عن الحكيم البشريّ

عرض كتاب: القاضي.. المؤرِّخ.. المفكِّر.. وداعية الإصلاح تأليف: ممدوح الشيخ

مقدمة:

صدر كتاب (طارق البشريّ.. القاضي.. المؤرِّخ.. المُفكِّر.. وداعية الإصلاح) للكاتب ممدوح الشيخ، عام 2011. ويتألف من مقدمة وتسعة فصول وملحقين الأول شديد الأهمية وهو مقابلة أجراها الكاتب مع المستشار طارق البشري، أما الملحق الثاني فهو تعريف ببعض مؤلفات البشري وما تتضمنه.

ناشر الكتاب هو مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، تأسس في بيروت عام 2007([1])، ضمن سلسلة (أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي)، التي تهدف إلى “التعريف بأهمّ المفكرين والعلماء الذين لهم مساهمة جادَّة في تطوير الفكر الإسلامي والعربي، وذلك من خلال البحث عن همومهم التي كانت تدفع بهم نحو البحث، أو العثور على المنهج الذي كان يحكم حراكهم العلمي والعملي، أو غير ذلك مما يُحيط بفكرهم”([2]).

وتكمن أهمية الفترة التي نُشِرَ فيها الكتاب في ترافقها مع ثورة يناير 2011، ورئاسة المستشار البشري للجنة تعديل دستور 1971 التي شكَّلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة في فبراير 2011. وإن كان الكاتب قد ألَّف الكتاب بناءً على طلب المركز المشاركة بالتأليف عن أحد المفكرين ضمن السلسلة المذكورة، فاختار الكتابة عن البشريّ الذي كان قد أَجرى معه حوارًا قبلها في مايو 2010([3]).

والمؤلف ممدوح الشيخ، كاتب وباحث مصري، من مواليد المنوفية في 14 أغسطس عام 1967، صاحب توجه إسلامي حضاري. يعمل حاليًا مديرا للمركز الدولي للدراسات والاستشارات والتوثيق، ويتابع البحث في ميدان العلوم الإنسانية. وللمؤلف مساهمات منشورة في مجلات عربية عدة، فضلًا عن مقالات رأي في عدد من الصحف العربية وكذلك المواقع الإلكترونية. كما أن له العديد من الكتب والأبحاث المنشورة منها: عبد الوهاب المسيري.. من المادية إلى الإنسانية الإسلامية، والمسلمون ومؤامرات الإبادة، وفخ فرويد.

شرَعَ المؤلف، في المقدمة، في إيضاح مكانة المستشار طارق البشري في الساحة الثقافة العربية المعاصرة، ولمحة سريعة عن سماته الشخصية والتكوينية التي اكتسبها من العائلة والعمل بسلك القضاء وأثَّرت في مساره كمؤرخ ومفكر وداعية إصلاح سياسي. وألمح إلى سمتين أساسيتين اكتسبهما المستشار البشري من العائلة والقضاء، وهما:

1- إنكار الذات: الذي يتجلى في ندرة المصادر التي تتناول سيرة حياة (البشري)؛ الأمر الذي علله البشري للكاتب بأن كتابة السيرة الذاتيّة “تحتاج إلى قدرٍ من حبّ الذات لا يجده في نفسه”.

2- التأريخ بأدوات القاضي: يرى (الشيخ) أن البشري قد اكتسب من عمله كقاضٍ سمات صارت لصيقة به، مقدرًا أن البشري قد “دخل عالم التأريخ بأدوات القاضي، وخاض بحار الفكر بحسّ الإصلاحي، فتأثرت اختياراته ورؤاه إلى حدٍّ كبيرٍ بحسّ إنسانيّ عميق، فلم يكن أبدًا مُحايدًا ولا أداتيًا”.

أولًا- النشأة ومصادر التكوين الثقافي والفكري

يستهل المؤلف كتابه باستعراض ستة عوامل يعتبرها شكلت الملامح الرئيسية من شخصية البشري الإنسانية والفكرية، وهي:

  • العائلة:

ينتمي البشري لعائلة متوسطة الحال اكتسبت مكانتها الاجتماعية من العمل بخبرتها المهنية والفنية في أجهزة الدولة وخاصة القضاء أو العمل بالأزهر الشريف، وفي هذا الصدد ينقل المؤلف عن البشري قوله: “كذلك كان أبي معنا وأنا مع أبنائي يشغلنا دائمًا كيفيّة تربية ((مهنيّ جيّد))، وهي مسألة مستهدفة ومتضمنة في مختلف عمليات التربية والتكوين”.

تأثر البشري أيما تأثر بسيرة ومسيرة جده شيخ الأزهر وشيخ السادة المالكية سليم البشري، الذي نزح من قريته (محلة بشر) بمحافظة البحيرة طلبًا للعلم بالأزهر الشريف، وذلك عكس المسار الاجتماعي آنذاك الذي كان يحتم عليه الرضوخ للضغوط الاجتماعية والاقتصادية وعدم التفكير في طلب العلم؛ لمساعدة والده في تحمل أعباء الحياة. إلى جانب هذا، فإن مواقفه من السلطة واستقلال الأزهر وضعت للحفيد –طارق– عددا من المثل والقيم العليا التي لا يحيد عنها، مثل مراعاة كرامة العلم وتبعة خدمة الدين، وصار أشبه بالبداهات أنّ القيمة الاجتماعية هي قيمة العلم والموقف، وليس قيمة المال ولا السلطان.

على الجانب الآخر، غرس الوالد المستشار عبد الفتاح البشري في الابن الانقياد للنظام وتقبل الترتيب والأقدمية وعدم استعجال دوره. وبخصوص هذه الثنائية التي غرسها الجد والوالد يقول ممدوح الشيخ: “وعلى جسر التلاقي بين الاستعداد للسير عكس التيّار، وفي الوقت نفسه، الاستعداد للاندراج في التراتبيّة، بلور طارق البشريّ توازنًا بين عالَمَيْ القضاء والفكر، ففي الأوّل كان رجل تراتبيّة بامتياز، وفي الثاني كان رجل المواقف الصلبة التي لا تأبَهُ لسطوة ما هو سائد ولا تتردّد في مواجهته”.

  • المناخ الثقافي العام:

تفتح وعي المستشار البشري في أربعينات القرن الماضي –خاصة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية– على قضيتين أساسيتين، هما: التحرر الوطني من الاحتلال الإنجليزي، وتقييد سلطات الملك وإقامة الحكم الديمقراطي. ولم يكن يخطر بباله الانخراط في العمل السياسي بحكم الانتماء إلى عائلة قضائية، بالرغم من متابعته لتفاصيل ما يموج في الساحة السياسية واتخاذه موقفًا فكريا منها، وهو الأمر الذي أعطى للبشري الحرية حتى عندما التحق بسلك القضاء فيما بعد.

اغتنى البشري بذلك المناخ المفعم بقضايا الاستقلال الوطني والديمقراطية، وراح ينخرط في “هموم الجماعة الوطنية”، فاحتلت (القضية الوطنية) مكانًا مركزيًا في وعيه ووجدانه، وشكلت أحد المحاور الرئيسية في اهتماماته الفكرية والسياسية، وظهر أثر هذا الاهتمام في معظم مؤلفاته.

  • نظام التعليم الرسمي:

ترك التعليم النظامي آثارًا بعيدة المدى على تكوين البشري المعرفي والفكريّ؛ حيث علَق بذهنه من كل مرحلة دراسية بعض المواقف المؤثرة، يرجع الفضل فيها إلى أساتذته أو الكتب التي كانت مقررة عليه. ففي المرحلة الثانوية تأثر البشري بأستاذه محمود الخفيف([4]) الذي كان يجهر بآرائه بين طلبته والمحيطين به؛ الأمر الذي جعل البشري يحب مادة التاريخ ويشعر أن العمل رسالة تؤدّى.

كما أحب البشري مادة القانون في الجامعة، ذلك الحب كان مدفوعًا بتأثير عددٍ من أعلام كلية الحقوق حينها، على رأسهم العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف والشيخ محمد أبو زهرة، وعن ذلك التأثير يقول البشري: “وما من أستاذ درست عليه إلّا نفعني الله بعلمه، ولكن يظلّ للشيخ عبد الوهاب خلاف أثر خاص. أثر تغلغل في نسيج الدماغ، وفي عضلة المخّ، ولا يزال.. كان جادًا دائمًا، فيه صرامة منهج وفقه، وفيه دقّة موازين الذهب في اختيار اللّفظ، وفيه اقتصاد هائل في استخدام الألفاظ. ومقاصد كالشمس واضحة”.

  • القراءات الحرة:

أفاد البشري من ثروة هائلة أتيحت له من خلال عدة مكتبات خاصة وعامة، بداية بمكتبات العائلة الغنية بالمصادر القانونية والدينية والأدبية، مرورًا بمكتبات مدرسته الثانوية، وكلية الحقوق، ومجلس الدولة، ومحكمة النقض ونقابة المحامين، ووصولا إلى مكتبته الخاصة التي ناهزت العشرة آلاف كتاب.

تلك الثروة الهائلة أتاحت للبشري قراءات متنوعة في شتى العلوم، سواء في علوم الشريعة أو العلوم الاجتماعية والإنسانية كالفلسفة والأدب والتاريخ والاقتصاد منذ وقت مبكر من عمره؛ حيث قرأ لأبي العلاء المعرّي، وكذلك للعقاد وطه حسين وعبد القادر المازني وتوفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد ومصطفى صادق الرافعي وعبد العزيز البشري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي وغيرهم؛ الأمر الذي يوضح أن البشري كان في اختياره ذا مزاج كلاسيكي.

وفيما يتعلق بتخصصه في القانون، فقد دفعه شغفه بالقراءة إلى أن يستأذن رئيسه في العمل إلى أن يستخرج نسخة من مفتاح مقر عمله في مجلس الدولة حتى يتسنى له مواصلة مطالعة المراجع القانونية في المكتبة؛ الأمر الذي أفاده كثيرًا في أن تتيسر له مادة القانون وتلين له.

  • أعلام عصره:

تأثر البشريّ ببعض أعلام وكبار مفكّري عصره سواء عبر قراءته لهم أو اتصاله الشخصي بهم، وبالمبادئ التي دعوا إليها والأفكار التي عملوا على نشرها وكذلك مواقفهم التي ثبتوا عليها. ولقد كان للشيخ محمد الغزالي أبرز التأثير فيه، سواء عبر أفكاره المتوازنة والسهلة أو بمواقفه الشجاعة والجسورة التي يرى البشريّ أن مصدرها خوف الغزالي من الله وعمق إيمانه بالإسلام وخوفه عليه، الأمر الذي جعل البشريّ يرى الغزالي شيخا له.

وكذلك الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر –في الفترة من 1982 وحتى 1996–، الذي تميز بالمواقف الشجاعة وخاصةً من مسألة استقلال الأزهر الشريف عن السلطة السياسية، وسعيه للنهوض بمكانته العلمية والأدبية وفي صيانة كرامة العلم، الأمر الذي جعل البشريّ يرى أن الشيخ جاد قد (ترك الأزهر وهو أفضل مما كان عليه يوم تسلم مسؤوليته كشيخ له).

  • التصوف:

للبشريّ علاقة مزدوجة بالتصوف والطرق الصوفية؛ فمن ناحية تشكل وعيهُ على الدور الوظيفي الذي تلعبهُ الطرق الصوفية، في القرى، في إيصال الثقافة الدينية والتربية الوجدانية إلى كافة المستويات الشعبية. ومن ناحية أخرى كان البشريّ مُطلعًا على الأدب الصوفيّ –حتى في الفترة العلمانية من حياته– بدايةً من كتاب زكي مبارك (التصوف الإسلاميّ في الأدب والأخلاق)، الذي يعتبره من أمتع ما كتبه، كما “توقَّف طويلًا أمام جلال الدين الرومي وفريد العطار”.

وألمح المؤلف لإشارة الدكتور إبراهيم البيومي إلى كوْن مصادر التكوين الثقافي والفكري والوجداني للبشري أوصلته برافدين؛ أولهما رافد التراث العربي الإسلامي، وثانيهما رافد الفكر الغربي الحديث وتياراته الفكرية والسياسية والثقافية، سواء ما وفد منها من الغرب زمن الاستعمار أو ما نبت منها في بلادنا بفعل تأثير النموذج المعرفي الغربي.

ثانيًا- البشريّ: القاضي والفقيه والمؤرخ

أشار المؤلف إلى أهم السمات الشخصية والمهنية التي ميزت البشري في المجال المهني القضائي، وهي:

أولا: الربط العميق بين أنواع الفقه في أحكامه خاصةً فقه الواقع؛ حيث يتناول القضية المطروحة أمامه من كافة الجوانب واضعا القاعدة القانونية في سياقها التاريخي والاجتماعي. وكانت مناهج أصول الفقه أحد أبرز أدواته في تفسير النصوص القانونية، الأمر الذي يوضح أنّ البشريّ خلال فترته العلمانية لم ينقطع عن التراث ولم يرَ فيه أساس المشكلة الحضارية التي تعيشها الأمة، بل إنه لم يرَ أي مشكلة في تجديده حتى يتلاءم مع تحديات الواقع وما يطرأ من أمور. لكن ما جدَّ بعد تحوله الفكري هو السؤال عن إمكانية التجديد داخل الحركة إسلامية، التي يرى أنه ينقصها فقه الواقع.

ثانيًا: إيمانه العميق بالحريات خاصة ما يتعلق منها بحق المواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، الأمر الذي عرَّضه لهجوم شرس من الصحافة التابعة للسلطة.

ثالثًا: الشجاعة في الحقّ، وهي صفة يحتاج إليها القاضي في مواجهة الضغوط السياسية والاجتماعية.

أما فيما يتعلق بالجهد التنظيري للبشريّ، ألقى “الشيخ” الضوء على مسألة التفسير كأحد الأدوات القانونية التي استخدمها البشريّ في تفسير النصوص وبيان معانيها([5])، مع استعراض عددٍ من نماذج من تقاريره القضائية كحالات للتطبيق([6]). ويمكن من خلال قضية التفسير رصد التلاقي والتفاعل بين الجوانب القانونية والفقهية والتأريخية في شخصية البشري؛ حيث إنه في عمله القانوني التطبيقي يقوم بإنزال الأحكام التشريعية المتعلقة بمبادئ وقواعد عامة على واقعة أو تصرف وارد بنص إخباري أي متعلق بذكر واقعة يقوم الدليل على ثبوتها أو نفيها.

وفي سياق هذا المنهج وتأثيره على الكتابة التاريخية لدى البشريّ، ينتقل المؤلف إلى إبراز معالم منهج البشريّ وأدواته في كتابه التاريخ، موضحًا أن مجالات اهتمام البشريّ “تستوعبه إلى حد كبير، فــالتاريخ بالنسبة له ليس رصّا أو سردًا توثيقيًا لأحداث الماضي،‏ لكنه وجه من وجوه الحوار بين الماضي والحاضر.

لقد أولى البشريّ النص التاريخي أو الإخباري اهتمامًا كبيرًا، مميِّزًا بين الحدث ذاته وما يُتناقل عنه من أخبار (أي إدراكه لدى من أثبته ونقله)، مُشددًا على أهمية تفهم النصوص في سياق ماضيها وما واكبها من وقائع، وموضحًا قواعد نقد المرويات التاريخية أو تلك النصوص الإخبارية، والتحقق من مدى صحتها وفق مناهج التحقيق التاريخي للأحداث، من نقد الرواة والوثائق والمستندات.

ثالثًا- سياق المراجعة الفكرية لدى البشريّ

ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى معالجة تفصيلية لقضية التحولات والمراجعات الفكرية التي قام بها عدد من المفكرين خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وذلك انطلاقا من أمرين: أولهما، كوْن التحولات بمثابة محطات في مسيرة المفكر نحو الحق والقناعات التي يراها صحيحة؛ حيث إن تاريخ الأفكار ليس إلّا تاريخًا من التحولات والتطورات، وثانيهما: قراءة التحولات في سياقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. وألمح الكاتب إلى أن تلك التحولات قد تكون جوهرية وانقلابًا على المسار الفكري للمفكر، أو قد تكون بمثابة تكامل مع مساره الأصلي، ولم تمثل قطيعة مع ما سبق من أفكاره.

يُلقي المؤلف الضوء على أسباب التحوّل الفكريّ للمستشار البشريّ، مُرجِعًا ذلك أولًا إلى الدور الحاسم لهزيمة يونيو 1967 في شروع المراجعة والانتقال من العلمانية إلى الإسلامية، وثانيًا إلى الدور المركزي الذي لعبة (الحدس) لا العقل في عملية الانتقال تلك. وينقل الشيخ عن البشريّ وصفه لتلك العملية بأنه: “أحيانًا عندما تخرج من مرجعيّة فكريّة إلى مرجعيّة فكريّة أخرى تمرّ بمرحلة لا تكون هذه فقدت وجاهتها تمامًا، ولا تلك اكتملت جاذبيتها لك فتصبح كأنك بين جاذبيّة كوكبين، وفي هذه اللحظة أيقنت كمؤمن أن هداية الله هي الحل والفيصل”.

أخذت المراجعات لدى البشريّ مسارًا متدرجًا؛ بداية من التفكير في مسألة الاستقلال، بحسبانها القضية المركزية عنده، منتقلًا من الاستقلال السياسي إلى السعي لاستكماله عبر الاستقلال الاقتصادي، مرورًا بالتفكير في المسألة القطرية التي توصل إلى أنها لا تكفي لتدفعه للتفكير في العروبة، ووصولًا إلى القناعة بأن الدين هو الضمانة الحقيقية للاستقلال.

وتتبع “الشيخ تأثير ذلك التحول على منهجية البشري في الكتابة التاريخية؛ حيث رأى أنه قرأ التاريخ في المرحلة العلمانية وفق التفسير الاقتصادي الطبقي القائم على مركزية مقولة (الاستغلال الاقتصادي)، أما في المرحلة الإسلامية فقد تحول البشري بالكلية من المنهجية الماركسية العلمية في التحليل إلى المنهجية الإسلامية؛ وذلك من خلال ثنائيته التحليلية (الموروث والوافد)، التي تعبر عن استعادة كاملة للهوية الإسلامية في منظومة البشريّ الفكرية ومنهجيته التحليلية.

وقد وضع المؤلف مراجعات المستشار البشري في سياق خطاب مجموعة أعم من المفكرين (مثل: محمد الغزالي، مالك بن نبي، منير شفيق، عادل حسين)، أُطلق عليهم عدد من الأسماء من بينها: (التيار الإسلامي الجديد)، (مدرسة الاعتدال الإسلامي)، (مدرسة التحديث المؤصل) و(الإسلاميون الجدد)، وهي أسماء مستمدة من النزوع التجديدي الوسطي والاستقلالية التنظيمية عن أي مجموعة إسلامية حركية.

ظهر هذا التيار بعد هزيمة عام 1967، في سياق واقعي حمل تطلعات بقدر ما حمل شكوكا إزاء إمكانية تقديمه بديل فكري وسياسي شعبي للتيارات القومية، وفي سياق كوني معرفي تمثل في عصر نهاية الأيديولوجيا وتكثيف مسار العولمة. الأمر الذي دفع الاتجاه التجديدي إلى تقديم فهم معاصر للإسلام ينطلق من المنظومة الثقافية الإسلامية محافظًا على هويتها، وساعيًا إلى اللحاق بالغرب في تقدمه العلمي والتقني والتنظيمي، وفق خطاب يرتكز على مسألة الهوية ورفض التبعية للغرب والدعوة إلى مواجهة المشروع الصهيوني. فهو ليس خطابًا اعتذاريًا، ويرفض فكرة المركزية الغربية، ويسعى لاكتشاف الإمكانات الخلاقة للمنظومة الإسلامية، والتمييز والفصل بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية وتجاوز المنظور الغربي في قراءة التاريخ.

رابعًا- أصول المنهج عند البشري

يعرض “الشيخ” لقضية المنهج بحسبانها المدخل الأهم إلى عالم أفكار المستشار طارق البشريّ، واضعًا جملة من مقولات البشريّ المنهاجية على رأسها (الصراع بين الموروث والوافد أو مسألة التحيز)، مُعتبرًا أن تلك المقولة بمثابة “الطلقة الأولى في معركة لم تنتهِ فصولها حتى الآن، في الثقافة العربية الإسلامية حول التحيزات في مناهج البحث، وبخاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية“.

ومن المقولات المهمة أيضا في منهج البشريّ المقولة الأصولية (إدراكُ الشيء فرعٌ عن تصوّره)، فقد أكد البشريّ من خلالها ضرورة التركيز على مناهج النظر المشتقة من الأطر المرجعية “بما تحيل إليه من مناطق بحثية ممتدّة، وقضايا تعتبر من المستلزمات المنهجية السابقة للتعامل مع الظاهرة”.

وكذلك مقولة (وحدة تاريخ الأمة)، وهي المقولة القائمة على مفهومي الأمة والجماعة الوطنية، ما جعل البشريّ يقدم رؤية كلية للتاريخ المعاصر في مراحله المتتالية ومجالاته المختلفة من دون انقطاع، بعيدًا عن خطر النظرة القطرية التجزيئية للتاريخ الإسلامي، وخطر التبعية الفكرية للتاريخ العالمي.

تُعبر تلك المقولة عن التلاقي بين شطري المنهج (النظر والتطبيق) عند المستشار البشريّ؛ حيث إن المنهج عنده ليس مجرد عمل تنظيري فقط بل هو تعبير عن رؤية كلية وأدوات بحثية، الأمر الذي جعل حديثه عن وحدات الانتماء بمثابة المدخل للحديث عن وحدات التحليل المنهجي في دراساته.

في سياق تلك المقولات وذلك المنهج، أعاد البشريّ قراءة التاريخ ونقد مقولات المنظورات الوافدة في بعض القضايا. فعلى سبيل المثال ينقض البشريّ مقولة القوميين بأن (انهيار الدولة العثمانية حرّر العرب)، فهو أولًا يرفض ربط الفكرة الإسلامية بالدولة العثمانية كدأب القوميين، ومن ثم يؤكد أن الدولة العثمانية بها الكثير من الأمور التي تستحق الشجب، وبخاصة فيما يتعلق بفشلها في الدفاع عن الأراضي الإسلامية في مواجهة الدول الاستعمارية. وثانيًا يؤكد أنه قد صحب انهيار الدولة العثمانية تفتت العرب وتناثرهم، بل وسقوط الدولة العربية فريسة للاستعمار الغربي.

على نفس المنوال، اشتبك البشري مع محمد عابد الجابري صاحب كتاب (نقد العقل العربي)، مقررًا أولًا عدم الفصل بين ما هو عربي وما هو إسلامي في مجالات الفكر والنشاط في تاريخنا السابق؛ حيث إن العنصر العربي قد استُوعِب في الحضارة الإسلامية، كما استوعب غيره من العناصر الفارسية والتركية، مشددًا على أنه “..عندما ننظر في الحضارة العربية فإننا نكون بالدرجة ذاتها تقريبًا ناظرين في الحضارة الإسلامية”. وناقدًا ثانيًا الفصل بين التنظير والممارسة العملية عند البحث في تاريخ الفكر؛ معتبرًا أن مورد عملية البحث يجب أن يشمل مؤلفات المفكرين إلى جانب حركة المجال الاجتماعي الذي ينشط فيه هذا الفكر، مؤكدًا وجوب استشراف حركة الواقع وأساليب التعامل ووجوه النشاط، حتى نستخلص منها ما تكشف عنه من مفاهيم وقيم وأفكار.

خامسًا- المشروع الفكريّ

استعرض “الشيخ” ثمانية مرتكزات أو أعمدة أساسية يقوم عليها البناء الفكري للمستشار البشريّ:

  • الاستقلال الوطني:

يمثل أحد أهم المرتكزات الأساسية في فكر البشريّ، سواء قبل المراجعات الفكرية أو بعدها، إلا أن المراجعات أكدت على جوانب الهوية والاستقلال الحضاري الذي يشكل الإسلامُ أساسَه، بعد ما كان الاستقلال في جوانبه السياسية والاقتصادية هو الشغل الشاغل بالنسبة له قبل المراجعات.

  • ثنائية الموروث والوافد:

يعتبر المؤلف أن “الموروث” و”الوافد” من الكلمات المفتاحية في فهم جانب كبير من المشروع الفكري للبشريّ، لما أعقب صياغته لهذين المفهومين وترتب عليهما من مراجعة لكثير من المعطيات الفكرية وتقويم التجارب السياسية وحركة التشريعات والقوانين والمؤسسات في مصر الحديثة.

فالانقلاب الفكريّ الذي أحدثه طغيان الوافد على الموروث أدى إلى أكبر آفة تعاني منها المجتمعات الإسلامية والتي تتمثل في «الصدع»، «الانقسام»، و«الازدواجية»… وللتعامل مع تلك الإشكالية يقترح البشريّ الانطلاق من مسلَّمة ومشروع ترى الإسلام باعتباره “عقيدة، ورباطا سياسيا، وثقافة كاملة مستوعبة محيطة لمناحي التعبير والنشاط الذهني، وللنظم والسلوك الفردي والاجتماعي”.

  • ثنائيّة الثابت والمتغيّر:

حتى ينعتق البشريّ من أسر الإسلاميين الأثريين المقدسين للموروث والعلمانيين المتشددين الذين يعتبرون أن مجرد الحديث عن الموروث من قبيل الرجعية، عمد إلى «‏التنظير» وليس الإغراق في سجالات ودفاع لا طائل من وراءه، منطلقًا من رسم حدود للعلاقة بين الثابت والمتغيّر بتأكيده أن الموروث ينقسم إلى ثوابت ومتغيّرات؛ حيث «أحكام القرآن والسنّة لها وضع إلهي»، والنص لا تاريخي آتٍ من خارج الزمان، وهو دائما «مثال يستمدّ مثاليّته من ذاته وليس من غيره، وهو قائد غير مقود، ووازن غير موزون». ومفرقًا أيضًا بين الشريعة والفقه من ناحية التراتب؛ فالشريعة «هي الأحكام التي وضعها الله سبحانه وتعالى لعباده، ومصدرها الرئيس هو القرآن والسُنَّة. وهي وضع إلهيّ لا يتغيّر. والفقه هو معرفة الأحكام الشرعيّة التي تتعلّق بأفعال العباد..، وهو بهذا لا بُدّ من أن يساير مقتضيات الحياة المتغيّرة، ويتمشّى مع الحاجة البشريّة في إطار الدين».

  • بناء التوافقات والجسور (التيار الأساسيّ):

يحدّد البشريّ مكونات التيار الأساسي للأمة المصرية بأربعة تيارات، ويرى أن كل تيار له ميزة:

  • التيار الإسلاميّ: يؤكد أهمية فكرتَي «المرجعية» و«الجامعة السياسيّة» مع تقديم الأولى على الثانية.
  • التيار القوميّ: يُشدّد على فكرة «الجامعة السياسيّة» وحدها.
  • التيار الليبرالي: يركز على الجانب الاقتصادي من دون إهمال الجانب السياسي ذي الصلة الوثيقة بقضيّة نظام الحكم.
  • التيار الاشتراكي: يركز على الجانب الاجتماعي مُعمِلًا أدوات تحليل تعلي من شأن الصراع الطبقي كمدخل لفهم تحولات الطبقات الاجتماعية، مشددًا على أهمية توزيع الثروة والانتصار للطبقات الفقيرة([7]).

ويرى البشريّ أن الغرض ليس مجرّد التعايش بين تلك التيارات، بل ضرورة إيجاد صيغة للتلاقي وإقامة الجسور لتحقيق هدف أساسي يتعلق بتكوين التيار السياسيّ الحضاري الغالب في أمتنا؛ وهو الأمر الذي يلزمه وجود درجة من التقبل الفكريّ العام من كلّ من هذه التيارات تجاه الآخر، ولا يتحقّق ذلك إلا بالجدل والحوار بين التيارات الفكريّة ذات الغلبة في المجتمع، وخاصة التلاقي حول «المسألة الوطنية أو الاستقلال الوطني» باعتبارها عنوانا جامعا منظِّما لجهود تلك التيارات ومؤطرا لجدالاتها الطويلة المضنية.

  • مركزية التحدِّي الغربيّ:

يولي البشريّ اهتمامًا كبيرًا للتحديّات الخارجيّة التي واجهت العالم الإسلامي عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، معتبرًا أنَّ «أهم ما يواجه العالم العربي الإسلاميّ يرد من المواجهة التاريخيّة بين أصول الحضارة العربية الإسلاميّة التي سادت حتى بدايات القرن التاسع عشر من دون منازع، وبين الحضارة الغربية التي وفدت مع تغلغل النفوذ الغربيّ السياسيّ والاقتصاديّ والعسكري». واهتمَّ في الوقت نفسه بأنماط الاستجابة لتلك التحديات، سواء على صعيد الفكر أو الحركة أو المؤسّسات والتنظيمات. وأحد المنطلقات الفكريّة التي سعى لتأكيدها هو أنَّ الاستجابات المختلفة تعكس طبيعة الظرف التاريخي: زمانًا ومكانًا، ومن ثم فإنّ تقييم هذه الاستجابات لا يمكن أن ينفصل عن «فقه الواقع».

ويرى “الشيخ” أنَّ من التقاطعات المهمة التي يرصدها المستشار البشري بين حركتَيْ الإصلاح والاستقلال أنّ استيراد الدولة المركزيّة كشكل للتنظيم السياسي بدا كما لو كان عملًا إصلاحيًا لكنه كان في الحقيقة تمهيدًا قويًا للنفوذ الأجنبي.

  • العلاقة بين العروبة والإسلام:

رأى البشري أن الصدع الكبير بين التيار الوطنيّ العلمانيّ والتيار الإسلامي من أخطر الانقسامات التي تعاني منها الحركة الوطنية في الأقطار العربية، مرجعًا ذلك إلى قيام دول التحرّر الوطني خلال العقود الماضية “بإبعاد شبه كامل للتيار الإسلاميَ الوطني، وصارت العلاقة بين التيارين تتجاوز حدود القطيعة وصولًا إلى الغربة والوحشة، وتتجاوز حدود الخصام إلى العجز عن الفهم”. ولفت النظر إلى الخلل في تقدير المشاكل السياسيّة التي تواجه الجماعة العربيّة؛ حيث الاهتمام بأوضاع الأقليّات الدينيّة وغير العربيّة، بينما يتم تجاهل الصدع الكبير بين «الوطنيّة العلمانيّة» و«الوطنيّة الإسلاميّة».

ولرأب هذا الصدع قدَّم البشريّ إطلالة تاريخيّة جغرافية لإبراز المشترك بين العروبة والإسلام، بادئًا بتفكيك النظرة العلمانية إلى الآخر، آملًا أن يعيد من أسماهم «العلمانيّون الوطنيّون» النظر إلى أنفسهم وإلى غيرهم وفق عدد من المعايير، منها الثابت والنابت، الأرجحيّة العددّية والتصدّي للتحديّات، وهي المعايير التي سوف توصلهم إلى أنهم لا يملكون مفاتيح الصواب ولا موازين الحقّ.

وحذر من ظاهرة تأثير الصدامات السياسيّة على المواقف الفكريّة، التي من مظاهرها غلق الحدود الفكريّة بين الأطراف المتحاربة، ومنع تسرّب أفكار كل طرف إلى الطرف الآخر، فيصير الحديث المتبادل تراشقًا بالأفكار على الجانبين، وبدلًا من أن ينصرف الجهد إلى البحث عن مجالات الالتقاء والتقارب، يصير التفتيش عن وجوه الخلاف والتركيز عليها باعتبارها الحدود الفاصلة.

  • حتمية التجديد الفقهي:

ينقل المؤلف توصيف البشريّ للواقع القانوني وإشكالياته خاصة فيما يتعلق بمسألة أزمة التجديد الفقهي التي تزامنت مع الضربة التي وُجِّهت لتطبيق الشريعة الإسلاميّة منذ سنة ١٨٧٥، والتي كان لها بالغ الأثر في الجمود الفقهي. وكذلك رصده تطوّر الاستجابات الفكريّة عبر موجات من الفكر والإصلاح، جاءت كلٌ منها استجابةً لتحديات ظرف تاريخي خاص. كانت الموجة الأولى من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، وصاحبتها موجة إصلاح مؤسّسي على نحو أفرز انفصاما بين الحركتين. أما الموجة الثانية بروافدها المختلفة فكانت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن العشرين، وجاءت استجابة لتحدّيات الغزو الأوروبيّ الذي أمسك بمنطقة قلب العالم الإسلامي وتراوح تغلغله من الاحتلال العسكري إلى الهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصاديّة إلى النفوذ الفكريّ والثقافيّ.

وقد رصد البشري -في هذا الإطار- ظاهرة غاية في الخطورة، تتمثل في “الغزو التشريعيّ الغربيّ”، مستعرضًا إصدار الخديوي إسماعيل قرارا بتعريب مجموعة من القوانين الفرنسية، وإنشاء «مدرسة الإدارة والألسن» لدراسة الشريعة الإسلاميّة، والقانون المدني للدول الأوروبيّة والقانون الطبيعي الروماني، والقانون التجاري، وقانون التجارة البحري والمحاسبة التجارية، وقانون المرافعات المدنيّة والتجاريّة، وقانون العقوبات، وقانون تحقيق الجنايات، فضلًا عن اللغات: العربيّة والتركيّة والفارسيّة والفرنسيّة والإيطاليّة واللاتينيّة». ودلالة ذلك –في نظر البشري– تتمثل في سعي الحكومة لإنشاء المحاكم المختلطة وإعداد من يساهم فيها من المصريين في تلك الكلية، وأن تمويه اسم كلية الحقوق إلى «مدرسة الإدارة والألسن» يُوضِحُ سعي السلطة لاستنبات الفكر القانوني الغربي في البيئة المصرية دون مواجهة أي مقاومة من قبل الأزهر وعلمائه([8]).

  • تقويم مسار الحركة الإصلاحية:

يرى الشيخ أن المستشار البشريّ ميّز بين نمطين من الحركات الإسلامية تواجهان حصارًا وتضييقًا شديدين، رغم التفاعل المختلف لكلٍ منهما مع الواقع؛ حيث جاء رد الفعل في إحداهما عنيفًا وحادًا (مثل فكر أبي الأعلى المودودي)، وجاء في الثانية في شكل الانتشار بالتسرب العقدي الهادئ، والبعد عن الاحتكاك المباشر مع الخصوم، والابتعاد عن الجوانب السياسية ونظم الحياة والشرائع، والتركيز على الجانب العقدي الإيماني والتعبدي (مثل سعيد النورسي في تركيا، وجماعة التبليغ في الهند). ويعتبر البشريّ أن تلك الاستجابات المختلفة للحركة الإصلاحية جاءت متوافقةً مع الظرف التاريخي والتحديات التي طرأت أمام كل منها.

ويقسم البشريّ تيارات الإصلاح التي تصدّت لمشكلات البيئة الإسلاميّة إلى «ما هو ضال وفاسد، وما هو مستجيب للمشكلات الحقيقة والتحدّيات الأساسيّة للواقع الإسلامي»، مشددًا على أن وجه الضلال في الإصلاح يكون في تغافله عن أهم خصائص الدعوة الإسلاميّة الإصلاحية، المتمثلة في الاستجابة المناسبة لما يعرض من تحديات. ومن أمثلته: «أحمد خان» السياسي الهندي؛ لأنه كان يسعى لتذويب الشعوب في مستعمريهم، ولأنه أخضع الإسلام والقرآن لما سمّاه «العقل والعلم الحديث، وجعلهما محكومين بهذين الأمرين، وليسا حاكمين»، وكذلك كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق.

أما الإصلاح الرشيد فمن أمثلته جمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال؛ حيث ربط الأفغاني بين الإسلام وحركة مقاومة الغزو الاستعماري، وأقر إقبال مسألة واحديّة الدين وشؤون الدنيا، وواحديّة الجماعة والفرد، وعمل على أن يجنّب الجماعة الإسلاميّة تلك الثنائيّة التي تُقيم التعارض وتُقيم الصراع بين جوانب حياتنا المتعدّدة.

خلاصة نقدية

لقد أسهب الكتاب في تتبع ما تم تأليفه عن/ ومن قِبَل المستشار البشريّ، وسلط الضوء على عددٍ من مقولاته المنهاجية التي أعاد البشريّ على أساسها قراءة التاريخ ونقد مقولاته خاصة الوافدة منها. كذلك استطرد في عرض مرتكزات محورية قام عليها البناء الفكري للمستشار البشريّ. هذا الجهد أتاح مقدارًا كبيرًا من المعلومات التي مثلت تراكمًا معرفيًا معتبرًا حول نشأة البشريّ وتكوينه الفكري والثقافي ومراجعاته ومنهجه ومشروعه الفكري.

من جانب آخر، تظل منهجية الكتاب القائمة على التجميع دون النقد والتعقيب تصِم الكتاب بالضعف في بعض النواحي النظرية، لذلك نقدم هنا بعض الملاحظات كتعقيب عام على الكتاب:

أولًا: ملاحظات شكلية:

  • جاء الكتاب نتاج تجميع وترتيب لمجموعة من الدراسات التي نشرها باحثون آخرون عن المستشار البشريّ، ما أدى إلى تكرار في الأفكار الواردة في الكتاب خاصة فيما يتعلق بمسألة التحولات الفكرية التي أفرد لها الباحث ثلاثة فصول من الكتاب.
  • تفاوت الصياغات عبر فصول الكتاب؛ ففي حين نجد أن الفصلين الأول والثاني اللذين تناولا مسألتي النشأة ومصادر التكوين الثقافي والفكري جاءت لغتهما يسيرة؛ لرجوع المؤلف في كثير منهما إلى دراسة الدكتور إبراهيم البيومي غانم “معالم في سيرة طارق البشري”، فإننا نجد أن الفصل الثالث لغته شديدة الصعوبة ومعقدة الصياغات؛ لاعتماد الباحث على كتابات للمستشار البشري والدكتور العوا في مسألة التفسير القانوني والاجتهادات التي أضافها البشري في بعض القضايا.
  • وجود بعض الأخطاء المطبعية، خاصةً في جزء مهم من الدراسة متعلق بالمنظومة القانونية وكذلك التيار الأساسيّ للأمة، الأمر الذي استدعى الرجوع للمصادر الأصلية التي نقل عنها لاستجلاء بعض الأفكار.

ثانيًا: ملاحظات موضوعية:

  • على الرغم من المادة الغزيرة التي أتيحت للباحث، فإنه لم يعمل على توظيفها بالشكل الذي يُظهِر هويته وبصمته البحثية ويضيف إلى تلك المادة، بل إننا وجدناه عبر صفحات الكتاب يجمع تلك المادة ويرتبها ويضيف إليها كتابات أخرى خارج نطاق الدراسة، فعلى سبيل المثال في الفصل الثامن استطرد وأطال في عرض إشكالية التحيز في مناهج البحث الغربية فيما يقرب من 40% من حجم الفصل.
  • عدم وجود منهج واضح وأسئلة بحثية محددة للكتاب، من قبيل: هل كان المستشار البشريّ يمتلك شخصية المفكر/ المصلح القادر على مواجهة مشكلات عصره؟ وما هي رؤيته للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية التي واجهها خلال مسيرته الفكرية؟ … تلك الأسئلة والانضباط المنهجي كانت كفيلة بأن تعصم الباحث من الاستطراد والتكرار الذي لا طائل من وراءه.

_________________

الهوامش

[1] أسسه مجموعة من رجال الدين والأساتذة الجامعيين الشيعة بقيادة رجل دين إصلاحي لبناني من أصل إيراني (الشيخ نجف علي ميرزائي)، بغرض نشر كلاسيكيات الفكر الإسلامي الشيعي والسُنِّي بالإضافة إلى البحوث والنظريات الغربية حول الحضارة الإسلامية، وتحفيز التعاون الفكري، مستهدفين من وراء ذلك بناء نظرية سياسية إسلامية قائمة على الجهد البحثي والأبعاد التنظيرية لا ترفض النماذج الغربية ولا تجعلها مثالية.

يمكن الاطلاع على مزيد من المعلومات حول المركز في:

Natalie Smolenski, Intellectual Pan-Islamism and the New Islamic Civilization: The Reformist Vision of an Islamic Publisher in Beirut, academia, 2011, Available at: https://cutt.us/WCERo.

[2] صفحة تعريف المركز، على موقع دار الأمير للثقافة والعلوم، متاح على الرابط التالي: https://www.daralameer.com/pagedetails.php?pageid=27\

[3] من حوار أجراه الباحث مع المؤلف في 8 مايو 2022.

[4] وهو أديب وشاعر ومؤرخ، وصاحب كتاب (أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه).

[5] إلى جانب التفسير الذي يتعلق بالنظر في عبارات النصّ وفق الأساليب المعروفة لاستنباط الأحكام في أصول الفقه، هناك أداتين أخريين؛ هما التركيب: ويعني جمع الأحكام المستفادة من كل لفظة أو عبارة، ووضعها في نسق قانوني واحد لإدراك المعنى الأصيل المقصود من إعمالها معًا، والتأصيل وهو رد الأحكام القانونية إلى أصول جامعة؛ تظهر هيكل النظام القانوني وتحدد معالمه.

[6] من بين هذه التقارير:

أ- مدى جواز إعادة تعيين عامل فلسطيني في وظيفته السابقة.

ب- تقرير بشأن فرض الحراسة على ملكية مواطن وأثر الحراسة والوفاة على تطبيق أحكام الإصلاح الزراعي.

ج- اجتهاد بشأن العلاقة بين الحق في التعبير والثوابت الدينية.

[7] تم إسقاطه في نص الكتاب، الأمر الذي دعانا إلى العودة إلى كتاب المستشار البشري الذي أحال الكاتب إليه وهو: طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى 2008)، ص 12.

[8] راجع: طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996)، ص 17.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى