مشروطيات صندوق النقد الدولي ومصر

النيو ليبرالية وناقدوها

مقدمة

يمكن القول إن النيوليبرالية تمثل التوجه الفكري الحاكم للاقتصاد السياسي العالمي منذ انتهاء الحرب الباردة. ولذلك فإن مقولاتها مقابل مقولات وحجج ناقديها تمثل الإطار النظري لتناول قضية تتعلق بنظمها ومؤسساتها المالية كصندوق النقد الدولي وسياساته ومشروطيته تجاه دولة كمصر. وإن استعراض الجدل بين مؤيدي النيوليبرالية وناقديها بشكلٍ عام، ثم بالتطبيق على الحالة المصرية الراهنة ولجوئها لاتباع سياسات صندوق النقد الدولي ومشروطيته وما ثار حول ذلك من جدل بين مؤيد ومعارض، كلُ ذلك يعكس جانبًا من الأطر النظرية الرائجة حاليًا في حقل الاقتصاد السياسي المعولم ويختبر مصداقيتها على محك قضية تطبيقية نعايش أصداءها جميعًا، وإن بدرجاتٍ متفاوتة. ويتركنا للتعليق في ختامها: هل من بديل؟!

هذا ما يستعرضه المقالة التالية بمحاورها على نحو ما يلي:

– أولا: النيوليبرالية وناقدوها

– ثانيًا: مشروطيات صندوق النقد الدولي ومصر من 1986-2016: بين التأييد والمعارضة

– تعليق ختامي: دعوة لكسر الصندوق وطرح البدائل

أولًا: النيوليبرالية وناقدوها

أينعت “النيوليبرالية” منذ انتهاء الحرب الباردة، فلم تكن صيحة “فوكوياما” (وهو أستاذ اقتصاد سياسي دولي بالمناسبة) حول نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية الغربية مجرد إعلان عن تفوق الديمقراطية الليبرالية الغربية على ما سواها من نظم سياسية، بل تضمنت كذلك تأكيدًا على إطلاق يد الرأسمالية الغربية خاصة النمط الأمريكي منها على مقاليد إدارة الاقتصادات العالمية، وقبلُ المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي خاصة) في مقابل غياب المنافس التقليدي لها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فيما أسماه فوكوياما بـ”الثورة الليبرالية على نطاق عالمي”[1]، فحتى وإن لم تستخدم بعض الاتجاهات وصف نيوليبرالية، فإنها تجلت في ثوبها الاقتصادي السياسي؛ إذ يرمز هذا المفهوم عادة إلى السياسات الرأسمالية المطلقة وتأييد اقتصاد عدم التدخل وتقليص القطاع العام إلى أدنى حد، والسماح بأقصى حرية في السوق، وأن الاستثمار الخاص أقدر وأكفأ من الاستثمار العام، كذلك فإن المؤسسية الجديدة (التي تعتبر رافدًا من روافد الليبرالية الجديدة) قد أولت اهتمامها لتوفير المناخ والظروف المؤسسية المناسبة للنشاط الخاص. وعليه، يستخدم بعض اليساريين النيوليبرالية كتعبير لما قد يعتبره بعضهم خطة لنشر الرأسمالية الأمريكية في العالم؛ فبينما تُعنى الليبرالية الكلاسيكية بدور الدول في إدارة الاقتصاد وتوفير المناخ القانوني والسياسي الذي يهييء نمو الاستثمار والإنتاج وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير العدالة الاجتماعية؛ حيث إن الدولة لا تقوم بالإنتاج بنفسها – إلا في ظروف استثنائية – ولكنها تؤثر في ظروف الإنتاج عن طريق السياسات المالية والنقدية. فإن النيوليبرالية، فتطلق يد اقتصاد السوق، وغياب دور السلطة في تدبير الشؤون الاقتصادية. ومن ثم، تحكم الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية في اقتصادات الدول خاصة النامية منها ودول الجنوب. فالأسواق الحرة ذاتية التنظيم – وفق النيوليبرالية – توازن ذاتها على المدى الطويل، وأن تدخل الدولة ضار إن لم يكن مهلكًا؛ إذ يرونه مضيعة للوقت وهدرًا للمال، وأن تدخل الحكومات يعد سببًا في الركود والكساد، وأن التضخم الناشئ عن تدخل الدولة في الاقتصاد، قد يشكل أزمة اجتماعية شاملة لا يمكن معالجتها بالسياسات الليبرالية الكلاسيكية (الكينزية)، بل بوسائل نيوليبرالية.

كما تحفز النيوليبرالية النزعة الاستهلاكية لدى الشعوب تحت شعار (العرض يخلق الطلب) ومفادها أن تقليص الضرائب لا سيما على الأغنياء يعوض نفسه من خلال زيادة الإنتاج وما يتبع ذلك من عائدات ضريبية.

يتحدث ناقدوا النيوليبرالية عنها باعتبارها “الأيديولوجيا المهيمنة التي تشكل عالمنا اليوم”: “the dominant ideology shaping our world today”[2]

وأنها حقيقة واقعة أكثر من كونها مفهومًا نظريًا محكمًا إذ أنها تمثل توجهًا فكريًا وسياسيًا أرسته الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره النسخة المعولمة للرأسمالية التي وجدت تأييدًا لها في غرب أوروبا واليابان، بينما استخدمت سياساتها كشكل جديد من أشكال الهيمنة والتبعية على دول الجنوب، وأن صندوق النقد والبنك الدوليين لا يعدوان كونهما أداة اقتصادية للضغط السياسي أو التمرير للدول النامية بحسب مصالح الكبار وتوسع الرأسمالية العالمية[3]. فيسوق ناقدوها حججًا بأنه بينما ظهر اتجاه يرفض وصف “النيوليبرالية”؛ إذ اعتبرها البعض مجرد توسعة لليبرالية على نطاق عالمي، فقد أقرت المؤسسات المالية العالمية ومنها صندوق النقد نفسه مفهوم النيوليبرالية في تقرير له بعد الأزمة الاقتصادية 2008 مقررًا وصول النيوليبرالية إلى ذروتها؛ حيث اجتاح نظامها اقتصادات العالم عبر ثلاثين عامًا لكنها أنتجت نماذج شاحبة من السوق؛ حيث تحولت مؤسسات خدمية ذات وظائف اجتماعية كالمؤسسات الصحية والجامعات إلى أسواق ذات توجهات ربحية. وكانت النتيجة أنه لم يستفد من ذلك سوى حفنة قليلة من الناس، ولم تقدم الليبرالية الجديدة النمو الاقتصادي الذي وعدت به، بل زاد الخلل والنقص في معدلات النمو الاقتصادي العالمي في ظل تباطؤ التجارة العالمية.

لقد أضحت النيوليبرالية صندوقًا خانقًا للعالم؛ فتباطؤ الاقتصاد العالمي، مع زيادة الديون العالمية لأكثر من 152 تريليون دولار بنهاية عام 2015، (حيث أكد صندوق النقد الدولي نفسه ذلك نهاية العام الماضي، لكن هذا المستوى القياسي لم يمنع الصندوق من تشجيع بعض الدول على زيادة الإنفاق لتعزيز النمو. وأوضح تقرير صادر عن صندوق النقد، أن الديون العالمية العامة والخاصة بلغت 225 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي العام الماضي ارتفاعًا من نحو 200 في المائة في عام 2002، موضحًا أن نحو ثلثي إجمالي ديون عام 2015، أي نحو 100 مليار دولار، مستحقة على مقترضين من القطاع الخاص، محذرًا من أن تنامي الدين الخاص عادة ما يفضي إلى الأزمات المالية). [4] في المقابل تتوسع الدول في الاقتراض لسد عجز الموازنة أو لحل أزمة سيولة، فأضحت نحو سبعة بنوك مركزية حول العالم تستخدم الفائدة السلبية، وقد يؤدي كل هذا إلى أسوأ شيء يحدث في الاقتصاد لمجتمع الأعمال، وهو: ألا يحدث شيء أي “الركود”؛ فقد وصل الاقتصاد العالمي إلى مرحلة من التباطؤ، نتيجة تراكم هذه المؤشرات المخلّفَة من الأزمة المالية العالمية، بالإضافة إلى معطيات مثل تراجع أسعار النفط والسلع الأولية، فضلًا عن ذلك، زادت أعداد الفقراء في العالم، وانخفضت نسبة الطبقة المتوسطة، بينما ارتفع عدد الأغنياء، مع تراجع قيمة ثرواتهم نتيجة السياسات المالية والنقدية المتبعة الحالية[5]. الأمر الذي يدعو للتساؤل: ماذا قدمت النيوليبرالية بسياساتها ومؤسساتها للعالم ولدول الجنوب خاصة ومنها مصر؟

ومع انتشار معدلات الفقر وغياب العدالة وحصة الطبقات الكادحة من النمو الاقتصادي للدول، أضحت هذه القضايا على صدارة أجندة البحث في الاقتصاد السياسي الدولي حتى أمام مؤسسات مالية دولية؛ فقد أقرت “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” مثلًا بأن حصة العمال من النمو الاقتصادي البريطاني هي في أقل معدلاتها منذ الحرب العالمية الثانية، والأفدح من ذلك، هو أنها ذكرت أن نفس الأمر ينطبق على العمالة في الغرب. فما بالنا بالحال في دول الجنوب!

وفي بعدها السياسي، يرى اتجاه عريض أن النيوليبرالية تعني التخلي عن قيم الديمقراطية مقابل التنافسية وحرية الأسواق، وعن المسئولية الاجتماعية لرأس المال مقابل المسئولية الفردية للأشخاص؛ فإلغاء سياسات الدعم الحكومي للطبقات المتوسطة والفقيرة يتحمل تبعتها الأفراد أنفسهم ويلقي على كاهلهم اللوم للتردي المطرد في أوضاعهم المادية والمجتمعية في ظل توحش الرأسمالية وتبعات النمو الاقتصادي فيتهمون عادةً بأنهم “كسالى” لا يستطيعون اللحاق بالركب الاقتصادي.

ثانيًا: مشروطيات صندوق النقد الدولي[6] ومصر من 1986-2016: بين التأييد والمعارضة

ليست “الإصلاحات” مثل تعويم العملة وخفض الدعم الحكومي للمحروقات غايةً بحد ذاتها، بل إنها وسيلة من أجل بناء اقتصاد أقوى وأكثر استدامة وازدهارًا. إن قرار القبول بالقرض من صندوق النقد الدولي وتطبيق إصلاحات بنيوية، يفسح المجال أمام المضي قدمًا في مسار قد يشكّل منعطفًا في التاريخ الاقتصادي لمصر الحديثة. بيد أن هذا المسار شديد الوعورة ومليء بالمطبّات؛ فقد يتنج عنه عدم استقرار سياسي واجتماعي؛ حيث يؤدّي تراجع العملة المحلية بسهولة إلى زيادة عجز الموازنة، وبالتالي إلى ارتفاع التضخم. كما أن زيادة الضرائب قد تثير سريعًا امتعاض النخب الاقتصادية من البرنامج الإصلاحي وتشكيكها في منافعه، ما يؤدّي إلى تراجع الدعم لهذا البرنامج من المواطنين الأكثر تأثيرًا والذين يملكون شبكة واسعة من المعارف والعلاقات. أما خفض الدعم الحكومي، فيمكن أن يقود سريعًا إلى اضطرابات مدنية أو إلى اندلاع ثورة، ومصر لاتملك المال ولا الصبر لمواجهة مثل هذه التطورات[7].

فبينما تساق حجج مؤيدة بأن هذا القرض يعطي مصداقية لاقتصاد الدولة أمام الخارج؛ فالقرض ماليا صغير نسبيا، لكن التعويل على أثره على جذب الاستثمارات الخارجية. فثمة حججًا مقابلة مضادة للاقتراض من صندوق النقد: فمن شروط الصندوق تسديد قرضه قبل غيره، كما أن الصندوق لا يخضع للمحاسبة أو الشفافية، فضلا عن عدم الشفافية من الحكومة في الحالة المصرية. وعند تعثر الدولة في السداد، يتم منع القروض الخارجية عنها وهروب رؤوس الأموال، ويصبح من الممنوع جدولة الدين بل يدفع بالكامل بفوائده حتى وإن أفلست الدولة – لا قدر الله – كحالة الأرجنتين. ناهيك عن سياسات التقشف التي تضر بقطاعات الصحة والتعليم والأجور والعمالة.

هذه الحالة أعادت جدلا واسعًا – قديمًا جديدًا – حول التوجه الحكومي للاقتراض الخارجي وتحميل الشريحة الأكبر من المواطنين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة فاتورة النمو الاقتصادي.

وفيما يلي بيان لطبيعة المشروطية التي يفرضها الصندوق على الدول التي تلجأ للاقتراض منه، ثم بيان سياقات لجوء مصر للصندوق زمنيا ودوليا ومحليا منذ 1986 لـ2016.

1) ماهية مشروطية صندوق النقد:

عندما تلجأ دولة إلى صندوق النقد الدولي طالبة منه مساندتها لحل مشكلاتها الاقتصادية، فإن صندوق النقد الدولي لديه وصفه تتكون من شقين أساسيين هما[8]:

‌أ- سياسات تقليل فجوه الموارد بالقطاع الخاص: وهذه السياسات معناها مساندة وتشجيع القطاع الخاص بكل الوسائل لينطلق دوره الاقتصادي بحيث تتوفر له الموارد اللازمة للقيام بالاستثمارات المختلفة، لذلك فإن هذه السياسات تهدف إلى زيادة الموارد المتاحة للقطاع الخاص عن طريق مساندة وتشجيع القطاع الخاص عن طريق عدة آليات: أهمها تخفيض الضرائب على الاستثمار الخاص لتحفيزه، مقابل رفعها على الأفراد الأقل دخلا لتعويض جانب من عجز الموازنة.

‌ب- سياسات تقليل العجز في الموازنة العامة للدولة، وتشمل: وزيادة حصيلة الضرائب بزيادة الضرائب على السلع (مثل ضريبة القيمة المضافة في مصر) وعلى الدخل فتزيد بذلك الضرائب على الشريحة الأوسع من المواطنين من محدودي الدخل، مقابل خفض الضرائب على الاستثمارات وعلى الشركات الرأسمالية لتسهيل وتشجيع عملها، وسياسات تقليل العجز في الموازنة العامة للدولة محاصرة هذا العجز تتطلب كبح نمو الإنفاق العام؛ وبالتالي: إجراءات تقشف في الإنفاق الحكومي، ورفع الدعم عن السلع التموينية والطاقة والخدمات، والتوجه لخصخصة القطاع العام، وكف الدولة عن الاستثمار، وخفض الأجور ووضع حد أقصى لها وتجميدها، وإلغاء الوظائف الشاغرة أو الوظائف المؤقتة، وفصل العمالة الزائدة عن الخدمة أو غير الأكفاء، وإعادة النظر في قضية الضمان الاجتماعي ورواتب التقاعد. فضلا عن سياسات تحرير الأسعار، وتحرير سعر الصرف مقابل الدولار (تعويم الجنيه).

هذه السياسات والإجراءات المالية والنقدية التي يشترطها صندوق النقد الدولي من الدول النامية التي تلجأ إليه لحل مشكلاتها الاقتصادية ويحددها في شكل أهداف كمية ورقمية محدده يتعين تحقيقها خلال فترة برنامج التثبيت، في ضوء جدول زمني معين وفي حاله عدم تحقيقها يتم وقف حق الدولة في الحصول علي الموارد المالية المقررة في البرنامج، ويرسل صندوق النقد الدولي بعثة كل ستة أشهر للتأكد من مطابقة الأداء، مع ما ورد في البرنامج الذي يصاغ في شكل ما يسمي خطاب النوايا.

2) مصر ومشروطيات صندوق النقد: سياقات زمنية ودولية ومحلية من 1986-2016:

‌أ- صندوق النقد الدولي ومصر (1986- 2010)[9]: دخلت مصر في مفاوضات مع رئيس بعثة الصندوق في مايو 1986 من أجل التوصل إلى اتفاق مع الصندوق يمكّنها من الحصول على مزيد من القروض من ناحية ويمهد لها الطريق لإعادة جدولة ديون باريس من ناحية أخرى. وقد وقعت حكومة مصر في مايو 1987 اتفاق مساندة مدته 18 شهرًا مع الصندوق، وبحصول مصر على شهادة الصندوق فإنها تمكنت من التفاوض مع أعضاء نادي باريس (مايو – يوليو 1987) والحصول على موافقتهم على إعادة جدولة ديونها المقدرة ب 12 بليون دولار، كما تمكنت من الحصول على 500 مليون دولار في صورة قروض غربية. وكانت نتائج مجموعة الإجراءات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة المصرية وفق برامج التثبيت التي اشترطها صندوق النقد ومجمل اشترطات ما يسمى إجماع واشنطن، وذلك خلال المدة من 1986-2010، ما يلي[10]:

وفقا لتقديرات نهاية 2009 بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد المصري 187.3 مليار دولار أمريكي، وقد حققت النسبة السنوية لنمو الناتج المحلي ارتفاعا غير مسبوق في الأعوام من 2003 إلى 2007 تجاوز 8%،، ثم تراجعت إلى حد ما على وقع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لتستقر عند 5% للعامين 2009 و2010.

لكن في المقابل، فبقية المؤشرات الاقتصادية لم تقدم نفس الصورة؛ حيث:

1- نسبة الدين العام الداخلي من الناتج المحلي الإجمالي تجاوزت في عام 2009 نحو 80% لتدق ناقوس خطر بالغ على المسار المستقبلي للاقتصاد المصري.

2- بينما بقى إجمالي الدين الخارجي تقريبا على حاله (29.5 مليار دولار أمريكي فى 2000 و28.1 مليار فى 2009) وإن انخفضت نسبته من الناتج المحلي بتضاعف الأخير خلال الأعوام الماضية.

وهو ما يعني أن التحسن الذي طرأ بين 2000 و2010 على الناتج المحلي الإجمالي ونموه السنوي والمتوسط السنوي لنصيب الفرد منه لم يرتب تغييرات إيجابية بشأن ظاهرة الفقر ونسبة السكان المعانين منها. كذلك رفعت الشريحة العليا من أغنياء المصريين؛ أى 10% من السكان، نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب من 28% مقدمة بذلك الدليل البين على تنامى تركز الثروة بمصر واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وأفضل ما يطلق على معدلات النمو في مصر أنها “نمو بلا تنمية”؛ فهو نمو موجه إلى قطاعات بذخ وإسراف -مثل الاستثمارات العقارية الفاخرة- زادت من عدم عدالة توزيع الدخول في المجتمع المصري.

وعلى الرغم من الوظيفة التشاورية التي يضطلع بها صندوق النقد تجاه الدول العضوة فيه والمقترضة منه، فإنه لم يقم بهذا الدور خلال فترة مبارك، يقول د.جلال أمين في ذلك: “إن علاقتنا الوثيقة هذه بالصندوق لفترة تقرب من ربع قرن، لم تمنعنا من ارتكاب هذه الحماقات التي أدت إلى تفاقم الدين الداخلي، إذ إن الصندوق (شأنه شأن أى مقرض له أجندته الخاصة) لا يعاقبك على حماقاتك بل يبدو أحيانا وكأنه يستعذبها لأنها تفرض عليك العودة إليه من جديد. بل إنه -أثناء ذلك- لا يمانع إصدار شهادات بحسن سلوكك (رغم سوء سلوكك فى الواقع) طالما كنت تفعل له ما يريد[11]”.

‌ب- ثورة يناير (2011-2012): مفاوضات مصر مع الصندوق في ظل إدارة المجلس العسكري 2011، وفي ظل الرئيس المنتخب 2012:

لم تكن ثورة يناير بالطبع السبب المباشر في تراجع مؤشرات النمو الاقتصادي المصري في 2011-2012، بل أسهمت عوامل عدة في تراجع النمو:

– تبين مع محك الثورة من أن هيكل الاقتصاد المصري في عهد مبارك لم يكن نموه نموا حقيقيا؛ حيث ظل الدخل العام “ريعيًا” في مجمله؛ من دخل الضرائب فقناة السويس لدخل السياحة، بينما يتراجع الدخل الإنتاجي لذيل قائمة الدخل العام المصري.

– تداعيات الثورة من ارتباك وعدم استقرار سياسي واقتصادي لشهور، ومنها حالة الانفلات الأمني وما أدت إليه من توقف عدد من المنشأت الصناعية والاقتصادية أو ارتباك حركة عملها، وتراجع معدلات الاستثمار وتراجع دخل السياحة كأحد أهم مصادر الدخل العام المصري.

– ارتعاش يد صانع القرار الاقتصادي المصري بعد الثورة وخلال عاميها الأولين تحديدًا لزيادة حساسيته لاتجاهات الرأي العام الذي غلبت عليه الاستقطابية الحادة بين مؤيد ومعارض للقرار الواحد.

– ما تبع الثورة من زيادة في النفقات العامة؛ لحفظ الأمن، ومحاولة إرضاء الرأي العام بزيادة الإنفاق على الدعم، والإنفاق على الإجراءات والاستحقاقات السياسية عقب الثورة وعبر عاميها الأولين: التعديلات الدستورية، ثم الانتخابات برلمانية ورئاسية، ثم الاستفتاءات على الدستور…

– ولكن كل هذه النقائص لم تكن تدعو إلى الاقتراض من الصندوق أو غيره، بل كانت تحتاج إلى إصلاح السياسة الاقتصادية[12].

– وقوف أطراف دولية وإقليمية عدة في مواجهة الثورة، كدول الخليج التي تخوفت من تصدير الثورة لها والولايات المتحدة التي كانت تنتظر لاختبار الثورة وأنظمتها المتلاحقة هل تدعم المصالح الأمريكية حتى تدعم هي الأخرى الثورة سواء في التفاوض مع الصندوق والبنك الدوليين أو في دفعات المنح والمعونة الأمريكية لمصر.

‌ج- مفاوضات مصر مع الصندوق في ظل إدارة المجلس العسكري 2011:

لا شك أن حالة الحراك وقوة صوت الرأي العام في مصر عقب ثورة يناير وفي عامها الأول قد أسهمت في الدفع برفض المجلس العسكري شروط الصندوق وفشل المفاوضات معه في حصول مصر على القرض الذي كان حجمه حينها لا يتعدى 3 بليون دولار. حيث علت أصوات ناقدو ورافضو القرض على أصوات مؤيديه؛ رغبة في مخالفة مسار مبارك الاقتصادي، ومن جهة أخرى لم تكن الأزمة الاقتصادية قد احتدمت على نحو ما سار عليه الأمر بعدها. فضلا عن مؤثرات خارجية خاصة بتوجس الإدارة الأمريكية مما يحدث في مصر مما جعلها لم تساند مصر في التفاوض مع الصندوق وقتها.

وفي نقد أحد المفكرين وأساتذة الاقتصاد المصريين للأداء الاقتصادي للمجلس العسكري من جهة، واستسهال اللجوء لقرض الصندوق، يقول د.جلال أمين: “دأب المجلس العسكري الذي تسلم الحكم بعد ثورة يناير، مع الشكوى من سوء الحالة الاقتصادية، حتى قبل أن تسوء الحالة فعلا، مصر مضى عليها أكثر من عشرين عاما وهي تقترض من صندوق النقد، وبشروط سيئة، ومن ثم تخلق أعباء على الأجيال اللاحقة (والتي أصبحت حالية). وكان رئيس المجلس العسكري نفسه عضوا مهما في الحكومات التي وافقت على هذه القروض وأمثالها من سياسات. لا يمكن إذن أن يكون القلق على مستقبل الأجيال اللاحقة هو السبب في إحجام المجلس العسكري عن الاتفاق مع الصندوق”[13].

‌د- مفاوضات مصر مع الصندوق في ظل الرئيس المنتخب 2012:

احتدم الجدل وقتها حول ما نشر عن عزم حكومة هشام قنديل عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي يقرض الصندوق مصر بمقتضاه 3.2 بليون (ألف مليون) دولار، وقيل إن الحكومة طلبت زيادته إلى 4.8 بليون. بل لقد قامت مظاهرات تطالب بعدم إتمام القرض، وهي أول مرة تقوم المظاهرات في مصر لهذا السبب. وقيل إن إجمالي ما يمكن لمصر التفاوض عليه مع الصندوق وقتها على اقتراض مبلغ “خمسة مليارات دولار”. وشهدت حالة الجدل العام بشأنها زخمًا غير عادي، كما عكست نوعا من التحول في التوجهات الاقتصادية لبعض النخب نتيجة موقفها السياسي! في الجانب المؤيد جاءت نخب إسلامية، والتي كان أكثرها تشددا في هذا الصدد السلفيين يرفضون الاقتراض الخارجي لبراثنه الربوية، فإذا ببعض نخبها حينها تقول بأن الحال مع هذا القرض من الصندوق مغايرة؛ حيث إن فوائده وقتها لم تتعد 2% وهي نسبة ضئيلة لا تعدو كونها مصاريف إدارية لازمة للمؤسسة الدولية وليست ربًا بحسبهم. في المقابل، عارضت نخب ليبرالية القرض بحجج من قبيل عدم الحاجة إليه. وفي الجانب المعارض جاءت نخب ليبرالية؛ فكتب د.محمود الخفيف (خبير اقتصادي بالأمم المتحدة): مصر ليست في حاجة إلى خبراء الصندوق وقرضه وليست فى حاجة إلى استجداء أي دولة أو منظمة للحصول على قرض لتمويل الموازنة. كل ما تحتاجه مصر هو رؤية وطنية، تحتاج لقدرة جادة على تطهير مواقع الفساد ووقف هدر المال العام وسوء الإدارة. شهدت الساحة المصرية احتجاجات ومظاهرات رافضة للقرض، نظرا لحالة الحراك الثوري وما كانت تتمتع به مصر من حرية تعبير وتظاهر. وفي المقابل انتهت مفاوضات الحكومة وقتها برفض الصندوق إعطاء مصر القرض وقتها، في ظل عدم مساندة دولية.

3) قرض مصر 2016:

اكتنفت مفاوضات مصر مع الصندوق هذه المرة غموضا مزيدا، أعقبه انعدام شفافية حول تحديد نتائج المفاوضات وإلى أي حد التزم النظام المصري الراهن بحزمة مشروطيات برامج التثبيت الاقتصادي التابعة للصندوق. وتم في المقابل الترويج لمجموعة الإجراءات المتخذة في هذا الصدد بأنها “إصلاح وطني جريء” لترتيب أوضاع الاقتصاد المصري ومن ذلك طرح شركات قطاع عام للبيع في البورصة، والحديث عن تخفيض عدد الموظفين في الجهاز الحكومي، وإجراءات تقشف اقتصادي، وقانون جديد للاستثمار، ورفع الدعم، وتحرير سعر الصرف (تعويم الجنيه) والقول بأنه جاء كضرورة إثر تلاعب “قلة” احتكرت التجارة في العملة وضاربت فيها. وفيما يلي عرض ححج كلا الفريقين المؤيد والمعارض لقرض مصر الحالي 2016:

مؤيدو القرض يسوقون عددًا من الحجج:

– يقود مؤيدو القرض وما نتج عنه من سياسات كتحرير سعر الصرف (تعويم الجنيه) عددًا من الاقتصاديين ليبراليي التوجه، فدكتور فخري الفقي – أستاذ الاقتصاد وخبير بالصندوق – يؤكد أنه لا داعي للهلع؛ فقد سبق واتخذ مبارك مثل تلك الخطوات مطلع التسعينيات وكانت مصر على شفا الإفلاس، ثم تم تدارك الأمر وتعافى الاقتصاد بعدها نسبيًا. وأن للقرض العديد من النتائج الإيجابية للاقتصاد المصري: أن هناك استثمارات عربية جاهزة للضخ بالسوق المصري عقب توقيع اتفاقية الصندوق. لكنه في المقابل دعا الحكومة إلى الشفافية والمصارحة من خلال عمل برامج توضح فيها كيف ستتم الاستفادة من أموال قرض صندوق النقد في المشروعات التي سيتم إنشاؤها.

– أما د.حازم الببلاوى (عضو المجلس التنفيذي بصندوق النقد الدولي والممثل الحالي للمجموعة العربية بالصندوق)، فأكد أن قرض صندوق النقد يظهر دعم مؤسسات التمويل الدولية لمصر، وأنه على الأصوات التي تهاجم قرض مصر من صندوق النقد الدولي بتقديم البديل والحلول الأخرى من وجهة نظرهم بدلًا من الاكتفاء بالنقد.

– كما يقول فريق من المؤيدين: لماذا معارضة الاقتراض الآن من صندوق النقد بينما تم اللجوء إليه وعقد مفاوضات معه من قِبل كل من: المجلس العسكري في يونيه 2011، ثم الرئيس المدني المنتخب (محمد مرسي) في نوفمبر 2012؟

– أن الحالة الراهنة للاقتصاد المصري الهش من شأنها، إن لم يتم استكمال مشوار الإصلاحات الهيكيلية للاقتصاد المصري على نمط صندوق النقد، أن تؤدي إلى توترات سياسية تؤثر على البلاد، خاصة مع سياق إقليمي مضطرب.

في المقابل يسوق معارضو الاقتراض من الصندوق عددًا موازيًا من الحجج:

– ضرورة عدم غياب الرؤية والإستراتيجية الاقتصادية الوطنية، التي من شأنها حساب التبعات السياسية والاجتماعية لهذه الخطوة وما يعقبها من نتائج رفع الدعم وإثقال كاهل الطبقات الدنيا من المجتمع، وهو ما من شأنه انزلاق البلاد لحالة من التوترات السياسية والاجتماعية قد تصل عند بعض التقديرات لحد “الفوضى”، وهو ذاته ما خشته الحكومات المصرية المتعاقبة منذ عهد مبارك منذ نهايات الثمانينيات ومطلع التسعينيات؛ عندما لجأت لسياسات الإصلاح الهيكلي والخصخصة بعد تفاقم أزمة الديون عليها، لكنها لم تجرؤ على الرفع التام للدعم الحكومي على السلع الغذائية والخدمات والطاقة، كما تتجه الآن سياسات السيسي.

– يقول د.محمود الخفيف (خبير اقتصادي بالأمم المتحدة): مصر ليست فى حاجة إلى خبراء الصندوق وقرضه وليست في حاجة إلى استجداء أي دولة أو منظمة للحصول على قرض لتمويل الموازنة. كل ما تحتاجه مصر هو رؤية وطنية، تحتاج لقدرة جادة على تطهير مواقع الفساد ووقف هدر المال العام وسوء الإدارة. وحيث إن المفاوضات مع الصندوق غير شفافة فلا يمكن إلا تَوقُع أن تكون التوصيات على نفس المنوال الذي لم يتغير منذ الثمانينيات[14].

– إن سياسات صندوق النقد الدولي، وكذا البنك الدولي، ما هي إلا أداة للسياسات الأمريكية للضغط سياسيًا على الحكومات لتحقيق مصالحها في المنطقة، فضلا عن كونها ضمانا لها لسداد تلك الحكومات لديونها وخدمة هذه الديون؛ وذلك بما تمتلكه الولايات المتحدة من الحصة الأكبر في الصندوق[15].

– إن السياسات النيوليبرالية التي يتبعها الصندوق دوليًا وتنطبق في الحالة المصرية ما هي إلا أدوات للهيمنة الغربية تتداخل وتغلف فيها أبعاد السياسي بالاقتصادي والمادي بالقيمي والخارجي في الداخلي، وهو نفسه ما سبق وتعرضت له مصر خاصةً إبان عهد مبارك وتوجهات نظامه الاقتصادية التابعة للسياسات ومشروطيات المؤسسات النقدية الدولية النيوليبرالية مقدمًا نمطًا لنظام سلطوي نيوليبرالي “a neoliberal authoritarian regime”؛ حيث انتهاج سياسات نيوليبرالية اقتصاديًا توسع من النظام الرأسمالي وتمكين الطبقة والنخبة الرأسمالية مقابل محدودية المشاركة السياسية وتراجع الطبقات الوسطى في المجتمع[16]. هذا، وإن لم يكن مبارك بحكوماته بذات الفجاجة التي ينتهجها نظام السيسي حاليًا.

– كما أكد د.حسام عيسى (الاقتصادي اليساري) أن مهمة صندوق النقد ليست تنمية الدول كما يظن البعض، ولكنه وكيل للدائنين وشهادته تسهل حصول مصر على قروض أخرى، وأن شروط صندوق النقد ستؤدي إلى كوراث حقيقية لمصر؛ فقد سبق لنا وأن تعاملنا مع الصندوق، وفرضوا علينا شروطًا في السابق منها بيع القطاع العام، والذي كان بمثابة أكبر نكبة في تاريخنا، حيث عطل عملية التنمية، والمشروطية تلك قد تُعطل الأهداف الحالية أيضًا.

– ويقول عمرو عدلي[17] (باحث اقتصادي): مما لا شك فيه أن تخفيض الواردات وإن كان سيحقق الاستقرار الكلي للاقتصاد فإنه سيكون بتكلفة اقتصادية واجتماعية مرتفعة على المدى القصير وربما المتوسط متمثلة في ارتفاع معدلات التضخم وتعميق الركود الاقتصادي لارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة. وهو ما يقودنا إلى لب الإشكال الهيكلي فى مصر. إذا ما نظرنا إلى هيكل الواردات في العقود الماضية سنجد أنه يتكون في أغلبه (نحو٧٠٪) من مدخلات إنتاج أي سلع تستخدم في إنتاج سلع نهائية، وهذه المدخلات إما خامات غير متوفرة محليا، وهذه لا بد من استيرادها لأنها مرتبطة بالموارد الطبيعية، وإما سلع رأسمالية كالأجهزة والمعدات، وهذه عادة ما تكون ذات محتوى تكنولوجي لا يملكه اقتصاد متخلف علميا وفنيا كاقتصادنا، وبالتالي لا محيد من استيرادها. ونحو ٤٠٪ من إجمالي الواردات هي سلع نصف مصنعة، وهذه كثيرا ما يمكن إنتاجها كصناعات مغذية لإنتاج سلع نهائية، وهو ما لم يحدث لأن مصر لم تطور أو تطبق سياسات تصنيعية حقيقية طيلة العقود الأربعة الماضية. وطالما حكمت سياسات التجارة والاستثمار اعتبارات قصيرة الأمد كنقص العملة أو اختلالات ميزان المدفوعات، تماما كما هو الحال اليوم.

– أن الخبرات والتجارب الموازية للدول النامية تشير إلى نتائج كارثية التي تعرضت لها تلك الدول نتيجة اتبعاها التوجهات النيوليبرالية العالمية منذ انتهاء الحرب الباردة؛ التي تخدم بالأساس الدول الصناعية الكبرى والمؤسسات الرأسمالية العالمية من شركات متعددة الجنسيات (هي غربية بالأساس) ومؤسسات مالية دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين اللذين ثبت أنهما أداة للدول الغربية، فضلا عن سوء إدارتهما للوضع الاقتصادي في شرق آسيا مما نتج عنه كارثة 1998، مقابل نجاح نماذج عارضت سياسات الصندوق مثل الحالة الماليزية، وأخرى انهار اقتصادها تحت وطأة مشروطية الصندوق كالمكسيك والأرجنتين والبرازيل سابقًا نتيجة عدم القدرة الاستيعابية لاقتصادها لتحمل الاندماج في السوق العالمية الحرة والاقتصاد العالمي[18].

ثالثًا: تعليق ختامي: دعوة لكسر الصندوق وطرح البدائل

– في مقابل ما يعكسه هذا التقرير من أطروحات النيوليبرالية كمنظور فرعي لليبرالية في الاقتصاد السياسي الدولي (المعولم هذه المرة اتساقًا مع مستجدات العولمة على الحقل)، فهي تعكس كذلك جانبًا مهمًا من أطروحات المنظورات النقدية التي تطرح قضايا العدالة ومعدلات الفقر والجريمة والأمن الاجتماعي، فضلًا عن النمو الاقتصادي وتكلفة التنمية في دول الجنوب.

– وهو ما يمكن لجماعتنا العلمية من باحثين ومفكرين أن يستندوا إلى الجوانب المشتركة في هذه المنظورات لخدمة قضايا دولنا ومجتمعاتنا.

– فضلا عن ما تنفرد به أطرنا التحليلية الذاتية؛ فالأزمة الراهنة تدعو علماء الأمة والوطن إلى تطوير مداخل تعامل مقابلة. وتدعو كذلك على مستوى الأفراد والمجتمع لحفز منظومات قيم العمل والمبادرة والحد من الاستهلاكية؛ فإذا كان مالك بن نبي قد أشار إلى قيمة الترشيد وعدم النزوع للاستهلاكية لدى المسلم (والذي عبر عنها بقيمة الزهد) والإنتاج المستمر وبذل الجهد بأقصى وسع (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) بمعايير الكفاءة (قيمة الإتقان في العمل وقيمة الإحسان): وفق الحديث الشريف: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، ووصفه –صلى الله عليه وسلم- يد العامل والزارع، كنايةً عن الدافعية والاجتهاد في العمل: “تلك يدٌ يحبها الله ورسوله”. ولكن كل ذلك ليس بغية أن توظف هذه الأطر المرجعية لصالح توجه يظلم الطبقة الكادحة ويرمي باللوم عليها لتردي الأحوال الاقتصادية، وإنما لتوظيف تلك الأطر لتجديد ثقافة غابت عن مجتمعاتنا بفعل عوامل عدة كانت للسياسات الاقتصادية القومية والدولية نصيب في تغييبها لعقود.

– الإضافة إلى ضرورة الاستفادة خبرات دولية مشابهة لظروفنا من فك إسار التبعية النيوليبرالية وتوحش الرأسمالية:كالتجارب اللاتينية كالبرازيل، والتجربة الماليزية التي أسهب مهاتير محمد في شرحها في كتابه: الإسلام الحضاري[19])؛ حيث تبنى الإسلام كإطار حضاري داعم للنمو الاقتصادي خارج إطار مشروطية صندوق النقد الدولي مؤكدًا على أنهم أعادوا هيكلة ديونهم بعد رفض نصائح الصندوق. في مقابل أخذ العبرة من دول سارت دون رؤية اقتصادية وطنية استشرافية جادة فآل بها الأمر للتدهور والإفلاس كالحالة المكسيكية، لا قدر الله.

– أما على صعيد أطروحات الخبراء الاقتصاديين لبدائل قرض الصندوق وسياسات مشروطيته ومنها التعويم، فقد اقترح بعضهم بعض البدائل على نحو ما يلي:

· يقول د.محمود الخفيف[20]: البديل للسياسات الصندوقية هو زيادة الإيرادات الحكومية من خلال سد الثقوب التى تنهشها، وترشيد الإنفاق الحكومي وليس خفضه، لأن تخفيض النفقات سيضعف الطلب الكلي والاقتصاد وحركة الإنتاج وسيزيد البطالة. يجب إعادة هيكلة أبواب الإنفاق بشكل يستهدف الطبقات الفقيرة، وأنجع طريقة لتحقيق ذلك هو تطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور في كل أجهزة الدولة: الحكومة، قناة السويس، البترول والغاز، قطاع الأعمال، والقطاع المالي والمصرفي. وبالنسبة للدعم فيجب زيادة كفاءته ليصل إلى مستحقيه، وألا يُرفع بشكل سريع عن القطاع الصناعي فيؤدي إلى إفلاس الصناعات المعتمدة على الدعم ومزيد من البطالة. ويجب تحويل الإنفاق غير المسئول في المصروفات الجارية إلى إنفاق استثماري مُنتِج يزيد من فرص العمل.

· ووفق بعض التقارير الاقتصادية المتخصصة[21]: “زيادة لجوء الدولة المصرية إلى الاقتراض سواء الداخلي أو الخارجي يقترن في العادة بتباطؤ اقتصادي أعمق وأطول استمرارية من التباطؤ الذي يصاحب حالات الركود المعتادة. ولا تقتصر المخاطر على الدين الخاص، لأن دخول الأزمة المالية بنسب دين عام مرتفعة يفاقم الآثار المترتبة عليها، وهو ما يحدث في الأسواق النامية أكثر من الاقتصادات المتقدمة”.

· يقترح عمرو عدلي إستراتيجية وطنية لدعم الصناعات الوسيطة[22]: إن المساحة الأساسية للتحرك الآن هي تطوير سياسة تصنيعية يكون هدفها الرئيسي تعميق الصناعة في مصر عن طريق تشجيع صناعات مغذية تنتج السلع الوسيطة، وهو أمر ممكن حتما في المدى المنظور فى ضوء توفير ارتفاع الدولار حماية فعلية وإن كانت مؤقتة في مواجهة السلع المستوردة، كما أن الصناعات الكبيرة ستحتاج إلى تطوير خطوط تغذية خلفية للمدخلات مع تعذر الاستيراد، وهو ما يخلق مساحة يمكن استغلالها للتنسيق بين الدولة وبين الشركات الكبرى، والتي عادة ما تكون محدودة العدد وبالتالي من السهل تنسيق عمليات التعميق معها. ويمكن اعتبار هذه إستراتيجية أولى تعتمد على التوسع الرأسي داخل المنشآت الصناعية الكبيرة.

*****

الهوامش:

* طالبة دكتوراة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، باحثة بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.

[1] يفصل فوكوياما في أدلته لانتصار الرأسمالية الغربية في نسختها الجديدة وعلى نطاق عالمي بأن اقتصادات اشتراكية حول العالم تحولت للانفتاح الاقتصادي وتخلت عن مقولات التبعية والامبريالية في كلٍ من دول أمريكا اللاتينية وتراجع الشيوعية الصينية مقابل تفوق الرأسماليات الشرق آسيوسية وقتها، راجع: فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة: حسين أحمد أمين، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1993، ص ص 51 -62.

[2] Alfredo Saad-Filho and Deborah Johnston, Neoliberalism – A Critical Reader, London: Pluto Press, 2005. Cited In: Dag Einar Thorsen and Amund Lie, What is Neoliberalism?, Department of Political Science University of Oslo, P.7.

[3] David M. Kotz, Globalization and Neoliberalism, Rethinking Marxism, Volume 12, Number 2, Summer 2002, pp. 64-79.

[4] اقتصادنا والعالم، تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، عدد: 37، 27 نوفمبر، 20، ص 5-6.

[5] المصدر السابق، ص 5-6.

[6] أنشئ صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (WB) بموجب اتفاقية بريتون وودز 1948 لدعم التعاون المالي بين الدول وقضايا اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انهيار نظام بريتون وودز عام 1971، أصبح الدور الأساسي للصندوق توفير التمويل والدعم الفني للاقتصادات النامية والمتحولة وفق معايير يضعها الصندوق لـ”الإصلاح” الاقتصادي فيما يعرف بالمشروطية الدولية؛ حيث تشارك فيه 183دولة حول العالم لكل منها حصته بحسب حجم اقتصادها، هذه الحصة تحدد حجمها التصويتي داخل الصندوق، والولايات المتحدة الأمريكية هي ذات النصيب الأكبر فيه.

راجع مزيد من التفصيل في:

Ngaire Woods, International Political Economy in an Age of Globalization, in: John Baylis and Steve Smith (eds.), The Globalization of World Politics, Oxford University Press, 2001, pp.277-298.

أما عن فروق اختصاصات كلٍ صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (WB)، فصندوق النقد الدولي يركز في المقام الأول على الإجراءات التي ينبغي للبلدان اتخاذها بغية تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي الكلي اللازم للنمو الاقتصادي السليم القابل للاستمرار، أما البنك الدولي فقد أنشئ لتشجيع التنمية الاقتصادية طويلة الأجل وتخفيف حدة الفقر وللإسهام في تمويل مشاريع بعينها. علمًا بأن صندوق النقد الدولي هو الجهة المرجح اللجوء إليها أولًا لمساعدة أي بلد يمر بأزمة مالية بتقديم المشورة والتمويل السريع، بينما يقوم البنك الدولي بالأساس بتقديم المساعدات الإنمائية. ويتعاون كلٌ من الصندوق والبنك الدولي في عدد من القضايا لاسيما الحد من الفقر في البلدان منخفضة الدخل. وفي هذا الإطار تمت صياغة ما يعرف بتوافق واشنطن برعاية أمريكية كتنسيق لمبادئ ومشروطيات المؤسستين لتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية للدول وفق النيوليبرالية وتطبيقها في الاقتصاد السياسي الدولي.

[7] برندان ميغان، مصر والقرض من صندوق النقد الدولي: اندفاعة نحو الأمام، مركز كارنيجي للسلام، 15 نوفمبر 2016 متاح على الرابط:

http://carnegieendowment.org/sada/66151

[8] البنك الدولي وصندوق النقد الدولي: التعريف – المخاطر، في: موسوعة الاقتصاد والتمويل الإسلامي، أغسطس 2013، ص ص 18-21.

ملف وورد متاح على موقع الموسوعة: www.iefpedia.com

[9] حول تفاصيل حالة الاقتصاد المصري بالمؤشرات وإجراءات الحكومية المصرية في تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي وببرامج التثبيت والتكيف الهيكلي، راجع: المرجع السابق، ص ص 34-49.

[10] المرجع السابق، ص ص 50-52.

[11] جلال أمين، عن اقتراضنا من الصندوق، جريدة الشروق، 14 سبتمبر 2012.

[12] ـــــــــــــــــــــــــــ، لا هو ضروري ولا كاف، جريدة الشروق، 18 مايو 2013.

[13] ـــــــــــــــــــــــــــ، عن اقتراضنا من الصندوق، مصدر سبق ذكره.

[14] محمود الخفيف، البديل عن الهروب إلى مصيدة صندوق النقد، جريدة الشروق، 20 نوفمبر 2012، متاح على الرابط التالي:

http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=20112012&id=adcaf7af-2108-4635-86e6-cba1f56236c4

[15] راجع ذلك تفصيلًا في ورقة سياسات قدمت للكونجرس الأمريكي حول ضرورة دعم مفاوضات مصر مع الصندوق، في:

Rebecca M. Nelson, Jeremy M. Sharp, Egypt and the IMF: Overview and Issues for Congress, Congressional Research Service, 7-5700, April 29, 2013, www.crs.gov.

[16] Roberto Roccu, Gramsci in Cairo: Neoliberal Authoritarianism, Passive Revolution and Failed Hegemony in Egypt under Mubarak 1991-2010, A thesis submitted to the Department of International Relations of the London School of Economics for the degree of Doctor of Philosophy, London, January 2012, ch4-5: pp.100-189.

[17] عمرو عادلي، بعد تعويم الجنيه.. سياسة تصنيعية الآن!، 20 نوفمبر 2016، جريدة الشروق المصرية.

[18] Ngaire Woods, Op. Cit., pp.277-298.

[19] مهاتير محمد، الإسلام الحضاري (النموذج الماليزي)، بيروت: مركز المسبار للبحوث والدراسات، 2007.

[20] محمود الخفيف، مرجع سابق.

[21] اقتصادنا والعالم، مرجع سابق، ص 6.

[22] عمرو عادلي، بعد تعويم الجنيه.. سياسة تصنيعية الآن!، مرجع سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى