اللعبة الأمريكية-الإيرانية على أوتار الاتفاق النووي: أهداف وسياسات

مقدمة:

منذ إبريل 2021، تتجه أنظار العالم إلى فيينا لمراقبة مفاوضات عودة الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة جو بايدين الديمقراطية للاتفاق النووي الذي أبرمته، رفقة خمس دول أخرى، مع إيران عام 2015 حول برنامجها النووي، والذي أفضى إلى تقييد إيران أنشطتها النووية في مقابل رفع العقوبات عنها وتطبيع العلاقات التجارية والاقتصادية، بل والسياسية أيضًا، بين إيران والنظام العالمي. وبينما ينتظر المتابعون الإعلان عن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي -الذي انسحبت منه إدارة دونالد ترامب عام 2018- كان من المهم بمكان التعرف على أهداف وسياسات طرفي التفاوض الأساسيين: إيران والولايات المتحدة فيما يتعلق بالملف النووي خصوصًا، وباقي قضايا المنطقة عمومًا؛ إذ إن توقع المستقبل يحتم علينا دراسة سلوك الأطراف في الماضي، للتعرف على غاياتها وكيفية وصولها إليها، وتحليل سلوكها الحالي، ومن ثم وضع السيناريوهات المستقبلية المختلفة في ضوء ذلك.

ولهذا؛ يبحث هذا التقرير في أهداف وسياسات كل من الولايات المتحدة وإيران في تعاملهما مع قضايا الشرق الأوسط، وفي قلبها البرنامج النووي الإيراني، من خلال التعرف على دوافع وأهداف إدارتي كل من أوباما وترامب تجاه الاتفاق النووي، وسبر أغوار العلاقات الأمريكية الإيرانية في ظل إدارة جو بايدن الجديدة منذ توليها السلطة 2021، من خلال مواقف كل منهما في قضايا الشرق الأوسط المختلفة، بما تمثله تلك القضايا من مؤشرات للتقارب أو التنافر الأمريكي الإيراني، وتوقعات انعكاسات تلك الأوضاع على مفاوضات فيينا حول البرنامج الإيراني 2021، انطلاقًا من تصور أن الاتفاق النووي ما هو إلا حلقة (والحلقة الأهم والأقوى) ضمن حلقات العلاقات بين واشنطن وطهران.

أولًا- الاتفاق النووي بين إدارتي أوباما وترامب:

  • التوقيع على الاتفاق النووي 2015 في ظل إدارة أوباما

بعد سنوات من المفاوضات بين إيران من جهة، وبين دول المجموعة 5+1 (وهي الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والصين، وروسيا، بجانب ألمانيا)، استطاعت الأطراف الستة أخيرًا التوصل لاتفاق في يوليو 2015، والمعروف رسميًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، والذي عمل على الحد من طموحات إيران النووية من جهة، ومنحها فرصة الاندماج في النظام الدولي من جهةٍ أخرى[1].

وبعيدًا عن مضمون الاتفاق النووي، فإن التوصل إليه كان ناتجًا بشكلٍ مباشر عن التغير في قادة كل من الولايات المتحدة وإيران على السواء. إذ إن فشل ثماني سنوات من المحادثات النووية في عهد أحمدي نجاد منح الفرصة للمعتدلين للوصول للسلطة في إيران، وهو ما نتج عنه توصل إيران ومجموعة 5+1 لاتفاق نووي مؤقت في غضون فترة قصيرة من انتخاب الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني. إذ مثَّل انتخاب روحاني وتعيينه جواد ظريف وزيرًا للخارجية، وعلي أكبر صالحي نائبًا للرئيس، عاملًا رئيسًا في تسهيل التفاوض؛ حيث أظهرت تلك الإدارة براجماتية في السياسة الخارجية، بما في ذلك ما يتعلق بالملف النووي. وعلى الجانب الأمريكي، فإن قيام الرئيس أوباما بتعديل وزاري في إدارته مع دخوله فترة ولايته الثانية كان له دور كبير في إنجاز المفاوضات، خصوصًا من خلال الجمع بين جون كيري وزيرًا للخارجية، وإرنست مونيز وزيرًا للطاقة، وروبرت مالي مساعدًا خاصًا للرئيس ومنسق البيت الأبيض للشرق الأوسط[2]. بالإضافة إلى التغير الجوهري الذي طرأ في سياسة أوباما في التعامل مع الملف النووي الإيراني، فبدلًا من التمسك بسياسة أسلافه برفض مبدأ تخصيب إيران لليورانيوم، اشترطت إدارته عدم وجود قنبلة نووية مع التأكيد على حق إيران في التخصيب[3].

وبجانب عوامل إقليمية وأوروبية أخرى، يمكن القول إن الظروف كانت مهيئة بالنسبة لإيران والولايات المتحدة لتغيير سياساتهما من دون حدوث تحول كبير في أهدافهما الكلية. إذ ظلت تسود حالة من عدم الثقة الأمريكية تجاه إيران، تجلت في سلوك البنوك الدولية الكبرى في الاتفاقيات التجارية مع إيران، والعديد من تشريعات الكونجرس التي تؤدي لفرض عقوبات جديدة على إيران[4].

  • إدارة ترامب وتغير السياسات الأمريكية تجاه إيران

على غير المتوقع، فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2017، وهو ما مثل تحولا جذريًا في “سياسات” الولايات المتحدة الأمريكية إزاء إيران عمومًا، والملف النووي خصوصًا. فبعد انتهاج سلفه باراك أوباما سياسة احتواء للنظام الإيراني بهدف دمجه في النظام الدولي، انتهى الأمر بترامب بفرض سياسة «الضغوط القصوى» عليها. حيث أعلنت الإدارة الجديدة في البيت الأبيض خروج الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في مايو 2018، في حين أعادت فرض جميع العقوبات الأمريكية التي تم تخفيفها بموجب الاتفاق في نوفمبر 2018، تحقيقًا لرؤية ترامب في ممارسة “أقصى ضغط” على الاقتصاد الإيراني[5]، من خلال إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وحظر التعامل معها، كما حاول عزلها دوليًا من خلال فرض عقوبات على الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع إيران.

ومن أجل تبرير تلك الخطوة، تحجج ترامب بما يٌعانيه الاتفاق من انتقادات من شأنها ألا تُطمئن الولايات المتحدة وحلفاءها في الشرق الأوسط إزاء سلوك إيران. تمثلت أهم تلك الانتقادات في أن الاتفاق النووي في أفضل الأحوال إطار عمل مؤقت حتى خمسة عشر عامًا على الأفضل، إلى جانب عدم احتوائه بنودًا لمنع إيران من تطوير قدراتها الباليستية، ومنح تخفيف العقوبات إيران مهلة مالية إضافية لتمويل سياسة نفوذها[6].

لم يكن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي احتجاجًا منه على عدم التزام إيران ببنوده، والتي كانت انتهاكات طفيفة يمكن –بشيء من الصعوبة- الاستدلال عليها[7]، وهو ما يعني أن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي كان نية مبيتة عند ترامب، وقد أعلن عنه صراحةً خلال حملته الانتخابية عام 2016، بل إنه أظهر نيته حول إيران عمومًا خلال حملته الانتخابية، وترجم ذلك قرارات فور وصوله البيت الأبيض.

ويمكن تبرير سلوك إدارة ترامب في تعاملها مع إيران من منظورين: أولهما رؤية ترامب ذاته لإيران، وإدراكه لطبيعة سياسة “الجمهورية الإسلامية” ونظامها “المارق”، فترامب الرجل الأمريكي الأبيض الذي يسعى لـ”جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” يسعى للتضييق على كل ما يمثل تهديدًا لتلك الرؤية، كما أن خلفيته غير السياسية لم تعطه فرصة لمحاولة احتواء إيران بدلا من فرض الضغوط القصوى عليها. وثانيهما هو استجابة الإدراة الأمريكية لضغوط “الحلفاء الأقرب للإدارة الجديدة”، ممثلين في إسرائيل ودول الخليج، الذين يرفضون الاتفاق النووي الإيراني، واتخذوا منه موقفًا سلبيًا عند توقيعه عام 2015.

انتهجت إدارة ترامب هذا النهج الشديد بهدف إعادة إيران للتفاوض حول المطالب الـ12 التي أعلن عنها وزير الخارجية مايك بومبيو لرفع العقوبات عن إيران، والتي تدور حول: علاج الخلل في الاتفاق النووي، والقدرات الصاروخية الإيرانية، وسلوك إيران المزعزع لاستفرار الشرق الأوسط[8]. إن استقراء تلك المطالب يوضح أهداف إدارة ترامب في “حصر إيران داخل حدودها”، وعدم منحها الفرصة للعب دور إقليمي يهدد الاستراتيجية الأمريكية ومصالحها العليا أو مصالح حلفائها، وقطع الطريق أمام إيران لتحقيق مشروعها الاستراتيجي/الآيديولوجي الذي قد يؤدي لعرقلة ما يريده ترامب بشأن الشرق الأوسط[9].

لكن، وبعد كل شيء، فإن إعادة فرض العقوبات على إيران وانتهاج سياسة الضغط القصوى لم يحققا شيءً من أهدافهما، فلم يقل نفوذ حكومة إيران الإقليمي، فضلا عن عدم تغير النظام ذاته، ولم تؤدِ العقوبات الجديدة على النظام المصرفي الإيراني إلا لجعل حياة الشعب الإيراني أكثر صعوبة من دون التأثير على القيادات الحكومية[10]. وهو ما دفع البعض لوسم سياسة ترامب في الشرق الأوسط بالفشل على المستوى الاستراتيجي؛ إذ ركزت على الأدوات والوسائل والأهداف الآنية بدلا من الأهداف طويلة الأجل، تجلى ذلك في فرض ترامب سياسة الضغوط القصوى على الاقتصاد الإيراني، بدلا من وضع استراتيجية أمريكية فعالة للتعامل معها[11].

وردًا على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، أعلنت إيران في 8 مايو 2019 (أي بعد مرور عام من الانسحاب الأمريكي) توقفها التدريجي عن الامتثال للقيود الرئيسة المفروضة عليها بموجب الاتفاق، معلنةً نيتها تجاوز حدود اليورانيوم المخصب ومخزونات الماء الثقيل ما لم تجد أطراف الاتفاق النووي المتبقية، وخاصة الأوروبية منها، طريقة لحماية إيران من العقوبات النفطية والمصرفية الأمريكية في غضون 60 يومًا من تاريخ هذا الإعلان. ومنذ ذلك الوقت، تعمدت إيران ارتكاب “سلسلة من الانتهاكات الجسيمة”[12] لالتزاماتها النووية كل60 يومًا[13]. هذا في محاولة منها للتعبير عن تحدي حملة الضغط الأقصى الأمريكية من جهة، والضغط على الاتحاد الأوروبي لمساعدتها في الالتفاف على العقوبات الأمريكية من جهةٍ أخرى.

وعلى الرغم من الانحياز الغربي الرسمي للموقف الإيراني، إلا أن تصرفات إيران “الاستفزازية” أعادت بث المخاوف الغربية حول طموحات إيران النووية، وما إذا كانت تنتوي إعادة إنشاء برنامج أسلحتها النووية، خصوصًا بسبب ما أقدمت عليه طهران من رفع مستويات تخصيب اليورانيوم، وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي العاملة[14].

على جانب آخر، حاولت إيران التأقلم على الوضع ما بعد الانسحاب الأمريكي، من خلال تعزيز علاقاتها مع دول الشرق، والضغط على أوروبا لتعويضها عن الخروج الأمريكي، ورفع حدة سلوكها مع الولايات المتحدة، مع الالتزام بالحفاظ على الحد الأدنى من شروط الاتفاق النووي بما يؤكد تمسكها به والرغبة في استعادته كاملا مرة أخرى، بعودة الولايات المتحدة للاتفاق ورفع العقوبات المفروضة على إيران.

حيث قررت القيادة الإيرانية أن تصعيد التوترات في الخليج سيُظهر للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج العربي أن الضغط الأقصى سيكلفهم هم أيضًا، وهو ما تمثل في سلسلة طويلة من الحوادث التصعيدية، مثل: الهجمات على ناقلات النفط التي تمر في خليج عمان، وتبادل إيران والولايات المتحدة إسقاط الطائرات دون طيار، والاستيلاء المتبادل على السفن من قبل المملكة المتحدة وإيران، والهجوم الصاروخي الإيراني المزعوم ضد حقول النفط السعودية، والاشتباكات بين القوات الأمريكية ووكلاء إيران في العراق، ورد إيران على اغتيال سليماني بوابل من الصواريخ ضد قاعدة أمريكية في العراق. غير أن تلك التوترات لم تجر طرفي الصراع لمواجهة عسكرية شاملة، وهو ما يتضح من قرار ترامب إلغاء غارة جوية كانت تستهدف الأراضي الإيرانية قبل ساعات من تنفيذها ردًا على إسقاط طائرة أمريكية دون طيار[15]، فضلًا عن قرار اغتيال سليماني في الأراضي العراقية وليس في الأراضي الإيرانية. كما أن الرد الإيراني على اغتيال سليماني جاء دون التوقعات التي رسمتها تصريحات القادة الإيرانيين حول حجم الانتقام الذي تعتزمه بلادهم.

أما أوروبا، فقد سعت للحيلولة دون انهيار الاتفاق النووي، وظلت متمسكة به وداعية واشنطن للعودة للالتزام به، وهو ما يمكن إرجاعه لعدد من الأسباب السياسية والاستراتيجية والأمنية، وكذلك لأسباب اقتصادية تمثلت في رغبة أوروبا في التوسع في السوق الإيراني.

إيرانيًا، فإن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي قد أكد شعور عدم الثقة في السياسة الأمريكية، وهو الشعور الذي ظهر لدى المؤسسات السياسية والأمنية والشعب في إيران منذ التوقيع على الاتفاق عام 2015. حيث إن التزام إيران ببنوده لم يؤدِ إلا إلى رفع العقوبات المتعلقة بالمجال النووي، في حين أن الاقتصاد الإيراني لم ينتعش بعد. وهو الشعور ذاته الذي استدعاه الشعب من تجربة الحرب العراقية الإيرانية، حيث أكدت تلك الحرب عدم الوثوق بالولايات المتحدة، وأهمية اعتماد إيران على نفسها حتى تقف على قدميها[16].

ثانيًا- إدارة بايدن وإعلان العودة للاتفاق النووي:

حاولت إيران كتم أنفاسها خلال المدة المتبقية على انتهاء ولاية ترامب الرئاسية الأولى، وهي تراهن ألا يفوز في الولاية الثانية في انتخابات عام 2020، وهو ما تحقق فعلا بانتخاب المرشح الديمقراطي جو بايدين رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية. وبجانب كون بايدن نائب الرئيس أوباما الذي وقع الاتفاق النووي 2015، فقد أعلن بايدن خلال حملته الانتخابية عزم إدارته حال فوزه العودة للاتفاق النووي، وهو ما يمثل تحولا جديدًا في السياسات الأمريكية تجاه إيران.

نحاول في هذا الجزء التعرف على أسباب رغبة بايدن في العودة للاتفاق النووي، وكيفية التعاطي الإيراني مع تلك الرغبة، وما قدمه كل منهما لتحقيق ذلك.

  • لماذا يريد بايدن العودة للاتفاق النووي؟

في البداية، لا بد من تأكيد أن سياسة الضغط الأقصى التي انتهجها ترامب (سواء بالعقوبات أو الاغتيالات) لم تنجح في ثني إيران عن برنامجها النووي، كما أنها فشلت في كبح جماح التوسع الإيراني في الشرق الأوسط من خلال عملائها، وهو ما يعني بصورة مؤكدة أن الاستمرار في هذا السلوك أفقد الولايات المتحدة قناة اتصال مباشرة مع طهران من دون تحقيق أي من الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، والتي هي محل اتفاق بين إدارتي ترامب وبايدن. ومن ثم، فإن الباب مفتوح أمام جو بايدن للعودة للمفاوضات مرة أخرى، وإعادة بلاده للاتفاق النووي، وهو ما يؤدي لتحقيق مجموعة من الأهداف بالنسبة لبايدن وإدارته.

أجمل بادين نفسه تلك الأهداف في مقال رأي لشبكة CNN، عندما قال إنه يعتزم العودة للاتفاق النووي لاعتقاده أنه يمكن تهدئة واحتواء إيران من خلال تعاون أكبر وتواصل مباشر معها. كما أن من شأن تلك الخطوة أن تحسن التعاون الأمريكي المتعثر مع باقي أطراف الاتفاقية، خصوصًا الأوروبيين[17].

على الرغم من وجود الكثير من القضايا التي تحتاج للتفاوض بين واشنطن وطهران، إلا إن إدارة بايدن أظهرت خلال الحملة الانتخابية انتهاجها نفس نهج أوباما، حيث تُركز إدارة بايدن على الحد من القدرات النووية الإيرانية باعتبارها الأولوية القصوى من جهة، وأنه يمكن الاعتماد على تلك المحادثات في التخفيف من سلوك إيران “المرفوض” فيما بعد. ولهذا، تعتزم إدارة بايدن البدء في مشاورات حول الملف النووي بشكل حصري للعودة للاتفاق النووي الإيراني. ومن ثم، تبدأ في مفاوضات “المتابعة” بشأن قضايا خارج البرنامج النووي، وذلك في استجابة منها لضغوط الداخل الأمريكي التي ترى أن الاتفاق النووي ليس كافيًا للحد من سلوك إيران المعادي لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ويمكن فهم تصريح مستشار الأمن القومي لإدارة بايدن جيك سوليفان بأن مفاوضات المتابعة قد تؤدي لفرض قيود ملزمة على تطوير إيران للصواريخ الباليستية كتهدئة لتلك الضغوط[18].

إن الإدارة الأمريكية الجديدة ترى في التفاوض مع إيران وتأمين صفقة جديدة للحد من برنامجها النووي، وما يمكن أن يتبعها من مفاوضات تبحث قضايا أخرى، أمرًا مفيدًا لإعادة التوازن الحقيقي تجاه آسيا من جهة، ولتعزيز التحالف عبر الأطلسي بعد سنوات من الإهمال من جهةٍ أخرى[19]، وهو ما أكده لاحقًا البيان الختامي لقمة السبعة الكبار في يونيو 2021 من دعمها لاستئناف العمل بالاتفاق النووي، وترحيبها بـ”المشاورات الجوهرية” الجارية في فيينا[20].

وبالمقارنة مع إدارة سلفه ترامب، فإن مقاربة بايدن في التعامل مع إيران هي مقاربة مؤسسية ليبرالية، من خلال التعاون متعدد الأطراف والحشد الدولي في سبيل وضع قيود استراتيجية على إيران لتحقيق ما تريده واشنطن، بدلا من التغريد وحيدًا خارج السرب (الغربي/العالمي) كما فعل ترامب[21].

وعلى الرغم من حماسته للبدء في المفاوضات والعودة للاتفاق النووي، وضع بايدن شروطًا للعودة لهذا الاتفاق، وهي[22]:

  1. إطالة أمد القيود النووية المفروضة على إيران لأكثر من 15 عامًا.
  2. وقف الأنشطة الإيرانية الإقليمية الخبيثة، في لبنان والعراق وسوريا واليمن، ومعالجة البرنامج الصارويخي الدقيق الذي قد يهدد إسرائيل.
  3. إعادة التزام إيران بتعهداتها المنصوص عليها في الاتفاق النووي الإيراني.

غير أن الإدراة الأمريكية تتعرض لضغوط داخلية وخارجية تصعب عودتها للاتفاق النووي، أهمها هو ضغط دول المنطقة على الإدارة الأمريكية بأن التهديدات غير النووية في الواقع هي أكثر أهمية بالنسبة لها، مثل “الصواريخ والوكلاء والتدخل في الشئون الداخلية للدول”، على الأقل في المدى القصير. كما أن مسئولي الأمن القومي في إدارة بايدن يرون أن الاتفاقات النووية مع إيران قد لا تضمن بالضرورة التوصل لاتفاقات معها في القضايا غير النووية[23]، وهو عكس الرؤية الأمريكية. وعلى جانب آخر، فإن زيادة التواصل مع إيران من شأنه أن يضر بالعلاقات الأمريكية مع كل من إسرائيل والسعودية على السواء، وهما الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة في الشرق الأسط، وقد تعززت علاقاتهما مع واشنطن بشكلٍ خاص إبان إدارة ترامب السابقة.

بشكل عام، فإن فشل ضغوطات ترامب من جهة، ورغبة بايدن في العودة للحلول الدبلوماسية وتعزيز دور التفاوض في تحقيق أهداف الولايات المتحدة من جهةٍ أخرى قد دفع إدارته لللإعلان عن نيتها بدء مشاورات مع إيران للعودة للاتفاق النووي، وهو ما حدث فعلًا في إبريل 2021 في مدينة فيينا النمساوية.

  • رد فعل إيران على نية بايدن العودة للاتفاق النووي

استجابت طهران لرغبة الولايات المتحدة العودة للاتفاق النووي وكأنها تتحرك من موقع قوة، الأمر الذي اتضح من خلال تأكيد وزير خارجيتها عدم قبول إيران أي شروط مسبقة للعودة للاتفاق النووي[24]، كما أكدت إيران أن أي عملية تفاوضية لن تتضمن أي نقاش حول برنامجها للصواريخ الباليستية[25]، فضلا عن إجراء المشاورات في فيينا بشكلٍ غير مباشر بين إيران والولايات المتحدة.

لم يكن أدل على ذلك من تصريحات المرشد الإيراني آية الله على خامنئي بأن المطلوب والمنتظر هو عودة الولايات المتحدة للالتزام بالاتفاق الإيراني كاملا أولا؛ فهي من خرجت منه وبدأت بخرق قواعده، مؤكدًا أن بلاده “لن تعود للامتثال للاتفاق النووي قبل رفع العقوبات الاقتصادية عنها بالكامل، وأن الولايات المتحدة يجب أن ترفع جميع العقوبات إذا كانت تريد من طهران العدول عن خطواتها النووية”[26].

من جهةٍ أخرى، فقد أبقت إيران على مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية للأنشطة النووية الإيرانية وزيارة مفاعلاتها النووية. فعلى الرغم من تمرير البرلمان الإيراني لقانون في ديسمبر 2020 بتعليق تنفيذ البروتوكول الإضافي لاتفاقية الضمانات الشاملة[27] وأنشطة المراقبة الأخرى المطلوبة بموجب الاتفاق النووي، فقد توصلت الحكومة الإيرانية والوكالة الدولية لترتيبات مراقبة خاصة مؤقتة في 21 فبراير 2021، وتستمر لمدة ثلاثة أشهر تنتهي في مايو. غير أن إيران والوكالة الدولية اختارتا تمديد الاتفاقية لشهر إضافي، وهو ما يمكن فهمه كإشارة إيرانية لدعم مفاوضات فيينا التي بدأت قبل شهر من التمديد، من خلال تقديم بوادر حسن النية[28].

  • اللعبة الأمريكية الإيرانية في الخليج: “سياسة العصا والجزرة”

عادة ما تتحرك الدول في سياستها الخارجية في خطٍ ناظم يحدد معالمها ويؤشر على مآلالتها. وعليه، فإنه يمكن رصد مواقف كل من الولايات المتحدة وإيران في عدد من قضايا المنطقة، والنظر إليها كأجزاء من صورة كلية تحدد طبيعة العلاقات فيما بينهما، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على الملف النووي الإيراني. فمع قدوم إدارة بايدن الجديدة إلى البيت الأبيض في يناير 2021، اتخذت عددًا من المواقف والقرارات في قضايا تمس منطقة الشرق الأوسط، بما يتماس مباشرة مع إيران ودوائر نفوذها.

بدأت أول تلك الخطوات في رفع حركة أنصار الله ­(الحوثيين) من قائمة الإرهاب بصورة رسمية، اعتبارًا من 16 فبراير 2021، وهو ما يعني رفع كافة القيود التي كانت مفروضة على الحركة[29]، وهو ما يمكن النظر إليه باعتباره رسالة تقارب من الإدارة الأمريكية الجديدة للحكومة الإيرانية، وهي المتهمة دائمًا بتمويل حركة الحوثي بالسلاح والمال والدعم العسكري.

وبعد عشرة أيام، قصفت طائرات أميركية مواقع إيرانية في سوريا بهدف حماية الأكراد أولًا، وإرسال إشارة غضب أمريكية من سياسات إيران في سوريا ثانيًا[30]، والذي مثل العصا في سياسة الجزر والعصا التي سوف يبدأ بايدن انتهاجها في المنطقة تجاه إيران.

من جهتها، حاولت طهران أيضًا الرد بأدواتها في المنطقة لإرسال رسائل لواشنطن، مفادها أن العصا الأمريكية تقابلها عصا إيرانية. حيث كثّف الحوثيون من هجماتهم على السعودية منذ تولِّي بايدن، كما استهدفت مليشياتها في العراق قواعد وقوات أمريكية أدت لمقتل مدني أمريكي، فضلا عن زيادة المناورات والتحركات العسكرية الإيرانية في مياه الخليج العربي[31].

ومنذ بداية العام الحالي 2021، وتزامنًا مع رئاسية بايدن، تعرضت المصالح الأمريكية في العراق لـ39 هجومًا صاروخيًا أو بطائرات دون طيار، استهدفت السفارة الأمريكية في بغداد، وقواعد عسكرية عراقية تضم أمريكيين، ومطاري بغداد وأربيل، ومواكب لوجستية للتحالف الدولي لمكافحة داعش بقيادة الولايات المتحدة، أسفرت -بجانب الخسائر المادية- عن مقتل متعاقدين أجنبيين مع التحالف وآخر عراقي. وقد تبنت بعض تلك الهجمات فصائل موالية لإيران، بينما نسبت واشنطن هجمات أخرى إليها. كان آخر تلك الهجمات هو محاولة طائرتين مسيرتين استهداف قاعدة عين الأسد الجوية التي تضم أمريكيين، قبل أن ينجح الجيش العراقي في إسقاطهما في 6 يونيو 2021[32].

لتشن أخيرًا الولايات المتحدة غارات جوية استهدفت 3 منشآت عسكرية اعتبرها البنتاجون منشآت تستخدمها ميليشيات مدعومة من إيران في مناطق حدودية بين سوريا والعراق، أدت لمقتل خمسة من مقاتلي الحشد الشعبي العراقي المدعوم من إيران. وقد جاءت هذه الضربات تنفيذًا لأوامر الرئيس جو بايدن ردًا على استهداف جماعات مدعومة من إيران لمصالح أمريكية في العراق[33].

وهكذا مثلت العراق، وبنسبة أقل سوريا، “ساحة التفاوض المباشرة” بين واشنطن وطهران، حيث تسعى كل منهما “لتعزيز موقعها التفاوضي”[34]، سواء قبل بدء محادثات فيينا أو خلالها.

إن سياسة العصا والجزرة التي ينتهجها بايدن تجاه إيران هي عبارة عن بلورة لنية بايدن “العودة المتوازنة” فيما يتعلق بالعلاقات مع إيران، سواء فيما يتعلق بالتوازن بين الترهيب والترغيب، أو بين المصالح والمبادئ، أو حتى التوازن بين علاقات واشنطن مع إيران من جهة، وبين علاقاتها مع إسرائيل ودول الخليج العربي من جهة أخرى؛ إذبين  “إن أي تحرك دبلوماسي يقوم به جوزيف بايدن تجاه إيران سيؤثر بشكل مؤكد على ميزان القوى في المنطقة وسلوك الفاعلين في السياسة الدولية”[35]. في ذلك الوقت، فقد تمسكت إيران بموقفها المبدأي والمعلن حول رفض إجراء أي تعديل في الاتفاق النووي أو توسعته ليشمل موضوعات أخرى، وبالتحديد برنامج الصورايخ الباليستية ونفوذ إيران في الإقليم، فضلا عن التمسك بمبدأ “من خرج أولًا يعد أولا”.

  • محادثات فيينا بين الوعد الانتخابي ومصالح “الأصدقاء”

في هذه الأثناء، ومن أجل إفساح مجال للدبلوماسية، بدأت أخيرًا مباحثات في فيينا النمساوية في إبريل 2021 لمحاولة إحياء الاتفاق النووي مرة أخرى بعد الانسحاب الأمريكي، من خلال البحث عن طريقة لرفع العقوبات الأمريكية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من جهة، وإقناع إيران بالعودة إلى القيود الواردة في الاتفاق على برنامجها النووي من جهةٍ أخرى. وتحقيقًا لرغبة إيران في عدم الاجتماع مع الأمريكيين وجهًا لوجه بسبب الخروج من الاتفاق، تتوسط الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) بين الوفدين الأمريكي والإيراني في مشاورات غير مباشرة، متنقلين بين فندقين مختلفين، بجانب حضور دبلوماسيين من الصين وروسيا بصفتهما أطراف في الاتفاق النووي[36].

ومنذ إبريل وحتى يونيو 2021، عقد ممثلو الدول الستة الأطراف في الاتفاق النووي ست جولات تفاوضية تتخللها عودة للعواصم من أجل التشاور، من دون التوصل لاتفاق حتى ذلك الوقت، على الرغم من التصريحات المتفائلة حول “اقتراب” الوصول لاتفاق يضمن إعادة إحياء الاتفاق النووي من جديد، حيث ظلت عدة ملفات عالقة لم تتوصل الأطراف لاتفاق حولها بعد.

حيث تشير التقارير الإعلامية إلى أن المفاوضات أنجزت تقدمًا كبيرًا فيما يتعلق بالمسائل الفنية من ناحية، ورفع العقوبات الأمريكية المفروضة على قطاعات النفط والبنوك والسيارات والتأمين من ناحية أخرى. في حين أن عددًا من القضايا لم يتم حسمها، خصوصًا مسألتي العقوبات الأمريكية، ومسألة الضمانات. إذ تفرض الولايات المتحدة عقوبات على نحو 128 شخصية إيرانية مهمة، من بينها المرشد الإيراني، والرئيس الإيراني المنتخب نفسه إبراهيم رئيسي، بالإضافة إلى العقوبات المفروضة على هيئات وكيانات أساسية. حيث ترى الولايات المتحدة أن تلك العقوبات لا ترتبط بالملف النووي، وإنما هي عقوبات مفروضة لأسباب مرتبطة بالاتهامات لإيران بالإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وأنشطة إيران الإقليمية، بينما تتمسك إيران برفع تلك العقوبات لإنجاز الاتفاق. أما مسألة الضمانات فهي أيضًا مطلب إيراني بوضع ضمانات لالتزام الولايات المتحدة بالاتفاق، وعدم تكرار ما حدث في 2018 بالانسحاب الأمريكي من الاتفاق[37]. وهو ما يمكن تلمسه من تصريحات عباس عراقجي، كبير المفاوضين الإيرانيين، بقوله: “الخلافات ليست حول قضايا جديدة، في الواقع الخلافات حول القضايا الرئيسية المتعلقة بـ”كيفية” عودة الأطراف إلى الاتفاق النووي”[38]، أي أن المتبقي فقط هو الإجراءات التي سوف تتخذها الأطراف من أجل إعادة الالتزام بالاتفاق النووي وحدوده.

وفي محاولة منها للضغط على أطراف الاتفاق النووي، لم تتخذ إيران موقفًا نهائيًا بتمديد اتفاق المراقبة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي قد انتهى في يونيو 2021، حيث نقلت وكالة الأنباء الإيرانية عن المتحدث باسم وزارة الخارجية قوله إن “قانون البرلمان الإيراني واضح في هذا الصدد، وإبرام اتفاق من عدمه مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكيفية مواصلة التعاون أو عدم استمراره هو أمر خطير لم يتم البت فيه بعد”[39]. وهو الاتفاق الذي مدته إيران في آواخر مايو في محاولة منها لدعم مفاوضات فيينا.

خاتمة: سيناريوهات اللعبة الأمريكية الإيرانية ومآلاتها:

على الرغم من صعود التيار المتشدد في إيران ووصوله أخيرًا إلى سدة الحكم، ممثلا في الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، إلا أن طهران قد اتخذت قرارها بالتعاطي الإيجابي مع رغبة بايدن العودة للاتفاق النووي، والامتثال بقيوده وحدوده شريطة حصولها على الفوائد الاقتصادية الموعودة فيها[40]. وهو ما أكدته التصريحات الرسمية الإيرانية من أن الملف النووي يمثل سياسة الدولة وليس سياسة الرئيس، خصوصًا وأن القضايا المرتبطة بالأمن القومي الإيراني من هذا النوع هي في يد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية ومجلس الأمن القومي الإيراني.

إذ ترغب إيران في إنهاء عزلتها الدولية وتطبيع علاقاتها الخارجية، مع الحفاظ على حقوقها في تخصيب اليورانيوم وامتلاك صواريخ باليستية، مع إمكانية التفاوض حول الحدود المسموح بها في مقابل رفع العقوبات وجني مكاسب اقتصادية من وراء هكذا اتفاق. ولكنها في الوقت نفسه تتمسك بمواقف تقف فيها على طرف نقيض مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، مثل قضية الصواريخ الباليستية وسلوك إيران الإقليمي، وهو السبب وراء تعثر المفاوضات في فيينا إلى الآن.

ويمكن التنبؤ بعدة سيناريوهات قد تفضي إليها محادثات فيينا، وهي:

  1. عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي بصيغته القديمة 2015:

ويقوم هذا السيناريو على عودة الولايات المتحدة الأميركية للاتفاق النووي وإزالة العقوبات المفروضة على إيران، في مقابل تراجع إيران عن خفض التزاماتها والعودة إلى الالتزام الكامل ببنود وحدود الاتفاق النووي[41].

يُمثل هذا السيناريو ضغطًا شديدًا على واشنطن، سواء من إسرائيل والمملكة العربية السعودية اللتين تتخذان موقفًا سلبيًا من الاتفاق أساسًا، بالإضافة إلى مطالبة مجلس التعاون الخليجي إشراك دوله في المفاوضات مع إيران، وهو ما ترفضه إيران شكلا وموضوعًا[42]. بينما أكد وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد تحفظ بلاده الجدي على الاتفاق النووي الذي “يجري إتمامه مع إيران في فيينا” في أول لقاء له مع نظيره الأمريكي[43]. وأيًا كان مستوى الدفء في العلاقة بين واشنطن وطهران في حال تحقق هذا السيناريو، فإن إيران لن تستطيع تعويض واشنطن عن إسرائيل والسعودية.

كما يجد هذا السيناريو مقاومة أمريكية داخلية، تمثلت في موقف بعض الساسة الأمريكان الذين يطالبون بالتطرق إلى برنامج إيران النووي، وأنشطتها الصاروخية الباليستية، ودعمها الإرهاب منذ البداية، وهو مضمون خطاب مُوقع من 140 عضوًا في مجلس النواب الأمريكي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري[44].

غير أن هذا السيناريو سيمثل انتصارًا عظيمًا لإيران، خصوصًا مع تأكيدها عدم حق الولايات المتحدة في إجراء تعديلات على بنود الاتفاق، أو إضافة أي قيود ذات مغزى على جهودها الصاروخية، خصوصًا وأن إيران تواجه تفوقًا متزايدًا للولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربي في القوة الجوية، وهي أطراف تراها طهران أعداء محتملين[45].

  1. تعديل الاتفاق النووي بما يضمن مصالح الولايات المتحدة ويحد من تخوفات حلفائها:

في ظل رغبة إيران الشديدة على تحسين وضع الاقتصاد الوطني ورفع العقوبات عنه، فإنها قد تقبل بشروط جديدة تفرض قيودًا إضافية على برنامجها النووي، في مقابل ضمان إزالة العقوبات عن اقتصادها، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الحد الأدنى مما تعتبره طهران أمرًا غير قابل للتفاوض.

يعد هذا السيناريو هو الأكثر عملية بالنسبة للولايات المتحدة، إذ إنه يحد من تخوفات حلفائها من جهة، ويضمن احتواء إيران أيضًا من جهة أخرى، فضلا عن كونه حلا واقعيًا أكثر من العودة للاتفاق القديم بسبب تجاوزات إيران التزاماتها المفروضة عليها بموجبه.

إذ إن تراجع إيران عن انتهاكاتها لقيود الاتفاق النووي قد يتطلب أربعة أشهر. فضلا عن عدم وجود آلية للتعامل مع أجهزة الطرد المركزي المتقدمة الجديدة التي قامت إيران بتركيبها خلال العام الماضي من دون موافقة اللجنة المشتركة التي تشرف على تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة[46].

كما أن سياسة “الانتظار والترقب” التي تتبعها إدارة بايدن تصب في هذا السيناريو، إذ إنها تخلق فائضًا استراتيجيًّا أكبر يتيح لها فرض تصورها عن كيفية عودتها للاتفاق النووي، مستغلة الضغوط الاقتصادية الناجمة عن استمرار العقوبات. ومن ثم، تراهن الولايات المتحدة على “أن أية سياسة دبلوماسية لولبية لاستمرار العقوبات والحوافز الدبلوماسية ستكون مثمرة للغاية”[47].

  1. فشل المفاوضات وانهيار الاتفاق النووي:

وهو ما يعني استمرار إيران في توسيع قدراتها النووية واقترابها من عتبة الاختراق الإيراني، ما يتطلب –بالضرورة- عودة العقوبات الأممية على إيران، بالإجماع هذه المرة وليس فقط الطرف الأمريكي، ونزع الشرعية الدولية عن برنامج إيران النووي وحقها في تخصيب اليوارنيوم، وعلى جانب آخر فشل الولايات المتحدة في مراقبة أنشطة إيران النووية، ما يعني تعزيز عزلة إيران الدولية وسوء وضعها الاقتصادي. بالإضافة إلى زيادة الخطر والتهديد الإيرانيين على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ما يدفع المنطقة لتصعيد غير محمود العواقب؛ أي أن هذا السينارويو لا يحقق أية مكاسب لأي من الأطراف المعنية بالملف النووي الإيراني.

  1. تفاهم والتزام إيراني أمريكي تدريجيًّا وجزئيًّا[48]:

يعد تجاوز إدارة بايدن للعقوبات الأمريكية التي فرضها ترامب على كيانات وشخصيات إيرانية أمرًا شديد التعقيد بسبب طبيعة هيكل تلك العقوبات. ومن ناحية أخرى، تؤكد إيران عدم تفاوضها مجددًا على ملفها النووي، ورفضها التفاوض بشأن ملفات أخرى محل خلاف مع واشنطن.

وفي ظل هكذا وضع متأزم تصعب معه العودة للاتفاق النووي، فإنه يمكن اللجوء للالتزام الجزئي القائم على العودة المتدرجة للاتفاق النووي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والبدء بإزالة بعض العقوبات، تقابلها عودة إيرانية متدرجة في الالتزام ببنود الاتفاق والتراجع عن خطوات خفض الالتزام، مثل التراجع عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%. وهو ما يعني “اتخاذ واشنطن وطهران خطوات صغيرة دون الالتزام الكامل بالاتفاق”.

ويعد هذا السيناريو أحد السيناريوهات المطروحة من أجل كسب الوقت، والإبقاء على قناة اتصال بين واشنطن وطهران.

وأيًّا كان السيناريو المحتمل، فمن خلال متابعة التصريحات الرسمية من أطراف التفاوض، يمكن تلمس تفاؤل حكومي إيراني بالتوصل لاتفاق قبل نهاية فترة ولاية حكومة الرئيس حسن روحاني منتصف أغسطس المقبل من جهة، ورغبة أمريكية في إبرام صفقة العودة قبل تولي الرئيس الإيراني الجديد مهامه[49]، وهو أمر مفيد لكل الأطراف على السواء:

– بالنسبة للولايات المتحدة، فإن التفاوض مع الحكومة الإصلاحية قد يكون أكثر فعالية وسهولة وليونة من حكومة برئاسة أحد رموز التيار المتشدد.

– بالنسبة لحكومة روحاني، فإن ذلك سوف يعزز من شعبيتها وقدرتها على رفع العقوبات الأمريكية مرتين وليس مرة واحدة، والخروج من السلطة بانتصار سياسي كبير.

– بالنسبة لحكومة رئيسي، فإن ذلك يجعل من السهل تحميل حكومة سلفه (حسن روحاني) أي تنازلات قد تضطر إيران لقبولها، وهو ما يجنبها أي تعارض مع التوجهات المتشددة لقاعدتها الجماهيرية.

_________________________

الهوامش

[1] للتعرف على بنود الاتفاق النووي الإيراني، انظر:

– Seyed Hossein Mousavian & Mohammad Mehdi Mousavian, Building on the Iran Nuclear Deal for International Peace and Security, Journal for Peace and Nuclear Disarmament, Vol. 1, No. 1, Jan 2018, p.181.

– Kenneth Katzman and Others, Possible U.S. Return to Iran Nuclear Agreement: Frequently Asked Questions, Congressional Research Service, January 2021, pp.4-5.

[2] Seyed Hossein Mousavian & Mohammad Mehdi Mousavian, Building on the Iran Nuclear Deal for International Peace and Security, Op. cit., pp. 178-179.

[3]Ibid.

[4] Ibid, pp. 181-182.

[5] Kenneth Katzman and Others, Possible U.S. Return to Iran Nuclear Agreement, Op. cit., p. 6.

[6] Riccardo Alcaro, Europe’s Defence of the Iran Nuclear Deal: Less than a Success, More than a Failure, The International Spectator, Vol, 56, No. 1, 2021, pp. 59-60.

[7] Matthew Kroenig, The Return to the Pressure Track: The Trump Administration and the Iran Nuclear Deal, Diplomacy & Statecraft, January 2018, Vol. 29,  No. 1, pp.  5-6.

[8] طالب رجا المساعيد، موقف الولايات المتحدة من إيران بعد الاتفاق النووي “2015-2019″، رسالة ماجيستير، معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت (الأردن)، 2020، ص 148.

[9] مصطفى جابر العلواني، العقوبات الأمريكية وأثرها على فاعلية الدور الإيراني في المنطقة وفي مستقبل النظام الدولي، رؤيا للبحوث والدراسات، تاريخ النشر: 20 سبتمبر 2018، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3xzGK0A

[10] Muqtedar Khan, Biden’s Plan To Revive Iran Talks Could Calm The Middle East – But On Israel He And Trump Largely Agree, The Conversation U.S, Boston, Boston, 19 Oct 2020.

[11] Anthony H. Cordesman, The Biden Administration’s Security Challenges in the Gulf, Center for Strategic and International Studies, Jan 2021, p. 3.

[12] للاطلاع على تلك الانتهاكات، انظر:

Peter Brookes and Others, Iran Nuclear Deal: Next Steps, ISSUE BRIEF, The Heritage Foundation, No. 5030, Jan 2021, pp. 2-3.

[13] Ibid, p. 2.

[14] Ibid, p. 3.

[15] Riccardo Alcaro, Europe’s Defence of the Iran Nuclear Deal, Op. cit., p.64.

[16] Ariane M. Tabatabai and Annie Tracy Samuel, What the Iran-Iraq War Tells Us about the Future of the Iran Nuclear Deal, International Security, Vol. 42, No. 1, Summer 2017, p. 183.

[17] Muqtedar Khan, Biden’s Plan To Revive Iran Talks Could Calm The Middle East, Op. cit.

[18] Kenneth Katzman and Others, Possible U.S. Return to Iran Nuclear Agreement, Op. cit., pp. 3-4.

[19] Pat Shilo and Todd Rosenblum, President Biden Has Five Options for Future Negotiations with Iran, Third Way, 15 March, 2021, accessed: 7 July 2021: https://cutt.us/WoV7D

[20] G7 تدعم استئناف الاتفاق النووي وتدعو طهران لوقف تطوير برنامجها الصاروخي، روسيا اليوم، تاريخ النشر: 13 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 2 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3w8nHcA

[21]إبراهيم المفتي، المستقبل الصعب للعلاقات الإيرانية-الأميركية في عهد بايدن، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 24 فبراير 2021، تاريخ الاطلاع: 4 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://cutt.us/bxLDq

[22] مايسة مرزوق، سيناريوهات مستقبل الاتفاق النووي الإيراني مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 ج.2، البيان، المنتدى الإسلامي، العدد 407، مارس 2021، ص ص 56-57.

[23] Kenneth Katzman and Others, Possible U.S. Return to Iran Nuclear Agreement, Op. cit., p. 16.

[24] مايسة مرزوق، سيناريوهات مستقبل الاتفاق النووي الإيراني مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 ج.2، مرجع سابق، ص 54.

[25] Pat Shilo and Todd Rosenblum, President Biden Has Five Options for Future Negotiations with Iran, Op. cit., p. 6.

[26] فاطمة الصمادي، تبادل الشروط بين طهران وواشنطن: تأجيل الحل والمواجهة معًا، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 11 فبراير 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://cutt.us/rqVJq

[27] ترتيب طوعي يسمح لمفتشي الوكالة الدولية بزيادة الوصول إلى المواقع والمعلومات المتعلقة بالبرنامج النووي للتحقق من أن المواد النووية لا يتم تحويلها لأغراض خبيثة، بينما تواصل الوكالة مراقبة بعض الأنشطة النووية بموجب اتفاقية الضمانات الشاملة الإيرانية.

[28] Kelsey Davenport and Others, Iran Nuclear Talks Head to Sixth Round, 7 June 2021, Accessed: 19 June 2021: https://bit.ly/3zHqMDA

[29] الولايات المتحدة ترفع رسميا حركة “أنصار الله” الحوثية من قائمة الإرهاب، موقع روسيا اليوم، تاريخ النشر: 16 فبراير 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3Alasst

[30] عبد المنعم سعيد، إعادة تشغيل العلاقات الإيرانية ـ الأميركية!، وكالة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: 3 مارس 2021، تاريخ الاطلاع 7 يوليو 2021: https://cutt.us/v15aL

[31] محمود حمدي أبو القاسم وعبد الرؤوف مصطفى الغنيمي، معضلة سلوك إيران الإقليمي: أيّ تداعيات مُحتمَلة لدبلوماسية بايدن؟، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، تاريخ النشر: 14 مارس 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3jG0qfC

[32] الجيش العراقي يسقط طائرتين مسيرتين حاولتا استهداف قاعدة عين الأسد الجوية التي تضم أمريكيين، موقع فرانس 24، تاريخ النشر: 6 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3hz2UJQ

[33] ضربات جوية أمريكية على “منشآت تستخدمها ميليشيات موالية لإيران” على الحدود السورية العراقية، موقع فرانس 24، تاريخ النشر: 28 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3dGY3VN

[34] رسائل طهران التصعيدية تُعقد خيارات واشنطن التفاوضية، الجزيرة.نت، تاريخ النشر: 4 مارس 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3qI2rco

[35] إبراهيم المفتي، المستقبل الصعب للعلاقات الإيرانية-الأميركية في عهد بايدن، مرجع سابق

[36] الاتفاق النووي الإيراني: الولايات المتحدة تشارك في محادثات في فيينا، موقع بي بي سي، تاريخ النشر: 6 إبريل 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bbc.in/3yfxPl2

[37] محادثات فيينا.. قريبون من الاتفاق ولكن!، الجزيرة.نت، تاريخ النشر: 22 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3wgigYY

[38] عراقجي: الخلافات في محادثات فيينا حول الاتفاق النووي مرتبطة بالقضايا الرئيسية، سبوتنيك.كوم، تاريخ النشر: 9 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3hxWivl

[39] بعد رفضها تسليم بيانات مواقعها النووية.. إيران: لم نحسم قرارنا بشأن تمديد مراقبة وكالة الطاقة الذرية، سي إن إن عربي، تاريخ النشر: 28 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://cnn.it/3AzJXzF

[40] Sina Azodi, Iran elections and the nuclear deal: Why Biden can’t lose, no matter who wins, Bulletin of The Atomic Scientists, 7 June 2021, Accessed: 19 June 2021, https://bit.ly/3wGn7Uh

[41] فاطمة الصمادي، تبادل الشروط بين طهران وواشنطن: تأجيل الحل والمواجهة معًا، مرجع سابق

[42] لماذا يطالب مجلس التعاون الخليجي بتضمين دوله في الاتفاق النووي؟، سبوتنيك.كوم، تاريخ النشر: 25 مارس 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/2UoVPn7

[43] بايدن والرئيس الإسرائيلي يبحثان الملف النووي الإيراني، إندبنت العربية، تاريخ النشر: 28 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3xg9taJ

[44] Kelsey Davenport, Efforts to Restore Iran Deal Remain Stalled, Arms Control Association, April 2021, Accessed: 19 June 2021, https://bit.ly/3xzguDC

[45] Anthony H. Cordesman, The Biden Administration’s Security Challenges in the Gulf, Op. cit., p. 9.

[46] Kelsey Davenport, Biden Victory May Save Iran Nuclear Deal, Arms Control Association, December 2020, Accessed: 19 June 2021: https://bit.ly/2S9AVru

[47] إبراهيم المفتي، المستقبل الصعب للعلاقات الإيرانية-الأميركية في عهد بايدن، مرجع سابق

[48] فاطمة الصمادي، تبادل الشروط بين طهران وواشنطن: تأجيل الحل والمواجهة معًا، مرجع سابق

[49] تحدث عن تقدم بمفاوضات فيينا.. ظريف: مستعدون لإرسال سفيرنا إلى السعودية غدا، الجزيرة.نت، تاريخ النشر: 19 يونيو 2021، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3gJks5z

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى