4- دراسات حول مصر: التي لم يرها حامد ربيع إلَّا واسطة عقد العرب والإسلام، وعدَّها مدخل التغيير والتكتيل والتوجيه الاستراتيجي والقومي للمنظومة العربية. فنبَّه إلى مخاطر تحولات مصر في عهد السادات نحو الغرب لا سيما الولايات المتحدة عقب كامب ديفيد، وتحدث علانية عن خطورة فقد مصر للعرب وفقد العرب لمصر، ونبَّه ربيع إلى دراسة المستقبل المصري والحذر من الهجمات التي تُشَنُّ على العقل المصري من أجل احتوائه، وطبيعة الحرب القادمة بعد حرب أكتوبر وتبيَّن أن مصر قادرة على النهوض في أية لحظة.

5- دراسات حول الفكر السياسي الإسلامي والدائرة الإسلامية: وقد أبدع ربيع في هذا المجال ما بين كتاباته التي -وإن قلَّ عددها- عبَّرت عن نضوج كبير لا يمكن إلَّا أن يكون عصارة عمره وخلاصة جهده؛ سواء في مقدمته الضافية لتحقيق كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) أو في كتابه (الإسلام والقوى الدولية)، أو دراسات ومقالات أخرى. ففي هذا المجال تجلَّتْ خلاصة الفكر التنظيري والعلمي والمنهجي لحامد ربيع من جهة، وخلاصة فكره الاستراتيجي وإدراكه لأبعاد النظام الدولي وتحولاته وموقع الأمة الإسلامية منه، وما تحمله هذه لأمة من قدرات كامنة وإمكانيات ظاهرة لكسب موقع متميِّز في القرن الحادي والعشرين (الإسلام وثورة القرن الحادي والعشرين).

لا تعبر هذه العناوين جيدًا عن عطاء حامد ربيع حتى يباشر القارئ أو الباحث قراءة ما تحتها بنفسه، فيرى أن ما تحت العناوين من رؤية كلية أو منهج نظر أو مضامين أثمن بكثير. فنحن أمام عقل موهوب وعلم وسيع، وقلب شجاع يُقْدِم على المهام الصعبة بكل ثقةٍ من جهة، ومن جهة أخرى تعبر كتابات ربيع عن رؤية كليةٍ حضارية راسخةٍ وواسعةٍ، وتفكير استراتيجيٍّ جادٍّ وعملي متَّصل سمَّاه ربيع بعلم التدبُّر والتدبير، وبعلم الحركة، وانتماء قويٍّ للوطن والأمة والقيم الحضارية التي جعلته ينظِّر للقيم ضمن النظرية السياسية بين الغرب والإسلام في ذروة سيادة المنهجية السلوكية والفلسفة الوضعية، وليكشف -بهذا- عن قيم الفعالية الحضارية والسياسية وتقاليد السياسة العربية التاريخية الراسخة في العدالة والحرية والشجاعة والإقدام، ويطالب بتجديد الوعي السياسي والعام لدى النخب والجماهير من مدخل القيم.

ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أن كثيرًا من استشرافات حامد ربيع وتوقعاته المستقبلية قد تحقَّقت ولا تزال، لا سيما في توصيفاته لتطور النظام السياسي العربي وللعديد من أقطاره، وللقضية الفلسطينية وموقع الكيان الصهيوني من المستقبل العربي، ولا تزال كثير من رؤاه وتحليلاته الاستراتيجية حية نابضة رغم مرور الزمن؛ لما حملته من عناية بأصول النظر ومستقرات الأحوال الواقعية.

ونظرًا لجدِّيَّة هذا الأستاذ، فقد قيَّض له القَدَرُ تلاميذ نُجباء أوفياء، التفتوا إلى كفاحيَّته ورساليَّته التي وصفها هو بالوظيفة الكفاحية لعالم السياسة؛ ومن ثم سعوا إلى النسج على منواله؛ فاختاروا رسائلهم العلمية ضمن أجندته التجديدية والمتصلة بالتراث السياسي الإسلامي للشؤون السياسية، وقد أشرف بنفسه على العديدين منهم، ثم عملوا على استكمال رسالته بعد وفاته رحمه الله تعالى، فكانت مدرسة المنظور الحضاري في العلوم السياسية التي تعدُّ -بشهادة أساتذة كبار لا ينتمون إليها- الإسهام الأبرز في تطوير علم السياسة انطلاقًا من الدائرة الحضارية الإسلامية، ولا يزال نهر هذه المدرسة يجري إلى اليوم، من ثمراتها هذا المشروع لتجديد نشر أعمال حامد ربيع.

لماذا نعيد نشر تراث الدكتور حامد ربيع؟

لسببين متكاملين:

السبب الأول- أن حامد ربيع لم يقدِّم تحليلات مؤقَّتة بوقتها الذي مضى، أو مضامين جزئية تتعلَّق بزمان ومكان تغيَّرا ولم يَعُدْ لهما وجود. إنما قدَّم حامد ربيع -كما أشرنا-: رؤية كلية للعلم والسياسة ولتجديد قوة الأمة، رؤية تجمع بين القوة والقيم والمصالح وبين الفكر العميق والواقعية المباشرة، وبين دوائر الانتماء المتحاضنة، وقدَّم -ثانيًا- منهج نظر وتنظير غاية في التركيب والعمق؛ يبدأ من تحرير المفاهيم ليصل إلى تدبير السياسات والاستراتيجيات، وقدَّم -ثالثا- منهج تحليل سياسي رصين، ثم -رابعًا- أجندة قضايا لا تزال الأمة وأقطارها تدور في فلكها، وفي غضون ذلك أصدر تنبيهات غاية في الأهمية إلى آفات الفكر والحركة المتغلغلة في العقل والواقع العربي والإسلامي المعاصر وكيفية مواجهتها.

من أجل عمق وأهمية هذا العطاء، واستمرار فوائده المعرفية والمنهجية والمفاهيمية -بل والكثير من مضامينه ونماذج تحليله- قادرة على إفادة الأمة وأجيالها من الحكام والمحكومين، والباحثين والعمليين، فقد كان من الواجب الإفصاح عن هذه الدرر وتيسير وصول المهمومين بشؤون أمتهم إليها.

والسبب الثاني- أن تراث حامد ربيع تعرَّض للإهمال الجسيم، أو ما سمَّاه البعض بالتجاهل والتجهيل، ورآه البعض متعمدًا، ونَفَدَتْ طبعاته السابقة دون تجديد مع سوء طباعتها غالبًا، واختفت الكثير من كتبه ودراساته ومقالاته التي هي غاية في الأهمية، بل إن المتوفر منها لا يلقى عناية لا في حسن إخراج ولا في ترويج حقيقي. وقد أدَّى ذلك إلى نقصٍ شديدٍ في الإفادة العامة من تراث هذا المفكر، وكذلك يؤثر سلبًا في تقدُّم المدرسة الحضارية التي أسَّسها رحمه الله.

وأمام عظم الفائدة المرجوة، وعظم الإهمال الماثل، كان لابد من القيام بواجب تجديد نشر كتابات حامد ربيع، والعمل على حسن إخراجها وجعلها قريبة المنال من كل من يهمه الأمر.

ما الذي قمنا به لإخراج تراث حامد ربيع؟

بدايةً، قام المركز -تحت إشراف مديرته وأحد رواد مدرسة المنظور الحضاري أ. د. نادية محمود مصطفى- بالاتفاق مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي على التعاون في هذا الغرض وفق خطة عمل ذات مراحل، وقدَّم المعهد مشكورًا الدعم اللازم لذلك. وبناء على خطة العمل، قام باحثو المركز بتجميع عناوين كتب ودراسات حامد ربيع بأكبر درجة أمكنت من الاستقصاء والإحصاء، مع العناية أولا بالكتب. ثم عمل المركز على جمع مادة هذه الكتب، والتي تجلَّت في صور ثلاث: كتاب مطبوع ورقيًّا – كتاب مصوَّر بصيغة (pdf) – كتاب مكتوب بصيغة (Word). وتمَّت كتابة الكتب الورقية والمصوَّرة غير المكتوبة إلكترونيًّا. وبالنظر، وُجد أن عدد عناوين الكتب نحوٌ من (57) عنوانًا، وأن المتوفِّر منها توفُّرًا نهائيًّا (14) كتابًا، فتمَّ العمل عليها لتكون هي باكورة النشر وتمثِّل المرحلة الأولى والتجريبية من المشروع، قبل أن تعقبها مراحل أخرى تأتي تباعًا بإذن الله.

وعبر نحو عامين، تمَّت ثلاث عمليات متتالية أساسية على هذه الكتب:

(1) عملية مطابقة النص الإلكتروني بالنص المطبوع أو المصوَّر؛ حيث تبيَّنت مواضع سقطت فيها عبارات أو فقرات وأحيانًا صفحات أو لوحظت بها فجوة معنى أو تداخل.. إلخ، وتمَّ تحقيقها وتصحيحها في إطار النص الأصلي ودون أدنى إضافة في نصِّ المؤلف أو نقصان، كما سيتبين للقارئ.

(2) عملية المراجعة التحريرية الدقيقة للمضامين.

(3) عملية المراجعة اللغوية لاكتشاف وتصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية والمعنوية.

أما المبدأ الذي حكم هذه العمليات الثلاث فهو أنه: مهما اختلف الباحثون مع النص فلم يُسمح لأحد بإدراجٍ أو إسقاطٍ أو تغييرٍ في نص حامد ربيع، ولم يعمل المركز على تحديث بيانات تاريخية ولا تعديل أخطاء مضمونية؛ حفاظًا على نصِّ حامد ربيع كما هو، بما له وما عليه. وفي حال الاختلاف في لفظٍ أو معنى تعقد لها لجنة التحرير اجتماعًا خاصًّا للبتِّ فيها وفق هذا المبدأ قدْر الإمكان.

وفي هذا الإطار، قام فريق الباحثين بمراجعة العديد من المقالات من مصادرها الصحفية الأصلية، وتصحيح الكثير مما أدرج في الكتب على سبيل الخطأ، أو سقط أو تغير، وتمَّت إعادة النص إلى أصله، خاصة أن اجتهادات أخرى جرت لإخراج تراث ربيع مدَّتْ فيها أيادٍ على غير الواجب فيما يرى المركز. وقد تطلَّب ذلك بحثًا في عدد من المكتبات ومراسلة عدد من الأساتذة من تلاميذ حامد ربيع رحمه الله تعالى.

وتمت مراجعة هوامش كتابات حامد ربيع، وهي قصة وحدها؛ حيث يعتمد د. ربيع على ثقافة موسوعية، ومراجع شديدة الخصوصية، ومكتوبة بلغات عديدة من الفرنسية والإيطالية والإنجليزية بالطبع. وكانت كثير من التوثيقات مبتورة لا يستوفي د. ربيع بياناتها، فاجتهد الباحثون في العودة إلى مصادرها الأصلية قدْر الوسع، واستيفاء بيانات التوثيق؛ خدمة للنص الربيعي؛ ووفاءً بحق الأستاذ. ورغم كل هذا الجهد، فإن بعض الهوامش والمراجع حِيل بيننا وبين استكمالها فتمَّ تركها كما هي، وهي ليست بالنسبة الكبيرة، ولله الحمد.

وبعد.. فهذا جهد واجتهاد لا ندَّعِي فيه الكمال ولا التمام، إنما ندَّعي فيه الرغبة في الوفاء للأعلام والروَّاد، والأمل في إفادة الأجيال الحالية والقادمة من فكرهم، وما كان من خطأ أو نسيان فمنَّا والله يعفو عنَّا، وما كان من توفيق وسداد فمن الله تعالى وحده لا شريك له، ولله الحمد من قبل ومن بعد.

والحمد لله

____________

هوامش

[1] د. حسن نافعة، د. عمرو حمزاوي (تحرير)، تراث ربيع بين كفاحية العالِم ومقتضيات المنهج (أعمال ندوة قسم العلوم السياسية – القاهرة: 29-30 يونيو 2003)، (القاهرة: جامعة القاهرة – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2004).

[2]راجع على سبيل المثال: حامد ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، تحرير وتعليق: سيف الدين عبد الفتاح، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2007).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى