تركيا وأزمة الطاقة شرق المتوسط السياقات والتداعيات الإقليمية والدولية

مقدمة:

ارتبطت أزمة شرق المتوسط التي ظهرت مؤخرًا، منذ اكتشافات الغاز على ساحل (حوض) البحر الأبيض المتوسط في أواخر عام 2010، بالسلوك التركي في هذه المنطقة؛ فتركيا منذ علمت بهذه الاكتشافات رأت فيها فرصة استراتيجية لإعادة التوازن بين الاعتماد على مصادر الطاقة المستوردة من الخارج والمنتَجة محليًا، فمع كل اكتشاف لآبار جديدة في هذه المنطقة أخذت تتخلخل توازنات القوى السائدة المتعلقة بالأساس بترسيمات الحدود البحرية بين دول الجوار وبعضها البعض، وبينها وبين تركيا، وتقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة، وبدور تركيا وموقعها وعلاقاتها بدول شرق المتوسط، التي يمكن القول إنها فقدت آخر حليف سياسي لها في المنطقة بعد أحداث 2013 في مصر، ومعها أضحت علاقات أنقرة بكل دول جوارها في هذه المنطقة علاقة بين خصوم. بعد هذا الحدث المفصلي في المنطقة دخلت آبار الغاز حيز الإنتاج في 2015، وثبت فعلًا حجم الاحتياطات المؤكدة في هذه المنطقة.

تأكدت مع ذلك مكانة شرق المتوسط في الإدراك الاستراتيجي التركي، وعمدت تركيا بكافة السبل للتداخل في قضايا وصراعات المنطقة الدائرة، من الصراع بين القبرصيين، والأزمة الليبية، والسورية؛ سعيًا لتحسين موقعها التفاوضي وتعزيز حقوقها في اكتشافات شرق المتوسط الغازية، إن لم يكن بمنطق الحقوق القانونية وبمقتضى القانون الدولي، فمن منطق فرض الأمر الواقع.

أثارت هذه التحركات التركية عددًا من الأسئلة: ما طبيعة استرايتجية الطاقة التركية في شرق المتوسط؟ ما موقع تركيا ودورها في تفاعلات شرق المتوسط المتعلقة بالغاز؟ وكيف يمكن أن تؤثر على علاقاتها بدول الإقليم والقوى العظمى؟ وما مستقبل هذه الأزمة في ظل التغيرات التي طرأت بعد اكتشافات الغاز من تكون منتدى غاز شرق المتوسط وفوز بايدن بالرئاسة الأمريكية؟

تأسيسًا على هذه التساؤلات، ينقسم التقرير إلى ثلاثة محاور وخاتمة: المحور الأول يتناول أبرز معالم الرؤية الاستراتيجية التركية في شرق المتوسط فيما يتعلق بالطاقة، وكيف يمكن فهمها من منطلق نظريات العلاقات الدولية، أما المحور الثاني فيتناول التفاعلات التركية في شرق المتوسط وطبيعة علاقاتها مع دول الإقليم قبل وبعد اكتشافات الغاز وتداعياتها الإقليمية، أما المحور الثالث فيتعاطى مع تداعيات التحركات التركية في هذه المنطقة على علاقتها بالدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، أما الخاتمة فتحاول الإجابة عن سؤال: ماذا ننتظر في شرق المتوسط وعن دور تركيا فيه؟

أولًا- استراتيجية الطاقة التركية شرق المتوسط:

تمثل قضايا الطاقة ومصادرها قضية أساسية لدى كل دولة، وتزداد أهميتها بازدياد أهمية الدولة وقوتها، وطموحاتها في المجالين الإقليمي والدولي. ومن ثمّ أضحت للمسائل المتعلقة بالطاقة أهمية كبرى لدى الدول الصناعية، ليس لكونها أساس القاعدة الاقتصادية والعسكرية فحسب، ولكن لأهميتها في تحديد قوة الدولة ووضعها العالمي[1]. ولذلك ترتبط الطاقة بمفاهيم الأمن القومي مثلما ترتبط بمفاهيم المكانة والدور.

وتُعد مسائل الطاقة في تركيا على درجة كبيرة من الحساسية بسبب اعتماد تركيا بالأساس على استيراد 75% من احتياجات الطاقة، فتستورد ما يقرب من 98% من استهلاكها من الغاز، و90% من استهلاكها من النفط، معتمدة بصورة أساسية على استيراد 23.09% من العراق، و19.38% من روسيا، و17.32% من إيران، و40.21% موزعة على موردين آخرين.[2]

وبناءً على ذلك، وضعت تركيا أمن الطاقة كمحدد رئيس في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، وتوضح النقاط التالية أبرز معالم الرؤية الاستراتيجية التركية في مجال الطاقة:[3]

  • الاعتماد على عدد محدود من موردي الطاقة (وبخاصة روسيا وإيران) لا يحقق الاستقرار في أمن الطاقة التركي.
  • لا يمكن لتركيا أن تصبح من بين الدول العشرة الأقوى اقتصاديًا من دون أمن الطاقة.
  • أضحى تنويع مصادر الطاقة ووارداتها من عدد كبير من الدول والمناطق هدفًا رئيسًا في استراتيجية الطاقة التركية.
  • ضرورة الاعتماد على مصادر طاقة جديدة منتجة محليًا (تنويع مزيج الطاقة)، مع إضافة الطاقة النووية إلى مزيج الطاقة التركي، ورفع كفاءة قطاع الطاقة لديها.
  • نظرًا لاعتماد تركيا على استيراد الطاقة، هدفت تركيا التحول إلى مركز رئيس لتجارة الطاقة Energy HUB في منطقتها من خلال الاستفادة من حجم سوقها في الطاقة، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي.
  • أن تركيا بحكم موقعها تقع على مقربة من أكثر من 70% من احتياطات النفط والغاز المؤكدة في العالم.

 

ومن هنا جاءت اكتشافات شرق المتوسط الغازية[4] بمثابة فرصة استراتيجية بالنسبة لتركيا، ليس فقط لتنويع مصادر الطاقة بإدخال موردين جدد، ولكن لإمكانية أن تكون هي ذاتها منتجة للغاز محليًا، عن طريق الاستفادة من سواحلها المطلة على البحر المتوسط، ومن ثم تقليل حساسية أنقرة تجاه قضايا الطاقة لا سيما مع طهران وموسكو[5]. فأكدت موقعها في هذه الاكتشافات عن طريق التداخل في كافة الصراعات الدائرة في الإقليم، سواء الممتدة تاريخيًا مثل الأزمة القبرصية والصراع بين قبرص الشمالية والجنوبية، ونزاعها على بحر إيجه مع اليونان، أو التي نشأت وتطورت مؤخرًا في سوريا وليبيا؛ حيث سعت في أواخر عام 2019 إلى توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية، تحجز وتحفظ بموجبها مزيدًا من حقوق الاستكشاف والتنقيب في شرق البحر الأبيض المتوسط.[6]

ومن ثم، بدا أكثر من ذي قبل أن تركيا على بعد خطوات صغيرة تجاه تحقيق هدف تأكيد نفسها موزعًا إقليميًا لموارد الطاقة، بما سيعزز أمن الطاقة لديها من ناحية، ويعزز مكانتها الإقليمية وقدرتها على التأثير في الإقليم وأوروبا من ناحية أخرى؛ فكل خط غاز يمر عبر تركيا يمنح “أنقرة قوة تفاوضية”[7] في مقابل كافة الشركاء الإقليميين: موردين ومستوردين، ويخلق آفاقًا جديدة للدور التركي في العالم.

ويمكن مقاربة سياسة الطاقة التركية وفقًا لمعطيات نظريتي العلاقات الدولية الواقعية والليبرالية على النحو التالي:[8]

  • تركيا ترى مسائل الطاقة جزءًا من أمنها القومي، يسهم في تحقيق قوتها الإقليمية، ومكانتها العالمية. وعليه، فالطاقة بالنسبة لها مسألة بقاء، كما أنها تتحول من قوة اقتصادية إلى قوة سياسية، والعكس بالعكس.
  • فوضوية النسق الدولي تجعل تركيا قلقة بصورة دائمة من نوايا الآخرين ورغبتهم في كسب المزايا المقارنة ضدها، وهو ما يجعلها في بحث دائم عن بدائل، وتنوع مصادرها.
  • ولكن سعي تركيا للتعاون في بعض حركتها يجعل الحديث ممكنًا عن ما تقدمه الليبرالية من تفاعلات بين الدول، وعن إمكانية خلق تركيا لمواقف المكسب للجميع win-win situation.

ثانيًا- التفاعلات التركية شرق المتوسط:

شهد الربع الأخير من عام 2020 ازدياد التوترات في منطقة شرق المتوسط نتيجة اتخاذ تركيا خطوات عملية لبسط نفوذها وسيادتها الإقليمية –وفق أنقرة- من خلال إرسال عدد من سفن التنقيب عن الغاز في مناطق متنازع عليها، وهي الخطوة التي اعتبرتها العديد من دول الإقليم تهديدًا صريحًا لمصالحها القومية.

وفي محاولة لاستكشاف موقع تركيا في منطقة شرق المتوسط واحتياطاتها الغازية، نتعرف في هذا المحور على طبيعة علاقات تركيا مع جيرانها من دول الإقليم، وكيف تعاطت تلك الدول مع التحركات التركية الأخيرة.

أ- علاقات تركيا مع دول شرق المتوسط:

تعد منطقة شرق المتوسط واحدة من أكثر بؤر العالم اشتعالًا بالأزمات والصراعات والحروب، خصوصًا في العقد الأخير، ما سرّع من وتيرة ديناميكية العلاقات بين بلدان تلك المنطقة، والتغير السريع في شبكات التحالفات، ولم تكن اكتشافات الغاز سوى إضافة لهذا المشهد المعقد؛ أي أن السمة المميزة لحالة البحر الأبيض المتوسط ​​هي تعقد وشدة المنافسات الجيوسياسية التي تصاحب نزاعات الطاقة، والتي أدت بدورها إلى تصعيد الصراع –الموجود قبلًا- وترسيخه[9]، ولم تكن تركيا بعيدة عن هذه التفاعلات، وإنما كانت فاعلًا فيها بشكل أو بآخر، وذلك على النحو التالي:

  • قبرص: تاريخيًا، تربط تركيا علاقات متوترة مع جمهورية قبرص اليونانية، بسبب عدم اعتراف الأخيرة بجمهورية شمال قبرص التركية التي تسيطر على ثلث مساحة جزيرة قبرص من جهة، وبسبب مشكلة ترسيم الحدود بين الدول الثلاثة من جهة أخرى. وبالتالي فقد أثر استعصاء المشكلة القبرصية بشكل سلبي على آفاق التعاون في مجال الطاقة في المنطقة؛ حيث تتمسك تركيا فيما يتعلق باحتياطيات الغاز الطبيعي الحالية والمستقبلية للجزيرة بالملكية الجماعية وغير القابلة للتجزئة لهذه الموارد بين شطري الجزيرة, إذ ترفض إصدار أي تراخيص امتياز من قبل القبارصة اليونانيين قبل التوصل إلى تسوية نهائية بين طرفي الجزيرة: اليوناني والتركي، وهو ما أكده بيان الخارجية التركية إذ ينص على أن “الطريقة الوحيدة لاستغلال الموارد الطبيعية للجزيرة” هي “الموافقة الواضحة من الجانب القبرصي التركي فيما يتعلق بتقاسم هذه الموارد الطبيعية”.

وعلى الرغم من محاولة قبرص اليونانية استغلال حقل أفروديت في تحسين موقفها على طاولة المفاوضات مع تركيا والقبارصة الأتراك، إلا أنه يصعب عليها إيجاد مزيج مناسب من الحوافز للقبارصة الأتراك من شأنه دفعهم للتوصل إلى حل وسط من دون: أ) تعريض سيادة قبرص اليونانية للخطر، أو ب) الاعتراف قانونًا بـ”الجمهورية التركية لشمال قبرص”، أو ج) تجميد اكتشافاتها في حال كان التوصل إلى حل وسط مع القبارصة الأتراك مستحيلًا. إلا أن هذا التوازن الدقيق يمكن أن يكون مهمة مستحيلة لجمهورية قبرص اليونانية؛ إذ إن سياسات جمهورية شمال قبرص التركية متطابقة تمامًا مع سياسات تركيا في هذا الشأن، بالإضافة إلى رفض الأحزاب القبرصية بالإجماع جميع مطالب القبارصة الأتراك في ظل عدم وجود حل لمسألة قبرص؛ خوفًا مما يعتبرونه عداء تركيا الصريح لمحاولات جمهورية قبرص استثمار إمكاناتها الطاقوية داخل حدودها المرسومة، التي تم إنشاؤها في اتفاقيات المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها نيقوسيا مع جيرانها بعيدًا عن تركيا، وهو ما دفع الأخيرة لاستخدام قوتها العسكرية لردع نيقوسيا وشركة نوبل إنرجي عن القيام بأعمال الحفر الاستكشافية التي اكتشفت حقل أفروديت في سبتمبر 2011[10].

  • اليونان: لم تكن العلاقات التركية اليونانية أفضل حالًا من مثيلتها مع قبرص، إن لم تكن أسوأ. فاليونان تقليديًا تلعب دور راعي جمهورية قبرص اليونانية؛ حيث تدافع أثينا دائمًا عن المصالح القبرصية اليونانية في سيطرتها على كامل الجزيرة، فضلًا عن مناطقها البحرية، ما يعني أن واقع ومستقبل الجزيرة محكوم بالعلاقات بين اليونان وتركيا.

من جانب آخر، فإن توتر العلاقات التركية اليونانية يرجع بالأساس إلى مشكلة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والتنازع الحاصل بينهما على بعض الجزر والمناطق البحرية في بحر إيجه الواقع بينهما، وبالتبعية حول المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما في بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط.

  • إسرائيل: على الرغم من وجود مصلحة مشتركة ومهمة في إنشاء إطار تعاون إقليمي دائم بين تركيا وإسرائيل بسبب تأثيرهما الجيوسياسي في المنقطة وشراكتهما مع الولايات المتحدة، ودورهما في سوق الهيدروكربونات، إلا أنهما يتمتعان بعلاقات سياسية غير مستقرة ومترددة؛ فمستوى العلاقات بينهما دائم الارتباط بشكل وثيق بطبيعة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، بالإضافة إلى دور العلاقات التركية الإسرائيلية في تشيكل السياسة الداخلية لتركيا وصراعها الداخلي العنيد على هويتها، فضلًا عن تأثرها بعلاقة تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تعقدت العلاقات التركية الإسرائيلية منذ عام 2009، عندما نفذت إسرائيل عملية الرصاص المصبوب[11] في غزة، وهو ما تجلى في “التلاسن” بين رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، خلال اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. بالإضافة إلى الهجوم الإسرائيلي على أسطول مافي مرمرة التركي الذي كان يهدف لكسر الحظر الإسرائيلي المفروض على غزة، والذي أدى إلى مقتل تسعة مواطنين أتراك عام 2010.

غير أن تلك العلاقة شهدت تطورًا إيجابيًا عام 2016 بعد استقالة رئيس وزراء تركيا ومهندس علاقاتها الخارجية، أحمد داوود أوغلو، واعتذار إسرائيل رسميًا عن حادث مرمرة وتعويض أسر الضحايا، وهو ما أدى في الأخير لعودة السفير الإسرائيلي إلى أنقرة. وهو ما يمكن إرجاعه جزئيًا إلى احتمال وجود صفقات في مجال الغاز بين البلدين. ومع ذلك، كانت التجارة بينهما على أساس متين للغاية على مدار سنوات القطيعة؛ فلم ينخفض التبادل التجاري دون مستويات 2008. غير أن العلاقات الدبلوماسية لم تستمر طويلًا؛ حيث طردت تركيا سفير إسرائيل لديها عام 2018 احتجاجًا على المذبحة التي اقترفتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة[12].

  • مصر: تزامنت السنوات الأولى من الربيع العربي مع تقارب قوي بشكل خاص بين كل من تركيا ومصر، حيث رأت تركيا فيه فرصة لتعزيز مصالحها في المنطقة. غير أن هذه العلاقة الطيبة بين البلدين تحولت كلية في 2013؛ حيث وصفت أنقرة الحكومة المصرية بأنها غير شرعية، وطلبت تركيا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فرض عقوبات على الحكومة المصرية. وقد تبع ذلك، وبناء عليه، خلاف في العديد من القضايا الإقليمية بين البلدين، مثل الموقف من النظام السوري وقطر، وأخيرًا فيما يتعلق بدعم كل منهما طرف حرب مختلف في ليبيا عسكريًا. أي أنه يمكن القول إن البلدين على طرفي نقيض. وبعيدًا عن السياسة، احتفظت تركيا بعلاقات اقتصادية طيبة مع مصر، حيث عقدت اجتماعات المجلس التركي المصري في القاهرة في يناير 2017 بعد انقطاع دام أربع سنوات، وزار وفد من البرلمانيين الأتراك مصر لحضور اجتماع حول التعاون في شرق البحر الأبيض المتوسط[13].

وهكذا فقد أصبحت تركيا في حالة “توتر دائم” مع جيرانها، ما جعلها تشعر بالعزلة عن إقليمها في شرق المتوسط، حيث جمع كلًا من مصر وإسرائيل وقبرص واليونان: التقارب الجغرافي، والعداء لتركيا.

وقد عزز تطوران تصورات أنقرة عن التهديد وعمَّقا شعورها بالعزلة، وتنظر إليهما على أنهما من صور مجهودات محاصرة تركيا على هوامش البحر الأبيض المتوسط، وهو نتيجة حقيقية في واقع الأمر، هذا التطوران هما[14]:

  1. إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) في يناير 2019، ومقره في القاهرة، والذي يتكون من قبرص اليونانية، واليونان، وإسرائيل، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، ومصر. ويحظى بدعم من فرنسا والولايات المتحدة، مستبعدًا تركيا. وتكمن مهمة هذا المنتدى في حفظ حقوق أعضائه القانونية في توزيع غاز شرق المتوسط.
  2. توقيع اتفاق خط أنابيب EastMed في يناير 2020 من قبل اليونان وجمهورية قبرص وإسرائيل؛ حيث سيربط هذا الخط حقول غاز البحر الأبيض المتوسط مباشرة بأوروبا، بعدما كان يمر تقليديًا عبر تركيا.

وبجانب المصالح الغازية المشتركة بين الدول أعضاء منتدى شرق المتوسط، إلا أن كلًا منها وجد مبررًا سياسيًا في هذا التعاون، عنوانه الرئيس: العداء مع تركيا. حيث كانت إسرائيل -التي ظلت لفترة طويلة بعيدة عن قبرص اليونانية حتى لا تعرض علاقتها مع أنقرة للخطر- مستعدة للنظر في شراكات جديدة في أعقاب حادثة مرمرة 2010، وقد رحبت اليونان وجمهورية قبرص بتوثيق العلاقات مع إسرائيل، ورأتا فيه وسيلة لاحتواء النفوذ الإقليمي المتزايد لتركيا. كما أن التنافس الإقليمي بين تركيا ومصر في عهد رئاسة عبد الفتاح السيسي قد وفر قوة دفع إضافية للشراكة الرباعية. وعلى الرغم من أن هذه الشراكة الرباعية لا ترقى إلى مستوى تحالف عسكري رسمي، إلا أنها تمتد بالفعل إلى مجال التعاون الأمني، بما في ذلك العديد من التدريبات العسكرية المشتركة واتفاقيات التعاون الدفاعي الثنائية[15].

ب- التحركات التركية للتنقيب في شرق المتوسط

أرادت تركيا كسر تلك العزلة المفروضة عليها إقليميًا، والتي تنعكس على طبيعة علاقاتها الدولية بطبيعة الحال، من خلال فرض الأمر الواقع من وجهة نظر تركية، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال كل من:

  1. توقيع الحكومة التركية في نوفمبر 2019 اتفاقيتي ترسيم حدود وتعاون أمني مع حكومة الوفاق الليبية في طرابلس، وهو ما أدى عمليًا لتوسيع أنقرة منطقتها الاقتصادية الخالصة. وقد اعتبرت اليونان اتفاقية ترسيم الحدود “انتهاكًا” لمبادئ القانون الدولي، من خلال التعدي على المياه اليونانية الإقليمية، حيث تجاهلت الاتفاقية جزيرة كريت اليونانية، وهو ما دفع أثينا لطرد سفير حكومة الوفاق الليبية. ويعزي البعض هذه الاتفاقية إلى الغضب التركي من إعلان إنشاء منتدى شرق المتوسط الذي استثنى تركيا[16].
  2. إرسال الحكومة التركية سفن تنقيب عن الغاز (رفقة سفن حربية) في مناطق بحرية متنازع عليها بين كل من تركيا وقبرص واليونان، والتي استمرت منذ أواخر عام 2019 وحتى الوقت الراهن، وهو ما أدى لاعتراض من قبل دول الإقليم قاطبة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي الذي أيد حقوق كل من اليونان وجمهورية قبرص، العضوين فيه.

ج- التداعيات الإقليمية على التحركات التركية

لم تمر تلك التحركات التركية التي وصفت بـ”الاستفزازية” من قبل جيرانها في الإقليم من دون رد فعل؛ حيث بدأت كل دولة تستعد للرد على تلك التحركات بطريقتها، وهو ما أدى عمليًا لدخول تركيا في أكثر من أزمة في أكثر من جبهة مفتوحة، بالإضافة لزيادة التوتر العسكري في المنطقة، وحبس الأنفاس في انتظار أي تشابك عسكري وشيك.

فقد درست الولايات المتحدة سحب أسلحتها وقواتها من قاعدة أنجرليك التركية ونقلها إلى إحدى الجزر اليونانية؛ ما يعني زيادة تسليح اليونان، إضافة لتزويد فرنسا اليونان بـ18 مقاتلة رافال. بالإضافة إلى زيارة وزير الخارجية الأمريكي جزيرة قبرص معلنًا رفع حظر السلاح المفروض عليها، والمناورات العسكرية الرباعية بين كل من اليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا، فضلًا عن توقع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية وملاحية على تركيا[17].

كما وقعت كل من مصر واليونان، عبر وزيري خارجيتيهما، في القاهرة اتفاقية حول تعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين في شرق البحر المتوسط، وهي الاتفاقية التي أثارت تحفظ تركيا؛ حيث اعتبرها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو -من العاصمة الليبية- “باطلة ولاغية”، كما أعلنت الخارجية التركية أن هذه الاتفاقية “تنتهك الحقوق البحرية الليبية”. ويرى محللون أن هذه الاتفاقية تعد ضربة قوية للمخططات التركية للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، بالإضافة إلى كون ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية يغطي بعض المناطق التي شملتها اتفاقية ترسيم الحدود بين أنقرة وطرابلس، ما يعني “إلغاءها”[18]، وعدم اعتراف مصر واليونان بها.

وقد ردت تركيا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية من خلال إعلانها استئناف أنشطة المسح والتنقيب في مناطق متنازع عليها؛ حيث أصدرت البحرية التركية في العاشر من أغسطس 2020 إخطارًا ملاحيًا (نافتيكس) يستمر حتى 23 أغسطس، لتجري السفينة التركية «أوروتش رئيس» عمليات مسح زلزالي خلال تلك الفترة. وهو ما دفع القوات اليونانية للتأهب، ودعوة الاتحاد الأوروبي أنقرة لوقف تحركاتها التي وصفها بـ«المثيرة للقلق الشديد»[19].

أما اليونان، فقد أعلنت –في سبيل تعزيز قوتها العسكرية- شراء 18 مقاتلة رافال من فرنسا، وأربع فرقاطات متعددة الأغراض، وأربع طائرات هليكوبتر تابعة للبحرية، كما ستضخ الموارد للاستثمار في صناعة الأسلحة الوطنية والدفاع السيبراني، بالإضافة إلى تأمين أسلحة جديدة مضادة للدبابات وطوربيدات بحرية وصواريخ تابعة للقوات الجوية[20].

وقد أدت حالة عسكرة شرق البحر المتوسط لزيادة التوتر والتشنج فيه؛ حيث زادت المناورات العسكرية البحرية لكل من تركيا واليونان في البحر المتوسط، كما حشدت أنقرة قوات ودبابات عسكرية على الحدود مع اليونان. وقد أدت هذه التوترات إلى وقوع تصادم طفيف بين فرقاطتين تركية ويونانية، وهو ما دفع حلف شمال الأطلسي لأخذ زمام المبادرة للتهدئة بين البلدين العضوين فيه، تجنبًا لسيناريوهات لم تحدث سابقًا بين دول أعضاء في نفس الحلف؛ حيث أعلن الأمين العام للحلف عن توصل اليونان وتركيا لاتفاق على آلية لتجنب وقوع أي اشتباك عرضي في شرق المتوسط، “وذلك في إطار الجهود التي تستهدف نزع فتيل الصراع على موارد الطاقة في المنطقة”، بالإضافة إلى إقامة خط ساخن لتجنب الحوادث بينهما في كل من البحر والجو[21].

أما الاتحاد الأوروبي، فقد اعتمد خطابًا منسجمًا مع مواقف اليونان وقبرص حول أنشطة تركيا في منطقة شرق البحر المتوسط. وقد شهد هذا الخطاب تدرجًا من الاكتفاء بحث تركيا على الامتناع عن أي نوع من أنواع الخطاب والسلوك العدواني الذي يمكن أن يؤثر سلبًا على الحل السلمي للنزاعات الحدودية، وضرورة تجنب أي نوع من التهديد أو الاحتكاك أو الأفعال التي قد تؤثر سلبًا على علاقات حسن الجوار، وصولًا إلى حد اتهام تركيا بانتهاك القانون الدولي والانخراط في سلوك عدواني وغير قانوني[22].

وفي محاولة منها لـ”إعطاء فرصة للدبلوماسية”، قررت تركيا إعادة سفينة الرصد الزلزالي “عروج ريس” إلى سواحلها في 13 سبتمبر 2020 (وقد سبق أن أرسلتها في العاشر من أغسطس للتنقيب عن النفط في المياه بين اليونان وقبرص)، كما شهد الأسبوع الأول من أكتوبر أول اجتماع رفيع المستوى بين وزيري خارجية كل من تركيا واليونان منذ بدء التوتر حول استكشاف النفط والغاز في شرق البحر المتوسط. غير أن هدوء العلاقات بين البلدين لم يستمر طويلًا؛ إذ أعلنت البحرية التركية عودة قيام سفينة “عروج ريس” بأنشطة في المنطقة ذاتها مرة أخرى، بما في ذلك جنوبي جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، في الفترة من 12 لـ22 أكتوبر، رفقة سفينتي أتامان وجنكيز خان الحربيتين[23].

في هذا السياق، وبعيدًا عن حلفائها السابقين في الاتحاد الأوروبي، قررت تركيا استخدام خطاب أكثر دبلوماسية مع كل من إسرائيل ومصر، في محاولة منها لحلحلة الموقف لصحالها والقضاء على العزلة الإقليمية التي تحياها منذ فترة ليست بالقليلة. فمنذ الربع الثاني من 2020، تشير العديد من البوادر إلى محاولة رأب الصدع في العلاقات التركية الإسرائيلية، مثل استئناف الرحلات الجوية بين البلدين؛ حيث استغلت تركيا ظروف جائحة كورونا لإرسال مساعدات طبية لتل أبيب، في محاولة منها لتليين العلاقات الثنائية، بهدف تحييد دور إسرائيل في الخلافات التركية اليونانية القبرصية، وتحفيزًا لرغبة إسرائيل في تأمين خطوط إمداد لغازها لأوروبا عبر تركيا وفق محللين، خصوصًا في ظل إرهاصات عقد اتفاقية بحرية بين البلدين[24].

كما حاولت تركيا “مغازلة مصر” من خلال التصريحات الرسمية التي اعتبرت أن الجيش المصري جيش قوي، وكشفت عن نية تركية لإجراء محادثات مع مصر؛ حيث أدلى الرئيس التركي أردوغان بتصريحات صحفية قال فيها: “إجراء محادثات استخباراتية مع مصر أمر مختلف وممكن وليس هناك ما يمنع ذلك، لكن اتفاقها مع اليونان أحزننا”. غير أن وزارة الخارجية المصرية أبدت تحفظها على ما أسمته المبادرة التركية، وقالت في بيان لها إن “نهج” تركيا يفتقر إلى “المصداقية”. كما ذكرت بعض المصادر: “أكدت مصر تلقيها دعوات تركية لفتح قنوات اتصال معها على المستويين السري والعلني بغرض تحسين العلاقات”، بالإضافة إلى تلقي مصر دعوة تركية “لتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين”[25].

ثالثًا- تداعيات التحركات التركية على علاقتها بالدول الكبرى:

نظرًا لما تمتلكه منطقة شرق المتوسط من أهمية جيوستراتيجية بالنسبة للعالم كله، فمن غير المتوقع أن تقع مثل تلك الأحداث بعيدًا عن تدخل الدول الكبرى فيها، أو على الأقل اتخاذ موقف بصددها، خصوصًا مع ارتباط تلك الأحداث بأحد أهم مصادر الطاقة في القرن الحادي والعشرين بشكل أساسي. وعليه، يحاول هذا المحور التعرف على تداعيات التحركات التركية في هذه المنطقة على علاقتها بالدول الكبرى.

أ- الولايات المتحدة:

تتداخل الولايات المتحدة في منطقة شرق المتوسط لعدة اعتبارات ومصالح، على رأسها يأتي: الحفاظ على أمن حليفتها إسرائيل كهدف واستراتيجية دائمة لها في إقليم الشرق الأوسط الكبير ومناطقه الفرعية، وحماية حقوق الشركات الأمريكية العاملة في مجال استكشافات النفط والغاز كجزء من تحقيق أمن المواطن الأمريكي ورفاهيته، وتنويع مصادر إمداد الطاقة لدول أوروبا وحلفائها حتى لا تظل عرضة -نتيجة لاعتمادها المتزايد على روسيا- للابتزاز السياسي من الدول المصدرة للطاقة. وعليه، أضحى الحفاظ على توازنات القوى في هذه المنطقة في صالحها هدفا محددًا رئيسًا في سياساتها تجاه هذه المنطقة، خاصة بعد اكتشافات غاز شرق المتوسط، واستمرار الأزمة السورية والليبية والصراع اليوناني – التركي.

ارتدت هذه الاعتبارات والمصالح على العلاقات الأمريكية – التركية في شرق المتوسط، ومن ثم لجأت الولايات المتحدة إلى التوافق حينًا والنقد حينًا والتغاضي أحيانًا أخرى تجاه السلوك التركي؛ ففي حين سحبت الولايات المتحدة جنودها من سوريا، وتغاضت عن دخول القوات التركية إلى الشمال السوري، حثت تركيا على تجنب التصعيد في علاقاتها مع دول شرق المتوسط، ورفعت حظر بيع الأسلحة عن قبرص اليونانية، ودعمت نشأة منتدى شرق المتوسط الذي يضم في عضويته جيران تركيا من دونها؛ حيث حضر وزير الطاقة الأمريكي الاجتماع الأول للمنتدى في يناير 2019، وتوقيع شركاتها لعقود مع دول المنتدى.[26]

ومن ثم، فإن الولايات المتحدة -في عهد ترامب- أدارت لعبة الطاقة في شرق المتوسط بخبرتها في الحفاظ على توازنات القوى بين دول المنطقة، رغم رغبتها في موازنة الدور التركي المتنامي، ومساعي أنقرة لتجاوز نطاق التوافق مع واشنطن بتعزيزها علاقات أوثق مع موسكو وطهران، وتصريحات رئيسها المتكررة بشأن العالم متعدد الأقطاب. ومع ذلك، تستمر تركيا في المُدرك الاستراتيجي الأمريكي كأحد دول حلف الناتو، وأحد حلفائها في الشرق الأوسط، وفيها قاعدة عسكرية أمريكية.

استغلت تركيا، وفهمت قياداتها هذه المقاربة الأمريكية، وهذا التوازن في السلوك الأمريكي في التعاطي مع تركيا، لتمد مزيدًا من النفوذ في شرق المتوسط، وتتداخل في قضاياه المعقدة؛ رغبة منها في إدارة اللعبة من موقع قوة، وكسب موقع تفاوضي في مواجهة خصومها الإقليميين، خاصة فيما يتعلق باكتشافات غاز المتوسط والتنقيب عنه. ومن ثم، يمكن فهم كل تداخل تركي في قضايا شرق المتوسط الأخرى على أنه محاولة لتخفيف الضغط عليها في اللعبة الرئيسية: لعبة الصراع على الغاز، ومحاولة تحييد -أو على الأقل الحيلولة دون- دفع الولايات المتحدة لاستخدام أدواتها العقابية ضد التحركات التركية في البحر المتوسط. فوفقًا لأحد التحليلات يقدم كل تراجع للولايات المتحدة فرصة لتقدم تركيا في شرق المتوسط، خاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا[27].

ب- روسيا:

من المهم الوقوف على حقيقة أن العلاقات التركية الروسية الحديثة في قطاع الغاز الطبيعي محكومة بمحددين اثنين: الأول هو اعتماد تركيا القوي على إمدادات الغاز الطبيعي الروسي، والثاني هو موقع تركيا كدولة عبور لتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي الروسي[28]، وبالتالي فإن العلاقة بين البلدين من هذا المنظور علاقة استراتيجية قوية.

الحقيقة الأخرى بالنسبة لروسيا، أن عائدات الطاقة تعد إحدى نقاط القوة القليلة للاقتصاد الوطني، وبالتالي فإن اكتشافات الغاز في شرق المتوسط تعد مصدر قلق كبير لموسكو، إذ إن الحد من المنافسة بين موردي الغاز والحفاظ على ارتفاع الأسعار من مصلحة روسيا بشكل عام، فهي المصدر المهيمن على النفط والغاز بالنسبة لتركيا ومعظم أوروبا، وهو موقع يمكن أن تستخدمه لصالحها وستحاول جاهدة حمايته. أي أنها تستفيد من الانقسام وعدم التعاون بين دول المنطقة الذي يفضي في الأخير إلى تقليل منافسة التوريد في سوق الغاز الأوروبية[29].

وفي محاولة منها لعدم تقويض نفوذها في إمدادات الطاقة لأوروبا، عملت روسيا على التواجد في منطقة شرق المتوسط من خلال شركاتها لاستكشاف الغاز والتنقيب، خصوصًا في حوض سوريا، من خلال التفويض الحصري الذي منحته حكومة دمشق لروسيا للتنقيب عن الغاز في مياهها الإقليمية، بالإضافة إلى مساهمة شركة الغاز الروسية «نوفاتيك» ضمن كونسرتيوم دولى لاستكشاف واستخراج النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية[30].

أما ما يتعلق بالتنافس التركي اليوناني القبرصي، فإن روسيا لم تتخذ موقفًا رسميًا مؤيدًا لتركيا إزاء خلافاتها الحدودية مع جيرانها، ولكنها أيضًا في نفس الوقت أعلنت استعدادها للتعاون مع تركيا في عمليات التنقيب على الغاز شرق المتوسط، وهو ما يمكن اعتباره تأكيدًا روسيًا على دور تركيا كدولة عبور، ما يسمح لهما معًا بالتحكم في إمدادات الغاز لأوروبا[31].

فعلى الرغم من أن تحول تركيا لدولة توريد للغاز، وليس فقط دولة عبور، من شأنه أن يهدد المصالح الروسية فيما يتعلق بالتحكم في أمن الطاقة الأوروبي، إلا أنها ترى في تركيا “حليفًا مشاكسًا” أقرب لها من دول غرب أوروبا، وهو ما حاولت تركيا التأكيد عليه من خلال العديد من الشواهد، مثل التنسيق معها في شمال سوريا، وشراء تركيا منظمة الدفاع الروسية S-400.

خاتمة: ماذا ننتظر في شرق المتوسط؟

ترتبط سيناريوهات مستقبل أزمة شرق المتوسط ووضع تركيا الإقليمي والعالمي بعدة اعتبارات، يأتي على رأسها: استمرار الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه بالأفكار الراهنة في موقع السلطة السياسية، ونطاق استمرار النهج الأمريكي -حتى بعد تولي بايدن الرئاسة رسميًا في يناير 2021- المتردد أو المتوازن تجاه تركيا ودول شرق المتوسط، ومدى استمرار التقارب بين دول منتدى غاز المتوسط، ودرجة تجمد موقف الاتحاد الأوروبي عند الحد الراهن، واستمرار السياسة الروسية في مقاربتها الحالية لمنطقة شرق المتوسط ودوله، وبخاصة علاقاتها مع تركيا.

وهديًا بهذه الاعتبارات يمكن تصور سناريوهين لوضع تركيا الإقليمي والعالمي في المديين القصير والمتوسط (3 – 6 سنوات):

الأول: يفترض استمرار أردوغان وحزبه على قمة الهرم السياسي في تركيا، واستمراره في اتباع نهج/ سياسة التحركات الأحادية في شرق المتوسط، وفي التقارب مع روسيا، ومن ثم تعزيز دور أنقرة كقوة إقليمية تسعى للهيمنة على محيطها الإقليمي، لتقديم نفسها قطبًا دوليًا في عالم التعددية القطبية الذي تنادي به هي وروسيا والصين وعدد من القوى الإقليمية، كنسق مبني على قوى مهيمنة في أقاليمها، وتضطلع بدور متنامٍ في الصراعات الدولية والمؤسسات الدولية الكبرى.

الثاني: يشير إلى احتمالية تعرض نظام أردوغان وحزبه لهزة سياسية في الداخل تُفقِده السيطرة السياسية، وهنا تصبح تركيا أكثر حاجة لدعم الولايات المتحدة ورئيسها الجديد جو بادين، ومن ثم تفتر علاقاتها بدول التعددية القطبية وعلى رأسها روسيا، ومعها تفتر مساعيها للهيمنة الإقليمية، ويمكن أن نشهد مساومة إقليمية تندمج تركيا بموجبها في منتدى شرق المتوسط، وتنفتح علاقاتها على دول الإقليم وبخاصة مع مصر واليونان وإسرائيل.

ويبدو أن السيناريو المرجح -وفق الاعتبارات التي طرحناها- هو الأول، وفيه تستمر أزمة شرق المتوسط ولكن من دون التأجج أو الوصول إلى درجة الصراع المسلح أو الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية بين دول منتدى شرق المتوسط وتركيا. وعليه، تستمر الأزمات الأخرى الدائرة على وضعها الراهن، مع بقاء ميزان القوة السائد من دون ميله لصالح طرف دون الآخر، واستمرار المساعي التركية للهيمنة في شرق المتوسط ومحاولات تدعيم نفوذها عالميًا، مع محاولة إدارة بايدن للتهدئة من النبرة التعديلية في السلوك التركي عبر كسبها أكثر في صفها وصف الناتو.

وما يزيد من ترجيح السيناريو الأول هو ما يميز نهج أردوغان القومي في منطقة شرق المتوسط بقبول سياسي وجماهيري واسع، سواء من مؤيدي نزعته المحافظة الدينية والحالمين بعودة الإمبراطورية العثمانية من جديد، أو من مؤيدي النزعة العلمانية التي أسسها -مع تأسيس الجمهورية- مصطفى كمال أتاتورك[32] الذي قاد حربًا قومية للمطالبة بالأراضي التركية التي خسرتها تركيا في أعقاب اتفاقية لوزان 1923 بعد الحرب العالمية الثانية.

بعبارة أخرى، فإن النزعة القومية متجذرة في الشخصية التركية، حتى من قبل قدوم أردوغان لسدة الحكم، غير أنه لعب دورًا محوريًا في تذكيتها، مستغلًا ثقله “الإسلامي” من جهة، ومعتمدًا على التقدم التركي العسكري والاقتصادي في تحويل تلك الالتطور النزعة لواقع ملموس على الأرض.

*****

الهوامش

[1] محمد جاسم الخفاجي، روسيا ولعبة الهيمنة على الطاقة: رؤية في الأدوار والاستراتيجيات، دار أمجد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019، ص 11.

[2] Remziye Yilmaz-Bozkus, Main Determinants Of Turkey’s Foreign Oil And Natural Gas Strategy, Journal Of Research In Economics, Politics & Finance, 2018, 3 (2), P. 114.

[3] للمزيد حول معالم هذه الاستراتيجية، انظر:

Turkey’s Energy Profile and Strategy, Republic of Turkey: Minister of Foreign Affairs, Accessed: 9 December 2020, available at: https://cutt.us/k9HsH

[4] للمزيد حول اكتشافات شرق المتوسط الغازية، وتداعياتها الإقليمية والدولية، انظر:

  • أحمد خليفة: “موقع مصر في التفاعلات الإقليمية والدولية بعد اكتشافات شرق المتوسط”، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2019،متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2Zgy6Eg

[5] Remziye Yilmaz-Bozkus, Main Determinants Of Turkey’s Foreign Oil And Natural Gas Strategy, op.cit., p117

[6] ديتشه فيلا: الاتفاق التركي-الليبي.. لماذا تناوش أنقرة القاهرة وحلفائها؟، تاريخ النشر: 29 نوفمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 8 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qJDPQg

[7] يمكن الرجوع لمزيد من التفصيل حول مقاربة القوة التفاوضية Bragging Power ودورها وموقعها في السياسة الخارجية التركية إلى:

Sözen, Ahmet, “A Theoretical Evaluation of Different Faces of Power: US-Turkey Relations Towards Iraq”, Uluslararası İlişkiler, Volume 6, No 24 (Winter 2010), p. 55-78.

[8] Remziye Yilmaz-Bozkus, Main Determinants Of Turkey’s Foreign Oil And Natural Gas Strategy, Op.Cit., P. 124-126.

[9] Tolga Demiryol, Beyond Energy: The Geopolitical Determinants Of Turkey’s Mediterranean Policy, Foreign Policy Research Institute, November 2020, p.1.

[10] للمزيد انظر:

Theodoros Tsakiris and Others, Gas Developments in the Eastern Mediterranean: Trigger or Obstacle for EU – Turkey Cooperation?, FEUTURE Online Paper No. 22, May 2018, p.8-10, available at: https://bit.ly/3oKXZYb

[11] أطلقت المقاومة الفلسطينية اسم معركة الفرقان على تلك العملية.

[12] للمزيد، انظر:

– Ibid, p13-15.

– قناة الجزيرة: تركيا تطرد سفير إسرائيل وتل أبيب تطرد قنصلها بالقدس، تاريخ النشر: 15 مايو 2018، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/39WLJQi

[13] للمزيد، انظر:

Thedoros Tsakiris and Others, Gas Developments in the Eastern Mediterranean: Trigger or Obstacle for EU-Turkey Cooperation?, Op,Cit., p15-16.

[14] Tolga Demiryol, Beyond Energy: The Geopolitical Determinants Of Turkey’s Mediterranean Policy, Op. Cit., p.7.

[15] Ibid, p. 5.

[16] بي بي سي: تحركات تركيا الأخيرة للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط “قد تشعل بؤرة توتر جديدة”، تاريخ النشر: 17 ديسمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 10 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/2VWL3Cg

[17] مركز سيتا: “الغزل التركي”.. هل يعيد ثقة الشركاء؟!، تاريخ النشر: 22 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3n4H9TJ

[18] مركز سيتا: الإتفاقية البحرية المصرية – اليونانية.. عرقلة لمخططات أنقرة؟!، تاريخ النشر: 15 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3oAs9xi

[19] الشرق الأوسط: تركيا تشعل التوتر مجددًا شرق المتوسط… واليونان تتأهب عسكريًا، تاريخ النشر: 11 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع: 10 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3oJN7Kp

[20] بي بي سي: التوتر بين تركيا واليونان: أثينا تعزز قدراتها العسكرية بمقاتلات من فرنسا، تاريخ النشر: 12 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 10 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي https://bbc.in/37Iv1kM

[21] مركز سيتا: “منع اشتباك” في المتوسط.. هل يستمر؟!، تاريخ النشر: 2 أكتوبر 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2K4tqxI

[22] Volkan Tibet Gür, Turkey’s Isolation From The Regionalization Process In The Eastern Mediterranean: A Case Study Of The Eastern Mediterranean Gas Forum (Emgf), A Master’s Thesis, (Ihsan Doğramacı Bilkent University, Ankara), August 2020, p.87

[23] فرانس 24: شرق المتوسط: تركيا تعتزم إرسال سفينة تنقيب قبالة سواحل قبرص مجدّدا واليونان تندد، تاريخ النشر: 12 أكتوبر 2020، تاريخ الاطلاع: 10 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qFYNPT

[24] قناة الغد: محلل: هذه أسباب عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل والسر هو “المياه القبرصية” [ملف فيديو]، تاريخ النشر: 24 مايو 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://youtube/FMW0MPVksmE

[25] بي بي سي: هل تصريح أردوغان عن الحوار مع مصر نجاح للقاهرة؟، تاريخ النشر: 20 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/36YaZUu

[26] آية عبد العزيز، الرؤية الأمريكية لتسوية الصراع في شرق المتوسط بين الضبابية والبراجماتية، المرصد المصري، تاريخ النشر: 21 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/37U3JrZ

[27] KIRIŞCI, K., TOYGÜ, I., “Turkey’s New Presidential System and a Changing West: Implications for Turkish Foreign Policy and Turkey-West Relations”, Brookings. Turkey project policy paper No. 15, January 2019, p. 10, available at:

https://brook.gs/3mdjoaT

[28] Guzel Nurieva, Natural Gas Factor in Israel-Turkey-Russia “Energy Triangle”, Turkish Journal of Middle Eastern Studies, Vol: 4, No: 1, 2017, p106.

[29] Kadri Tastan and Tobias Kutschka, The Implications of Eastern Mediterranean Gas for Turkey, On Turkey, GMF, No: 7, April 2019, p.2.

[30] بشير عبد الفتاح، روسيا فى شرق المتوسط، موقع جريدة الشروق، تاريخ النشر: 14 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 10 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3oEUcf7

[31] محمد نور الدين، الطموح التركي في غاز شرق المتوسط: أبعاده وتداعياته، شؤون عربية، جامعة الدول العربية – الأمانة العامة، القاهرة، العدد 180، شتاء 2019، ص 61،62.

[32] مارك تشامبيون، استعراض تركيا لقوتها في المتوسط لا يتعلق فقط بالغاز، مركز سيتا، تاريخ النشر: 8 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 8 ديسمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/37QB6M5

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد العشرون – يناير 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى