الرأي العام السيبراني: سجالات الحرية والتلاعب والسيطرة

مقدمة:

“لا لوم على كانط بلا شك في اعتقاده أنَّ هناك أفكارًا، ما إن تخرج للنور حتى تقوم بترسيخ نقاط لا عودة في تاريخية المجتمعات الإنسانية، ليس لأنها تحدِّد بشكل حاسم شكل المجتمعات القادمة، ولكن لأنه بمجرد ظهورها، تصير دائمة التجدد والإتاحة في ظل ظروف جديدة”

كاثرين كوليو – ثيلين ( Catherine COLLIOT- THELENE)[1].

تأتي بعض نقاط اللاعودة تلك في تاريخ مجتمعنا الإنساني، محملة في بداياتها ببشريات وآفاق مفتوحة تنبئ بسبل جديدة أكثر إنسانية في سجالات البحث عن غاية الحرية، ومع انتباه القوى المسيطرة لوجود مساحات جديدة أو بديلة، تحتضن تفاعلات من شأنها أن تجدِّد حراك المجتمعات المقاومة، سرعان ما تنتقل تلك القوى بكل ما تملك من أسلحة للاستحواذ على تلك المساحات وتحريكها وفقًا لأهدافها الثابتة عبر الزمان، فتتجدَّد تلقائيًّا سجالات الحرية والسيطرة مع كل ظهور لساحة جديدة، وتظلُّ نقاط اللاعودة قادرة على التجدُّد والإتاحة دون إمكان التنبُّؤ بنهاية المطاف.

ومع كل تحوُّل جديد للمجتمع الإنساني، تثور الأسئلة ذاتها كظواهر قديمة جديدة دائمًا ما تتَّخذ أثوابًا مختلفة، لكنها تحتفظ بالجوهر ذاته، فنعود لنسأل ما السياسي وما حدود العام والخاص؟ والمحلي والعالمي؟ وما الزمان وما المكان؟ أين نحن في الشبكات المحيطة بنا؟ وهل نملك السيطرة على التدفُّقات بينها أم نصارع كي لا يتمَّ لفظنا خارجها؟ وما هي القوة؟ وهل نستعين بالعقل لتهذيب الاستعانة بها، أم أنه في حدِّ ذاته أداة للسيطرة لا مفرَّ من أن تقودنا لعصور الصراع الدامي؟ أم أن تلك السرعة العصيَّة على القياس من فرطها دليل تسيُّد الإنسان في الكون وتفوقه لدرجة تخطِّيه حدود الإنسانية ذاتها وتساؤله عما بعدها؟ أم هي دليل على ضعفه وتدميره لسياق حياته شيئًا فشيئًا؟

وحيث إن تشابك الواقع بالفضاء الافتراضي صار ملمحًا رئيسيًّا للحياة، وفواعل الواقع هم فواعل العالم السيبراني، كان من الطبيعي أن تنتقل كلُّ المفاهيم والظواهر إلى ذلك الفضاء لتخلق حالة من التلاحم بين واقعها المعاش والسيبراني وبخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي صرنا جزءًا منها، وصارت جزءًا أصيلاً من تفاصيل حياتنا اليومية، ولا نعلم أتقودنا كتروس في آلة الحداثة، أم نقودها ونطوِّعها لرغباتنا في ظلِّ دوائر تسليع وظلال مراقبة تحيط بها وتهدِّد الحرية في فضائها الافتراضي تمامًا مثلما تهدِّدها على الأرض.

استوجبت تفاعلات الفضاء الافتراضي خاصَّةً بعد أحداث الربيع العربي سواء في الموجة الأولى أو الثانية أو على الصعيد العالمي في حراكات أخرى شهدتها مدن وعواصم دول العالم، فَرْضَ التساؤل عن ملامح ذلك العالم السيبراني باعتباره مجالًا عامًّا يمكن أن ينتج عنه ما يمكن اعتباره رأيًا عامًّا. ومع اتِّساع وانقباض مساحة الحرية في المجال العام الافتراضي، نجد أنفسنا بحاجة للتوقُّف أمام ماهية الرأي العام في الفضاء السيبراني واتجاهات تعريفه والوقوف على تداخل الحيِّز المحلي والعالمي في طيَّات تكوينه.

بناءً على ذلك، يحاول التقرير رسم خريطة مبسَّطة لملامح الرأي العام السيبراني، ويأتي التساؤل الرئيس له على النحو التالي: إلى أي مدى، يمكن النظر للعالم السيبراني كمجال عام قادر على خلق رأي عام حر؟

يبدأ التقرير بتناول رؤية العالم الافتراضي وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي كمجال عام أو مجالات عامة، ثم ينتقل لمحاولة تحديد اتجاهات تعريف الرأي العام السيبراني ومسمَّياته، ثم الانتقال لإشكالية الرقابة والسيطرة في العالم الافتراضي الملتحم بالواقع، وتأثيرها على الرأي العام المتولد عنه.

أولًا- المجال العام السيبراني وخصوصية شبكات التواصل الاجتماعي

تكمن قوة المجال العام كمفهوم، في تجريديَّته ومرونته وقدرته على اتخاذ أبعاد عدَّة، بالإضافة إلى طبيعته السائلة التي مكَّنته من التواجد في مجتمعات وثقافات وأزمنة شتى بصور شتى، وهو وإن ارتبط تناوله في حقل العلوم الاجتماعية والسياسية بالأساس بإسهام الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس، إلا إنَّ جذوره لا تمتدُّ في أرض المجتمع الغربي فحسب، ولا ينحصر في التصور “الهابرماسي” له، بل إنه في ظل التطور التكنولوجي وتبعاته المؤثرة في عصب المجتمع الإنساني، يسمح بتعدِّي وجوده في الواقع الملموس وتخيُّله في رحاب الفضاء الافتراضي.

بحسب تعريف هابرماس، يُعَدُّ المجال العام حيِّزًا من حياتنا الاجتماعية، يقوم الأفراد من خلاله بتبادل الأفكار والمعلومات بحرية، ما يسمح بتكوين ما يمكن تسميته بالرأي العام”[2].

بالتالي فإن المجال العام يتحقَّق وجوده عندما يتواصل المواطنون سواء وجهًا لوجه، أو من خلال خطابات أو وسائل الإعلام، من أجل التعبير عن آرائهم بشأن أمور ذات اهتمام مشترك بينهم، تاركين مصالحهم الشخصية وراء ظهورهم، مخضعين تلك الآراء للنقاش العقلاني[3] في أجواء تسودها الحرية والتسامح وقبول الآخر. فهناك إذن عملية إعمال عقل يؤدِّي إلى نقاش يثمر بدوره عن فعل. وبالتالي فهو فضاء لممارسة المواطنة، وكي يتحقَّق هذا النوع من النقاش الذي يساهم في تكوين رأي عام موضوعي لا يتأثر بالمصالح الشخصية، ثمة عوامل يجب توافرها كضمانة لسلامة هذه العملية[4]:

أولًا: إتاحة المشاركة للجميع دون تفرقة. ثانيًا: المساواة، أي تنحية المكانة والوزن الاجتماعي جانبًا بما يضمن تساوي فرص المشاركة في التعبير عن الرأي بحرية دون أي إكراه أو تمييز. ثالثًا: إتاحة مناقشة القضايا العامة ذات الشأن المشترك والتي كانت مناقشتها وتفسيرها قبل ذلك عملية مقصورة على سلطات الدولة والكنيسة حتى فيما يتعلَّق بالأدب والفلسفة والفنون. بناءً على ذلك، يكون الحديث هنا عن مجال عام: حر لا يقبل علاقات القهر، شامل وليس حصريًّا، يتناول شأنًا مشتركًا، يضمن الحرية والعدل والمساواة بين المشاركين.

يدفع تأمُّل المجال العام كفكرة قوامها الحرية والتشاور والمواطنة للقول بأنه كان دومًا شيئًا افتراضيًّا في حدِّ ذاته، أي إنه: مفهوم يكمن معناه في تجريديَّته[5]، ما يعني أنه مفهوم متحرك ذو قوام مرن حيثما تحقَّقت شروطه، والغاية منه تحقُّق المجال العام (أي: حيثما تحققت تلك المساحة الحرة بين المجتمع والدولة التي تحفظ المواطنة وتقف كرادع ضدَّ توغُّل الدولة، ومنها ينتج رأي عام قوي).

ومع تغيير الشبكات -بتأثير تكنولوجيا الاتصال الحديث- للبنية الاجتماعية الخاصة بالمجتمع الشبكي الإنساني، ومع التعامل مع الجماعات (Communities) كشبكات لرأس المال الاجتماعي، يصبح الفضاء الافتراضي مؤهلاً لاحتواء مجال عام شبكي جديد، متحررًا من جمود الإطار الهابرماسي، محتفظًا بروح الفكرة ذاتها.

يعرف مانويل كاستلز (Manuel Castells)المجال العام كمساحة اتصال للأفكار والمشروعات النابعة من المجتمع، والتي يتم توجيهها لصانعي القرار في مؤسَّسات ذلك المجتمع[6]، كما وصفه هابرماس بشبكة لتواصل المعلومات ووجهات النظر[7]، فإذا كانت شبكات الاتصال إذن هي التي تُكَوِّن المجال العام، فالمجتمع الشبكي -أكثر من أيِّ شكل آخر من أشكال تنظيم المجتمعات على مدار التاريخ- كما يوضِّح كاستلز يقوم بتنظيم مجاله العام على أساس شبكات الاتصال الإعلامية، والتي تضم في القلب منها الإنترنت وشبكات التواصل اللاسلكية، إلى جانب وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية[8].

يعمل المجال العام إذن كمستودع للأفكار والمشروعات المغذِّية للنقاش العام، ونظرًا لارتباطه بالدولة والمجتمع المدني كمكونات رئيسة للمجتمعات الحديثة، فإن التفاعل بين المواطنين والمجتمع المدني والدولة عبر المجال العام هو الذي يضمن التوازن بين عنصري الاستقرار والتغيير المجتمعي في إطار إدارة الشئون العامة.

لذلك متى تقاعس أيُّ طرف من الأطراف الثلاثة، سواء المواطنين أو الدولة أو المجتمع المدني عن القيام بدوره في عملية التفاعل، أو في حال كانت قنوات الاتصال بين أيٍّ منهم مغلقة؛ تظهر الأزمة في إطار النظام التمثيلي ونظم اتخاذ القرار؛ ما يستتبع بدوره أزمة شرعية كما يقول هابرماس عندما لا يجد المواطن نفسه في مؤسَّسات المجتمع، ما يؤدِّي لإعادة تعريف علاقات القوة داخل الدولة[9].

وفي سياق المجتمع الشبكي؛ يظهر التغير الحادث في مفهوم المجال العام من مجال عام مرتبط بالمؤسَّسات القومية الخاصة بمجتمع تأتي لُحْمَتُه من حدوده الجغرافية، لمجال عام مؤسَّس حول شبكات الاتصال الإعلامية متجاوزًا للحدود المكانية والزمانية، أي مجال عام شبكي ذي دوائر محلية، عابرة للقومية، عالمية. فهو إذن مجال عام مؤسَّس حول شبكات اتصال ذاتية- جماهيرية Mass Self-Communication كما أسماها كاستلز[10].

بالابتعاد عن الصورة المثالية للمجال العام التي رسمها هابرماس، والربط التلقائي بينها وبين النمط اليوتوبي للديمقراطية التشاورية القائمة بين مواطنين أحرار ومتساوين جميعهم، وبمحاولة تسكين المجال العام في سياق المجتمع الشبكي؛ حيث لا تتوقف تكنولوجيا الاتصال عن التجدُّد ما ينتج عنه إحداث تغيير متسارع في تركيبته؛ يمكن رسم خيوط عريضة لشروط تحقُّق المجال العام أكثر مرونة وقدرة على التأقلم باختلاف السياقات المحيطة، ومراعاة عنصر تكنولوجيا الاتصال والفضاء الافتراضي؛ حيث لا تقتصر ممارسة المجال العام على التفاعل المباشر وجهًا لوجه، بل هناك سعة لتخيُّله بشكل غير مباشر في ذلك الحيِّز السيبراني.

فالتعامل هنا يكون إذن مع مفهوم المجال العام ليس باعتباره مفهومًا أحاديًّا، بل هو مفهوم متعدِّد الأبعاد ذو دوائر متداخلة ومستويات متدرِّجة. مع التحرُّر شيئًا فشيئًا من قيود الزمان والمكان التي تزيد من فرص الإقصاء، وفي ظلِّ وجود وسائل الإعلام –الجماهيرية الإلكترونية– وقدرتها على نشر المعلومة، وتوفير سبل التفاعل في الحيِّز الافتراضي، وتقليص متطلبات الدخول لفضائه وتيسيرها؛ يمنح كلُّ ذلك الفرصةَ لتكوين جمهور ذي بُعد عالمي وليس فقط محليًّا، أي: إنه يعطي المجال لخلق دوائر عالمية وعابرة للقومية من المجال العام.

يتماشى ذلك الأمر مع طبيعة المجال العام في المجتمع الشبكي، كما سبقت الإشارة، وتمحوره حول شبكات التواصل الإعلامي؛ حيث لامركزية الإنترنت تخلق مجالاً عامًّا لامركزيًّا أيضًا.

في السياق ذاته، يأتي الحديث عن الإنترنت والحيِّز الافتراضي، ومساهمته في الربط بين المدن وكيف يمكن قراءة ذلك الأمر كنواة لمجتمع مدني عالمي شبكي بالتوازي مع نشوء مجال عام عالمي، وكيف غيَّر الحيز الافتراضي من مفهوم الجماعة مع خلق شبكات من أصحاب الاهتمامات المشتركة أو المهن المشتركة- كالمنظمات العالمية للمرأة أو منظمة أطباء بلا حدود على سبيل المثال- أو شبكات للمهاجرين ذوي الأصول المشتركة، ما أعطى المساحة لمجال عام قومي-كوني (Cosmonational)، وما أتاحه ذلك الفضاء السيبراني من تمكين نشطاء أي مجال ما، ليس فقط من تداول المعلومات، بل أيضًا تداول سبل العمل السياسي واستراتيجياته[11]، وهو ما يمكن تلمُّسه في حالة تناقل النشطاء حول العالم خبرات التشبيك والحشد الإلكتروني والتحرُّك على الأرض في الاحتجاجات الاجتماعية.

يتبيَّن مما سبق أنَّ الحيز الافتراضي وإن مَثَّل مجالاً عامًّا في حدِّ ذاته؛ فذلك لا يعني انفصاله عن التفاعلات على أرض الواقع، بل إن المجال العام في ظلِّ المجتمع الشبكي يجمع بين الأماكن الحضرية، وشبكات الاتصال خاصَّة في ظلِّ حضور الحيِّز الافتراضي بسهولة شديدة عبر تكنولوجيا الهاتف المحمول، ويجعل التنقُّل بينهما أمرًا ثابتًا ومؤكَّدًا، حتى إن تلك المساحة التي يلتقي فيها الافتراضي بالواقعي أو الأماكن والحيز السيبراني أسماها كاستلز “مساحة الاستقلالية Space of Autonomy”[12].

لذلك يمكن اعتبار الحيز الافتراضي مجالاً عامًّا من نوع خاص أو مجالاً عامًّا جديدًا يتميز بالاتصال الأفقي الدائم أو كما يشبه كاستلز الاتصال كمجال عام للمجتمع الشبكي[13].

في هذا المقام، تتبدَّى خصوصية شبكات التواصل الاجتماعي في تخطِّيها حدود الهدف الاجتماعي المجرَّد وتبادل المعلومات، لتشمل استخداماتها، تكوين رأي عام، والحث على التصويت والانتخاب، والتسويق السياسي، وتبادل النقاش في القضايا العامة، وتبادل الخبرات والمصالح، والحشد، والدعاية، والدعوة لتحرُّكات سياسية على الأرض كالتظاهر والعصيان المدني، والتعريف بالحقوق، والتشبيك بين أصحاب الأفكار المتماثلة أو المنظمات الحقوقية ومؤيديها أو المؤسسات والكيانات ذات الأهداف المشتركة[14].

تتقاطع في هذا المقام جدلية تداخل العام والخاص، والمحلي والعالمي مع الدور السياسي لشبكات التواصل الاجتماعي والنظر إليها كمجال عام أو كامتداد للمجال العام على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال ترى زيزي باباراتشيسي أن شبكات التواصل الاجتماعي نشأت في حالة من انهيار الحدود بين المجالين الخاص والعام فصار السياسي متمثلاً في الخاص كذلك؛ حيث تشير إلى أن شبكات التواصل كتويتر وغيرها من شأنها أن تحوِّل المجال الخاص لمجال تواصلي، وليس لمساحة من العزلة، ما يسهم في ربط الشخصي بالسياسي، والذات بالمجتمع والسياسة[15].

ومع مرور الإنسانية بنقطة لاعودة تاريخية أخرى تمثَّلت في جائحة كورونا[16] المستمرة في تمحورها لأجل غير مسمى، يتبدَّى بقوة قدرة شبكات التواصل الاجتماعي على توسيع دائرة استخداماتها وحضورها في ظلِّ مناخ انقطعت خلاله الروابط المكانية بمرور العالم بلحظة انغلاق شبه تام وتوقف للحركة على أرض الواقع والدعوة للانعزال بحثًا عن وجود آمن، في حين انتقل أساس التواصل والتعاملات من الواقع إلى الفضاء الافتراضي، مع تحوُّل تفاعلات الحياة الرئيسة إلى تفاعلات رقمية بالأساس، وقيام شبكات التواصل الاجتماعي بالدور الرئيسي في التواصل بين البشر بحثًا عن سبيل لاستمرار الحياة في ظلِّ الجائحة، واستقاء المعلومات وتبادل خبرات التعامل مع الموقف عالميًّا وداخل أحياء البلد الواحد، وشهود مجالات عامة افتراضية متنوِّعة ذات مستويات مختلفة من المحلية والعالمية تحاول ابتكار سُبل جديدة للتواصل البشري حفاظًا على بديهيات الحاجة الإنسانية.

ثانيًا- الرأي العام السيبراني: ماهيته واتجاهات تعريفه

” تمتلك الكلمات الظاهرة على شاشة كمبيوتر القدرة الكاملة على تحويل مجموعة من الغرباء إلى جماعة ” – هوارد رينجولد[17].

ربما تُذكر تلك الكلمات للوهلة الأولى بالمعنى العادي لكلمة جمهور والذي ذكره جوستاف لوبونGustave Le Bon في كتابه “سيكولوجية الجماهير” باعتباره ” تجمُّعًا لمجموعة من الأفراد لا على التعيين، أيًّا تكن هويتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم، وأيًّا تكن المصادفة التي جمعتهم”[18].

ولكن في حقيقة الأمر إن بدا ثمة تشابه من حيث عدم اشتراط تواجد الأفراد في مكان جغرافي بعينه على سبيل المثال، وتقارب ذلك التعريف الأولي لكلمة جمهور مع مفهوم الحشد The Crowd نوعًا ما، فإننا نجد أن نطاق الفضاء السيبراني يتجاوز ذلك بقدرته على تكوين جماعات عدَّة من خلفيات وأمكنة عدَّة، وإقامة حالة من الحوار وتبادل المعلومات والتشاور حول قضية ما ذات اهتمام مشترك يجمعهم، ما يجعله يحمل في طيَّاته فسيفساء معقَّدة من مجالات عامَّة متعدِّدة مختلفة في حجمها، ومتداخلة ومترابطة، كما وصفها جون كيين (John Keane)[19].

ربما تتوافق تلك الرؤية أكثر مع اقتراح نانسي فريزر (Nancy Fraser) بوجود عدَّة مجالات عامة يمكن اعتبارها مجالات مقاومة (Subaltern counter Publics) تضم مختلف المجموعات داخل أيِّ مجتمع وتكوِّن علاقات متبادلة بينهم، وهو النموذج الأنسب من وجهة نظرها، سواء في المجتمعات التي تتحقَّق بها المساواة بالفعل، أو المجتمعات الطبقية التي يتدخَّل النوع والعِرق والثروة في تحديد أشخاصها[20].

أيضًا يتماشى ذلك مع التعريف الذي أعطاه برنارد بيتيرز((Bernhard Peters للمجال العام بصفته “كل فضاء للتشاور العام الحادث في بلد ما، والذي لا يعكس شيئًا متجانسًا أو حتى في بعض الحالات لا يكون وثيق الصلة ببعضه البعض”[21]. وفي رحاب الحيز السيبراني غير المحدود في سعته وتدفُّقاته الآنية عبر الزمان والمكان، تتَّضح أكثر تلك الرؤية ويسهل إيجاد مجالات عامة متعدِّدة متفاعلة في إطار شبكي مع الواقع.

من هنا يمكن القول إن جمهور العالم السيبراني هو جمهور حاضر في مجالات عامه متعدِّدة، مستقبل للمعلومة وصانع لها، مؤثر في مسار تكوين الرأي العام، ومتأثر بمحاولات جماعات المصالح وأصحاب القوة تغيير دفَّته، تفاعلي مُبادر، وأحيانًا منسحب مكتفٍ بالمتابعة أو المساحة الاجتماعية الصريحة، ذو ردَّة فعل انفعالية سريعة الخمود والتلاشي، أو متبعًا لسياسة النفس الطويل حتى إحداث التأثير، متحايلًا على سبل الرقابة أو ممارسًا للرقابة الذاتية تحت وطأة الخوف أو تجنبًا للصدام.

في ظلال حضور ذلك الجمهور وقيامه بالتفاعل المتبادل، ينشأ رأي عام ينتقل تارة من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع ليؤثِّر على اتجاه الرأي العام التقليدي، ويستقبل تارة أخرى مؤشِّرات الواقع لينقلها إلى الفضاء السيبراني، ويشتبك مع الواقع ليشكِّل رأيًا عامًّا إلكترونيًّا-تقليديًّا يصعب تجزئته.

تختلف مسمَّيات الرأي العام الناشيء عن تفاعلات المجالات العامة السيبرانية ما بين الرأي العام الإلكتروني E-Public Opinion، وOnline Public opinion، والرأي العام السيبراني، Cyberspace Public opinion، والرأي العام الرقمي Digital Public opinion، والرأي العام الشبكي Networking Public Opinion، والرأي العام الافتراضي Virtual Public Opinion، وهي في مجملها مسمَّيات مستقاة من تنوُّع مسمَّيات المجال السيبراني ذاته، وترمي إلى تعريفات عدَّة يتشابه فحواها بشكل أو بآخر مثل تعريف الرأي العام السيبراني باعتباره “مجموع الآراء والاتجاهات التي يعبِّر عنها الجمهور عبر الإنترنت تجاه قضية أو ظاهرة ما ذات أهمية بالنسبة له، في لحظة تاريخية ما ومساحة اجتماعية معيَّنة”[22]، أو “محصلة الآراء والأحكام السائدة في المجتمع الافتراضي نحو قضية ذات طابع جدلي”[23]، أو “الرأي السائد بين أغلبية مستخدمي الإنترنت والمعلن عبر صفحات التعبير عن الرأي في فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية مساسًا مباشرًا”[24].

وانطلاقًا من زاوية تعبير الفضاء السيبراني عن مجال عام ذي ملامح خاصَّة أو مجالات عامة متشعِّبة، يمكن تعريف الرأي العام السيبراني باعتباره نتاج حصيلة نقاشات واتجاهات جمهور المجال العام السيبراني في لحظة محدَّدة تجاه قضية تمس قيمه أو مصالحه، وتحمل أبعادًا محلية أو عالمية أو شبكية، نتيجة النشاط السيبراني في تناولها، وتقع في نطاق السياسي بمعناه الواسع، أي إن الرأي العام السيبراني يعبر عن حالة نقاش مستمرَّة متجدِّدة مع كلِّ قضية، قد يصل حدَّ التأثير في السياسات العامة للدول، أو تغيير فكر المجتمعات وواقعها المعاش، أو يقف عند حدِّ لفت الانتباه، أو يقع فريسة الاستقطاب أو التضليل أو التلاعب أو محاولات إخماد جذوته.

إجمالًا، لا تنفصل حقيقة الرأي العام السيبراني في ذاتها عن طبيعة الرأي العام التقليدي المتعارف عليه عبر سنوات، بالنظر إلى الفضاء الافتراضي باعتباره جزءًا لا يتجزَّأ من مجتمعنا الإنساني، يحاكي تفاصيله اليومية وصراعات السياسة والاقتصاد الدائرة على الأرض، لكنه بطبيعة الحال يحمل آفاقًا أكثر اتِّساعًا بحكم رحابة الفضاء الافتراضي واتِّساع نطاق السياسي معه، كما تتنوَّع مؤشِّراته وسُبل التعبير عنه باختلاف أشكال الوسائط والشبكات التي يظهر من خلالها.

فهو رأي عام شبكي لامركزي، سريع الانتشار، قادر على التحول إلى فعل على أرض الواقع، أكثر تحرُّرًا، يحمل إمكانات إخفاء الهُوية، تفاعلي، يتحول فيه المواطن إلى صانع محتوى أو معلِّق على محتوى قائم بالفعل، تتنوَّع وسائط التعبير عنه كتابةً أو بتشارك الصور، أو الكاريكاتير، أو الفيديو، أو الميمات Memes، ويتم التعبير عنه عبر خيارات الإعجاب Like، والتعليق Comment، والمشاركة Share، واستطلاعات الرأي Polls، ولا يقتصر على قنوات وسائل الإعلام التقليدية في تواجدها السيبراني، بل تتنوَّع صفحات ومواقع التعبير إلى ما لا نهاية؛ بما يسمح لكلِّ مستخدم صناعة قناته الخاصة ونشرها وتشاركها وتحويلها إلى منبر وساحة للنقاش والتداول.

بالطبع شهد العالم السيبراني العديد من القضايا التي تكوَّن إزاءها رأي عام قوي واتَّخذت أبعادًا عالمية وتحوَّلت إلى موضوع عام رائج Trend مثل قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، أو محاولات إجلاء الفلسطينيِّين من بيوتهم في حي الشيخ جراح هذا العام 2021، ولكن خلال السنوات العشر الماضية، مثَّلت حالة الربيع العربي في موجاته حالة شبه نموذجية لكيفية نشوء رأي عام سيبراني حرٍّ قوي، من رحم مجال عام احتضن نقاشات شبكية جادَّة، أسْفرت عن توجُّه عام ذي صدى واسع، والْتحم بأرض الواقع ليحدث تغيرًا ملموسًا في لحظة تاريخية ما.

ويشهد العالم السيبراني حالات لا متناهية من تكوين رأي عام حرٍّ قوي من مجالات عامة متعدِّدة، بمستويات وأبعاد تأثير متفاوته من شديدة المحلية إلى الشبكية، فكثيرًا ما يكون الرهان على مدى تأثير تلك الحالات معتمدًا على قدرة مواطني المجال السيبراني على الاستمرار والضغط، كما يشهد العالم السيبراني أيضًا على التوازي حالة مستمرَّة من التلاعب في اتجاه الرأي العام السيبراني وتضليله أو السيطرة عليه.

 

 

ثالثًا- إشكالية الرقابة والسيطرة في العالم السيبري

“كي أصدقكم القول، أشك أنني كنت سأصل إلى هنا لولا وسائل التواصل الاجتماعي “[25]

دونالد ترامب – 22 أكتوبر 2017

تثير دراسة الفضاء الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي جدالًا في رحاب العلوم الاجتماعية بين التفاؤل المفرط بدورها في دعم الحرية والديمقراطية التشاورية، وفتحها آفاقًا للتغيير، وبين التشاؤم الشديد والنظر إليها باعتبارها امتدادًا أو شكلاً جديدًا من الهيمنة الرأسمالية، والحديث عن حرية الفضاء الافتراضي على أنه وهم وخدعة كبرى.

وحيث إن الفضاء الافتراضي هو فضاء متعدِّد المستويات والأبعاد، محمَّل بالكثير من المفاهيم، متشابكٌ مع الكثير من الظواهر في عالم يتميَّز بالغموض، يصير من الصعب بمكان تناوله بصورة حادَّة متنقِّلة بين تفاؤل كبير وتشاؤم صريح، بل يستلزم الأمر النظر لمختلف أبعاده وجوانبه بشيء من الموضوعية، للوقوف على إمكاناته الفعلية، وآفاق تطوُّرها، ومهدِّداتها النابعة من داخله قبل أن تكون من العالم الخارجي.

فليس بالأمر الغريب أن يحمل الفضاء الافتراضي إمكانات المراقبة والتتبُّع والسيطرة داخله، وهو الناشئ بالأساس لغرض عسكري توسَّع وتحوَّل فيما بعد لتحقيق أغراض اجتماعية وعملية وسياسية، ويشير الواقع إلى أن العالم السيبراني هو انعكاس للقوى السياسية المهيمنة على السياسة والحياة الاجتماعية للعالم بأسره، فحيثما ظهرت الإمكانات الاقتصادية والإنتاجية لساحة ما كالساحة الافتراضية، سرعان ما تنتقل كل المؤسسات والقوى الحاكمة إليها لتدور رحى التنافس ولا يعدُّ الأمر مقصورًا على الهواة والحالمين، بل تفسح الساحةُ المجالَ للمتخصِّصين لخوض غمار معارك السيطرة والتفوق السياسي والاقتصادي[26].

ففي عام 1996، شهدت الانتخابات الأمريكية للمرة الأولى وجود حملات دعائية معتبرة عبر الإنترنت، حيث اتجهت العديد من جماعات المصالح لتأسيس مواقع إلكترونية لتعريف الناخبين بالمرشحين، كما اتجهت كبرى الشركات الإعلامية لإرساء مواقع إخبارية سياسية اهتمَّ الناخبون بمتابعتها لمعرفة تطوُّر أحداث الحملات ونتائج التصويت[27].

بعد مرور عشرين عامًا، شهد سباق الانتخابات الأمريكية عام 2016 تسريبات بتدخُّل روسي لصالح ترامب، قوَّت اليمين في التلاعب بمسار الرأي العام الأمريكي لصالح حملة دونالد ترامب التي وجهت 47% من إجمالي ميزانية الدعاية الإعلانية إلى الإعلام الرقمي مقابل توجيه حملة هيلاري كلينتون 8%، حيث أنفقت حملة دونالد ترامب 44 مليون دولار على إعلانات الفيس بوك، مقابل 28 مليون دولار أنفقتْها حملة هيلاري كلينتون، ما قاد للقول بأن فيس بوك وتويتر ساهما بشكل أساسي في فوز ترامب بالمقعد الرئاسي، كما أظهرت نتائج مركز بيو للأبحاث Pew Research Center احتلال موقع فيس بوك المركز الثالث كمصدر رئيس للمعلومات إبان فترة الانتخابات[28].

“البيانات الشخصية هي النفط الجديد للإنترنت والنقد الجديد للعالم الرقمي ” – ميجلينا كونيفا – عضو اللجنة الأوروبية (2009م)[29].

تقود تلك الحالة لدراسة إشكالية البيانات الضخمة أو ما يعرف بالـ(BIG DATA) وهو مفهوم مستحدث يحظى باهتمام كبير في الوقت الحالي ويصبُّ في قلب الجدل الدائر حول إشكالية الخاص والعام، والحرية والرقابة في الفضاء الافتراضي، ومدى إمكانية مساهمة ذلك الحيِّز السيبراني كمجال عام.

حتى عام 2010م، لم يكن مفهوم الــ(Big Data) معروفًا، ولكن بحلول منتصف 2011م شهد المفهوم انتشارًا واسعًا وسريعًا، وهو مفهوم جديد متعدِّد الأبعاد مرتبط بحقول علمية كثيرة، من الصعب الوقوف على تعريف واحد له؛ حيث تختلف تعريفاته باختلاف أسلوب التناول، إلا أنه يمكن القول إنه مفهوم يشير إلى عملية اشتقاق قيمة حسابية أو تجارية Business Value)) من رحم كمٍّ هائل من البيانات المستخرجة من مصادر متنوِّعة مثل بيانات شبكات التواصل الاجتماعي، أو بيانات تحديد الموقع الجغرافي عبر الهواتف المحمولة، وغيرها من أجهزة التجوال، والبيانات المتوفِّرة عبر أجهزة الاستشعار المدمجة في المباني والسيارات.. أي إنه مفهوم يتضمَّن تدفُّقات كمية هائلة، شديدة السرعة أو السيولة، متنوِّعة المصادر[30].

من زاوية أخرى، يمكن النظر لمفهوم البيانات الضخمة من منظور إعلامي بحيث يصير الإعلام المرتبط بذلك المفهوم أي(Big Data Media) معبرًا عن المحتوى الإعلامي المبني على أساس تحليلات لوغاريتمية لمجموعات كبيرة من البيانات تأتي كنتاج للآثار الرقمية التي يتركها المستخدمون عند قيامهم بأنشطة متعلِّقة بالفضاء الافتراضي مثل تصفُّح موقع ما، أو استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، أو شراء منتج ما عبر الإنترنت، أو التحرُّك في أماكن مختلفة في وجود الهاتف المحمول[31].

من هنا، تبدو في الأفق أطياف مخاوف التسليع -فضلاً عن فكرة التعقُّب والرقابة- وكأنها قادمة من زمان المجال العام البرجوازي في القرن الثامن عشر عندما دخلت الصحافة المطبوعة دائرة المجال العام، وبدأت بإثرائه، ثم انتهت بتسليعه، ضمن مراحل متدرِّجة لتحوُّلات هيكلية للمجال العام.

بالتالي يبدو من الطبيعي في هذا المقام مع استمرار تطور وسائل الإعلام أن تضاف مرحلة جديدة من مراحل التحوُّل البنيوي للمجال العام؛ حيث يأتي هنا الواقع القائل بتآكل الدعاية عبر الصحف المطبوعة -في وجود الفضاء الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي- كسبب رئيس من أسباب بروز مفهوم الـ(Big Data).

على سبيل المثال يترتَّب على تعقُّب استخدامات مستخدمي الإنترنت -ومن ثَمَّ مواقع شبكات التواصل الاجتماعي- أن يتمَّ ربطهم أكثر فأكثر بكل ما يشبه توجُّهاتهم، فتكون الإعلانات وكذلك اقتراحات الصداقة وحضور أحداث بعينها، أو متابعة أخبار ما مرتبطة باهتماماتهم، فتصير هناك تجمُّعات متشابهة بعيدة عن التنوُّع وعن الانفتاح على كلِّ ما هو مختلف، كما يكون هناك سهولة في عملية التعقُّب من قبل الحكومات.

يحمل هذا الأمر مزية وعيبًا في ذات الوقت، فإتاحة الفرصة للمستخدمين للتعرُّف على غيرهم ممَّن يملكون الأفكار أو التوجُّهات ذاتها ساهم على سبيل المثال في سهولة الحشد والتنسيق للتظاهرات التي أدَّت لأحداث الربيع العربي، كما أن تلك اللوغاريتمات التي تسهم في ذلك التقارب هي ذاتها التي يمكن استخدامها لمعرفة مدى قابلية مستخدم ما أن يكون معارضًا لحكومته[32].

يقود ذلك لمشكلة أخرى ترتبط بالواقع المعاش ومفهوم القوة؛ حيث إن خيارات البشر ومستواهم الفكري والاجتماعي والمادي، كلها أمور يتدخل المجتمع والثقافة ووسائل الإعلام في تحديد الرائج منها والمنبوذ، ومواطن القوة والضعف فيها؛ وبالتالي عند الانتقال للفضاء الافتراضي تكون هناك شبكات من البشر قائمة مسبقًا، وتكون الشبكات القوية من بينها محدَّدة مسبقًا؛ حيث إن الاتصال يعيد إنتاج هذه القوة وتكرارها، فيأتي تحليل البيانات ليصنع من خيارات الأغلبية سمات عامة يتم تطبيقها على الجميع باعتبارها الخيار الصحيح، وفي قول آخر يصير هناك نوع من استبداد الأغلبية (Tyranny of Majority)[33].

بناءً على ذلك يتم على سبيل المثال تصدير إجابات أو نتائج بحث عبر الفضاء الافتراضي باعتبارها هي الأدق، أو تقديم اقتراحات وتفضيلات؛ نظرًا لاختيار الأغلبية لها بصرف النظر عن مدى صحتها في الواقع.

يتبدَّى في هذا المقام، فضيحة اختراق بيانات 87 مليون مستخدم لموقع فيس بوك أو أكثر حصلت عليها شركة كامبريدج أناليتيكا للاستشارات وتم الاستعانة بجزء كبير منها لصالح الحملة الانتخابية لدونالد ترامب عام 2016[34]، ومؤخرًا فضيحة برنامج التجسُّس بيجاسوس التي أثارت جدلًا واسعًا في الآونة الأخيرة بعد تداول أخبار عن استخدام برنامج التجسُّس الإلكتروني الإسرائيلي بيجاسوس في مراقبة الصحفيين والنشطاء وحتى القادة السياسيِّين، وأن هذه البرامج باتت معروضة للبيع[35]، ما يذكِّر بتسريبات وثائق ويكيليكس عام 2013 التي كشفت ضمن حقائق أخرى عن نظام التجسُّس الذي اتَّبعته وكالة الأمن القومي الأمريكي عبر دخول مباشر لبيانات مستخدمين من خلال شركات مثل: مايكروسوفت، وجوجل، وفيس بوك، وسكايب، وياهو، وآبل…[36].

يذكر هذا السياق بتغريدات الكراهية التي شهدتها شبكات من المفترض أن تعزِّز التواصل، منذ الساعات الأولى لإجراء استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروف باسم “بريكست” في الثالث والعشرين من يونيو عام 2016، معلنًة تأييد الخروج بشدة، انطلاقًا من نبرة جلية -ومستترة أحيانًا- للحفاظ على الهُوية وتفوق العرق الأبيض، ومايتبعها من رغبة ملحَّة لغلق الحدود أمام جموع المهاجرين، والمسلمين منهم على وجه الخصوص. بالطبع يملك الفضاء الافتراضي ساحات مقابلة للمقاومة لكنها ليست بنفس قوة وتنظيم القوى المهيمنة مثل تيار اليمين المتطرِّف القادر على استغلال مزايا وثغرات الإنترنت باحتراف وتمويل سخي.

خاتمة:

إذا راودك شعور بأن السيطرة على محتوى ويكيليكس على الإنترنت هو أشبه بمحاولة الإمساك بدخان وإدخاله في دلو، فقد بدأت إذن في إدراك الصورة الكلية ” – هال بيرغل 2012م Hal Berghel

تتشابك خيوط حياتنا الإنسانية لتصنع مزيجًا متداخلًا شديد التعقيد بين العالم السيبراني والواقع، ليكَوِّنا معًا نسيجًا من عُقد لامتناهية نظل ندور داخلها، ونصنع المزيد منها في انتظار نقطة لاعودة تاريخية جديدة تدخلنا في المزيد من الدوائر.

لا تختلف سمات التفاعلات الدائرة في المجال السيبراني عن تلك الدائرة بيننا على الأرض، حيث إن الفواعل حاضرون في المجالين بكلِّ ما يملكانه من شبكات مصالح وقيم ومساعي للتحرُّر أو السيطرة، ويقابل انحسار المجال العام المكاني في بعض الأحيان أو داخل بعض الأنظمة، اتساعٌ في مجالات عامة شتَّى سيبرانية تظلُّ هي الأخرى في حالة صراع بين المقاومة والاستسلام، لكنها دائمة التجدُّد في أشكال عدَّة، حتى إن صدور تطبيق كلوب هاوس مؤخرًا والذي سطع نجمه إبان جائحة كورونا ومحاولات التحايل على الواقع سعيًا لمزيدٍ من التواصل، يذكِّر على سبيل المثال ببدايات تكوُّن المجال العام خلال القرن الثامن والتاسع عشر داخل أروقة الصالونات الفكرية والأدبية بأوروبا.

أكدت الدراسة قدرة المجال العام السيبراني على تكوين رأي عام بملامحه الرئيسة المعروفة، لكنها أكثر قدرة على الانتشار وأكثر عرضة للتلاعب والسيطرة، في ظل سجال دائم لاينتهي سوى بزوال الإنسانية ذاتها، وكما أن العالم السيبراني يشهد هجمات ضخمة للرقابة والتجسُّس، يتمُّ على منصَّاته أيضًا كشف التجسُّس، وكما تهيمن القوى الكبرى على الواقع، فهيمنتها تنسحب على ذلك العالم أيضًا، إلا أن ثمة ثغرات دائمة تسمح بالمقاومة والحيلة، ويظل السباق قائمًا، حاملًا لمفاجآت قديمة جديدة، دون قدرة حقيقية على استشراف مآلاته بدقَّة كمان كان الحال سابقًا.

 

——————

 

(*) باحثة في العلوم السياسية.

[1] Albert Ogien, Sandra Laugier, Le Principe Démocratie; Enquête sur les Nouvelles Formes du Politique, (Paris: La Découverte, 2014), p. 46.

[2] Jurgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere, AN Inquiry into a category of Bourgeois Society, translated by Thomas Burger with Frederick Lawrence (Cambridge, MA: MIT Press, 1991), p. xi.

[3] Andrew Edgar, Philosophy of Habermas, (Monteral: Mcgill-Queen’s University Press, 2005) p. 31.

[4] Jurgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere, Op. cit., pp. 36-37.

[5] Pieter Boeder, “Habermas’ heritage: The future of the public sphere in the network society”, First Monday, Vol. 10, No. 9, 5 September 2005, available at: https://cutt.us/aNS95

[6] Manuel Castells, “The New Public Sphere: Global Civil Society, Communication Networks, and Global Governeance”, The Annals of the American academy of political and social science, Vol. 616, Issue 1, 2008, p. 78, available at: http://bit.ly/2jvy7CX

[7] Ibid, p. 78.

[8] Ibid, pp.78-79.

[9] Ibid, pp.79-80.

[10] Manuel Castells, “The New Public Sphere: Global Civil Society, Communication Networks, and Global Governeance”, Op. cit., pp. 89-90.

[11] للمزيد من المعلومات حول فكرة المجتمع المدني العالمي والشبكات، انظر:

– Saskia Sassen, “Global cities and Diasporic Networks: Micro Sites in Global Civil Society” in: Marlies Glasius, Mary Kaldor and Helmut Anheier (eds.), Global Civil Society (Oxford: Oxford University Press, 2002), pp. 217-238, available at: http://bit.ly/2x0au8A

[12] Manuel Castells, Mukul Kumar, “A Conversation with Manuel Castells”, Berkeley Planning Journal, Vol. 27, No.1, 2014, p. 94.

[13] Manuel Castells, “Communication, Power and Counter power in The Network Society”, International Journal of Communication, Vol. 1, 2007, pp. 258-259, available at: http://bit.ly/1a1x2Cz

[14] Karolina Stefanowicz, “New Tools for Social dialogue on the Internet, Opportunities and Threats for New Social Sphere”, Studies in Logic, Grammer and Rhetoric, Vol. 23, No. 36, 2011, p. 247.

[15] Christian Fuchs, Social Media: A Critical Introduction, (London: Sage Publications, 2013), pp. 185-187.

[16] للمزيد من المعلومات حول أثر جائحة كورونا على تضخُّم دور شبكات التواصل الاجتماعي واتِّساع سياق الفضاء الافتراضي، يمكن مراجعة:

– Hans-Jörg Trenz, Annett Heft, Michael Vaughan and Barbara Pfetsch, Resilience of Public Spheres in a Global Health Crisis, Berlin: Weizenbaum Institute for the Networked Society – The German Internet Institute, 2020, available at: https://cutt.us/I85mN

[17] David Bell, An Introduction to Cyberculture, (London and New York: Routledge, 2001), p. 92.

[18] جوستاف لي بون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم: هيثم صالح، (بيروت-لندن: دار الساقي، 2015)، ص 53.

[19] Pieter Boeder, “Habermas’ heritage: The future of the public sphere in the network society”, Op. cit.

[20] Nancy Fraser, “Rethinking the Public Sphere: Contribution to the Critique of Actually excising Democracy”, Social Text, No. 25/26, 1990, pp. 56-80, available at: http://bit.ly/2wi5URH

[21] Rodney Benson, “Shaping Public Sphere: Habermas and Beyond”, The American Sociologist, Vol. 40, 15 July 2009, p. 181, available at: https://bit.ly/30f9gcB

[22] Bing Huang, Analyze the Influence of Internet Public Opinion on Public Policy, Open Access Library Journal, Vol. 7, 2020, p. 3, available at:

https://doi.org/10.4236/oalib.1106674

[23] محمد مصطفى رفعت، الرأي العام في الفضاء الافتراضي وقوة التعبئة الافتراضية، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2018)، ص 67.

[24] المرجع السابق، ص 67.

[25] Federica Liberini, Michela Redoano, Antonio Russo, Angel Cuevas and Ruben Cuevas, Politics in the Facebook Era Evidence from the 2016 US Presidential Elections, CAGE Online Working Paper Series, No. 389, Centre for Competitive Advantage in the Global Economy, Department of Economics, England, University of Warwick, October 2018, p. 1.

[26] Michael Margolis and David Resnick, Politics as Usual: The Cyberspace “Revolution”, (Thousand Oaks – California: Sage Publications, 2000), pp. 2-5.

[27] Ibid, p. 9.

[28] Federica Liberini, Michela Redoano, Antonio Russo, Angel Cuevas and Ruben Cuevas, Politics in the Facebook Era Evidence from the 2016 US Presidential Elections, Op. cit., p. 2.

[29] جوليا أنغوين، سلطة شبكات التعقب عبر وسائل الاتصال والإنترنت: بحث عن الخصوصية، والأمن، والحرية في عالم رقابي لا يستكين، ترجمة: حسن البستاني، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2015)، ص 47.

[30] Ian Mitchell, Mark Locke, Mark Wilson, Andy Fuller, The White Book of Big Data: the Definitive Guide to the Revolution in Business Analytics, (California: Fujitsu, 2016), p. 7, available at: https://bit.ly/3Dr6X4c

[31] Taul Harper, The Big Data Public and its Problems: Big data and the structural transformation of the Public Sphere, New Media & Society, Vol. 19, Issue 9, 2017, pp. 1425-1426.

[32] Ibid, pp. 5-7.

[33] Ibid, pp. 10-13.

 [34] للمزيد من المعلومات حول هذه القضية، انظر: فضيحة اختراق بيانات فيس بوك طالت 87 مليون مستخدم وزوكربرج أمام الكونجرس الأربعاء، بي بي سي عربي، 5 أبريل 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/8ngXS

[35] للمزيد من المعلومات حول هذه القضية، انظر: غوردون كوريرا، فضيحة برنامج بيغاسوس: هل أصبحنا جواسيس دون أن ندري؟، بي بي سي عربي، 22 يوليو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/WvvLu

[36] Christian Fuchs, Social Media and the Public Sphere, triple C, Journal for a Global Sustainable Information Society, Vol. 12, No. 1, 2014, pp. 83-84, available at: https://bit.ly/3FokWK0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى