عام على إدارة بايدن: تحليل وتقييم السياسات تجاه العالم الإسلامي

مقدمة:

يشهد العالم تغيرات كلما شهد البيت الأبيض إدارة أمريكية جديدة، فهذا عام من إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، تخللته أحداث كثيرة شهدتها الساحة الدولية وصراعات في أكثر من بقعة في العالم، فضلا عن تنافس حادٍّ بين القوى العالمية على الهيمنة الدولية تجعل الولايات المتحدة تترصَّد ذلك وتسخِّر له كافة الأدوات. لقد أتى الرئيس بايدن إلى البيت الابيض حاملا معه خطة ووعودا شهدتها حملته الانتخابية على مرأى ومسمع العالم، رافعًا شعار “لقد عادت أمريكا”، في إشارة إلى أن سياسة “أمريكا أولا” الذي رفع شعارها سلفه الرئيس دونالد ترامب قد ولَّت، وأن القيادة الأمريكية للعالم سوف تستعيد قواها من جديد، وفي هذا السياق تمثل أحداث هذا العام والتفاعل الأمريكى معها مادة بحث لتقييم سياسات بايدن ومدى تنفيذه لخطته وتبنيه لشعاره.

ومن ثم يأتي هذا التقرير ليسلط الضوء على سياسات بايدن نحو العالم الإسلامى خاصة، والذي تتعامل معه الولايات المتحدة الامريكية وفق ركائز وأسس وعقيدة معينة؛ حيث يسعى هذا التقرير للإجابة عن مجموعة من الأسئلة تدور حول موقع العالم الإسلامي من أجندة بايدن، وهل يمثل أولوية عليها؟ وما هي أولويات بايدن نحو العالم الإسلامي؟ وما التغيرات التي ستطرأ على سياسة الولايات الخارجية في التعامل مع العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط في ظل مستجدات الواقع المتمثلة في جائحة كورونا والقضايا الداخلية الأمريكية، وصعود الصين وروسيا كقوى دولية تنافس على الهيمنة العالمية ورغبة الولايات المتحدة في تحجيم حجم التدخل العسكري المباشر وتداعيات ذلك على استراتيجية مكافحة الإرهاب ودعم التحول الديمقراطي في العالم الإسلامي؟

أولا- تراجع موقع العالم الإسلامي لدى إدارة بايدن

في الغالب يسعى كل رئيس أمريكي جديد مع بداية إدارته إلى إحداث تحولات في السياسة الخارجية لإدارته، لا سيما إذا كان من حزب مختلف لسلفه. ومن هنا كانت حملة بايدن الانتخابية تنبئ عن إحداث تغييرات في مقاربات السياسة الخارجية الأمريكية؛ بالعودة مرة أخرى إلى المحددات والرؤى التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية بعد أربع سنوات من تبني إدارة ترامب سياسة خارجية تتعارض مع القيم والمبادئ التي حكمت السياسة الخارجية الأمريكية لقرابة سبعة عقود. وفى هذا السياق جاء في خطة بايدن التي أعلنها أثناء حملته الانتخابية أنه سوف يعمل على إنهاء أربع سنوات من السياسة الانعزالية للولايات المتحدة خلال إدارة ترامب تحت شعار “استعادة القيادة الأمريكية”؛ إذ يرى بايدن أن استراتيجية “أمريكا أولًا” التي حكمت السياسة الخارجية لإدارة ترامب جعلت “أمريكا وحدها”، خاصة بعد رفض ترامب للتعددية الدولية وإضعافه للتحالفات والشراكات الأمريكية، وتقويضه معايير حقوق الإنسان، وشنِّه حربًا على مؤسسة السياسة الخارجية داخل حكومته، ومهاجمة إجماع الحزبين السابق على أن الولايات المتحدة لديها واجبٌ فريد لقيادة نظام دولي قائم على تعزيز الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون[1].

وفى هذا السياق يتبين من رؤية بايدن أن هناك اختلافا في السياسة الخارجية الأمريكية المتبناة نحو العالم الإسلامى عن تلك التي شهدتها خلال إدارة الرئيس ترامب لكونها حسب رؤية الديمقراطيين مثلت قطيعة مع السياسات الأمريكية التقليدية تجاه المنطقة، فضلًا عن أنها -بحسب تقديرهم- أخفقت في حماية الأمن القومي والمصالح الأمريكية بالمنطقة، وزادت من حدة انعدام الاستقرار والأمن الإقليمي بالشرق الأوسط، وتعقيد أزماته وتحدياته.

على الرغم من هذه الخلفية التي تشكل رؤية إدارة بايدن فإن هناك تراجعا لأهمية منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامى بالنسبة للولايات المتحدة بشكل أو بآخر ويرجع ذلك لمجموعة من الأسباب، يأتي في مقدمتها انخفاض أهمية نفط المنطقة لواشنطن، وتراجع مركزية الشرق الأوسط في منظومة الأمن القومي الأمريكي، وذلك في ضوء إعادة ترتيب أولويات ومصالح الولايات المتحدة عالميا؛ التركيز على التحدي الذي تمثله كل من روسيا والصين باعتبارهما خصميْن استراتيجيين للولايات المتحدة، يسعيان لإحداث تحول في الوضع الدولي الراهن لخدمة مصالحهما وأهدافهما الاستراتيجية، هذا إلى جانب تحالفهما لتحدي الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي الحالي[2]. هذا بالإضافة إلى أن واحدة من أهم المصالح الأمريكية المحركة لسياستها الخارجية نحو العالم الإسلامى والشرق الأوسط وهو ضمان أمن إسرائيل، لم تعد مهددة بشكل كبير من قبل أي دولة عربية أو إسلامية لها تفوق عسكري نوعي على كل جوارها، خاصة أن إسرائيل أبرمت معاهدات سلام مع العديد من الدول العربية وهناك درجة من التنسيق الأمني ​​بينها[3].

هذا التراجع الذي يشهده العالم الإسلامى على أجندة الإدارة الديمقراطية الجديدة، يتجلى في صور متعددة؛ يتمثل أولها في أن أول خطاب شامل للرئيس جو بايدن عن أولويات السياسة الخارجية لإدارته بوزارة الخارجية الأمريكية في ٤ فبراير الماضي، لم تتصدر محاوره قضية من قضايا العالم الإسلامي العديدة، اللهم إلا قضية الحرب في اليمن، والتعهد الأمريكى بإنهاء الدعم لقوات التحالف العربي، وثانيها أن الرئيس جو بايدن خلال أول شهر له في البيت الأبيض لم يُجرِ اتصالاتٍ هاتفية بأي من أبرز قادة وزعماء حلفاء الولايات المتحدة من دول العالم الإسلامي[4]؛ وذلك بعكس أوباما الذي اختار الحديث إلى العالم الإسلامي في أشهره الأولى من الحكم من قلب القاهرة في يونيو عام 2009[5]. ويتعلق ثالثها بتراجع اهتمام مؤسسات صنع القرار الأمريكى بأزمات العالم الإسلامى، حيث قلَّص مستشار الأمن القومى جيك سوليفان حجم الفريق المخصص للشرق الأوسط بمجلس الأمن القومى وعزز في المقابل الفريق الذي ينسق السياسة الأمريكية تجاه منطقة المحيطين الهندى والهادئ، كما أن اختيارات وزير الدفاع الأمريكي، الذي تعهد بمراجعة القوات الأمريكية المنتشرة حول العالم ومنها الموجودة في المنطقة، تكشف عن أن العالم الإسلامى لم يكن من أولويات بايدن القصوى عندما عين ثلاثة مستشارين خاصين في قضايا رئيسية تمثلت في: الصين، وفيروس كوفيد-19، والمناخ.

وهذا يعكس تحول بوصلة الاهتمام الأمريكى خارجيًّا، إلى مناطق استراتيجية أخرى حول العالم أكثر أهمية للمصالح والأمن القومي الأمريكي؛ لتأتي منطقة الشرق الأوسط في مرتبة تالية لآسيا الباسفيك ضمن استراتيجية “التحول نحو آسيا”، نظرًا لتراجع المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة في ظل توافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومؤسسات صنع القرار الأمريكى على أن القضايا التي تتطلب الاهتمام الأمريكى قد تغيرت مع عودة المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، هذا بالإضافة إلى الرغبة الأمريكية، الرسمية والشعبية، في عدم الانجرار بشدة في قضايا وأزمات تستنزف الطاقات والموارد الأمريكية، وإعادة تخصيصها لقضايا وتحديات عالمية أكثر إلحاحًا[6].

ولا يعني تراجع أهمية العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط على سلم أولويات إدارة بايدن  الإغفال التام لقضايا المنطقة؛ حيث كشفت تصريحات مستشاري الرئيس الأمريكي جو بايدن أن أهم أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، تتمثل في: إيران وبرنامجها النووي وإنهاء الحروب في اليمن وليبيا، وتعزيز وضع حقوق الإنسان.

إيران وبرنامجها النووي

يضع بايدن التهديد التي تمثله إيران وبرنامجها النووي وإنتاجها للصواريخ الباليستية ضمن أولوياته، فمنع إيران من امتلاك سلاح نووي هو جزء من سياسة الولايات المتحدة لمنع الانتشار النووي في العالم؛ حيث ترى الولايات المتحدة أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيفتح الباب للتسلح النووي في المنطقة، كما أنه سيزيد من احتمالات نشوب صراعٍ مسلَّح بين القوى الإقليمية؛ ومن ثم يحاول بايدن استعادة الاتفاق النووي الذي تم توقيعه بين الولايات المتحدة وطهران في 2015 في ظل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما والذي قوَّضته إدارة الرئيس ترامب. وفي هذا السياق يستخدم بايدن الأدوات الدبلوماسية مع طهران على عكس سلفه الذي اعتمد سياسة الضغوط القصوى بدلا من الدبلوماسية بعد الانسحاب الأمريكى من الاتفاق في مايو 2018 وما ارتبط بذلك من عقوبات اقتصادية على إيران فشلت في أن تخضعها للإاردة الأميريكية؛ حيث تحملت إيران العقوبات ولم ينعكس ذلك على سياساتها، وهذا ما يعيه بايدن جيدًا؛ ومن ثم فهو يحاول المواءمة بين الدبلوماسية والحفاظ على قدر من العقوبات الاقتصادية أيضا.

وفي هذا السياق يعمل بايدن في اتجاهيْن، حيث يحاول أن يستمر في التفاوض، وفى هذا الإطار جرت سلسة من المفاوضات فى فيينا وعلى الرغم من الرفض الإسرائيلي لهذه المفاوضات حيث ترى إسرائيل أن طهران سوف تسعى بشكل حثيث للوصول للسلاح النووي، وتستخدم مظلة المفاوضات للتضليل والخداع حتى تحقق أهدافها العدوانية ومن ثم يجب وقف هذه المفاوضات واتخاذ إجراءات صارمة إلا أن بايدن مازال يستأنف المفاوضات بهدف العودة للإتفاق النووى من جديد[7]، كما انه يسعى لإرسال بعض الرسائل الإيجابية لطهران مثل: إلغاء تصنيف ميليشيات الحوثي منظمة إرهابية مما يدعم التفاوض معها، ولكن على الصعيد الآخر، قامت إدارته بقصف مواقع لميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، وذلك في إطار الردّ على هجمات وكلاء إيران على القواعد الأمريكية في العراق، وأوضحت الإدارة الأمريكية أنه على الرغم من نهجها الدبلوماسي إلا أنها لن تتردد في استخدام القوة عندما يكون هناك اعتداءات، ومن ثم يمزج بايدن بين دبلوماسية أوباما وسياسة الضغط التي تبناها ترامب في هذا الشأن[8].

اليمن وسوريا وليبيا

أما فيما يتعلق باليمن فقد قامت إدارة بايدن بتعيين الدبلوماسي تيم ليندركينغ مبعوثًا خاصًا لليمن وصرحت علنًا أنها تنهي دعم الولايات المتحدة لـ”العمليات الهجومية” التي ينفذها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، وفي هذا السياق قام ليندركينغ بعدة زيارات إلى اليمن في إطار جهوده لإنهاء القتال، ومع ذلك، فإن هذه الجهود السياسية لم تحقق جدوى حقيقية في إنهاء الصراع. وكذلك الأمر في سوريا؛ ففضلا عن قيام الولايات المتحدة ببعض الجهد الدبلوماسي لتجديد آلية المساعدة الإنسانية عبر الحدود لسوريا لمدة عامٍ إضافي، إلا أنه لم يحدث أي تغير استراتيجي حقيقي فما زال الانقسام قائما. وعلى الصعيد الليبي عينت إدارة بايدن السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند مبعوثًا خاصًا لليبيا، بينما شارك وزير الخارجية أنطوني بلينكين في مؤتمر برلين الثاني حول ليبيا، حيث أعاد المؤتمر والمناقشات الثنائية اللاحقة التأكيد على الدعم الأمريكي والدولي للانتخابات الوطنية التي يفترض أن تجري في حين أن المرتزقة الأجانب لم يغادروا البلاد بعد، على النحو المنصوص عليه في شروط اتفاق وقف اطلاق النار لعام 2020، فإن عناصر أخرى -مثل إعادة فتح الطريق الساحلي بين مدينتي مصراتة وسرت- قد مضت قدمًا[9].

إن هذه السياسة التى تتبعها إدارة الرئيس جو بايدن نحو الملفات الثلاث وتحجيم التدخل تدل على غلبة المرونة –وربما قلة العناية- على التصلب أو الإصرار في الموقف الأمريكي في الملفات حتى الآن، فرغم الموقف الأمريكي فقد تجاوزه الطرفان في اليمن ولم يقفا عنده واستمر التحالف في ضرباته مع تبريرها والحرص خطابيا على مشروعه وفق الاتفاق مع الحكومة الشرعية، وكذلك رغم الموقف المبدئي الرافض لاستمرار بشار الأسد رئيسا أو الانفتاح عليه، فإن الموقف الأمريكي من الانفتاح الإماراتي والأردني كان ضعيفا؛ ما يدل على عدم أولوية هذا الملف. ويمكن تطبيق الأمر ذاته على الملف الليبي، خاصة مع عدم الإشارة الأمريكية إلى الحضور الروسي في الملفين السوري والليبي وعدم ظهور محاولة لإخراج روسيا منهما؛ بينما تتصاعد الضغوط الأمريكية على الوجود الروسي في البحر الأسود وفي حدود أوروبا الشرقية سواء في موضوع اللاجئين بين بيلاروسيا وبولندا، أو الأزمة الأوكرانية، مما يجعلنا نطرح سؤالا حول ما إن كانت الأوضاع الجيواستراتيجية في مناطق معينة تحيط بالعالم الإسلامي هي المحرك الأبرز حتى الآن للسياسة الأمريكية الجادة وذات الأولوية؟. وعلى الرغم من هذا الانخراط البسيط والنسبي في قضايا المنطقة يظل هناك تساؤلات حول سياسة بايدن في التعامل مع بعض القضايا الأساسية الكلية التي تمثل ركائز في السياسة الأمريكية الخارجية نحو العالم الإسلامي؛ كالاستمرار في مكافحة الإرهاب وكيفيته، ودعم الولايات المتحدة للتحول الديمقراطي وكذلك التدخل العسكري في المنطقة ونسبته خاصة بعد الانسحاب النهائي من أفغانستان أغسطس الماضي.

ثانيا- أولويات إدارة بايدن تجاه العالم الإسلامي

1- بايدن وقضية التحول الديمقراطي في العالم الإسلامي

برز موضوع الإصلاح الديمقراطى في العالم الإسلامى بعد أحداث 11 سبتمبر بوصفه إحدى الأولويات التي تسعى الولايات المتحدة تحقيقها في المنطقة؛ حيث جعله الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن أحد أهداف سياسته الخارجية؛ انطلاقًا من فكرة أن التحول الديمقراطي سيجفف منابع الإرهاب والتطرف وأن الإرهاب نتيجةٌ لغياب الديمقراطية في العالم الإسلامي، وفي هذا السياق تزايدت التصريحات من قبل المسئولين الأمريكيين حول قضية الديمقراطية في الوقت الذي بدأت فيه الإدارة الأمريكية عام 2002 بالاستعداد لغزو العراق؛ مبرّرة ذلك بأنها تهدف إلى بناء نظام ديمقراطي على أنقاض نظام صدام حسين ضمن تأكيد الإدارة الأمريكية على حرصها على تحرير العالم العربي والإسلامي من الأنظمة الديكتاتورية ونشر الديمقراطية والحرية فيهما[10].

وفي هذا السياق تتوالى الإدارات الأمريكية على السقوط  في تناقضات يعكسها الواقع بصور شتّى بعضها يتمثل في فساد الأدوات والوسائل التي تتبعها الولايات المتحدة لدعم الديمقراطية، والبعض الآخر يتمثل في استمرار دعمها للحكومات الديكتاتورية بالتعاون معها وهو ما ظهر بتجلٍّ  في ظل إدارة الرئيس ترامب الذي عكست إدارته سياسة واقعية براغماتية لا تعرف إلا لغة المصالح؛ مما أدى إلى تشوه الصورة الأمريكية المروّج لها. وفى هذا الإطار يأتي بايدن رافعًا من جديد شعار “أمريكا قد عادت” معلنا في حملته الانتخابية أن الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان ستكون على رأس أولويات سياسته الخارجية. وفي هذا الصدد، يقول الرئيس الأمريكي جو بايدن إن العالم أمام خيارين: إما التحلّي بالقيم الديمقراطية التي يتبناها الغرب، أو تجاهلها لصالح الحكومات الاستبدادية؛ مؤكِّدا أن الولايات المتحدة تتجه نحو حقبة جديدة من الدبلوماسية لدعم قضايا الحريات وحقوق الإنسان حول العالم، وقبل ذلك وخلافا لنهج سلفه دونالد ترامب، أكد بايدن ـ-في حملته الانتخابية وفى خطاب تنصيبه- أن ملفات حقوق الإنسان ودعم عملية الانتقال الديمقراطي حول العالم ستصبح محور السياسة الخارجية لإدارته.

وفي هذا الإطار يحاول بايدن تحقيق أحد وعوده الانتخابية بعقد قمة من أجل الديمقراطية تضم أكثر من 100 دولة للمساعدة في وقف التراجع الديمقراطي وانحسار الحقوق والحريات في مختلف أنحاء العالم، وباستثناء العراق تغيب جميع الدول العربية والإسلامية عن هذا المؤتمر العالمي، وقد تم الإعلان عنه في 11 أغسطس الماضي؛ حيث أعلنت الإدارة الأمريكية عن عقد قمة افتراضية حول الديمقراطية والتي عقدت في 9 و10 ديسمبر؛ حيث أعلن بايدن أن القمة تستهدف تعزيز ثلاثة مبادئ أساسية؛ وهي: مكافحة السلطوية، ومحاربة الفساد، وتعزيز احترام حقوق الإنسان حول العالم، إلا أنه لم يمرّ سوى أربعة أيام بعد هذا الإعلان حتى حدث الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان، والذي وضع صورة الولايات المتحدة ومكانتها على المحكّ، خاصة أن خطاب الرئيس بايدن في 16 أغسطس الماضي، قد فاجأ العالم بأن الولايات المتحدة لم تكن معنية ببناء الديمقراطية في أفغانستان؛ وذلك على خلاف الحقائق التي عبرت عنها الإدارات الأمريكية السابقة[11].

وقد واجه المؤتمر نقدا واسعا وتنديدا من قبل روسيا والصين اللتين يعتبرهما بايدن أبرز الدول السلطوية حيث تم استبعادهما من القمة، ومن ثم وجهتا نقدا للولاايات المتحدة بسبب لائحة المدعوين حيث كتب سفيرا روسيا والصين في مقالة مشتركة ما ينتقدان به الولايات المتحدة بأنها تسمح لنفسها بتحديد أي دولة تعد ديمقراطية وأي دولة ليست مؤهلة لهذا؛ رافضين فكرة وجود نموذج واحد للديمقراطية[12]، خاصة أن الدول المدعوة لم تكن جميعها دولا ليبرالية تنطلق من القيم الأمريكية في نمط الحكومة أو شكل الحكم مثل العراق، وهذا مما يثير التساؤل حول أهداف بايدن الحقيقية من هذه القمة التي تعرضت لنقد كثير، خاصة بسبب ما تعرضت له الديمقراطية الأمريكية من تشوه فى ظل إدارة ترامب وبالأخص بعد اقتحام الكونجرس ووجود انقسام فى الداخل الأمريكى حول القيم الديمقراطية، مما يجعل الولايات المتحدة فى موقف لا يسمح لها بالحديث عن الديمقراطية على المستوى الدولي[13].

وفي هذا السياق، إذا أردنا اختبار حقيقة التوجه الديمقراطي للسياسة الخارجية الأمريكية نحو العالم الإسلامي في ظل إدارة بايدن، نجد أن الواقع لديه تجليات أخرى تجعل المصلحة الأمريكية ذات ثقل كبير على حساب الخطاب الديمقراطي؛ فبإعمال النظر في الدور الأمريكي تجاه ما يجري في السودان على سبيل المثال من قيام الجيش بتغييرٍ لترتيبات العملية السياسية في بلاده واعتقاله لقادة الحكومة المدنية الانتقالية وبدء العمل بقانون الطوارئ. لم يتحدث الرئيس الأمريكى جو بايدن ولا وزير خارجيته توني بلينكن ولا مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان على الهواء حول ما حدث، ولم يوجِّه الرئيس حديثًا للأمة الأمريكية أو للشعب السوداني، واستغرق الأمر خمسة أيام كاملة كي يخرج بيان رئاسي من البيت الأبيض يدعو فيه بايدن إلى إعادة الحكومة بقيادة المدنيين في السودان، وعلى الرغم من أن السودان لا يشكِّل أولوية جيو-استراتيجية لواشنطن مثل غيره من البلاد العربية والإسلامية المنتهكة لحقوق الإنسان كالمملكة العربية السعودية، والتي يعتبر فرض العقوبات عليها ذا تكلفة سياسية عالية بالنسبة لواشنطن؛ بالرغم من هذا فقد كان السودان فرصة بالنسبة لبايدن يستطيع من خلالها أن يتخذ إجراءات أكثر صرامة تعلي من شأن توجهه الديمقراطي بأن يفرض مثلا عقوبات قاسية تشمل حظر دخول قادة السودان العسكريين للأراضي الأمريكية ووقف المساعدات للسودان بكل أشكالها، وعرقلة ومنع تعامل صندوق النقد والبنك الدوليين مع الخرطوم[14]، ولكنه لم يفعل؛ مما يشير إلى أن هناك سياسة تمزج بين المثالية والواقعية السياسية تتبعها إدارة بايدن في تعاملها مع العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.

ويتجلى ذلك أيضا في موقفها من حرب اليمن وعلاقتها بالسعودية حيث سعت إدارة بايدن لانتهاج مقاربة في التعامل مع المملكة العربية السعودية وحربها في اليمن، تختلف عن ما اتبعته إدارة ترامب السابقة، وتقوم على أساس إعادة صوغ العلاقة مع المملكة بحيث تقوم على موازنة بين القيم والمصالح الأمريكية، وفى سبيل ذلك اتّخذ بايدن مجموعة من الخطوات والإجراءات، فقد صرح بايدن بشأن الحرب في اليمن أن “هذه الحرب يجب أن تنتهي، ولتأكيد التزامنا، فإننا ننهي الدعم الأمريكى كله للعمليات الهجومية في الحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة”؛ أي الأسلحة التي تستخدم في الهجوم مع استمرار تصدير الأسلحة الدفاعية، وفى هذا السياق أيضا تم إزالة الحوثيين من قوائم الإرهاب، وتم تبرير ذلك من قبل الإدارة الأمريكية بأن هذا الإجراء تم بدواعٍ إنسانية، لكن على الرغم من هذا التنديد بالحرب، إلا أن بايدن أكَّد على دعمه للسعودية التي أشار إلى أنها تتعرض لهجمات صاروخية من فصائل مدعومة إيرانيًّا. وفيما يتعلق بقضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي اتهم تقرير الاستخبارات الأمريكية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالتورط في جريمة قتله، لكن -وعلى الرغم من ذلك- لم تفرض أية عقوبات عليه، وتم تبرير ذلك من قبل الولايات المتحدة بأنها لا تفرض عقوبات على دولة تجمعها بها علاقات دبلوماسية[15].

في هذا الإطار تتضح محاولة إدارة بايدن المواءمة بين مصالحها وبين القيم التي تزعم الولايات المتحدة أنها تمثلها، فعلى الرغم من انتقاد إدارة بايدن الحرب التي تقودها السعودية في اليمن ضد الحوثيين، أكدت تعهدها بحماية الأراضي السعودية لا سيما من الهجمات التي يشنها الحوثيون عليها، وذلك لحماية دور السعودية في تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وحفاظا على أمنها القومي[16]؛ لتبقى القيم الديمقراطية حاضرة في الخطاب الأمريكى غير أن لغة المصالح تبقى هي المحرك لما يجري حقيقة في أرض الواقع، فبعض الدول قد تشهد خطابا أمريكيا ديمقراطيا يختلف في قوته وحدته عما تستقبله دولة أخرى وذلك حسب ما تقتضيه المصالح المشتركة[17].

2- كيفية الاستمرار في مكافحة الإرهاب: دلالة الانسحاب من أفغانستان

إنه على الرغم من ارتكاز الاستراتيجية الأمريكية نحو العالم الإسلامي ومنطقة  الشرق الأوسط على مجموعة من الثوابت تتمثل بالتحكم بالنفط والحفاظ على أمن إسرائيل وحماية المصالح الأمريكية الأخرى، إلا أن عالم ما بعد 11 سبتمبر أفرز استراتيجية جديدة يمكن تسميتها “بالحرب على الإرهاب”[18]، إلا أن النهج الذي اعتمدته الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب على مدى السنوات العشرين الماضية بالتدخل العسكري المباشر لم يعد مستدامًا اليوم؛ ذلك لأن قضايا الأمن الوطني والدولي الأخرى، من جائحة “كوفيد-19” إلى الاقتصاد وتغير المناخ، فرضت على الولايات المتحدة أن تولي اهتماما كبيرا لهذه القضايا وتتحمل مسئوليتها المالية(؟ أم العالمية؟). وفي هذا السياق يقول ماثيو ليفيت مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن إنه يجب على الولايات المتحدة إيجاد طريقة لتبرير نهجها في مكافحة الإرهاب، ففي ظل التزامن مع المنافسة التي تخوضها واشنطن مع القوى العظمى بقيت مسألة مكافحة الإرهاب أولوية قصوى، ولكن تم وضعها في مرتبة أدنى من الأهداف الأخرى، وهي: المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، والتهديدات الإقليمية من إيران وكوريا الشمالية. وفي حين يعتقد البعض أن الولايات المتحدة لا تستطيع الانخراط في صراعات “هامشية” متأصلة في مكافحة الإرهاب (على سبيل المثال سوريا واليمن) ومنافسة القوى العظمى في الوقت نفسه، إلا أن هذه الجهود  لم يكمل بعضها البعض، ومن هنا يتم الانتقال من مهمات مكافحة الإرهاب العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ويُمكنها الشركاء إلى المهام التي يقودها الشركاء وتمكنها الولايات المتحدة[19].

إن قرار الرئيس جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان في أغسطس الماضي بعد عشرين عامًا من الوجود العسكري الأمريكي بالبلاد يعكس استراتيجية أمريكية جديدة في كيفية الاستمرار في الحرب الإرهاب في ظل إدارة جو بايدن كما تعكس اختلافًا في الرؤية بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، الذي صاغ عبارة “الحرب العالمية على الإرهاب” وذلك في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث صاغ المعركة – ليس فقط بوصفها تحديا لإنفاذ القانون أو لمكافحة الإرهاب ولكن بوصفها صراعا بين الخير والشر، بين دعاة الديمقراطية والحرية والمساواة وبين أعدائها. ولكن هذه الصياغة لم تعد مستساغة الآن، فلقد عرف جو بايدن أن التحدي الآن يتمثل في المنافسة بين المجتمعات المفتوحة والمجتمعات المستبدة المتمثلة في بكين وموسكو، إلا أن هذا الاختلاف في التوجهات الأمريكية لا يعني التوقف عن  محاربة الإرهاب، وإنما الاستمرار سيكون على منوال آخر مختلف عن التدخل المباشر[20].

وفي هذا السياق صرح الرئيس جو بايدن في 31 أغسطس 2021 “سنواصل مكافحة الإرهاب في أفغانستان ودول أخرى دون حروب برية”؛ مؤكدا على أهمية الاعتماد على استراتيجية “العمليات عبر الأفق” أو ما تعرف بـ(over the horizon) والتي تقوم على التقنية العسكرية المتطورة وعلى رأسها الطائرات المسيرة (drones)، وهناك محاولات لتطوير الطائرات المسيرة بحيث تستطيع التعرف على الأفراد المستهدفين، من خلال ملامحهم الشخصية؛ ومن ثم قتلهم اعتمادًا على برامج حاسوبية تلقائية القرار، وليس اعتمادًا على أوامر المشغلين الجالسين خلف شاشات الحواسيب في أماكن تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن مواقع العمليات الحربية، وهذا ما حدث بعد تفجير مطار كابل عندما اغتيل المخطِّط للهجوم على المطار وكان أحد العناصر القيادية في تنظيم داعش، كما قد تشمل استراتيجية العمليات عبر الافق أيضا ضرب المواقع الاستراتيجية.

ولا يقتصر هذا التوجه على الولايات المتحدة؛ إذ يصرح بها أقرب حلفائها. ففي هذا السياق قال رئيس الأركان العامة البريطاني الجنرال مارك كارلتون سميث في 2 يونيو2021 خلال مؤتمر الحرب البرية التابع لمعهد الخدمات المتحدة الملكية: “إن الجيش المعاصر سيكون أكثر تشابكًا، وأكثر سرعة في الانتشار، وأكثر ارتباطا رقميا، مع ارتباط الجندي بالأقمار الصناعية، وهذا يعني حتما اعتمادا أكبر على التكنولوجيا الرقمية المتطورة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة (Drones) في إشارة واضحة، إلى أن الاتجاهات الناشئة عن الصراعات الأخيرة دفعت لإعادة التفكير جذريا في الأولويات الاستراتيجية.

إن الحروب الأمريكية في العراق وسوريا وأفغانستان أظهرت تراجع أهمية الحروب البرية، في ظل تزايد الاهتمام بالأنظمة السيبرانية، والطائرات بدون طيار، وغيرها من الأسلحة التي لا تحتاج إلى قوة بشرية تديرها؛ وهي الأمور التي أسهمت في طرح استراتيجية العمليات “عبر الأفق”، وفى هذا السياق وعقب انتهاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان صرح الرئيس جو بايدن في الأول من سبتمبر 2021، أن عصر التدخل العسكري لتشكيل دول أخرى قد انتهى كما أكد على ذلك وزير الدفاع الأميركي الحالي لويد أوستن، في أول خطاب له عقب بدء الانسحاب الأميركي غير المشروط من أفغانستان- أن “الحروب التقليدية استنزفت وزارة الدفاع وقد ولى عهدها”، وتعكس هذه التصريحات بدورها أن هناك اتجاهًا حقيقيًّا لمغادرة عصر التدخلات العسكرية الكبيرة في مناطق الحرب البعيدة، بالنظر إلى عدم نجاح العديد من العمليات العسكرية الكبرى؛ بما في ذلك في أفغانستان، وفي العراق الذي تشكل تجربة غزوّه سببًا كافيًا لمنع السياسيين من القيام بأي تدخُّل عسكريٍّ واسع في الشرق الأوسط لجيل كامل أو أكثر. فقد كانت عمليات الانتشار الواسعة النطاق والطويلة الأجل ذات تكلفة بشرية واقتصادية وذات ثمن سياسي كبير في الداخل الأمريكي[21].

3- الانسحاب من أفغانستان وتداعياته على التدخل العسكري

إن الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي جاء إثر دخولها ثلاث حروب خلال العشرين سنة الماضية، وجاء هذا الوجود العسكرى في سياق مصاحب لعمليات التعزيز الاقتصادي والإنساني التي زعمت الولايات المتحدة أنها تهدف إليها. الأولى كانت في أفغانستان ردًا على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، والثانية كانت في العراق في 2003 بحجة امتلاك بغداد أسلحة نووية، وبعد الفشل في إيجاد هذه الأسلحة انقلبت المهمة لإقامة دولة ديمقراطية جديدة في بلاد الرافدين، والثالثة كانت ضد الإرهاب في عمومه، خاصة ضد دولة “تنظيم الدولة الإسلامية” على الحدود السورية العراقية. وفى العام الحالي وفي ظل إدارة الرئيس الامريكى الجديد جو بايدن عزمت الدولة الأمريكية على استكمال الانسحاب من الشرق الأوسط[22]، وكان من شواهد ذلك ضعف التدخل الأمريكي في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة، حيث سعت للتواصل مع قوى إقليمية لتلعب دور الوسيط للتهدئة ووقف الحرب، مرورًا بقرار الانسحاب من العراق واقتصار تواجد قوات للقيام بمهام استشارية وتدريبية للقوات العراقية، ثم الانسحاب الكلي من أفغانستان الذي تم في أغسطس 2021؛ حيث يأتي هذا في السياق الرغبة الأمريكية لتقليص الوجود العسكري في المنطقة[23].

ومن خلال تبني نظرية “القيادة من الخلف” ينتهج بايدن ما كان يؤسس له الرئيس السابق باراك أوباما بتقليل التدخل العسكري في منطقة الشرق الأوسط وذلك تجنبا لتكرار مأزق العراق وأفغانستان، وفي هذا السياق نجد بايدن يتحرك نحو ترحيل إبقاء مسألة مكافحة الإرهاب في مقدمة الأهداف الأمريكية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، وللعالم الإسلامي مقابل أولويات أخرى مثل طمأنة واشنطن للحلفاء بالإقليم، ودعم الديمقراطية، وخفض التكاليف، هذا بجانب الهدف الرئيسي والمتمثل في تحرير الموارد اللازمة من أجل التحول الاستراتيجي للإدارة الأمريكية إلى منافس للقوى العظمى وفى مقدمتها روسيا والصين.

لقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في الرابع من فبراير الماضي أن وزارته ستقوم بمراجعة وضع القوة العالمية للبصمة العسكرية الأمريكية ومواردها واستراتيجيتها ومهامها. إذ بالسابق، ركزت “الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني” لإدارة ترامب عام 2018 على التنافس مع الصين وروسيا كأولوية قصوى؛ وهو ما يعاد طرحه الآن بالنسبة للعالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط في ظل رغبة بايدن في تحويل التركيز بعيدًا عن المنطقة، حيث تحاول إدارة بايدن المواءمة بين تحديات مكافحة الإرهاب ودعم الاقتصاد الأمريكي وذلك لمواجهة تحدي صعود الصين وروسيا كقوى دولية؛ مستندا في ذلك لمجموعة من المؤشرات؛ أهمها: انحسار تنظيم الدولة “داعش” في سوريا والعراق، وشرعنة التعاون الأمني العربي-الإسرائيلي في ظل ما عُرف بـ”الإتفاقات الإبراهيمية”، هذا بالإضافة إلى رغبة الرئيس بايدن في تخفيف التوترات مع إيران والعودة لمباحثات الاتفاق النووي؛ إذ جميعها مؤشرات تدفع الإدارة الأمريكية الحالية إلى إعادة النظر في التدخل العسكري في منطقة الشرق الأوسط وذلك بالانسحاب من مناطق الارتكاز به مع الاحتفاظ بنخبة من القوات الخاصة لدعم عمليات التدخل السريع، والاعتماد على أنظمة المراقبة والسيطرة الجوية “طائرات بدون طيار”، ودعم الحلفاء المحليين والإقليميين لموازنة تداعيات الانسحاب، ودفع القوى الدولية الأخرى لتحمل مسئولياتها بالإقليم -جنبا إلى جنب-  مع الاعتماد على سياسات مرنة ترتكز على جهود زيادة الخيارات غير العسكرية لواشنطن، مثل تعزيز الأداة الدبلوماسية، وإصلاح العلاقات مع الشركاء، وإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بالمنظمات الدولية.

ومن الآليات البديلة المطروحة أيضا لتحجيم التدخل العسكري الأمريكي: إعادة النظر في استبدال البحرية الأمريكية لعمليات “الانتشار المستمر” بعمليات انتشار أقصر وأقل توقعا، وكذلك بحث إمكانية تحويل أصول “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع” بعيدًا عن الوجود الدائم في منطقة الشرق الأوسط، والاستعانة بالقوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا بتوسيع النطاق الاستخباراتي لها، فضلا عن موازنة الخروج الأمريكي من المنطقة وخفض عمليات الانتشار الدائمة في الشرق الأوسط واستبدالها بتمارين قتالية متكررة ومتعددة الأطراف، وهو ما يستلزم بناء برامج شراكة وتدريب ومساعدة، خاصة مع الشركاء بالمنطقة؛ مثل: العراق وشمال سوريا، وبما يخدم مصالح متعددة؛ أهمها: ردع العدوان، وزيادة التعاون الإقليمي، وطمأنة الحكومات المحلية، وتعزيز قدرتها على حماية حدودها، وبالتالي تخفيف العبء الأمريكي وتحجيم الإنتشار العسكري[24].

خاتمة:

يتبين لنا مما سبق عرضه أن هناك نقاط تحول تشهدها الاستراتيجيات الأمريكية في التعامل مع العالم، ومع العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط خصوصا، فبعد سنوات من التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة لنشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب حسب المزاعم الأمريكية، يشهد العالم الإسلامي سياسات متغيرة  مع ثبات بعض الأهداف واختلاف بعض الوسائل؛ وذلك في ظل ما شهدته الولايات المتحدة من خسائر بشرية واقتصادية وسياسية نتيجة لما تبنته من سياسات التدخل المباشر، وفي ظل صعود قضايا أخرى على سلم الأولويات الأمريكية، كالتنافس المحتدم مع الصين وروسيا، والعمل على بناء أنظمة ديمقراطية مع إغفال وسائل تحقيق ذلك ومع إغفال السياقات الاجتماعية والسياسية ذات الطبيعة المختلفة للمجتمعات الإسلامية.

ومن هنا يرسم لنا هذا العام في ظل إدارة جو بايدن مؤشرات أولية لكن هامة لما ستكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية نحو العالم الإسلامي خاصة بعد الانسحاب الأمريكي الكامل من أفغانستان بعد تدخل دام عشرين عاما، حيث يتم تحجيم التدخل العسكري، مع الاستمرار في محاربة الإرهاب لكن بوسائل جديدة، والسعي إلى تقويض قوة إيران النووية؛ وذلك في ظل استراتيجية توجه قوي نحو قارة آسيا؛ مما يبقي التساؤلات قائمة ومتجددة حول ما يحمله المستقبل للنظام العالمي وأقطابه.

======================

الهوامش

[1] عمرو عبدالعاطى، السياسة الخارجية للمرشح الديمقراطي جو بايدن تجاه الشرق الأوسط: الرؤى والتوقعات، مركز الإمارات للسياسات، نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/y4Dig

[2] المرجع السابق.

[3] Mohamed Yaghi, What drives president Biden Middle East policies, Konrad Adenauer Stiftung, No.22, May 2021, available at:  https://cutt.us/LlK0v

[4] عمرو عبد العاطى، هل لا يزال الشرق الأوسط يتقدم أجندة بايدن، الأهرام، 3 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/LORuy

[5] أحمد عبد الحكيم، لماذا لم يتواصل بايدن بعد مع حلفاء بلاده في الشرق الأوسط؟، الإندبندنت، 14 فبراير 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Z2Nqi

[6] عمرو عبدالعاطى، هل لا يزال الشرق الأوسط يتقدم أجندة بايدن، مرجع سابق.

[7] محمد بدر الدين، دراما الملف النووي الإيراني في سياق تاريخي،الاندبندت العربية،  11 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/0uenP

[8] خالد هاشم، سياسة بايدن في الشرق الأسط بين المثالية الواقعية، مرجع سابق.

[9] Brian Katulis and Peter Juul, Seeking a New Balance for U.S. Policy in the Middle East, Center for American progress, 7 September 2021, available at: https://cutt.us/67aIw

[10] وائل محمد إسماعيل، الولايات المتحدة الأمريكية وموقفها من الديمقراطية في الوطن العربى، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد.33، 2011، ص ص 49-51.

[11] محمود عبدالعزيز، قراءة في مستقبل مشروع نشر الديمقراطية الأمريكية حول العالم، المركز الديمقراطى العربى، 4 أكتوبر 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/F4nFU

[12] بايدن يجمع حوالي مئة دولة في “قمة من أجل الديمقراطية” أثارت استياء الصين وروسيا، فرانس 24، 9 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/nZ153

[13] طارق فهمى، قمة بايدن الديمقراطية رسالة خاطئة للعالم، العين الإخبارية، 9 ديسمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/1DLP5

[14] محمد المنشاوي، محاولة لفهم موقف بايدن من السودان، الشروق، 4 نوفمبر 2021، متاح الرابط التالي: https://cutt.us/W9yaW

[15] خالد هاشم، سياسة جو بايدن في الشرق الأسط بين المثالية الواقعية، المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، 25 أبريل 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/rakmd

[16] المرجع السابق.

[17] President Biden’s Mixed Policies for the Middle East, Arab center Washington DC, 21 September 2021, available at: https://cutt.us/Sik12

[18] حارث قحطان، الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر، مجلة جامعة كريت للعلوم القانونية والسياسية، العدد.6، مجلد.2، 2010، ص 308.

[19] ماثيو ليفيت، إعادة النظر في النهج الأمريكي لمكافحة الإرهاب بعد عقدين على أحداث 11 أيلول/سبتمبر، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 17 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/IGGsG

[20] Mark Landler, 20 Years On, the War on Terror Grinds Along, With No End in Sight, The New York Times, 21 September 2021, available at: https://cutt.us/Wb0aZ

[21] عماد علو، مكافحة الإرهاب إستراتيجية العمليات عبر الأفق، المركز الأوروبى لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/2sGEf

[22] عبدالمنعم سعيد، ماذا بعد الخروج الأمريكى من الشرق الأوسط، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، 11 سبتمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/iKdKW

[23] عمار ياسر، تداعيات الإنسحاب الأمريكى من الشرق الأوسط، المركز الديمقراطى العربى، 12 أغسطس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fgJmN

[24] إيمان زهران، ماذا بعد الخروج الأمريكى من الشرق الأوسط؟، مجلة السياسة الدولية، 13 سبتمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Hbkux

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى