الحكومة الذكية: تنمية سياسية أم مزيد من التحكم؟

مقدمة:

يشهد المجتمع البشري تطورًا مُطردًا في مجال التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها، لتغدو معه حياة الإنسان أكثر ارتباطًا بالأجهزة الإلكترونية والعوالم الافتراضية، فقد أدَّى الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا الرقمية إلى تغيير الطرق التي نتفاعل ونتواصل بها مع الآخرين، وكيفية الوصول إلى المعلومات وكيفية استهلاكها. وأصبح المجتمع الآن مُستشعرًا بشكل أكبر في المجال الرقمي مما هو في المجال الحقيقي غير الافتراضي.كما جاءت التكنولوجيا الرقمية لتلقي بجُل تأثيرها على تطور الأنظمة السياسية ودخول الحكومات بثقلها هذا العالم الافتراضي محاولة بسط هيمنتها عليه باعتباره فضاءً جديدًا للتفاعل الاجتماعي والنشاط المجتمعي، تنتج عنه آثار جد مؤثرة في أوضاع الدول والشعوب الداخلية والخارجية بكافة أبعادها.

يتغلغل ما هو رقمي ويتسع انتشاره بشكل متسارع على مدى الأعوام العشرين الماضية، وهو مستمر في النمو بشكل متزايد. حيث تشتبك التكنولوجيا الرقمية بشكل متزايد مع الحياة اليومية؛ في التعليم والتربية إلى النشاط السياسي وحتى الإدارة المالية والصحية، ونتج عن ذلك حاجة أساسية لفهم التحديات التي تمثلها بالنسبة للمجتمع والدولة والعلاقة الجدلية بينهما.

وتتسابق الحكومات حول العالم الآن في إقامة ما يطلق عليه “الحكومة الرقمية”، ففي كل منطقة من مناطق العالم من الدول النامية إلى الدول الصناعية المتقدمة، تضع الحكومات الوطنية والمحليات فيها الفضاء الإلكتروني على قمة أولوياتها، وتستخدم التقنية وتتفاعل إلكترونيًّا مع مواطنيها. كما شكل مفهوم الحكومة الإلكترونية محور استراتيجية النهوض بالعمل الحكومي وغير الحكومي في شتى دول العالم، وهو ما يعني تحولًا جذريًّا في المفاهيم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتسويقية، وعلاقة المواطن والمؤسسات بعضها مع بعض.

أولًا- الحكومة الذكية وسماتها:

يعد مفهوم “الحكومة الذكية” بمثابة مفهوم عصري يعبر عن الاستخدام الأمثل لتكنولوجيا المعلومات، من أجل توفير الخدمات الحكومية للمواطنين والمقيمين والزوار وقطاع الأعمال والدوائر الحكومية وموظفيها، عبر قنوات إلكترونية متعدِّدة؛ من أجل تيسير معاملاتهم وتسهيل حياتهم، وقد شاع استخدام مصطلح الحكومة الذكية بديلًا عن الحكومة الإلكترونية في الأوساط العلمية والتقنية. وتعتبر الحكومة الذكية امتدادًا للحكومة الإلكترونية، وهي حقبة جديدة من حقب التطور التاريخي للتعاملات الإلكترونية الحكومية، والتي يقصد بها تقديم الخدمات الإلكترونية والتطبيقات المعلوماتية المختلفة على الأجهزة الذكية، مثل الهاتف المحمول والأجهزة اللوحية وغيرها، بحيث يمكن تقديم خدمات الحكومة الذكية من أي مكان، وعلى مدار الساعة، وبسرعة ودقة كبيرة[1].

ويعتمد نجاح الحكومة الذكية وآلياتها بالأساس على الإنترنت كوسيط لنقل خدماتها، وكذا ما يسمَّى بخدمات “النطاق العريض” ويقصد به: تسريع عملية الاتصال بين المرسل والمستقبل عن طريق استخدام إشارات الاتصال السلكية واللاسلكية، واستخدام الألياف الضوئية لنقل المعلومات بسرعة كبيرة، وقد وصلت تلك السرعة في بعض الدول إلى 100 ميجابايت في الثانية. ويترتب على استخدام هذه التقنيات الحديثة والنقل السريع للبيانات والمعلومات؛ التحول نحو اقتصاد المعرفة والمجتمع المعرفي وتفعيل التجارة الإلكترونية، مما يسهم في نمو الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة وزيادة الناتج المحلي وتحسين مستوى المعيشة[2].

ويمكن توضيح الفوارق بين الحكومة الكلاسيكية والحكومة الذكية وما تعنيه الأخيرة تحديدًا، من خلال المقارنة الآتية[3]:

  الحكومة الكلاسيكية الحكومة الإلكترونية الحكومة الذكية
محور النشاط تتمحور حول الإدارة العامة والوزارات تتمحور حول الخدمات العامة بغض النظر عن الإدارة التي تقدمها تتمحور حول الفرد بشخصه والذي يحمل سلة خدماته ومعاملاته مع الحكومة في جيبه من خلال هاتفه المحمول
وسيلة الاتصال الرئيسة أدوات الاتصال التقليدية البوابات الإلكترونية والمواقع التطبيقات الجوالة والشبكات الاجتماعية
المعلومات الحكومية المعلومات بمختلف أنواعها غير متوفرة للجمهور جزء من المعلومات الحكومية متوفر عبر المواقع عصر المعلومات الضخمة المفتوحة Big Data
نموذج الحوسبة الجهاز الخادم المركزي والطرفيات Mainframe أجهزة الخادم- الزبون Client- Server الحوسبة السحابية Cloud Computing
تحصيل وإدخال الداتا إدخال يدوي من الورق والاستمارات الورقيات والنماذج الإلكترونية عبر المواقع الحكومية الورقيات، النماذج الإلكترونية،ومعلومات أجهزة الاستشعار الذكية وعبر أنظمة الباركود والكيو آر (QR code)

ومن ثم يتضح أن البيانات الشخصية والهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي وأنظمة التعرف على الوجه (الكاميرات وأجهزة الاستشعار) تمثل محور عمل واعتماد الحكومة الذكية،وتعد الحكومة الذكية مطلبًا تسعى لتحقيقه العديد من الدول، وخاصة تلك التي استطاعت تحقيق نموذج الحكومة الإلكترونية بنجاح. وللحكومة الذكية عدة أهداف تسعى إلى تحقيقها، منها ما يلي[4]:

1- التحول إلى اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة، من خلال مساهمة الحكومة الذكية في التحول إلى مجتمع المعلومات الذي يعد ركيزة أساسية لمجتمع المعرفة، وتحويل الأفكار والخدمات إلى سلع ذات عائد اقتصادي.

2- تعزيز القدرة التنافسية للدولة من خلال الحكومة الذكية، سواء في المجال الاقتصادي أو مجالات العمل المختلفة.

3- رفع كفاءة العمل في القطاعين العام والخاص، وزيادة الإنتاجية في المؤسسات الحكومية بما توفره من تقنيات حديثة.

4- بناء شراكة قوية بين القطاعين العام والخاص والاستفادة من تبادل المعلومات بينهما وبناء قواعد بيانات مشتركة تخدم جميع المجالات.

5- زيادة المشاركة المجتمعية في جميع الأنشطة والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والمساهمة في التحول إلى مجتمع المعلومات[5].

ثانيًا- الحكومة الذكية والتنمية السياسية:

إذا كانت التنمية السياسية، عبارة عن مجموعة من الوسائل التي تستخدمها الدول في تطوير سياستها الداخلية والخارجية، فإن التحول إلى نموذج الحكومة الذكية في التعامل مع المواطنين والإدارة العامة والمحلية، يعد شكلًا من أشكال التنمية السياسية. وتتعدد مجالات عمل الحكومة الذكية، نذكر منها[6]: الخدمات الحكومية الإلكترونية – الديمقراطية والمشاركة الاجتماعية – التجارة الإلكترونية – المدفوعات الرقمية – الإدارة الحكومية الإلكترونية حيث استخدام تكنولوجيا المعلومات لتحسين الإدارة الحكومية – خدمات الأعمال والاستثمار الإلكتروني.

كما يُعد البُعد التقني من أهم الأبعاد التي ترتكز عليها عملية التنمية، حيث لعبت تكنولوحيا المعلومات والاتصالات دورًا كبيرًا في تعزيز مفهوم التنمية المستدامة، فقد عززت من أنشطة البحث والتطوير لتحسين أداء المؤسسات الخاصة، وأدَّتْ لاستحداث أنماط مؤسسية جديدة تشمل مدن وحاضنات التكنولوجيا، وحفزت النمو الاقتصادي ووضع الخطط والبرامج التي تهدف إلى تحويل المجتمع إلى مجتمع معلوماتي. كما لعبت الاتصالات دورًا كبيرًا في تحقيق التنمية، ولذلك فإن العلاقة بين الحكومة الذكية وتطبيقاتها والتنمية المستدامة علاقة وثيقة، فتطبيق الحكومة الذكية سيساعد على تنفيذ متطلبات التنمية في أسرع وقت وبأقل مجهود، مع تحقيق الوفرة الاقتصادية، وهو مايعد أحد محاور التنمية.

والمفترض أن تسهم الحكومة الذكية في تحقيق التنمية بما تحققه من ميزات داخل الدولة التي تعمل على تطبيقها، ومن تلك الميزات ما يلي[7]:

1- تسهيل عملية تقديم الخدمات العامة للمواطنين، فالاعتماد بشكل واسع على التكنولوجيا الرقمية من قبل الوزارات الحكومية، أدَّى إلى توفير في التكلفة المالية والمادية التي كانت تتكلفها الحكومة في حالة تقديم تلك الخدمات بالشكل الكلاسيكي التقليدي،بالإضافة إلى توفير في الوقت، مما يساعد موظفي الحكومة ليقوموا بمهام أكثر ويتمكَّنوا من إضفاء قيمة أكبر على العمل الحكومي.

2- تقدم التكنولوجيات الرقمية -ووسائل التواصل الاجتماعي بالخصوص- فرصة لتفاعل أكثر مع المواطنين، الأمر الذي يمكن أن يحسن عملية تقديم الخدمات والاستجابة بشكل أسرع لاحتياجات العامة، كما تعمل على تعزيز التعاون بين مؤسسات الحكومة المختلفة ومؤسسات القطاع الخاص،وبالتالي تسهل الوصول إلى التكامل الاقتصادي بين القطاعين العام والخاص، وهذا التعاون والتفاعل بين الأطراف المستفيدة والمقدمة للحكومة الذكية يعزز الاقتصاد، ويدفع عجلة التنمية على جميع المستويات والأصعدة.

3- لا توفر التكنولوجيات الرقمية فحسب طريقة للتواصل مع الآخرين على امتداد العالم، وإنما تعزِّز فرص المواطنين في المشاركة المجتمعية الفعالة، وتنشط دور المجتمع المدني والعمليات الديمقراطية؛ وذلك عبر طرق كثيرة كوسائل التواصل الاجتماعي والمدونات ومواقع التمويل الجماعي والتصويت الإلكتروني، وغير ذلك من المنتديات والأدوات عبر الإنترنت التي تسهل مساهمة الأفراد في الحياة السياسية والدفع نحو التغيير وتشجيع الديمقراطية -التي تستمد قوتها من المواطنين- عن طريق تقوية العلاقات والروابط بين أفراد المجتمع بعضهم مع بعض أو بين أفراد المجتمع والحكومات.

4- شبكة أجهزة الاستشعار الذكية: فقد تطورت أنظمة التشغيل الصغيرة وإمكانية تضمينها في أجهزة الاستشعار المختلفة مع قدرتها على الوصول إلى الشبكات الخاصة وشبكات الإنترنت عبر مجموعة بروتوكولات نقل المعلومات بين جهاز الاستشعار وخوادم المؤسسة أو الحكومة، وقد قامت العديد من الدول والحكومات حول العالم والتي تقوم بتجميع المعلومات المختلفة بإنشاء شبكات الأشياء بطريقة أوتوماتيكية من مصادر معلومات قطاعية ونذكر منها[8]:

المعلومات الأمنية: والتي يتم تجمعيها من شبكات كاميرات المراقبة والتي تعمل من خلال بروتوكول الإنترنت. حيث يتم تخزين هذه المعلومات وصيانتها وتحليلها من أجل كشف الجرائم أو البحث عن تقاطعات أمنية حدثت في بعض الأماكن وغيرها من الأمور التي تهم أمن الدولة.

المعلومات المناخية: فقد أصبح بإمكان الحكومة معالجة معلومات المناخ مباشرة داخل مراكز الداتا الخاصة بها بعد أن تمكَّنت من زرع أجهزة استشعار مناخية مرتبطة بسحابة الحكومة الإلكترونية وموزَّعة على مختلف المناطق الجغرافية في الدولة.

المعلومات الصحية من الأفراد: وقد تشكل هذه التقنية ثورة في عالم متابعة الأفراد المرضى والذين لا يجدون من يراقبهم طوال الوقت. وسوف تسمح أجهزة الاستشعار الشخصية بقياس مستويات السكر والضغط من مريض معين على سبيل المثال وإرسال تلك المعلومات بطريقة دورية إلى الأطباء المعالجين مع إمكانية إرسال إنذارات عبر الهاتف المحمول أولئك الأطباء إذا تجاوزت تلك المعلومات المعدَّلات الصحية المسموح بها.

المعلومات المنزلية: وهو نفس مفهوم المنزل الذكي حيث ترتبط أجهزة الاستشعار المنزلية بشبكات الإنترنت من أجل إدارة أنظمة المنزل عن بعد والتحكم بها ومعرفة ما يحصل داخل المنزل خلال الابتعاد عنه. وسوف يصبح المواطن قادرًا مباشرة عبر جهازه المحمول على معرفة ما إذا تجاوز مصروفه للخدمات الكهربائية أو المائية حدًّا معيَّنًا أو إذا ما قام أحدهم باقتحام منزله أو حتى تشغيل وإيقاف أجهزة التبريد والتسخين عن بعد على سبيل المثال.

المعلومات الحكومية الخدمية: حيث أصبحت ساعة الكهرباء جهازًا ذكيًّا يقرأ ميزانية المنزل أو المؤسسة ويقوم بإرسال تلك المعلومات إلى خوادم شركات الكهرباء بطريقة مباشرة حيث يتم احتساب الفواتير وإدخالها إلى الأنظمة المالية الحكومية بطريقة أوتوماتيكية، وينسحب هذا الأمر على مختلف الخدمات الحكومية التي تحتاج إلى قياس الميزانية والاستهلاك مثل المياه والنفط والغاز وغيرها.

5- تأخذ الحكومة الذكية الطابع الاستباقي في تقديم الخدمة، حيث يكون هناك تنبيه للمستفيدين بقرب استحقاق مواعيد الخدمات،عن طريق إرسال رسائل إلكترونية على هواتفهم الذكية،كما أنها تتسم أيضًا بالتفاعل الحيوي من خلال التنبيهات والإشعارات بجميع الرسائل الإلكترونية المتاحة بين مقدمي الخدمة والمستفيدين. كما أنه يتاح للمستفيدين إمكانية تقييم الخدمة بشكل فوري ومن خلال قنوات التواصل الإلكترونية، وزيادة التنسيق بين الجهات الحكومية، ما يؤدي إلى انسيابية العمل الحكومي وتدفق المعلومات بين مختلف القطاعات والأجهزة الحكومية[9].

ثالثًا- نماذج للحكومة الذكية:

  • نموذج كوريا الجنوبية:

تغير وجه كوريا الجنوبية بشكل ملحوظ مما كان عليه قبل 60 عامًا، حيثتحولت كوريا الجنوبية من دولة قائمة على الزراعة إلى اقتصاد صناعي يشمل شركات السيارات والتصنيع الرفيع المستوى وبناء السفن، حيث اعتمدت على تقنيات المعلومات والأجهزة المبتكرة والاتصالات، وتجاوزت كوريا الجنوبية العديد من الدول فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي، لاسيما في اعتماد استخدام الهواتف الذكية والإنترنت واسع النطاق.ولأن الاقتصاد الكوري يدعم الإبداع والابتكار، فإن كوريا الجنوبية في وضع استراتيجي يمكِّنها من استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT)؛ لزيادة قابليتها للعيش وكفاءتها التشغيلية واستدامتها،وفي هذا الإطار أصبحت المدن الذكية مكونًا استراتيجيًّا للسياسة الاقتصادية الوطنية للحكومة الكورية في إطار ما سُمِّيَ بالثورة الصناعية الرابعة[10].

لقد أضحت كوريا الجنوبية دولة رائدة في نموذج المدن الذكية، وهي مدن تخطط وتدير وظائفها الأساسية من خلال الاستخدام الفعَّال للبيانات والتقنيات الرقمية لتصبح فعَّالة ومبتكرة وشاملة ومرنة. وقد استطاعت كوريا من خلال هذه المدن تحقيق الآتي[11]:

– التنقل الذكي: حيث استطاعت سول التغلب على التكدس المروري والزحام، عن طريق تحويل وسائل النقل إلى التنقل الذكي، وذلك باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة، بما في ذلك تكنولوجيا نظام النقل الذكي المتقدم (ITS) ونظام إدارة الحافلات (BMS) ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS). فعلى سبيل المثال، BMS)) هو مركز تحكم متكامل يمكنه مراقبة النظام بأكمله، ويقوم مركز التحكم بجمع المعلومات وتحديد موقع السيارة (الموقع والسرعة)، والتي بدورها يتم توصيلها إلى لوحة خدمة المعلومات في محطات الحافلات وعبر تطبيقات مختلفة للركاب عبر الهاتف المحمول والإنترنت، يمكن تعديل عدد الحافلات المخصصة لأي مسار معين. وهكذا يمكن إدارة أي اضطرابات في الشبكة بشكل أفضل حيث إن مركز التحكم لديه اتصال مباشر مع سائقي الحافلات، والذي يمكن أيضًا توصيله بسرعة للركاب، مما يحافظ على رضا الركاب.

– النفايات والطاقة الذكية (الاقتصاد الدائري): أحد الحلول التي توصلت إليها مدينة سول هو مرفق استعادة موارد كانجنام (RRF) والذي يحول النفايات إلى طاقة، مما يساعد على تقليل مدافن النفايات وتزويد الحي بالطاقة. يؤدي هذا النهج إلى تقليل استخدام الوقود الأحفوري وانبعاثات الكربون، مما يساهم في التخفيف من حدة المناخ والنمو الحضري المستدام.

– المواطنة الذكية والحوكمة الإلكترونية (تمكين المواطنين من التفاعل مع مدينتهم): حيثتجعل البيانات المفتوحة الناس أكثر وعيًا وتمكنهم من إنشاء حلول أكثر ذكاءً لمشاكلهم. وفي هذا بذلت خطط المدن الذكية في سول الكثير من الجهد في فتح البيانات الحكومية وبناء توافق في الآراء من خلال المشاركة العامة. لقد صممت نظام معالجة الشكاوى الهاتفية لحكومة سول الحضرية، والذي يوجه جميع الاستفسارات والشكاوى نحو مركز اتصال واحد متكامل، وهو مصمم لمعالجة المظالم اليومية للمواطنين بشكل أسرع وأكثر ملاءمة على استشارة فردية. على الرغم من أن النظام الأساسي يعتمد على نظام الاستشارات الهاتفية على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، فإن مركز اتصال Dasan 120 يوفر أيضًا الاستشارات من خلال وسائل أخرى مثل الرسائل القصيرة ووسائل التواصل الاجتماعي والدردشة النصية والدردشة المرئية. وقد تمكنت المدينة من تقليل وقت الانتظار الطويل وزيادة رضا المواطنين عن جودة الخدمة المطورة. بلغ متوسط ​​عدد المكالمات 22000 في اليوم في عام 2016.

  • نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة:

أعلن عن إنشاء الحكومة الذكية في الإمارات بمبادرة من نائب رئيس دولة الإمارات محمد بن راشد آل مكتوم، في 22 مايو 2013، وقد هدفت المبادرة إلى رفع وتعزيز الوعي لدى الجهات الحكومية للاستفادة من خدمات الهاتف المحمول، بما يمكن الحكومة من تقديم خدماتها بأرفع المستويات الممكنة، وتقديم خدمات تضاهي بجودتها تلك المتاحة في القطاع الخاص من خلال تبادل الخبرات مع الجهات المتميزة في تطبيقات الأجهزة المحمولة حول العالم، تشجيعًا للجهات الحكومية في الإمارات على تطبيق مبادرة الحكومة الذكية. وقد حددت المبادرة ملامح الحكومة الذكية المنشودة، وهي[12]:

– حكومة لا تنام، تعمل 24 ساعة في اليوم، 365 يومًا في السنة.

– مضيافة كالفنادق.

– سريعة في معاملاتها.

– قوية في إجراءاتها.

– تستجيب بسرعة للمتغيرات.

– تبتكر حلولًا للتحديات.

– تسهل حياة الناس وتحقق لهم السعادة.

وقد تم تصنيف الخدمات الذكية التي ستقدمها تلك الحكومة في الإمارات على النحو التالي[13]:

– خدمات من الجهة الحكومية إلى المواطنين (G2C)..مثل الإشعارات، والرسائل النصية القصيرة التي توضح حالة المرور، أقرب المستشفيات إلى الموقع الجغرافي…إلخ.

– خدمات من الجهة الحكومية إلى الشركات (G2B)..مثل تسجيل الشركات، الاستفسار حول الرسوم، التذكير بموعد تجديد الرخصة التجارية..إلخ.

– خدمات من الجهة الحكومية إلى جهات حكومية أخرى (G2G)..مثل تبادل المعلومات حول حالة المريض وتاريخ سجله الطبي.

– خدمات من الجهة الحكومية إلى الموظفين (G2E)..كأسلوب التشارك في الحيز المكتبي.

وقد تبع هذه الخطوة توجُّه إلى تحويل مدينة دبي إلى مدينة ذكية، وفي هذا الإطار صممت الإمارات مجموعة من التطبيقات الذكية، التي يستطيع سكان المدينة استخداكها، مثل: تطبيق “دبي للتوظيف” للمساعدة في البحث عن الوظائف- تطبيق “الموظف الذكي” والذي يوفر قائمة من خدمات الموارد البشرية لموظفي الحكومة – تطبيق “الأمن والعدل” وبه خدمات تقدمها النيابة والشرطة والدفاع المدني- تطبيقات التعليم والإعلام والتنمية الاجتماعية- تطبيق “هيئة الطرق والمواصلات” ويعتبر مرشدًا لقاطني المدينة فيما يخص المواصلات- تطبيق “صحتي” ويتعلق بالخدمات الصحية للمرضى…إلخ[14]. وهكذا يمكن للقاطن في تلك المدينة الحصول على كافة الخدمات من خلال تطبيقات الهاتف المحمول.

رابعًا- الحكومة الذكية والتحكم في المواطنين:

لقد اتَّضح من العرض السابق أن البيانات الشخصية والهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي وأنظمة التعرف على الوجه ( الكاميرات وأجهزة الاستشعار) تمثل محور عمل واعتماد الحكومة الذكية.

– الحكومة الذكية والبيانات الشخصية:

يمكن القول بأن “البيانات الشخصية” هي: جميع أنواع المعلومات المتعلقة بشخص طبيعي، والتي تمكن من التعريف به، بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء عن طريق مقارنة المعلومات المتعددة المصادر أو التقاطع بينها[15]،وتمثل هذه البيانات مرتكزًا لبناء القرار الإداري والأمني، الهادف إلى إدارة الشأن العام، ومن ثم تعتبر البيانات الشخصية مادة أساسية للعمل في مختلف أجهزة الدولة والقطاعات الأمنية، حيث تدار الأحوال الشخصية والممتلكات العقارية والاستثمارات والشؤون الاجتماعية والصحية والتعليمية والأمنية، بما يحقق أمن المواطنين ويحافظ على أمن الدولة. كما أن هذه البياناتقد تحولت إلى مرتكز للاقتصاد الرقمي، وإلى سلعة ذات قيمة اقتصادية وإلى جزء من عناصر المؤسسات التجارية، الأمر الذي جعل بيانات المواطنين في أى دولة بمثابة مادة أولية في تحقيق إنتاجية الشركات المختلفة[16].

وتجمع الحكومة البيانات الشخصية في إطار تأديتها لدورها في إدارة أمور المواطنين وشؤونهم الحياتية، ورغبة منها في حمايتهم وحماية سيادتها واستقرارها الأمني والاجتماعي والاقتصادي. وتلجأ الحكومات المختلفة، إلى جمع البيانات الشخصية، التي تحدد هوية المواطنين والمقيمين، مثل: بطاقات الهوية والضمان الاجتماعي وجوازات السفر،كما تلجأ السلطات إلى تعزيز مصداقية الهوية الشخصية، عن طريق إضافة البيانات البيومترية* على العديد من الوثائق[17].

وهكذا تعتبر البيانات الشخصية للمواطنين مطلبًا مشتركًا لكل من الحكومة والشركات الخاصة، وهو ما دفع العلاقة بين الطرفين لتكون أشبه بتحالف مصالح أو شراكة،فعلى سبيل المثال، نجد أن وكالة الأمن القومي الأمريكية قد اعتمدت على ما بنته الشركات الخاصة من أنظمة للتنصُّت، حيث قامت باختراقه واعتمدت عليه وبواسطة برامج كـ”بريزم” أرغمت وكالة الأمن القومي شركات مثل مايكروسوفت وجوجل وآبل وياهوو، على إمدادها ببيانات عمن تريد من الأشخاص، وبواسطة برامج أخرى حصلت الوكالة على نفاذ مباشر إلى التركيب الأساسي للإنترنت؛ كي تمارس رقابة واسعة شملت الجميع، كما تعاونت تلك الشركات مع الوكالة طوعيًّا، وفي أحيان أخرى أرغمتها المحاكم على تسليم البيانات والمعلومات –بطريقة سرية في الغالب- ويحدث هذا الأمر في كل دول العالم تقريبًا، فبواسطة برنامج كـ”تمبورا” تدفع الحكومة في بريطانياإلى شركات اتصالات كـ”فودافون” و”بي تي” كى تمكنها من النفاذ إلى الكتل الرئيسة للاتصالات في العالم بأكمله، وتقدم “فودافون” إلى حكومات ألبانيا، ومصر، والمجر، وأيرلندا، وقطر وغيرهم، منافذ للدخول مباشرة إلى حركة الإنترنت في بلدانها. كما تفرض العديد من البلدان على مقدمي خدمة الإنترنت الاحتفاظ بالبيانات المتعلِّقة بعملائها لفترة زمنية ما، كي تستطيع الحكومة الحصول عليها أو استخدامها متى أرادت[18].

وتشترك أغلب بلدان العالم في مسألة الرقابة والتجسُّس على بيانات ومعاملات الأشخاص الموجودين على أراضيها -سواء كانوا مواطنين أو أجانب-  على الإنترنت، تتساوى في ذلك الدول الديمقراطية والشمولية، بل إن الدول الغربية الديمقراطية لها قدم السبق في هذا، فالولايات المتحدة تحوز أوسع شبكة للرقابة في العالم وذلك بفضل عدة ميزات؛ فهي تملك الميزانية الأضخم للاستخبارات، كما أن أراضيها تضم معظم الشركات الكبرى للإنترنت، وتلك التي تصنع البرامج والأجهزة الأكثر الشعبية حول العالم؛ وهي بالتالي تخضع لهيمنة القوانين الأمريكية[19]. نجد أيضًا أن روسيا تجمع وتخزن وتحلِّل البياناتعن المكالمات الهاتفية واستخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي ومعاملات البطاقات الائتمانية وغيرها، وأنشأت نظام “Storm” استنادًا إلى البنية الروسية للإنترنت ليقوم بوظيفة الرقابة على البيانات.كما تفعل الصين نفس الأمر، فهي ترصد كل أفعال مواطنيها على الإنترنت، وتستخدم “المعلومات المكانية” المتعلقة بالموقع الجغرافي من الهواتف المحمولة كي تتعقَّب الناس جماعيًّا، كما تراقب الأمكنة العامة بواسطة ما يتراوح من 20 مليون إلى 30 مليون كاميرا مراقبة، وهكذا تلجأ الدول الصغيرة إلى الاستعانة بالدول الكبرى للحصول على خبراتها ومساعدتها في بناء البنية التحتية للرقابة[20].

ولا تقتصر عملية الرقابة والمراقبة على جمع المعلومات والبيانات الخاصة بالأشخاص عن طريق الإنترنت، وإنما تمتد لفرض شبكة من كاميرات المراقبة التي تتيح للحكومة مشاهدة معظم تحركات الأشخاص داخل المدن والأحياء، ورصد تحركاتهم بأكبر قدر ممكن. وقد ذكرت مجلة فوربس أن إجمالي الإنفاق على تقنية التعرف على الوجه بلغ 3.2 مليار دولار في عام 2019 في جميع أنحاء العالم،كما قالت إن هذا الرقم يمكن أن يتضاعف إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 2024، وقد بلغ مقدار الإنفاق على جميع تقنيات المراقبة في عام 2019، 103 مليار دولار، يتضمن ذلك الأجهزة والبرامج والخدمات المتعلقة بالأمان تحتل الصين المقدمة في أنظمة المراقبة هذه، حيث تم تركيب كاميرا واحدة لكل 4.1 شخص في الصين في عام 2018، وهذا يجعل نظام المراقبة الوطني الصيني المسمى “مشروع Skynet” الأكبر في العالم على الإطلاق[21]. وتحتل الصين هذه المكانة بفضل ما تقدمه الشركات الصينية مثل شركة هواوي من خدمات بالتعاون مع الحكومة الصينية التي تعتمد على الدبلوماسية والقوة الناعمة لتصدير هذه الخدمات للدول الأخرى، وخاصة الدول النامية ودول العالم الثالث[22].

وفي تقرير أعدَّه مركز كارنيجي للسلام[23]، وجد أن 75 دولة على الأقل من أصل 176 دولة عالميًّا، تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لأغراض المراقبة.حيث وجد التقرير أن 56 دولة تستخدم المدن الذكية -وهي المرحلة التي تسعى للوصول إليها الكثير من الدول التي نجحت في تجربة الحكومة الذكية- وهي مدينة مبتكرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة، وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية. وتستخدم 64 دولة أنظمة التعرف على الوجه، وهي تقنية مقاييس حيوية (biometric technology) تستخدم الكاميرات -سواء الفيديو أو الصور الثابتة- لمطابقة اللقطات المخزنة أو الحية للأفراد بصور من قاعدة البيانات التي تحتفظ بها الحكومة. وتستخدم 53 دولة الشرطة الذكية، وتكمن الفكرة وراء عمل الشرطة الذكية في إدخال كميات هائلة من البيانات في خوارزمية -الموقع الجغرافي، ومستويات الاعتقال التاريخية، وأنواع الجرائم المرتكبة، والبيانات البيومترية، وموجز وسائل التواصل الاجتماعي- من أجل منع الجريمة، ومجابهة الأعمال الإجرامية، أو حتى القيام بتنبؤات حول النشاط الإجرامي في المستقبل.

وبهذا يتَّضح أن ما تسعى الحكومة الذكية لتقديمه من خدمات وفوائد ورفاهية للمواطنين، يقترن به أيضًا عملية انتهاك واسعة للخصوصية تصل حد مراقبة الأشخاص في كافة أنشطة حياتهم، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل ولا نبالغ إن قلنا حياتهم الخاصة داخل المنازل. فعملية الرقابة والمراقبة هذه تحكمها قاعدة “اجمع كل شيء – اعرف كل شيء- استفد من كل شيء”[24]، وهو ما يدفع بالحكومة لاختراق واقتحام كافة الفضاءات التي تشهد تفاعلًا اجتماعيًّا، وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، التي يستخدمها ملايين الأشخاص في كافة أنحاء العالم، وهو ما سنتناوله بشيء من التفصيل فيما يلي.

– رصد وسائل التواصل الاجتماعي:

تعد مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفيس بوك وتويتر، نوعًا من الفضاءات العامة التي تمكن الأشخاص عبر الاتصال المفتوح والشبكي من تبادل المعلومات والآراء وتمكنهم من تعبئة القوة ضد الأنظمة القمعية -الثورات العربية مثال واضح على هذا- كما تعطيهم منبرًا يمكِّنهم من الحديث والمشاركة في القضايا العامة التي تشغل الرأي العام داخل الدول المختلفة. وقد دفع هذا بالدول والحكومات لاقتحام هذا الفضاء، بدافع فرض السيطرة والرقابة على التفاعلات الاجتماعية،حيث تلجأ الدول والحكومات في هذا لمجموعة من التقنيات للتعامل مع محتوى وسائل التواصل الاجتماعي بما يحقق أقصى فعالية ممكنة من البيانات المتحصَّل عليها، منها[25]:

  • تحليل الشبكات الاجتماعية (SNA):وهي تقنية تعمل على تحليل الهيكليات الاجتماعية وتجسيدها مرئيًّا، وتعتمد في العمل على مجالات علم النفس والأنثروبولوجيا ونظرية الرسم البياني في الرياضيات، وتشمل خوارزميات الكشف المميكنعن مجموعات الأفراد في مجموعة واسعة من بيانات وسائل التواصل الاجتماعي.
  • فئات العامة: وهي وحدة تعنى بالتأثير في العامة، لإقناعهم بتوجُّه معيَّن في قضية محدَّدة تشغلهم.
  • تحليل الموقف: وهو نوع أكثر تطورًا وتفصيلًا من تحليل المشاعر، وينظر تحليل الموقف في تواتر فئات من الكلمات والتعابير؛ مثل : الغضب والحزن والمستقبل والماضي. ويفيد هذا النوع في الإجابة عن الأسئلة الاجتماعية الثقافية حول المواقف والعواطف والقيم.
  • تحديد الموقع الجغرافي والاستدلال الجغرافي: هذان أسلوبان خاصَّان بالجغرافيا لتحديد الأصل الجغرافي لرسالة على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يستخدم تحديد الموقع الجغرافي نظام التموضع العالمي لتحديد المواقع (GPS)وهو غاية في الدقة؛ على الرغم من ذلك، غالبًا ما يوقف المستخدمون تشغيل هذه الميزة. يمكن أنيلتقط الاستدلال الجغرافي عينة أكبر من البيانات من خلال استخدام البيانات الوصفية للاستدلال على الموقع الجغرافي للناشرين، وتتمتع بعض هذه الأساليببمستويات عالية جدًّا من الدقَّة تمكِّن من الوصول للأشخاص حتى لو أوقفوا تشغيل أداة ال(GPS).

تستعين الدول -خاصة الدول الشمولية- بهذه الوسائل والأدوات وبقدرتها الفائقة على جمع البيانات والمعلومات، للسيطرة على الفضاء السيبراني داخل حدودها، بما يحقق أمنها ويُحكم قبضتها على هذه الفضاءات الواسعة للتفاعل الاجتماعي.

– استراتيجيات إحكام السيطرة:

  • القوانين والتشريعات:

تسعى الدول والحكومات إلى تقنين التفاعل في الفضاءات السيبرانيةوخاصة فضاءات التواصل الاجتماعي، وذلك عبر ترسانة من القوانين والتشريعات تفرضها على مستخدمي هذه الفضاءات، الأمر الذي يؤدِّي إلى انكماش ما هو اجتماعي لصالح ما هو سياسي ودولتي في المجتمع. وفي هذا نجد أن مصر مثلًا، قد سنَّت في عام 2018 قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الذي يأتي في 45 مادة مقسمة على أربعة أبواب، وتهدف الدولة من خلاله إلى السيطرة التامة على الإنترنت والتحكم في مستخدميه وتقنين ممارسات الدولة في الرقابة على هذا الفضاء وحجب مواقع الويب والمراقبة الجماعية على الاتصالات، ويكرس قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لحجب المواقع الإلكترونية، وفقًا لمادته رقم (7) حيث يمكن حجب المواقع في حالة نشر أي محتوًى يُعد جريمة من الجرائم المنصوص عليها بالقانون، شريطة أن تشكل تهديدًا للأمن القومي أو تعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر، وهي ألفاظ فضفاضة، ويتم حجب الموقع في هذه الحالة سواء كان يُبث من داخل مصر أو من خارجها. وتُقنن المادة الثانية من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات المراقبة الشاملة على الاتصالات في مصر، حيث تُلزم شركات الاتصالات بحفظ وتخزين بيانات استخدام العملاء، لمدة 180 يومًا. وتشمل البيانات التي تُمكن من التعرف على المستخدم، والبيانات المتعلقة بمحتوى ومضمون النظام المعلوماتي، وتلك المتعلقة بحركة الاستخدام وبالأجهزة المستخدمة. ما يعني أنه سيكون لدى مقدمي خدمات الاتصالات بيانات توضح كل الممارسات التي يقوم بها المستخدم؛ مثل: المكالمات الهاتفية والرسائل النصية وكل البيانات المتعلقة بهما والمواقع التي يزورها، والتطبيقات المستخدمة على الهواتف الذكية والحواسيب. كما يلزم القانون شركات الاتصالات بالالتزام بأي بيانات أخرى يصدر بتحديدها قرار عن مجلس إدارة الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات[26].

وفي هذا الإطار أيضًا، أصدر النائب العام المصري قرارًابإنشاء إدارة تحت مسمَّى “البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي”، تضم ثلاث وحدات؛ وهي التواصل مع وسائل الإعلام، والإعلام الإلكتروني والتواصل الاجتماعي، والرصد والتحليل. وتهدف الإدارة -وفق القرار رقم 2376 لسنة 2019- إلى القيام بـ7 مهام؛ يأتي على رأسها إنشاء وتوثيق وتطوير صفحات وحسابات النيابة العامة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحقيق التواصل الفعَّال بين النيابة العامة والمواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة؛ لتوضيح الحقائق للرأي العام، إضافة إلى دحض الأخبار والبيانات والشائعات الكاذبة حول ما تباشره النيابة العامة من اختصاصات، وذلك في إطار من الشفافية والمصداقية، وتعمل على التوجيه الاجتماعي لتلافي أسباب الجرائم وتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي بما فيه صالح المجتمع[27].

وكذا تستند الولايات المتحدة إلى مجموعة من القوانين والتشريعات، التي تجيز لوكالة الأمن القومي عملية جمع المعلومات الخاصة بالمواطنين الأمريكيين والاحتفاظ بها؛ مثل الأمر التنفيذي رقم 12333 الصادر في 1981، وأيضًا الفصل 215 من التشريع الأمريكي “قانون باتريوت” الذي سن عام 2001، والذي يسمح للوكالة بأن تجمع أي شيء ملموس بما فيها الكتب والتسجيلات والأوراق وغيرها. وكذلك الفصل 702 من تعديلات قانون “فيسا” لعام2008، والذي أجاز للوكالة بأثر رجعي نشاطات لتجميع المعلومات كانت قد أجرتها بطريقة غير قانونية بعد أحداث 11 سبتمبر، كما وسع نطاق اختصاص الوكالة لما يسمح لها بجمع المعلومات عن الأجانب[28].

  • الحجب:

تلجأ الدول والحكومات إلى استخدام هذه التقنية في إطار ما تفرضه من رقابة على الإنترنت داخل أراضيها، وفيها تقوم بمنع بعض المواقع أو الصحف أو المراكز البحثية من الظهور على شبكة الإنترنت الخاصة بها. فنجد أن مصر مثلًا، قد حجبت حتى عام2020 قرابة 596 موقع، أغلبها مواقع إخبارية وصحف ومراكز بحثية[29]. وفي عام 2020 المنصرم حجبت الولايات المتحدة 27 موقعًا إيرانيًّا، قالت إنهاتحاول التأثير في المشهد الانتخابي[30]، كما تقوم بعض الحكومات بتفعيل الحجب لفترة وجيزة لمواجهة موقف محدد، مثل ما قامت به السلطات التركية في فبراير عام2020، عندما حجبت لساعات استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وإنستجرام عن مواطنيها بعد قصف لقوات النظام السوري قتل ما لا يقل عن 33 جنديًّا تركيًّا في شمال غرب سوريا[31].

وبالرغم من عدم فاعلية الحجب على المستوى التقني، إذ إنه من السهل تجاوزه ببعض البرامج المخصَّصة لذلك[32]، فإن الفلسفة وراءه تظل معبِّرة عن رغبة الدولة الدؤوب في السيطرة على الفضاء السيبراني وإحكام قبضتها عليه، ذلك أن الإنترنت للمواطنين مساحة يستطيعون فيها التعبير على نحوٍ حرٍّ بعيدًا عن سلطة الدولة في الضبط والعقاب، وتصبح أيديولوجيا الدولة عاجزة عن التحكم في أفكار المواطنين خلال رحلتهم اليومية في المساحة السيبرانية التي يتعرَّضون خلالها لكمٍّ ضخم من المعلومات والأفكار العابرة للقوميات.

  • التضليل وصناعة المحتوى:

وهنا تحاول الدولة أن تكون هي من يخلق الرأي العام على الإنترنت، لذا تجد أن معظم الصحف المحلية والبرامج الإخبارية وبرامج التوك شو، تحرص جميعها على أن تتواجد على منصات التواصل الاجتماعي، وتتابع بنشاط شديد كافة الموضوعات “التريندات”* التي تشغل مستخدمي وسائل التواصل، بل وتسعى أحيانًا إلى محاولة خلق تلك “التريندات” بما يحقق غاية توجيه الرأي العام وما يشغله في اتجاه معين. ويستطيع المتابع في مصر لصفحات الصحف المحلية مثل (اليوم السابع – جريدة الدستور) أن يرى كم الأخبار الضخم الذي تنشره صفحاتها على وسائل التواصل ومنصات الإنترنت المختلفة على مدار اليوم، وكذا نوعية تلك الأخبار وفي أي اتجاه توجِّه المتابعين، إن تلك الاستراتيجيات لا تهدف إلى السيطرة على التفاعل الاجتماعي والحرية الشخصية للأفراد فحسب، بل تسعى إلى خلق الفعل المجتمعي نفسه وتوجيهه بما يتوافق ومصالح الدولة.

خاتمة:

تعتبر الحكومة الذكية شكلًا متطوِّرًا من أشكال التدخل الحكومي الذي يأخذ بكافة وسائل التقنية الحديثة، ويعمل على بسط يد الدولة وعينها إلى كافة أوجه النشاط المجتمعي، مندرجًا تحت ما تقدِّمه تلك الحكومة من خدمات للمواطنين تسهل عليهم المعيشة وترفع من كفاءة المرافق الحكومية وخدماتها. غير أن هذه الخدمة تلازمها عملية استباحة واسعة للخصوصية، بشكلٍ يفضي إلى القضاء على المساحات الخاصة والحيز الداخلي للفرد داخل المجتمع. وتلجأ الحكومات إلى مقولات من قبيل: أن من لا يخفي شيئًا، لا يخشى من انفضاح أي تفصيل خاص، غير أنه من الصحيح أيضًا، أن لكل شخص حياته الخاصة، التي لايريد عرض تفاصيلها أمام العالم، كما لا يريد لهذا العالم،أن يتدخلفي شؤونه. والصحيح أيضًا أنه وبالرغم من انتماء الفرد إلى مجتمع، فإن للفرد حياة خاصة، وشخصية مميزة. ولذا فإن لمحيط الشخص الذاتي حرمة لا يجوز انتهاكها ولا اختراقها، وفي حال اعتداء هذا الشخص على حقوق الآخرين، حينها فقط يمكن اختراق حرمته بضوابط قانونية وتشريعية.

لقد دفع هذا التطور والتضخم في التواجد الحكومي في الفضاء السيبراني بعض الباحثين إلى وصف تلك الفضاءات بكونها “سجنًا بانوبيتوكنيًا”*، يشعر الفرد فيه بأنه مراقب دائمًا وأنه مكشوف، كما أنه لا يعلم من الذي يراقبه ولأي غرض. كما أن هذا الوضع يشكك في إمكانية هذا الفضاء وقدرة هذه المساحات السيبرانية، لتكون مكانًا لتفاعل اجتماعي إيجابي أو تعزيزًا لروح الديمقراطية، كما تشكِّك في كون فكرة الحكومة الذكية تمثِّل شكلًا من أشكال التنمية السياسية في الدول المختلفة وخاصة الدول الشمولية.

*****

الهوامش 

[1] صدام محمد الخمايسة، الحكومة الذكية: ما بعد الحكومة الإلكترونية، (دبي: قنديل للنشروالتوزيع، 2017)، ص ص 187-188.

[2] المرجع السابق، ص ص 196-197.

[3] عباس بدران، الحكومة الذكية: عصر الفرص الجديدة (لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014)، ص 11.

[4] فهد بن ناصر العبود، الحكومة الذكية التطبيق العملي للتعاملات الإلكترونية الحكومية، (الرياض: مكتبة العبيكان، 2016)، ص 16.

[5] المرجع السابق نفسه.

[6] دور الحكومة الذكية في تحقيق التنمية المستدامة، تجمع مشرفي المعلومات العرب CIO، 5 أبريل 2020، تاريخ الاطلاع: 29 مارس2021، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/m5QDv

[7] تاليذا دوبو، الانخراط المدني: كيف يمكن أن تساند التكنولوجيات الرقمية الديمقراطية التي تستمد قوتها من المواطنين، مؤسسة راند، يونيو 2017، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2021، ص ص 4-8،  متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/akGFO

[8] عباس بدران، الحكومة الذكية: عصر الفرص الجديدة، مرجع سابق، ص 13.

[9] فهد بن ناصر العبود، الحكومة الذكية التطبيق العملي للتعاملات الإلكترونية الحكومية، مرجع سابق، ص 15.

[10] Smart Cities South Korea: Market Intelligence Report, Intralink, June 2019, Accessed: 30 march2021, Available at: https://2u.pw/d8PNh

[11] Myunggu Kang, How is Seoul, Korea transforming into a smart city, World Bank Blogs, 23 January 2020, Accessed: 30 march 2021, Available at: https://2u.pw/x70cA

[12] صدام محمد الخمايسة، الحكومة الذكية: ما بعد الحكومة الإلكترونية، مرجع سابق، ص 333.

[13] نوي طه حسين وياقوتة بودوشن، دور تكنولوجيا المعلومات والاتصال في تحسين جودة الخدمات العمومية: الحكومة الذكية في الإمارات العربية نموذجًا، مجلة الدراسات الاقتصادية المعاصرة، عدد 5/2018، ص 141.

[14] صدام محمد الخمايسة، الحكومة الذكية: ما بعد الحكومة الإلكترونية، مرجع سابق، ص ص 347-356.

[15] منى الجبور، السيرانية: هاجس العصر، (لبنان، المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية، بدون تاريخ نشر)، ص 119.

[16] المرجع السابق، ص 120.

* البيانات البيومترية هي: توقيعات بشرية فريدة يمكن قياسها، وقد تشمل بصمات الأصابع ومسح قزحية العين أو طريقة الفرد في فعل شيء ما (مثل الطريقة التي يسير أو يكتب بها). وهي إحدى أكثر الوسائل الموثوقة لإثبات هوية الشخص، فمن الصعب للغاية تزييفها. انظر: البيانات البيومترية، موقع المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/pykIx

[17] المرجع السابق، ص 123.

[18] بروس شناير، المعلومات وجالوت، ترجمة: أحمد مغربي، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2017)، ص ص 129-130.

[19] المرجع السابق، ص 108.

[20] المرجع السابق، ص ص 117-118.

[21] سانيا رحمان، جمهورية المراقبة: كيف تهيمن الصين على صناعة تكنولوجيا المراقبة؟، 14 ديسمبر 2020، أخبار الآن، تاريخ الاطلاع: 1 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/vWe2x

[22] انظر مثلًا، استيراد الإكوادور للنموذج الصيني في المراقبة، بول مازور وجونا يسيل، نظم مراقبة صينية مثيرة للجدل… لمدن “ذكية آمنة”، مجلة الشرق الأوسط، 14 مايو 2019، تاريخ الاطلاع: 3 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/xewFB

[23] Steven Feldstein, The Global Expansion of AI Surveillance, Carnegie Institution, 17 September 2019, Accessed: 10 march 2021, available at: https://2u.pw/WwqOr

[24] بروس شناير، المعلومات وجالوت، مرجع سابق، ص 109.

[25] ويليام مارسيلينو وآخرون، رصد وسائل التواصل الاجتماعي، مؤسسة راند، 2017، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2021،، ص ص 28-29، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/LZgIW

[26] محمد ناجي، قوانين جديدة.. عصا الدولة الغليظة للسيطرة على الإنترنت، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 4 سبتمبر 2018، تاريخ الاطلاع: 20 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/LiADu

[27] طارق سمير، 7 مهام لإدارة “البيان والتوجيه” الجديدة في النيابة العامة، مصراوي، 12 نوفمبر 2019، تاريخ ا لاطلاع: 20 مارس2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/JoKuD

[28] بروس شناير، المعلومات وجالوت، مرجع سابق، ص 111.

[29]  مواقع الويب المحجوبة في مصر، مسار، 23 سبتمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 5 أبريل 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/mXsUo

[30] US blocks 27 domains of Iranian websites, IRNA, 5 November 2020, Accessed: 22 March 2021, available at: https://2u.pw/sYsUx

[31] تركيا تحجب مواقع التواصل الاجتماعي عقب مقتل 33 من جنودها في سوريا، يورونيوز، 28 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/rUfav

[32] محمد طاهر، حجب مواقع الويب في المنطقة العربية: تقنيات والرصد والمواجهة، مبادرة جامعة كولومبيا لحرية التعبير العالمية، 3 أكتوبر2020، تاريخ الاطلاع: 21 مارس2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/8FkvC

* يشير مصطلح الترند أو “رائج” بشكل عام إلى بعض الموضوعات الساخنة أو الجديدة أو الواقعية، التي يهتم بها الجمهور أو يتحدثون عنها أو يشاركونها مع بعضهم البعض. انظر:معنى كلمة ترند في السوشيال ميديا، الموقع المثالي، 21 نوفمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 5 أبريل 2021، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/80FjD

*سجن البانوبتيكون هو نوع من أبنية السجون ابتكره المفكر الإنجليزي جيرمي بنتام، وهو عبارة عن: “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة.” تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج ولكن لا يمكن للسجين معرفة ما إذا كان الحارس يراقبهم في ذات اللحظة. إن هذه النظرة المحدقة الخارجية، من البرج، للسجين الغارق في الضوء تجعله يبدو كموضوع خاضع للرقابة أي إنه يتم تشيئة الإنسان واختزاله إلى غرض مراقب.

يقوم السجناء باستبطان هذه النظرة المحدقة الخارجية، من طرف الحارس في البرج، إلى نظرة محدقة داخلية، ويتحولون من مجرد مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم، وهكذا حتى لو نزل الحارس عن البرج وزالت العين المحدقة الخارجية فإن هذه العين المحدقة الداخلية ستظل تراقبهموسترافقهم حتى لو خرجوا من سجن البانوبتيكون، انظر: تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي وأحمد حسان، ( القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر،2013)، ص 8.

فصلية قضايا ونظرات- العدد الحادي والعشرون – أبريل 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى