الصحافة والفضائيات بين الإطلاق والتقييد

مقدمة:

الحرية أهم شروط نهضة الإعلام وتطوره كمهنة ورسالة وصناعة، فلكي تنجح الوسيلة الإعلامية لا بد أن تكون قادرة على تقديم مضمون يجذب لها الجماهير، وهذا المضمون لا يمكن أن يكون جذابًا إذا لم يتم إنتاجه بحرية، فالقيود تقلل من جاذبية المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام، لأن هذا المضمون لا يتم تشكيله طبقًا لإرادة الهيئة التحريرية للوسيلة الإعلامية.
تلك حقيقة يدركها معظم الإعلاميون، لكن في كثير من الأحيان يثور الجدل حول مدى الحرية وحدودها ومفهومها، وهذا الجدل سوف يستمر لفترة طويلة.
ولكي نستطيع أن نقدم قراءة للواقع الإعلامي العربي فإننا يجب أن نحدد أركان مفهوم حرية الإعلام لكي نتمكن من توصيف هذا الواقع في ضوئها.

أولاً- مفهوم حرية الإعلام

تدعى معظم الدول أن نظمها الإعلامية تمتع بالحرية، وتستخدم في تبرير هذا بعض أشكال المضمون الذي يعارض السلطة أو يكشف جوانب الفساد في المجتمع.
لذلك فإنه لابد من الاتفاق على معايير يتم الاحتكام لها عند توصيف الواقع الإعلامي في أية دولة ومدى حريته والقيود المفروضة عليه. وفي ضوء هذه المعايير يمكن أن نحدد مدى اقتراب نظام إعلامي من حرية الإعلام أو ابتعاده عنها. وهذه الأركان هي:

(أ) التعددية والتنوع:
إذا كانت التعددية السياسية ضرورة لتحقيق الديمقراطية فإن تعددية وسائل الإعلام ضرورة لإدارة المناقشة الحرة بين الاتجاهات السياسية وتوفير المعرفة للمواطنين، بحيث يتشكل المواطن العارف الذي يستطيع أن يشارك في إدارة شؤون المجتمع، ويهتم بقضاياه ويختار نوابه بحرية، ويختار البرامج السياسية والاقتصادية التي يشكل على أساسها مستقبله.
ولذلك فإنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية في مجتمع لا يتوفر فيه عدد من الوسائل الإعلامية تكفى لإشباع احتياجات جماهيره للمعرفة، وإدارة المناقشة الحرة بين اتجاهاته السياسية.
وتختلف حاجة كل مجتمع لعدد الوسائل الإعلامية التي تكفي احتياجاته المعرفية، فقد يتوفر في مجتمع عدد كبير من الوسائل الإعلامية لكنها لا تكفي للوفاء بحق جمهوره في المعرفة نتيجة لأنها تفتقد التنوع في أشكال الملكية واتجاهات المضمون والقوى السياسية والاتجاهات الفكرية التي تعبر عنها.
لذلك فإن هناك علاقة قوية بين تعددية الوسائل الإعلامية وتنوع المضمون الذي تقدمه والمصادر التي تعتمد عليها ومرجعياتها الفكرية والسياسية والأهداف التي تريد تحقيقها والهيئات التحريرية التي تشكل هذا المضمون.
وطبقًا لذلك فإنه لا تتحقق حرية الإعلام في مجتمع يتوفر فيه عدد كبير من الوسائل الإعلامية التي تعبر عن حزب أو اتجاه سياسي واحد كما كان يحدث في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية.
كما لا تتوفر الحرية إذا كانت وسائل الإعلام في أي مجتمع تعبر عن اتجاه سياسي واحد، أو يتم حرمان اتجاه سياسي من امتلاك وسائل إعلامية أو استخدامها في الوصول للجماهير.
في ضوء ذلك فإن مقياس التعددية ليس هو عدد الوسائل الإعلامية في أي مجتمع، وإنما قدرة هذه الوسائل الإعلامية على التعبير عن التعددية السياسية والفكرية، وأن تمثل مصادر متعددة للمعرفة… وفي أن تكون هذه الوسائل لا تخضع لأي نوع من الاحتكار السلطوي أو الرأسمالي.
لذلك فإننا لكي نعرف مدى تعددية الوسائل الإعلامية وتنوعها لابد أن نحدد ما يلي:
(1) عدد الوسائل الإعلامية (صحف – محطات إذاعة – قنوات تلفزيون – شبكات معلوماتية وإخبارية ومعرفية عبر الانترنت).
(2) ملكية هذه الوسائل، وأساليب إدارتها.
(3) علاقة هذه الوسائل بالسلطة.
(4) مدى قدرة هذه الوسائل على التعبير عن الاتجاهات السياسية والفكرية.
(5) مدى التنوع في المصادر التي تعتمد عليها في تغطية الأحداث.
(6) مدى تنوع المضمون الذي تقدمه.
(7) مدى قدرة هذه الوسائل على إشباع الاحتياجات المعرفية والإعلامية للجمهور.

(ب) انعدام القيود:
توضح دراسة تاريخ وسائل الإعلام أنه كلما زادت درجة استبدادية السلطة وشموليتها زادت رغبتها في فرض القيود على حرية إصدار الصحف وإنشاء الوسائل الإعلامية، واستخدام النصوص القانونية والإجراءات السلطوية والضغوط الاقتصادية لمنع هذه الوسائل من تقديم المضمون الذي يزيد وعي الجماهير وقدرتها على تحقيق التغيير.
وفي ضوء ذلك فإنه يمكن التعرف على درجة حرية الإعلام في أي مجتمع من خلال معرفة القيود القانونية والسلطوية على إنشاء الوسائل الإعلامية، وإدارتها وتشكيل مضمونها.
وكلما زادت القيود قلَّت قدرة المجتمع على تطوير صناعاته الإعلامية والاتصالية، وعلى استخدامه لوسائل الإعلام لإشباع احتياجات جمهوره.
لكن لا بد من النظر بصورة أوسع للقيود التي تعرض على وسائل الإعلام، فبينما تتجه النظم السلطوية إلى استخدام القيود القانونية والسلطوية، تتجه الدول الرأسمالية إلى التحكم باستخدام الضغوط الاقتصادية، وزيادة الاحتكار والتركيز في ملكية وسائل الإعلام.

(ج) انعدام الرقابة
تعتبر الرقابة أكثر أشكال القيود على حرية الإعلام خطورة وهي إحدى سمات النظم السلطوية التي تستخدمها بفرض التحكم في المعلومات التي تصل إلى الجماهير، والمضمون الذي تنشره أو تبثه وسائل الإعلام.
وقد عرف تاريخ وسائل الإعلام الكثير من أشكال الرقابة التي استخدمتها السلطات للتحكم في المضمون الذي يصل إلى الجماهير، ومنع نشر أو إذاعة المعلومات التي تكشف مساويء السلطة أو سلبياتها.
أما الوطن العربي فقد عرف وظائف أخرى للرقابة لم يعرفها العالم، أهمها استخدام وسائل الإعلام في نشر أو إذاعة مضمون تريد السلطات توصيله للجماهير، بالإضافة إلى تخويف الصحفيين وإرسال المواد التي يحظر الرقباء نشرها إلى الأجهزة الأمنية لمعاقبة الصحفيين الذين أنتجوها.
أدى ذلك إلى ظهور نوع خطير من الرقابة هو الرقابة الذاتية self censorship، وقد ظهر هذا النوع من الرقابة في كل دول العالم خاصة خلال الأزمات، لكنه انتشر في الوطن العربي بشكل كبير، فعملية التخويف الذي تقوم بها السلطات بشكل دائم جعل الصحفيين يميلون دائمًا إلى إنتاج مواد آمنة لا تثير جدلاً، ولا تكشف عن سلبيات السلطة ولا تتعارض مع توجهاتها.
وأدى ذلك إلى عدم جاذبية المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام.

(د) حماية حق وسائل الإعلام في الحصول على المعلومات ونشرها:
تعتبر المعلومات المادة الخام التي تشكل منها وسائل الإعلام مضمونها، ولا يمكن أن تزدهر صناعة الإعلام إلا إذا تمكن الإعلاميون من الحصول على المعلومات وتغطية الأحداث دون قيود.
لكن توجد في معظم دول العالم نصوص قانونية وإجراءات إدارية وسلطوية تعاقب الموظفين على الإدلاء بمعلومات للصحفيين، ومن أهم العقوبات التي يواجهها الموظفون الفصل من العمل أو الحرمان من الترقي الوظيفي، وهي عقوبات تؤدي إلى فرض نوع من السرية الواقعية على الكثير من أنواع المعلومات.
والحصول على المعلومات حق لكل مواطن، لكن المواطن لا يقوم بالبحث عن المعلومات إلا في حالات قليلة، وعندما تكون تلك المعلومات تشكل له فائدة شخصية، لذلك فإن الصحفيين يقومون بدور الوكالة عن المواطنين في البحث عن المعلومات ونشرها وإذاعتها. لذلك فإن حماية حق الصحفيين في الحصول على المعلومات يشكل حماية لحقوق المواطنين في الحصول على المعلومات والمعرفة.
وفي ضوء ذلك يعتبر كل تقييد لعملية تدفق المعلومات بمنع الصحفيين من تغطية الأحداث، أو إغلاق أبواب المصادر أمامهم اعتداء على حرية المواطنين في الحصول على المعلومات وحقهم في المعرفة، كما أنه يشكل تقييدًا للديمقراطية التي تقوم على المواطن العارف Informed Citizen المهتم بشؤون المجتمع وقضايا الوطن والأمة.

ثانيًا- الصحف والفضائيات في الوطن العربي: حدود التعددية والتنوع

إذا طبقنا الأركان السابقة لحرية الإعلام على الصحف والفضائيات في الوطن العربي فإننا يمكن أن نكتشف الحدود التي تعمل في إطارها، والقيود التي تمنع قيام صناعة عربية مستقلة للإعلام والاتصال.

(‌أ) الصحف الورقية المطبوعة:
كل الدول العربية تفرض قيودًا قانونية وإدارية على إصدار الصحف، وأدى ذلك إلى قلة عدد الصحف في الوطن العربي مقارنة بأية دولة غربية، وبما لا يتناسب مع أعداد السكان واحتياجاتهم الإعلامية.
وبالرغم من وجود دساتير في معظم الدول العربية تحمى حرية الصحافة، إلا أن هذه الدول لا تحترم دساتيرها وتستخدم القوانين في حرمان المواطنين من حقهم في إصدار الصحف.
وتعتبر مصر حالة شاهدة على ذلك، فقد تضمن دستور عام 1971 المادتين 47 و48؛ حيث كفلت الأولى حرية الرأي والتعبير عنه وكفلت الثانية حرية الصحافة والإعلام، ثم أضيفت المادة 208 في استفتاء إبريل 1980 لتؤكد الحماية الدستورية لحرية الصحافة.
وحرية إصدار الصحف وامتلاكها وإدارتها هو أساس التعددية والتنوع وهو الركن الأول لحرية الصحافة… وطالما أن الدستور يكفل هذه الحرية، فإنه يكفلها بكل أركانها وبشكل كامل، ولا يجوز فرض أية قيود على حرية كفلها الدستور بواسطة قانون أو بإجراءات سلطوية.
إن هذا يعني أن الدستور قد كفل حرية إصدار الصحف للمواطنين ضمنًا باعتبارها أهم وسائل التعبير عن الرأي في المادة 47، وكفل حق إصدار الصحف لكل مواطن ضمنًا باعتبارها الركن الأول لحرية الصحافة في المادتين 48 و208.
وطبقًا لذلك فإن أية قيود على حق إصدار الصحف في أي قانون تكون غير دستورية وتشكل انتهاكًا للكفالة الدستورية لحرية الصحافة.
يمكن الاعتراض على ذلك بأن المواد الدستورية 47 و48 و208 كفلت حرية الرأي والصحافة في حدود القانون أو طبقًا للأوضاع التي يحددها القانون، وهذا يعني أنه أباح للمشرع أن يتدخل لتنظيم ممارسة الحرية. لكن إذا كانت عبارة في حدود القانون تبيح للمشرع أن يقيد الحرية، ففي هذه الحالة تصبح المادة الدستورية التي تكفل الحرية لا قيمة لها، طالما أن المشرع يستطيع أن يقيد الحرية التي كفلها الدستور، وأن يحظر بالقانون ما يبيحه الدستور ويقيد ما أطلقه وكفله.
وتوضح دراسة القانون رقم 96 لسنة 1996 الذي ينظم الصحافة في مصر أن المشرع قد حرم الشخص العادي من حقه في إصدار الصحف وأعطى هذا الحق فقط للأشخاص الاعتبارية العامة والخاصة والأحزاب السياسية، ثم قيد الأشخاص الاعتبارية الخاصة، فأباح فقط للشركات المساهمة إصدار الصحف اليومية والأسبوعية، وأعطى لشركات التوصية بالأسهم الحق في إصدار المجلات الشهرية والصحف الإقليمية.
ثم فرض الكثير من القيود على الشركات المساهمة، ومن أهم هذه القيود أن لا يقل رأس مال الشركة المدفوع عن مليون جنيه إذا كانت الصحيفة يومية، وأن لا تزيد ملكية الشخص وأفراد أسرته وأقاربه حتى الدرجة الثانية في رأس مال الشركة عن 10% من رأس مالها.
وهذه القيود يمكن التغلب عليها لكن دراسة الواقع الصحفي منذ عام 1980 حتى الآن توضح أن عملية إصدار الصحف قد ارتبطت برضاء السلطة، وأن القيود القانونية تستخدم بشكل تعسفي للتحكم السلطوي في إصدار الصحف، ومنع صدور صحف جديدة.
هناك أيضًا شكل آخر لملكية الصحف هو ملكية الدولة؛ حيث تم نقل ملكية المؤسسات الصحفية التي يطلق عليها وصف القومية من ملكية الاتحاد الاشتراكي العربي إلى ملكية الدولة.
ويتضح من ذلك أن الدولة قد تمتعت بوضع المحتكر في سوق صحفية شبه رأسمالية، وتتحكم السلطة في هذه المؤسسات، كما تتحكم في عملية الدخول إلى السوق، وتفرض الكثير من القيود القانونية على عملية إصدار الصحف لكي تمنح عملية إصدار صحف جديدة.
كما أن السلطة تقيد عملية إصدار الصحف لكي تمنع تيارات سياسية وفكرية من الوصول إلى الجماهير باستخدام الصحافة، وهو ما يعني تقييد الديمقراطية وحق الشعب في الاختيار للبرنامج الذي يقوم على أساسه بصياغة مستقبله.
في ضوء ذلك يتضح ما يلي:
(1) توضح حالة مصر أن السلطات في الوطن العربي ما زالت تتحكم في سوق الصحافة باستخدام النصوص القانونية والإجراءات السلطوية التي تتناقض مع نصوص الدساتير وتقيد حرية الصحافة التي كفلتها.
(2) إن القيود التي فرضتها السلطة قد أضعفت الصحافة كصناعة ورسالة، فالمجتمع المصري يعيش على 11 صحيفة يومية بينما يزيد عدده عن 80 مليون نسمة، وهو ما لا يمكن أن يكفي حاجة المجتمع للمعرفة ولا يشبع احتياجات المواطنين الإعلامية.
(3) إن تقييد حرية إصدار الصحف وتحكم السلطة فيها قد قلَّل من إمكانيات تحقيق الديمقراطية وإدارة الحوار بين الاتجاهات السياسية والفكرية.
(4) إن السلطات في الوطن العربي ما زالت تعيش بعقلية ما قبل ثورة الاتصال ومازالت تصر على التحكم في سوق الصحافة، واحتكار ملكية المؤسسات الصحفية القومية ماديًا، ولا تدرك أن هذا التحكم قد أضعف القوة الإعلامية للدولة.
(5) إن النظم الصحفية في الدول العربية تتشابه في أنها بنيت على أساس المفهوم السلطوي وهو أكثر النظم الصحفية تخلفًا.
(6) بالرغم من وجود صحف مستقلة إلا أنها تدرك أنها تعمل في إطار ذلك النظام الصحفي السلطوي، وهي تراعي شروط هذا النظام فيما تنتجه من مضمون.
(7) تبدو الاستثناءات في الوطن العربي قليلة، وهي تؤكد صحة النتائج السابقة، وأهمها إمكانيات ازدهار الصحافة في الوطن العربي إذا تم إطلاق حق إصدار الصحف، وظهرت صحف جديدة ومستقلة، وحالة اليمن تبدو شاهدة على ذلك.
(8) إن استمرارية التفكير السلطوي في تقييد عملية إصدار الصحف تقلل من فرص الوطن العربي في تشكيل الوعي العام بقضايا الأمة، وبناء مجتمع المعرفة، وتحقيق التنمية، وبناء الاقتصاد القائم على المعرفة.
(9) هناك علاقة قوية بين ازدهار الصحافة ونهضة الأمة… فالصحافة يمكن أن تدير الحوار حول أسس بناء النهضة وتزيد معرفة الجماهير وطموحاتها، وفي الوقت نفسه توفر حالة النهوض إمكانيات لزيادة اهتمام المواطنين بالشأن العام ويزيد حاجتهم للصحافة، وهو ما يمكن أن يوفر إمكانيات لازدهار صناعة الصحافة.
(10)توضح دراسة التاريخ أن الصحافة يمكن أن تساهم بدور مهم في تعبئة المواطنين لتحقيق أهداف وطنية؛ حيث قامت الصحافة في مصر والجزائر بدور مهم في تعبئة الجماهير ضد الاحتلال وتحقيق الاستقلال، لكن هذا الدور تناقص نتيجة تحكم السلطات في الصحافة في الخمسينيات والستينيات.
(11)يوضح ذلك أن حرية الصحافة تشكل إمكانية لحماية الاستقلال الوطني، وزيادة الوعي العام والولاء للوطن.
(12)لكن لكي يتحقق ذلك يجب تحرير الصحافة من التبعية للسلطة، ومن التبعية للنظام الإعلامي الدولي، وهذا يشكل تحديًا مهمًا يجب أن نواجهه بشجاعة بهدف زيادة القوة الإعلامية العربية، وتوفير الظروف الموضوعية لازدهار صناعة الصحافة في الوطن العربي.
(13)لكي تزدهر الصحافة في الوطن العربي لابد من تحقيق التعددية والتنوع عن طريق إلغاء كل القيود التي تقيد حقوق المواطنين في إصدار الصحف.

(‌ب) حرية القنوات الفضائية في الوطن العربي: حدود التنوع والتعددية
جاءت ثورة الاتصال لتفتح المجال أمام إنشاء الكثير من القنوات الفضائية عبر الأقمار الاصطناعية… وبذلك خرج العالم من حالة الندرة التي شكلت التفكير في بناء النظم الإعلامية وتحكم السلطات في القنوات التلفزيونية إلى حالة الوفرة التي تتيح إمكانيات كبيرة لزيادة القوة الإعلامية للدولة، وتطوير صناعة المضمون التلفزيوني وتحقيق التعددية والتنوع في القنوات التلفزيونية وفي المضمون الذي تقدمه.
ولقد تطلعت كل الدول للاستفادة من ثورة الاتصال اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا… ولذلك قامت مصر بإطلاق القمر الصناعي نايل سات، والذي شكل إنجازًا مهمًا؛ حيث أن القمر يستطيع أن يحمل عددًا كبيرًا من القنوات عن طريق النظام الرقمي. بالإضافة إلى القمر الصناعي العربي “عرب سات”، وشكل القمران إمكانيات لبناء صناعة مضمون تليفزيوني متنوع، وزيادة القوة الإعلامية والثقافية العربية. هذا بالإضافة إلى أن دولاً عربية تخطط لإنشاء أقمار صناعية جديدة.
لكن المشكلة أن الإطار القانوني العربي لا يتناسب مع ثورة الاتصال؛ فظلت الدول العربية تحافظ على قوانينها المتخلفة التي تم إصدارها في عصر الندرة عندما كانت الترددات محدودة، وكانت هناك إمكانيات لتحكم السلطات في البث التليفزيوني، واحتكار ملكية القنوات التليفزيونية، واستخدامها للترويج لقرارات السلطات وتبريرها.
على سبيل المثال فإنه بالرغم من أن مصر قد امتكلت قمرًا اصطناعيًّا، إلا أنها ظلت تحافظ على قانون اتحاد الإذاعة والتلفزيون الصادر في 29 مارس 1979 والذي ينظم البث الإذاعي والتلفزيوني، وقد أعطى هذا القانون لاتحاد الإذاعة والتلفزيون ملكية احتكارية للمحطات الإذاعية والتلفزيونية، وبالتالي فإنه يمنع وجود ملكية فردية أو ملكية شركات مساهمة أو أشخاص اعتبارية عامة أو خاصة للمحطات الإذاعية والتلفزيونية.
كما أعطى هذا القانون لاتحاد الإذاعة والتلفزيون الحق في الإشراف على المضمون الذي تبثه المحطات الإذاعية والتلفزيونية والحق في الرقابة على هذا المضمون والحق في وضع القواعد المنظمة للرقابة، وإنتاج المواد الفنية الإذاعية والتلفزيونية وتسويقها في الداخل والخارج.
وبالرغم من أن القانون يصف اتحاد الإذاعة والتلفزيون بأنه هيئة قومية، وهذا يعني إمكانية استقلال هذه الهيئة عن السلطة وإداراتها بشكل قومي كخدمة عامة على غرار الـ BBC، لكن دراسة القانون توضح أنه أعطى السلطة التنفيذية السيطرة على اتحاد الإذاعة والتليفزيون؛ حيث أعطت المادة الرابعة لوزير الإعلام الحق في الإشراف على الاتحاد ومتابعة تنفيذه للأهداف القومية. كما أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين رئيس مجلس الأمناء، ويقوم رئيس الوزراء بتعيين مجلس الأمناء.
لذلك هناك حاجة للبحث عن تصور جديد لملكية القنوات التليفزيونية وإدارتها، فعبر فترة زمنية طويلة تشكلت إمكانيات كبيرة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، وهذه الإمكانيات تعتبر ثروة للشعب المصري بالمقاييس المادية والثقافية والإعلامية ولذلك لا يمكن خصخصة هذا الاتحاد بكل ما يملكه من قنوات، ولكن هناك ضرورة لقانون جديد ينظم هذا الاتحاد على أنه ملك للمجتمع كله، وأنه يمثل كل اتجاهات المجتمع، ويهدف إلى تحقيق القوة الإعلامية للدولة، وتشكيل الرأي العام وتحقيق الديمقراطية والتنمية. وهذا يعني أنه يجب أن يقوم على تصور جديد يضمن استقلال هذا الاتحاد وعدم تبعيته للسلطة، وقيامه بعدد من الوظائف لصالح المجتمع.
وقبل إصدار قانون جديد يجب إجراء دراسة شاملة لاحتياجات المجتمع، وتحديات ثورة الاتصال، والحاجة إلى تحول المجتمع المصري إلى مجتمع معرفة والدور الذي يمكن أن تقوم به القنوات التلفزيونية في هذا التحول وكموارد مهمة في بناء هذا المجتمع المعرفي.
التحدي القائم هو كيف يمكن أن تساهم القنوات الفضائية في بناء مجتمع المعرفة وليس الترويج لقرارات السلطة وتبريرها طبقًا لتصور الستينيات.
وفي الوقت نفسه فإن القنوات التلفزيونية المملوكة للدولة يجب أن لا تتم إدارتها بأسلوب تجاري ويهدف تحقيق الأرباح، فملكية الدولة للقنوات التي تتبع الاتحاد تتيح إمكانيات أن تقوم هذه القنوات بتوفير المعرفة للجمهور وإدارة المناقشة الحرة والابتعاد عن وسائل الإثارة والمضمون المبسط السطحي الذي يجذب الجمهور، لذلك فإن الاتحاد يجب أن يتم إعادة تنظيمه قانونيًا بحيث يضمن حقوق المجتمع والتعبير عن الاتجاهات السياسية المختلفة والوفاء بحق الجماهير في المعرفة.
وهذه الوظائف يمكن أن تقلل من التأثير السلبي للاتجاه التجاري في قنوات التليفزيون والذي يقوم على التعامل مع الجمهور كمستهلكين وليس كمواطنين، فيقدم لهم مواد مسلية جذابة ولكنها مسطحة تؤدي إلى تزييف وعيهم والتقليل من قدرتهم على المشاركة في الإدارة الديمقراطية للمجتمع.
كما أن هذه القنوات المملوكة للدولة يمكن أن تقوم بأدوار مهمة لصالح المجتمع من أهمها المساهمة في تحقيق التنمية، والدبلوماسية العامة، والتعبير عن الأهداف العامة للدولة خاصة في مجال السياسة الخارجية وتنمية الثروة الثقافية والمعرفية.

(‌ج) واقع القنوات الفضائية العربية:
كانت القنوات الفضائية العربية التي تجاوز عددها حتى الآن 450 قناة من أهم تجليات ثورة الاتصال الحديثة لكن يمكن تصنيف هذه القنوات على النحو التالي:
(1) قنوات التسلية: وهذا النوع يشكل النسبة الأكبر من القنوات العربية، وهي تركز على التسلية طبقًا للنموذج الغربي، وتكرس التبعية في مجال صناعة التسلية، وهذه القنوات تؤثر بشكل سلبي على المعرفة، فهي تؤدي إلى نشر التسطيح والجهل وإبعاد الناس عن مجالات المعرفة الحقيقية.
ومعظم المضمون المسلي الذي تقدمه هذه القنوات لا علاقة له بقضايا الأمة العربية ومشكلاتها، ولا علاقة له بالتراث أو الثقافة العربية، وهي تساهم بشكل كبير في عملية الإلهاء العام وتؤدي إلى زيادة التغريب نتيجة اتباعها لنموذج التسلية الغربي، وحتى إن بدا المضمون المسلي في بعض الأحيان ينطلق من الواقع العربي إلا أنه يسير طبقًا لشروط صناعة التسلية الغربية.
وهذه القنوات تؤثر بشكل سلبي أيضًا على الهوية العربية والإسلامية للأمة، فهي تشجع الشباب على التغريب وتقليد نموذج الحياة الغربية.
ولقد فتحت السلطات العربية المجال أمام إنشاء هذه القنوات لإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية، وإبعادهم عن التفكير في القضايا الكبرى وعلى رأسها قضايا الحريات وحقوق الإنسان والتنمية.
السلطات العربية ساهمت أيضًا في زيادة انتشار هذه القنوات لأنها لا تريد أن تصل للجماهير المعرفة التي تزيد الوعي وتشجع على المشاركة السياسية أو العمل المنظم لتحقيق التغيير، لذلك فإن كل السلطات العربية شجعت على إنشاء قنوات التسلية حتى تلك التي تقدم تسلية هابطة تتناقض مع منظومة القيم العربية.
وبالرغم من انتشار هذه القنوات إلا أن هناك قدرًا من السخط لدى الجماهير العربية على هذه القنوات، ولذلك فإن زيادة نسبة التعرض لها لا يعود إلى جاذبية المضمون الذي تقدمه ولكنه يعود إلى عدم وجود بديل يقدم مضمونًا معرفيًّا جذابًا.
وتقوم معظم هذه القنوات على تقديم الدراما، لكن معظم الإنتاج الدرامي العربي يقوم على أفكار مكررة ومشكلات اجتماعية لا تتيح إمكانيات لظهور أفكار جديدة أو عرض تطور المجتمعات العربية. وفي الكثير من الأحيان تشوه هذه الدراما صورة الشخصية العربية، أو شخصيات شعوب عربية معينة، فتظهر هذه الشعوب بصفات سلبية.
وهناك مجموعة قليلة من الممثلين يطلق عليهم مصطلح “النجوم”، وأصبحوا يحصلون على أرقام عالية جدًّا لاشتراكهم في أعمال درامية، ويرجع ذلك إلى إغلاق الأبواب أمام ظهور مواهب جديدة، واعتماد العمل الدرامي على شخصية البطل النجم بدلاً من الاعتماد على جاذبية الأفكار أو القصة التي تقوم عليها.
وعلى سبيل المثال فقد أنفق اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري 750 مليون جنيه على المسلسلات التي عرضت خلال شهر رمضان، ومعظم تلك المسلسلات لا يتضمن أفكارًا جديدة أو مضمونًا جادًّا.
وقد حاولت السلطة استخدام الدراما لتحقيق أهداف سياسية، وكوسيلة لإدارة صراعها مع الإخوان المسلمين؛ حيث أنفقت الكثير من المال على مسلسل “الجماعة”، لكن هذا المسلسل شوه تاريخ مصر، وتعمد حجب كفاح المصريين لتحقيق الاستقلال، كما شكَّل صورة سلبية للشخصية المصرية.
كما أن الكثير من هذه القنوات يركز على المباريات الرياضية، وتقوم بعملية شحن عاطفي للجماهير، وكان من أخطر نتائج ذلك أن تم شحن الجماهير في مباراة المنتخب المصري والمنتخب الجزائري، وأدى ذلك إلى أعمال عنف من الجانبين وشكل خطرًا على علاقات البلدين. ومع ذلك فإن السلطات العربية مازالت تصر على منح التراخيص لقنوات التسلية في الوقت الذي تمنع فيه إنشاء قنوات تقدم مضمونًا جادًا.
ونحن لسنا ضد التسلية، ولكن ضد إغراق الناس في التسلية طبقًا للنموذج الغربي. وهناك إمكانيات كبيرة لبناء صناعة مضمون يمكن أن يجمع بين المعرفة والتسلية أو تقديم المعرفة بأساليب عصرية جذابة وممتعة ومشوقة كما في حالة الدراما التاريخية والمسلسلات التي تقدم الأحداث التاريخية والمسلسلات التي تقدم الأحداث التاريخية والتطور التاريخي للمجتمعات العربية أو القضايا والمشكلات الواقعية.
كما أن هناك إمكانيات كبيرة لتطوير صناعة مضمون تجذب الجماهير، وتستخدم الأساليب العصرية في تقديم المعرفة بأساليب مشوقة، ولكن ليس طبقًا للنموذج الغربي، وبشكل يكسر التبعية العربية الثقافية والإعلامية للغرب.
والإنسان العربي يحتاج إلى نوعية جديدة من المضمون التي تختلف عن التسلية الغربية وتلتزم بمنظومة الأخلاقيات والقيم العربية وشروط الثقافة العربية، وهذه الصناعة يمكن أن تتطور بالفعل في الوطن العربي بشرط إطلاق الحرية لإنشاء قنوات تقدم هذا المضمون.
إن التحدي الذي يجب أن نواجهه هو كيف يمكن إقامة صناعة تسلية بشروط حضارية عربية وإسلامية تختلف عن صناعة التسلية الغربية وتكسر التبعية العربية لصناعة التسلية الغربية.
ولكن الهدف يجب أن لا يكون هو التسلية، ذلك أنه يجب ربط التسلية بالمعرفة فالهدف هو المعرفة، ولكن يمكن استخدام تقنيات وأساليب الدراما والتقنيات الفنية الأخرى في تحقيق الجاذبية والتشويق للمضمون المعرفي.
أما نموذج التسلية الذي طوره الغرب، واستخدمه في إلهاء الناس والسيطرة عليهم وتغييب عقولهم والتقليل من قدرتهم على تطوير حياتهم أو المساهمة في بناء الحضارة فيجب أن نواجهه بتقديم البديل المعرفي الجذاب والمشوق.
فنموذج التسلية الغربية يقوم على التقليل من قيمة الإنسان وأهميته Dehumanization، واستخدام المرأة كسلعة جنسية وجذب الجمهور بإثارة الغرائز، لكن البشرية تحتاج إلى مضمون جذاب يحترم كرامة الإنسان ويعلي قيمته ويتعامل معه كمواطن وليس كمستهلك ويحترم حقه في المعرفة.
وهذا هو ما يمكن أن تتميز به قنوات عربية تنشأ في المستقبل لتحمل هذا المضمون المعرفي الجذاب الذي يقدم التجارب التاريخية دون تزييف، ويقدم مشكلات الحياة الواقعية، ويدفع الناس لمواجهة الواقع والكفاح لتغييره وتحقيق النهضة ولا يؤدي إلى إلهائهم وتغييب عقولهم.
يضاف إلى ذلك أنه بالرغم من كل الأموال التي يتم إنفاقها على صناعة التسلية في الوطن العربي فإننا لا يمكن أن ننافس الغرب في التسلية؛ حيث تظل دائمًا صناعة التسلية الغربية هي الأكثر جاذبية وإبهارًا بكل ما طورته من تقنيات وأساليب حديثة. لذلك فالطريق الوحيد للتميز والنجاح في صناعة الإعلام والاتصال العربية هو تقديم مضمون معرفي جذاب يتفق مع كرامة الإنسان.
إن الذي يريد التسلية سوف يجد مئات القنوات التلفزيونية الغربية التي تغرقه في ذلك المضمون المسلي الرديء؛ حيث يموت من كثرة التسلية كما يقول نيل بوستمان، لذلك فهو لا يحتاج إلى القنوات العربية التي تقلد النموذج الغربي في التسلية.

(2) القنوات الحكومية: أما النوع الآخر من القنوات الفضائية العربية فهي القنوات التي تسيطر عليها وتمتلكها وتديرها الحكومات، وهي تشكل النسبة الأكبر من القنوات الفضائية العربية.
وهذه القنوات تقدم مضمونًا لا يجذب الجماهير، وهي تركز على الدعاية للحكومات والترويج لقراراتها وتبريرها، وتفتقر للمصداقية والمهنية، ويقوم معظم مضمونها على التسلية طبقًا للنموذج الغربي.
لقد تجاوز الواقع هذه القنوات الحكومية التي لم تعد قادرة على منافسة القنوات الفضائية الأخرى أو الوسائل الاتصالية الحديثة مثل الإنترنت، كما أن هذه القنوات لم تستطع أن تطور وظائفها أو علاقتها بالجماهير، أو تقدم نوعية جذابة من المضمون.
والمشكلة الأساسية لهذه القنوات أنها صوت النظام، ولا تقدم أصواتًا معارضة مما يجعل المضمون الذي تقدمه يفتقر للتشويق، ولا يشبع حاجة الجماهير للمعرفة.
وبالرغم من أن هناك الكثير من الكفاءات الإعلامية في هذه القنوات، إلا أن هذه الكفاءات فرضت الرقابة الذاتية على نفسها، فأصبحت غير قادرة على تقديم نوعية من المضمون تتناسب مع قدراتهم المهنية.
إذن القنوات الحكومية لم تستطع أن تستجيب للتحديات التي فرضتها ثورة الاتصال، والجماهير لا تثق في هذه القنوات نتيجة التجارب الطويلة التي استخدمت فيها الحكومات هذه القنوات لتجميل واقع تعرف الجماهير مدى قبحه.
وتقدم تغطية القنوات المصرية لانتخابات مجلس الشورى ومجلس الشعب 2010 دليلاً على صحة هذه النتيجة… فلقد كانت تستخدم لتصوير واقع يختلف تمامًا عن الذي تعرفه الجماهير وتشاهده وتتابعه عبر قنوات أخرى مثل الجزيرة والـBBC… ولذلك زادت هذه الانتخابات من أزمة هذه القنوات لذلك فإن هذه القنوات تحتاج إلى صياغة جديدة لوظائفها لكي تستطيع أن تعيش في عصر ثورة الاتصال، وهي تحتاج إلى قدر من الحرية يمكنها من تقديم مضمون يجذب الجماهير، ويتيح لها أن تقدم أصواتًا معارضة تتمتع بقدر أكبر من الجاذبية والمصداقية.
ومع أن هذه القنوات تمولها الحكومات، إلا أنها تركز على التسلية طبقًا للنموذج الغربي، لذلك فإن مستقبلها يعتمد على الابتعاد عن هذا النموذج والبحث عن شخصية إعلامية متميزة تبتعد عن الطابع التجاري، وتركز على تقديم المعرفة التي تهم الناس كمواطنين وليس كمستهلكين.
فلكي تعيش هذه القنوات في عصر ثورة الاتصال فإنها يجب أن تقوم بصياغة وظائفها طبقًا لعقد اجتماعي مع المجتمع تقوم فيه بتوفير المعرفة للجماهير وتدير المناقشة الحرة بين الاتجاهات السياسية.

(3) القنوات الإخبارية: وتأتي الجزيرة كحالة متميزة؛ حيث يتم تمويلها من الحكومة القطرية، لكنها تتمتع بقدر كبير من الاستقلال التحريري الذي ساهم في زيادة قدرتها على تقديم مضمون جذاب يتركز حول تغطية الأحداث والمناقشة الحرة للكثير من القضايا العربية خاصة القضايا السياسية.
هذه الصيغة أثبتت قدرتها على جذب الجماهير وتشكيل البديل للنموذج الغربي للتسلية، وإمكانية إقامة صناعة مضمون تليفزيوني يركز على القضايا الجادة، ويبتعد عن التسلية وفي الوقت نفسه يجذب الجماهير.
ولقد أثارت الجزيرة سخط الكثير من النظم العربية، ولكن ذلك لا يرجع لهجوم الجزيرة المباشر على هذه النظم، ففي معظم الأحيان ليس هناك هجوم مباشر أو مضمون يسيء إلى هذه النظم. وإنما من أهم العوامل التي ساهمت في سخط النظم العربية على الجزيرة أنها قدمت نموذجًا يختلف عن النموذج الذي تقوم عليه القنوات التليفزيونية الحكومية، وأنها أصبحت تشكل مصدرًا مهمًا للأخبار سواء بالنسبة للنخبة أو الجماهير العربية.
ولذلك ساهمت الجزيرة في زيادة أزمة القنوات التليفزيونية الحكومية وفي انهيار مصداقيتها، كما ساهمت في أزمة النظم العربية غير الديمقراطية التي ما زالت ترفض المناقشة الحرة للقضايا والمشكلات العامة.
لكن الجزيرة حتى الآن حالة خاصة ومتميزة، بالرغم من محاولات إنشاء قنوات منافسة مثل العربية، لكن مساحة الحرية التي تمتع بها العربية أقل بكثير من التي تتمتع بها الجزيرة مما أدى إلى التقليل من جاذبية المضمون الذي تقدمه مقارنة بالجزيرة، كما قلل من قدرتها على تغطية الأحداث ومناقشة القضايا الجادة. وهذا يؤكد أن الحرية شرط ضروري لإنتاج مضمون متميز يجذب القراء.
ولقد ظهر ذلك بوضوح خلال تغطية حرب الخليج الثالثة فبالرغم من إغلاق الاحتلال لمكاتب الجزيرة في العراق، وحرمانها من حق الوصول للمعلومات وتغطية الأحداث، إلا أن العربية لم تستطع أن تغطي الأحداث بكفاءة، أو أن تشكل مصدرًا للأخبار ينافس الجزيرة. يضاف إلى ذلك أن تحيز العربية لبعض النظم العربية خاصة السلطة الفلسطينية ضد حماس قلل من أهميتها الإخبارية.
هناك أيضًا قنوات إخبارية أجنبية مثل الـ BBC التي أصبحت منافسًا قويًا في مجال تغطية الأحداث العالمية، والأحداث في الشرق الأوسط بشكل خاص.
ودراسة هذه القنوات تثبت أن هناك حاجة للكثير من القنوات التي تقدم مضمونًا جادًا وتغطي الأحداث تغطية شاملة ومتعمقة وتدير مناقشة حرة حول القضايا العربية والعالمية… وتثبت دراسة تجربة الجزيرة أن الواقع العربي يوفر إمكانيات كبيرة لنجاح مثل هذه القنوات وجذب المشاهدين. كما أن إنشاء قنوات إخبارية جديدة ومتنافسة سوف يساهم في تطوير صناعة المضمون الجاد في الوطن العربي الذي يشكل بديلاً لصناعة التسلية طبقًا للنموذج الغربي.
يضاف إلى ذلك أن الجزيرة ساهمت في التقليل من التبعية الإعلامية العربية للنظام الإعلامي الدولي، وأثبتت إمكانية أن يؤثر العرب في تدفق الأنباء على المستوى العالمي خاصة وأن هناك الكثير من الأحداث الساخنة التي توفر للوطن العربي إمكانية تطوير صناعته الإخبارية.
لذلك فإن القنوات الإخبارية يمكن أن تساهم بشكل كبير في بناء مجتمع معرفة عربي، وفي تطوير صناعة المضمون الجاد الذي يقوم على تغطية الأحداث تغطية شاملة ومتكاملة، وعلى المناقشة الحرة للقضايا العامة.
(4) نموذج قنوات الكفاح الوطنى: دراسة نموذج صحافة الكفاح الوطني الذي عرفته مصر والجزائر في النصف الأول من القرن العشرين يمكن أن تفتح مجالاً واسعًا لتطوير القنوات الفضائية العربية، وتقدم صناعة الإعلام والاتصال في الوطن العربي؛ حيث تحتاج الجماهير إلى هذا النموذج الذي يقدم مضمونًا معرفيًا يرتبط بتطلعات الجماهير للاستقلال والحرية.
لكن بالرغم من أن الأحداث في الوطن العربي توفر إمكانيات لظهور الكثير من هذه القنوات طبقًا لهذا النموذج، إلا أن القنوات التي يمكن تصنيفها طبقًا لهذا النموذج ما زالت قليلة وأهمها الأقصى والقدس والمنار وبعض القنوات العراقية مثل الزوراء التي تم وقف بثها على القمر الصناعي النايل سات.
وإذا استثنينا المنار التي وفَّر لها حزب الله إمكانيات مادية وبشرية مكنتها من توفير المضمون الذي يتعلق بالمقاومة اللبنانية للغزو الإسرائيلي فإن القنوات الأخرى تعاني صعوبات كبيرة في إنتاج المضمون وتغطية الأحداث نتيجة القيود التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والاحتلال الأمريكي في العراق. مع ذلك فإن قناة الأقصى وقناة القدس أوضحتا إمكانية تطوير هذا النموذج الذي يسهم في توفير المعرفة للجماهير النشطة المرتبطة بقضية عامة أو معركة تحرر وطني.
وبالرغم من ضعف القنوات التي تدخل ضمن هذا النموذج إلا أنها توضح أن هناك إمكانيات كبيرة لتطوير مضمون معرفي يرتبط بكفاح الأمة للتحرر والاستقلال، وهو مضمون يمكن أن يجذب الجماهير مهما كان يفتقر للأساليب الحديثة لجذب الانتباه. كما أن هذه القنوات يمكن أن تحمل مضمونًا يبتعد عن النموذج الغربي للتركيز على المعلومات والتسلية.
إن مستقبل صناعة الإعلام والاتصال في الوطن العربي يرتبط بهذا النموذج؛ حيث يمكن تطوير صناعة مضمون يربط بين المعرفة وكفاح الأمة، ويستخدم التجارب النضالية العربية كمادة لهذا المضمون، وهي تجارب تتميز بالثراء، وتوفر إمكانيات لتطوير أعمال درامية متميزة تثير الخيال الإنساني، وأعمال وثائقية، وأعمال وثائقية درامية docudrama.
يضاف إلى ذلك أن هذه القنوات يمكن أن تساهم في توثيق التجارب الكفاحية، وتاريخ حركات التحرر الوطني، والأحداث المرتبطة بالقضايا الكبرى، وهذا يساهم بدوره في توفير مضمون معرفي، وفي تطوير مجتمع معرفة عربي.
كما أن التيار الإسلامي يمكن أن يقوم بدور مهم في تطوير المضمون المعرفي المرتبط بالكفاح الوطني؛ حيث أصبحت حركات التحرر الوطني في الوطن العربي ذات طابع إسلامي، وهذا يمكن أن يشكل عملية ربط بين الأصالة والمعاصرة والمعلومات والمعرفة والتاريخ والتجارب النضالية الحديثة.
وإعطاء قدر من الحرية لهذه القنوات يمكن أن يزيد قدرتها على تشكيل جيل جديد من الكوادر العربية التي تستطيع إنتاج مضمون معرفي يرتبط بالكفاح الوطني، ولذلك يمكن تطوير النموذج وما يرتبط به من معرفة لذلك يمكن أن تساهم هذه القنوات بفعالية في بناء مجتمع المعرفة.
يضاف إلى ذلك أن هذه القنوات تساهم في زيادة اعتزاز العرب والمسلمين بشخصيتهم الحضارية التي تساهم في تشكيل تجاربهم النضالية الحديثة، وهذا سيزيد إقبال الجماهير العربية على المضمون الذي يتشكل طبقًا لهذه الرؤية وتقدمه هذه القنوات.
5) القنوات ذات الرسالة: وهي قنوات تقدم مضمونًا معرفيًا إسلاميًا، وقد أصبحت تجذب قطاعات كبيرة من الجماهير، وهناك مؤشرات على أن معدل مشاهدة هذه القنوات أكبر نسبيًا من قنوات أخرى تقدم مضمونًا عامًا أو مسليًا.
وبالرغم من أن هذه القنوات تفتقر في الكثير من الأحيان إلى استخدام الأساليب الحديثة في تشكيل المضمون بشكل يجذب الجماهير إلا أن ارتباطها بنموذج المعرفة الإسلامي أدى إلى نجاحها، وأوضح أن هذا النموذج يمكن أن يشكل الأساس لصناعة عربية مستقلة للإعلام والاتصال بشكل عام، وصناعة مضمون إسلامي بشكل خاص، كما أوضحت حاجة الجماهير إلى هذا المضمون، وأن إشباع هذه الحاجة يحتاج إلى الكثير من القنوات الإسلامية.
لذلك فإن إطلاق حرية الإعلام، ورفع القيود المفروضة على إنشاء القنوات الإسلامية يمكن أن يفتح المجال لإنشاء الكثير من القنوات الإسلامية، والقنوات العامة ذات المرجعية الإسلامية، وقنوات الكفاح الوطني التي تقوم على أساس إسلامي وتعبر عن هوية الأمة وتدافع عن ذاتيتها الثقافية وشخصيتها الحضارية.
وقد بدأت بعض القنوات الإسلامية في تقديم مضمون عام وفي تغطية الأحداث مثل قناة المجد، وفي تقديم برامج تعرض الرؤية الإسلامية للحياة وتقدم حلولاً للمشكلات المجتمعية والفردية وفي الاهتمام ببرامج التنمية البشرية مثل اقرأ والرسالة والنجاح.
ولكن مجلس إدارة النايل سات أصدر قرارًا بإغلاق 14 قناة إسلامية من أهمها الناس والرحمة والحكمة والحافظ والصحة والجمال والخليجية والبدر والأثر وآيات للإعجاز العلمي وصفا، كما وجه مجلس إدارة النايل سات إنذارًا إلى أربع قنوات أخرى هي المجد والفجر وصدى الإسلام وبداية. وقالت إدارة النايل سات إن الترخيص المعطى لتلك القنوات هو ترخيص بقناة اجتماعية وليس دينية حيث يحظر القانون الترخيص بقنوات دينية.
كما فرضت هيئة الاستثمار عددًا من الشروط على هذه القنوات للسماح لها بإعادة البث أهمها:
– عدم التعرض للمذهب الشيعي.
– عدم التعرض للمسيحية.
– منع المواد التي تثير الفتنة وتنشر التشدد.
– أن لا تتعدى مساحة البرامج الإسلامية في القناة أكثر من 50%.
– تخصيص مساحات كافية لإذاعة أفلام وأغنيات ومسرحيات.
– استخدام المؤثرات الموسيقية في الفواصل.

وهذه الشروط تعني إخراج هذه القنوات عن شخصيتها الإسلامية، ومنعها من تقديم المضمون الذي تريده، ويشكل ذلك اعتداءً على استقلالها التحريري، والتحكم في مضمونها.
وبدراسة تلك الشروط يتضح أن السلطة لا تريد بث مضمون له طبيعة إسلامية، أو يتم إنتاجه طبقًا لنموذج المعرفة الإسلامي، ولذلك فإنها تفرض على هذه القنوات تقديم ما لا يقل عن 50% من المواد المسلية مثل الأفلام والأغنيات والمسرحيات.
وطبقًا لذلك فإن السلطة تتبنى نموذج التسلية الغربي، وتريد أن تفرضه على الجماهير وتقلل من فرص تعرض الجماهير لأنواع أخرى من المضامين التي تزيد المعرفة خاصة تلك التي يتم إنتاجها طبقًا لنموذج المعرفة الإسلامي.
6) القنوات التعليمية: وحتى الآن فإن تجربة استخدام التلفزيون في التعليم محدودة، وتتمثل في قنوات التعليم الرسمية على القمر الصناعي نايل سات، وهي قنوات تركز على مساعدة الطلاب في فهم الدروس في المراحل التعليمية المختلفة. بالإضافة إلى قناة التعليم العالي، وقناة جامعة القاهرة المفتوحة كوسيلة للتعليم عن بعد.
ومع ذلك فإن هناك ضرورة لتطوير استخدام التلفزيون التلعليمي في الوطن العربي، وتطوير الوظيفة التعليمية لقنوات التليفزيون العامة. كما أن نموذج المعرفة الإسلامي يقوم على الربط بين المعرفة والتعليم المستمر والتعليم الذاتي، ويمكن أن يلعب التليفزيون التعليمي دورًا مهمًا في بناء مجتمع المعرفة العربي؛ حيث يمكن أن يوفر فرص التعليم المستمر للجميع، ويساهم في عملية إنتاج المعرفة.
ويمكن أن يدخل في إطار القنوات العامة التي تقوم بدور تعليمي وتثقيفي حيث تستخدم أسلوب الدراما الوثائقية والتاريخية في تعريف الجماهير بتاريخ الأمة، وهذا يساهم في زيادة ارتباط الناس بهويتهم واعتزازهم بشخصيتهم الحضارية.
7) قنوات عربية عامة تعمل خارج الوطن العربي [قنوات مهاجرة]: مثل قنوات الحوار والمستقلة وهذه القنوات تتمتع بقدر أكبر من الحرية، لذلك فإنها تساهم في إدارة المناقشة الحرة لقضايا الأمة. لكن هذه القنوات ما زالت إمكانياتها محدودة ولم تستطع أن تطور وظيفتها الإخبارية.
8) قنوات أجنبية باللغة العربية؛ حيث بدأت الدول الغربية مثل أمريكا وبريطانيا في بث قنوات باللغة العربية في إطار استراتيجيتها لكسب العقول والأرواح، وبناء صورة ذهنية (Image) للدول التي تبثها، كما أنها تساهم في الغزو الفكري والاستعماري الإعلامي. وتأتي في ذلك الإطار قنوات الحرة والـBBC العربية والألمانية وروسيا اليوم.

ثالثًا- خطورة تقييد حرية الإعلام:

توضح دراسة حالة الثورة التونسية مدى خطورة تقييد حرية الإعلام، فلقد فرض النظام التونسي كل أنواع القيود على كل وسائل إعلامه، بالإضافة إلى تقييد كل أشكال الاتصال الشخصي والجمعي. ولقد أبدع نظام بن على في تقييد حرية الإعلام في تونس، فكان تنوع القيود بديلاً عن تنوع الرسائل الإعلامية، والمضمون المقدم للجماهير.
وكانت هذه القيود المتنوعة التي طبقها بن علي على وسائل الإعلام التونسية مستمدة من أكثر النظم الإعلامية تخلفاً وهي النظم السلطوية، وارتبط تقييد حرية الإعلام –في المقابل- بإطلاق يد أجهزة الأمن لقهر المواطنين ونشر الخوف والتجسس وكتابة التقارير الأمنية وانتهاك حرمة الحياة الخاصة وحقوق الإنسان.
أدى ذلك إلى فرض حالة تعتيم إعلامي على الواقع التونسي، وتقديم وسائل الإعلام واقعًا تونسيًا مصطنعًا وغير حقيقي.
وتشترك وسائل الإعلام التونسية مع الكثير من وسائل الإعلام العربية في عملية تصنيع واقع زائف، وتجاهل الواقع الحقيقي… لكن في النظام التونسي تطورت عملية تصنيع الواقع الإعلامي الذي يتناقض مع الواقع الحقيقي؛ حيث انكسرت الحدود بين الإعلام والدعاية، واختفت القيم المهنية، وتم تقييد كل الحقوق الإعلامية والاتصالية والمعرفية للشعب التونسي.
كما ارتبطت هذه العملية أيضاً بعملية تجهيل الشعب التونسي، وذلك بمنع نشر الكثير جدًا من المعلومات عن الواقع التونسي، وفي الوقت الذي قامت فيه وسائل الإعلام بإغراق الشعب التونسي بالحديث عن إنجازات النظام ومعدل التنمية الذي حققه، مما أدى إلى فقدان وسائل الإعلام التونسية مصداقيتها.
فقد تم استخدام وسائل الإعلام لتضليل الشعب التونسي، بنشر معلومات تهدف إلى تصنيع الاتفاق الزائف وإلهاء الجمهور عن مشاكله الحقيقية. وقد اعترف بن علي في آخر خطاب له قبل هروبه أنه قد تم تضليله، ونحن يمكن أن نصدقه في ذلك حيث أنه فصل نفسه عن شعبه وأصبح المصدر الأساسي له هو الوسائل الإعلامية التي تنقل فقط ما يرضيه، وما يكتبه إعلاميون خائفون أو منافقون.
لقد أصبح الهدف الرئيسي لوسائل الإعلام التونسية تسويق بن علي ونظامه وتمجيده حتى أن صحيفة الصباح التي يملكها صهر بن على نشرت 48 صورة لبن علي في عدد واحد.
وقد أشار محمد حسنين هيكل –في هذا الصدد- إلى اهتمام بن علي بصورته الشخصية المادية (الفوتوغرافية)، وأن هيكل قد قال له إنه يبدو شخصيًا أفضل كثيرًا من صورته التي تنشرها الصحف، وعلى إثر ذلك طلب بن علي استدعاء أفضل المصورين من باريس ليقوم بالتقاط صور له تتناسب مع جمال طلعته. واعتبر هيكل ذلك دليلاً على سطحية بن علي وتفاهة تفكيره.
وبالرغم من صحة ملاحظة هيكل إلا أن ذلك يشير أيضًا إلى اتجاه ساد في العقدين الماضيين في عملية التسويق الاجتماعي والدعاية حتى في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث يتم التركيز على صورة الرئيس، أو صورة المرشح الشخصية بدلا من التركيز على أفكاره وآرائه وبرنامجه ومؤهلاته العلمية. كما ظهر ذلك بوضوح في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2005.
وقد أثبت هذا الاتجاه نجاحًا في حالة الرئيس الأمريكي كلينتون؛ حيث جذبت صورته أصوات النساء في الولايات المتحدة نتيجة لإعجابهن بصورته الشخصية… وحتى بعد فضيحة مونيكا زاد إعجاب النساء به.
لذلك اتجه الكثير من خبراء الدعاية والتسويق الاجتماعي إلى استخدام الصور الشخصية للمرشحين والرؤساء كعامل أساسي في تشكيل الاتفاق العام والهندسة الاجتماعية.
أما في حالة أوباما فقد تم تطوير هذا الاتجاه لاستخدام الصور التلفزيونية الإنسانية كبديل عن البرامج والأفكار.
وحالة بن علي لا تختلف عن اتجاه الرؤساء العرب لاستخدام وسائل الإعلام في نشر صورهم الشخصية، لكن نظام بن علي بالغ بشكل كبير في هذا الاتجاه؛ حيث أصبح مضمون وسائل الإعلام التونسية يتمحور حول صورة بن علي، والتي انتشرت بشكل واسع في الميادين وعلى واجهات المؤسسات حيث كان هناك نوع من التنافس المحموم بين المؤسسات الحكومية على رفع أكبر صورة لبن علي على واجهاتها.
ويتناقض هذا الاتجاه مع الحضارة الإسلامية ويشكل تحديًا لثوابتها فهو يشير إلى تأليه للحاكم، وهذا بدوره يشكل صدمة للضمير الحضاري الإسلامي والمشاعر الإنسانية الإسلامية، وهذا يفسر اتجاه المظاهرات إلى تحطيم صور بن علي الضخمة المرفوعة في الميادين وعلى واجهات المؤسسات.
توضح حالة تونس أن حرية الإعلام صمام أمان،وأن التحكم في وسائل الإعلام يمكن أن يخفي الواقع الحقيقي ويصنع واقعًا زائفًا ويؤدي إلى تزايد حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.

الإعلام البديل وكشف الانحرافات والفساد

كشف الانحرافات والفساد من أهم وظائف وسائل الإعلام. وبقيامها بهذه الوظيفة تحذر المجتمع ليقوم بعملية تصحيح في الوقت المناسب، ويطلق الغرب على الصحافة “كلب الحراسة” لأنها تقوم بالدفاع عن المجتمع وحمايته ضد الفاسدين الذين يسيئون استغلال السلطة.
وعندما ينام كلب الحراسة، كما يقول فيليب سيب، ينشط اللصوص في الظلام فينهبون ثروة الشعب، ويدمرون اقتصاد الدولة، ويزيدون السخط والحنق في نفوس الناس.
هذا ما حدث في تونس عندما قام نظام بن علي بتقييد حرية الإعلام. وسيطر على ملكية وسائل الإعلان أصهار الديكتاتور وأقاربه.
وبينما كانت وسائل الإعلام التونسية تستعرض بشكل دائم إنجازات النظام ومعدلات التنمية المرتفعة وتمجد الرئيس إلى درجة التأليه، كان أقارب بن علي وأصهاره يقومون بعملية استغلال وإفقار للشعب.
وعندما قام صحفيان فرنسيان بإصدار كتاب عن فساد زوجة الرئيس وأقاربها بعنوان حاكمة قصر قرطاج، نجح النظام في منع وصول هذا الكتاب أو أية معلومات يتضمنها إلى الشعب التونسي.
لكن تطور الإعلام البديل فتح مجالات واسعة لكسر التحكم الحكومي في تدفق المعلومات إلى الجماهير وزاد قدرة الشعوب على كشف الانحرافات والفساد كما يتضح ذلك من دراسة حالة تونس.
وقد جاء عام 2010 ليوضح أن الإعلام البديل قد تطور بدرجة كبيرة، وقد تزامن هذا التطور مع زيادة سخط بعض الذين يمتلكون حق الإطلاع على الوثائق الرسمية، وبالتالي زيادة إمكانيات نشرها.
وجاء كشف موقع ويكيليكس لآلاف الوثائق من أهم تجليات هذا التطور، فهذا الموقع قام بنشر رسائل رسمية كتبها سفراء ودبلوماسيون أمريكيون. وقد كشفت هذه الوثائق عن اعتراف الدبلوماسيين الأمريكيين بحالة الفساد العام التي يعيشها نظام تونس الذي يعتبر من أهم حلفاء أمريكا.
يثير ذلك العديد من الملاحظات أهمها الارتباط بين الفساد والتبعية، فأمريكا كانت تعرف تماماً فساد حليفها ولكنها لم تكشف ما لديها من معلومات ولم تنشر وسائل الإعلام الأمريكية أية معلومات عن هذا الفساد، وكان الفضل لموقع ويكيليكس في نشر هذه البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي تكشف معرفة الإدارة الأمريكية بفساد نظام بن علي.
كما كانت فرنسا تعرف أيضاً الكثير عن فساد نظام بن علي، والدليل على ذلك كتاب حاكمة قصر قرطاج، لكن هذا الكتاب لم تقم وسائل الإعلام الفرنسية بنشر الكثير مما جاء فيه من حقائق وأدلة على فساد نظام بن علي.
يشير ذلك إلى عملية إخفاء وتعتيم تمارسها الدول الغربية على فساد حلفائها العرب، ولذلك فإن الفضل للإعلام البديل في كشف الكثير من المعلومات عن الفساد الاقتصادي المرتبط بإساءة استخدام السلطة.
ولقد استخدم الشباب التونسي الفيس بوك واليوتيوب والتويتر والمدونات والمواقع الإخبارية لنشر الكثير من المعلومات والتي ساهمت في تأجيج الثورة.
وكان من أهم ما كشفه الشباب التونسي على هذه المواقع قيام أقارب بن علي وأصهاره بفرض الحصول على نسبة من أي مشروع ناجح في تونس، وهو ما أدى إلى إفلاس الكثير من المشروعات، وخوف التونسيين من إقامة مشروعات اقتصادية، وانتشار البطالة.
وكان لكل ذلك تأثيره السلبي على الاقتصاد التونسي، كما أن الأموال التي نهبها أقارب بن علي وأصهاره كان يمكن أن تستغل في توفير فرص العمل، وتقليل عوامل السخط والثورة.
يوضح ذلك أهمية قيام وسائل الإعلام بوظيفتها في كشف الانحرافات والفساد وحماية المجتمعات من سوء استغلال السلطة. وينطبق ذلك على كل الدول العربية التي تحكمت في وسائل إعلامها ومنعتها من القيام بهذه الوظيفة.
وهناك الكثير من أوجه الفساد التي ساهم الإعلام البديل في كشفها من أهمها تزوير الانتخابات حيث أن هذا التزوير يشكل عملية سرقة لإرادة الشعب، وقد ساهم الإعلام البديل وصحافة المواطن في الكشف عن عمليات تزوير واسعة في الانتخابات المصرية.
كما ساهم الإعلام البديل -ولكن بشكل أقل- في الكشف عن سوء استغلال السلطة في قهر المواطنين وتعذيبهم وقتلهم في بعض الأحيان، كما في حالة المواطن خالد سعيد والمواطن سيد بلال في الإسكندرية.
وهناك إمكانيات لتطوير قدرات الإعلام البديل وتمكين الشباب العربي من كشف فساد النظم الحاكمة وسوء استغلالها لسلطاتها.
ويتزامن تطور الإعلام البديل مع تزايد الغضب الشعبي وشعور الناس بالإحباط نتيجة تزايد الفقر والبطالة وتقييد الحريات والديمقراطية.
يوضح ذلك أن النظم العربية لم يعد بإمكانها أن تمنع وصول الحقائق إلى الناس، وكل ما يمكن أن تفعله هو أن تضعِف وسائل إعلامها التقليدية.

الرقابة على وسائل الإعلام أهم مظاهر الاستبداد والتخلف

عرفت تونس خلال فترة حكم بن علي كل أشكال الرقابة على مضمون وسائل الإعلام، والرقابة هي وسيلة متخلفة لمنع هيئات تحرير الوسائل الإعلامية من القيام بوظائفها، وتحقيق النجاح عن طريق تقديم المضمون الذي يجذب الجماهير.
وقد طبقت تونس وظيفة للرقابة عرفتها مصر في الخمسينيات وهي قيام جهاز الرقابة بمنع المادة الصحفية والإعلامية من النشر أو الإذاعة، مع رفع هذه المادة إلى أجهزة الأمن لتقوم بمعاقبة منتجها. مما أدى إلى ظهور نوع خطير من الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحفيون على أنفسهم نتيجة لخوفهم من النظام، والشعور بأن هذا النظام يتحكم في أرزاقهم وترقياتهم.
هذا النوع من الرقابة ينتشر بشكل كبير في الوطن العربي ويحل محل الرقابة التقليدية، لكن في تونس بلغ هذا النوع من الرقابة درجة جعلت الإعلاميين التونسيين لا يكتفون بعدم كتابة ما يغضب النظام لكنهم أيضًا يحاولون دائمًا إنتاج مواد ترضي النظام وتبالغ في تمجيد الزعيم.
إن الرقابة الذاتية كانت من أخطر نتائج ثقافة الخوف التي فرضتها النظم المستبدة على الإعلاميين باستخدام آليات السيطرة والرقابة الصارمة.
يضاف إلى ذلك أن نظام بن علي قد بنى شبكة من الرقباء الإعلاميين الذين يقومون بدور الرقباء من خلال توليهم المواقع القيادية في المؤسسات الإعلامية مثل مناصب رؤساء ومدراء التحرير.
وبالرغم من تزايد الاحتجاجات خلال شهر ديسمبر 2010 فقد منع النظام وسائل الإعلام من تغطية هذه الاحتجاجات وقامت بعملية إعاقة منهجية ومنظمة لتغطية وسائل الإعلام للمظاهرات ومصادرة الصحف التونسية التي حاولت أن تشير إلى هذه المظاهرات مثل صحيفة الموقف الأسبوعية الناطقة بلسان الحزب الديمقراطي التقدمي في 24 ديسمبر 2010، وصحيفة الطريق الجديد التابعة لحركة التجديد في 25 ديسمبر 2010 لأنهما قدمتا بعض الصور والأخبار عن المظاهرات.
كما قامت أجهزة الأمن بتعقب الصحفي سفيان الثوري ومصادرة معداته وتعطيل مدونته لأنه كان يقوم بتغطية المظاهرات… كما شهدت تونس خلال شهر ديسمبر 2010، ويناير 2011 الكثير من حالات إساءة معاملة الصحفيين.
وفي الوقت الذي كانت فيه الوسائل الإعلامية العربية مثل الجزيرة تقوم بواجبها في تغطية الأحداث، اتهم البرلمان التونسي الجزيرة بالسعي لتشويه سمعة تونس وبث الفوضى وزعزعة الاستقرار والتشكيك في إنجازات البلاد. ومن الواضح أن الخطاب الذي استخدمه البرلمان التونسي لا يختلف عن الخطاب الذي تستخدمه السلطات العربية في تبرير تقييد حرية الإعلام، ومهاجمة الوسائل الإعلامية عند قيامها بتغطية الأحداث التي لا تريدها السلطات.
ولكن بالرغم من أن نظام بن علي قد استخدم وسائل متطورة من الرقابة لمنع تدفق المعلومات إلى الجماهير، وفي إرهاب الصحفيين وإجبارهم على فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم، إلا أن هذا النظام لم يفهم معطيات ثورة الاتصال، وأن هذه الثورة قد جعلت كل وسائل التحكم في تغطية الأحداث وفي تدفق المعلومات خارج إطار الزمن.
ومن أهم تلك المعطيات أن 25 % من شعب تونس يجيدون التعامل مع الإنترنت، وأن وسائل الإعلام البديل أصبحت تستعصي على الرقابة لأنها مصممة على أساس عدم إمكانية التحكم فيها بواسطة أي نظام. ولقد حاول النظام التونسي أن يقيد إمكانيات استخدام الشعب التونسي للإنترنت.
وبالرغم من أن تونس تصنف دائمًا على أنها من أسوأ عشر بلدان للمدونين في تقارير لجنة حماية الصحفيين، إلا أن محاولات الحكومة للتحكم في الإنترنت قد تزايدت منذ بداية المظاهرات؛ حيث قامت الوكالة التونسية للإنترنت في 17 ديسمبر 2010 بحجب عدد كبير من مواقع الإنترنت الإخبارية المحلية والدولية التي تغطي الاحتجاجات. كما قامت باختراق الكثير من المواقع وجمع كلمات المرور وأسماء المستخدمين التي تقود للمدونين والنشطاء السياسيين والمشاركين في الاحتجاجات. كما قامت الوكالة التونسية للإنترنت بمسح حسابات الكثير من النشطاء التونسيين ومسح الصور التي التقطوها للمظاهرات ورفعوها على مواقع الإنترنت… بالإضافة إلى محاولة تعطيل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب. مع ذلك فإن آلاف الناشطين التونسيين نجحوا في تحميل صور المظاهرات على الإنترنت وإرسالها إلى الخارج حيث وصلت إلى وسائل الإعلام التي قامت ببثها.
يوضح ذلك أن المواطن الصحفي قد قام بدور مهم في تغطية الأحداث وفي نقل الحقائق في حين فرض الصحفي المحترف الرقابة الذاتية على نفسه خوفاً من النظام، وفي الوقت الذي لم تستطع فيه وسائل الإعلام التقليدية القيام بوظيفتها في الوفاء بحق الجمهور في المعرفة.
كما يوضح أن كل أشكال الرقابة لم تعد تتناسب مع عصر ثورة الاتصال، وأن أي نظام يستخدم هذه الرقابة إنما يضعف الصناعة الإعلامية والاتصالية لكنه لا يمكن أن يتحكم في تدفق المعلومات وتغطية الأحداث، فالعالم يعيش عصر ما بعد الرقابة بفضل ثورة الاتصال.

محاكمة النظام الإعلامي المصري

لكي نقيم نظامًا إعلاميًا يليق بمصر وبدورها الحضاري والعربي والإنساني يجب أن نحاكم النظام الإعلامي الذي أقامه نظام مبارك الاستبدادي.
وهذه المحاكمة يجب أن تقوم على دراسة علمية تصف الواقع وتفسر النتائج، فالعلم يجب أن يشكل أساسًا لبناء المستقبل الذي لا يمكن أن يتم بناؤه على أسس صحيحة دون دراسة حقيقية للماضي.
ومحاكمة النظام الإعلامي المصري يجب أن تنطلق من أن الفساد لا يقتصر فقط على نهب أموال مصر بواسطة السلطة ورجال الأعمال الذين ارتبطوا بها، لكن مفهوم الفساد يتجاوز ذلك ليشمل الفساد السياسي مثل تزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية وتضليل الشعب وتزييف وعيه وإخضاعه للاستبداد وتبرير قرارات السلطة والترويج لها، وتصنيع صورة زائفة لنظام حكم فاسد.
وهنا يظهر دور وسائل الإعلام التي سيطرت عليها السلطة واستخدمتها طوال ثلاثين عاما للسيطرة ثقافيًا وإعلاميًا على الشعب، والتحكم في المعلومات والمعرفة التي تصل إليه.
وأهم ما يمكن أن تكشفه دراسة الواقع الإعلامي المصري أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر، ففي الوقت الذي تكافح فيه كل دولة لزيادة قوتها الإعلامية، وزيادة عدد وسائلها الإعلامية، وتقوية صناعة المضمون حيث تربط شعبها بثقافتها، وتشبع الاحتياجات الإعلامية والمعرفية لشعبها، إلا أن نظام مبارك كان كل هدفه أن يتحكم في المعلومات والمعرفة التي تصل إلى الجماهير بنفس الأساليب التي استخدمتها السلطات الديكتاتورية خلال الخمسينيات والستينيات دون وعى بالتطورات العالمية في مجال الإعلام، ودون الاهتمام بتأثير التحكم السلطوي على القوة الإعلامية لمصر.
هذا يعني أن كل قيد على الحرية الإعلامية يمكن أن يؤثر سلبًا على القوة الإعلامية للدولة، لذلك فإنه لا يجوز فرض أية قيود قانونية أو سلطوية دون شرعية سياسية واجتماعية لهذه القيود.
لكن نظام مبارك فرض على الإعلام الكثير من القيود القانونية والسلطوية دون الاهتمام بدراسة تأثيرها على الدور الثقافي والحضاري لمصر، ودون الاهتمام بشرعية هذه القيود وحاجة المجتمع لها.
هذا يعني أن السلطة كانت تفرض هذه القيود لتحقيق مصلحتها الخاصة، ولإخفاء ما ترتكبه من جرائم سياسية واقتصادية، وليس لتحقيق المصالح العامة، بل إن هذه القيود تتناقض مع المصلحة العامة للمجتمع المصري، وتعتبر جريمة في حق مصر. إن دراسة الواقع الإعلامي المصري توضح أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر عن طريق استخدام وسائل الإعلام لتحقيق مصلحتها في التحكم في تدفق المعلومات للجمهور، وتدفق المعلومات من مصر إلى الخارج.
وكان من أهم نتائج التحكم السلطوي في وسائل الإعلام المصرية أن تناقضت مصداقية هذه الوسائل، ولم تعد تشكل مصدرًا للأخبار والمعلومات يعتد به أو تعتمد الجماهير عليه، لذلك انصرفت الجماهير في مصر إلى وسائل إعلامية غير مصرية لمتابعة الأحداث حتى تلك الأحداث التي تحدث في مصر.
وتوضح دراسة تغطية وسائل الإعلام المصرية لثورة 25 يناير مدى ضعف هذه الوسائل، وأن السيطرة السلطوية قد شلت قدراتها المهنية، فهذه الأحداث لا يمكن لأية وسيلة إعلامية تريد أن تنجح في جذب الجمهور أن يتجاهلها.
لكن وسائل الإعلام المصرية تجاهلت أحداث الثورة لفترة طويلة، وركزت قنوات التلفزيون الرسمية على مظاهرات ميدان مصطفى محمود المؤيدة لمبارك، وتجاهلت المظاهرات المليونية في ميدان التحرير التي تطالب بإسقاط النظام، كما وجهت الكاميرا إلى نهر النيل بهدف إعطاء الانطباع بعدم وجود أية أحداث. الأمر الذي يشير إلى وعدم إدراك القائمين على إدارة وسائل الإعلام المصرية للتطورات الاتصالية العالمية..
لذلك فإن مصر تحتاج إلى محاكمة نظامها الإعلامي، وكل من قاموا بإدارته، وإضعاف مصر إعلاميًا، وذلك كخطوة مهمة لإقامة نظام إعلامي جديد يحقق القوة الإعلامية لمصر، وتتناسب مع دورها الحضاري والثقافي.

نتائج عامة:

من خلال العرض السابق نقدم النتائج التالية:
(1) إن التعددية ما زالت محدودة في وسائل الإعلام العربية، وقد أثر ذلك على تنوع المضمون الذي تحصل عليه الجماهير العربية، وعدم قدرة هذه الوسائل على إشباع الاحتياجات الإعلامية والمعرفية لهذه الجماهير.
(2) إن السلطات هي التي أضعفت صناعة الإعلام والاتصال في الوطن العربي باستخدام النصوص القانونية والإجراءات السلطوية التي تمنع إصدار الصحف وإنشاء القنوات التلفزيونية.
(3) إن صناعة الإعلام والاتصال لا تزدهر إلا في ظل الحرية… ولذلك فإن تطوير هذه الصناعة يحتاج إلى إلغاء القيود القانونية والسلطوية التي أصبحت خارج إطار الزمن بفضل ثورة الاتصال التي فتحت المجال لإنشاء وسائل اتصالية لا يمكن أن تتحكم فيها السلطات مثل الصحف الإلكترونية والمدونات وصحافة المواطن… ولقد برز دور هذه الوسائل في تغطية الانتخابات البرلمانية عام 2010، ونشر الكثير من المعلومات والصور ومقاطع الفيديو التي كانت السلطة تحاول إخفاءها.
وهذا يوضح أن النصوص القانونية المقيِّدة للحرية والإجراءات السلطوية التي تهدف إلى التحكم في المضمون الإعلامي والمعرفي يمكن أن تضعف وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحافة والتليفزيون وهذا يؤدي بدوره إلى إضعاف القوة الإعلامية للدولة، والتقليل من قدرتها على تطوير صناعتها الإعلامية والاتصالية.
(4) إن تقييد التعددية والتنوع في وسائل الإعلام العربية يشكل تقييدًا لحق الجمهور العربي في المعرفة، وهذا يشكل تقييدًا للتطور الديمقراطي؛ حيث أن بناء الديمقراطية يحتاج إلى إمداد المواطنين بشكل مستمر بالمعرفة، وحماية التدفق الحر للمعلومات والأنباء، وتشكيل المواطن العارف The informed citizen.
(5) لذلك فإن إطلاق حرية الإعلام خطوة مهمة لتطوير المجتمع العربي معرفيًا وثقافيًا وديمقراطيًا… وهو هدف مهم يجب أن تكافح لتحقيقه الحركات الوطنية في الوطن العربي.
(6) إن وسائل الإعلام يمكن أن تساهم بدور مهم في بناء مجتمع المعرفة الذي ترتبط فيه صناعة الإعلام والمعلومات والمعرفة والاتصال من ناحية بالتعليم من ناحية أخرى. وبناء مجتمع المعرفة يشكل مدخلاً مهمًا لبناء المستقبل.
(7) إن الواقع العربي يقدم إمكانيات كبيرة لنجاح وسائل إعلامية لا تقوم على النموذج الغربي للمعلومات والتسلية، ولكن تقوم على أساس النموذج الإسلامي للمعرفة، والجمهور العربي تتنوع احتياجاته الإعلامية والمعرفية، وهذا يوفر إمكانيات النجاح لوسائل إعلامية تقدم التغطية الشاملة المتعمقة للأحداث وتدير الحوار الحر بين الاتجاهات السياسية وتحقق حق الجماهير في المعرفة وتقوم بوظيفة تعليمية وتثقيفية… وهذا يشكل مبررًا مجتمعيًا وحضاريًا لإطلاق حرية الإعلام.
(8) إن الثورات العربية خاصة في مصر وتونس يمكن أن تفتح المجال لزيادة القوة الإعلامية العربية وتطوير نظم إعلامية وطنية وبناء نظام إعلامي عربي جديد.
(9) إن بناء نظام إعلامي عربي يمكن أن يقوم على الأسس التالية:
‌أ- كفالة المجتمع لحرية الإعلام في إطار عقد اجتماعي جديد تلتزم فيه وسائل الإعلام بالوفاء بحق المواطنين في المعرفة وإدارة المناقشة الحرة وكشف الانحرافات والفساد.
‌ب- كفالة حق المواطنين في إصدار الصحف.
‌ج- تشجيع إنشاء الكثير من القنوات التلفزيونية التي تقدم مضمونًا إعلاميًّا ومعرفيًّا جادًّا.
‌د- إصدار مواثيق أخلاقية لوسائل الإعلام وتدريب الصحفيين على الالتزام بأخلاقيات الإعلام.

المصادر:

أولا- الوثائق:
1- دستور 1971.
2- القانون رقم 96 لسنة 1996.
3- قانون اتحاد الإذاعة والتليفزيون الصادر في 29 مارس 1979 والتعديلات التي أدخلت عليه عام 1989.
4- ميثاق الشرف الصحفي.

ثانيًا- الصحف:
1- الأهرام.
2- الأخبار.
3- الشروق.
4- المصري اليوم.

ثالثًا- الكتب:
1- سليمان صالح، التنظيم القانوني والأخلاقي لحرية الإعلام، القاهرة: مركز المدينة للإعلام والنشر، 2010.
2- سليمان صالح، ثورة الاتصال وحرية الإعلام، الإمارات العربية المتحدة: مكتبة الفلاح، 2007.
3- سليمان صالح، أخلاقيات الإعلام، الإمارات العربية المتحدة: مكتبة الفلاح، 2004.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى