إسرائيل من الداخل: قضايا الصراع الداخلي في إسرائيل وسبل إدارته

مقدمة:

تشهد التداعيات المستمرة لتفاعل المجموعات المختلفة التي يتكون منها “المجتمع” الإسرائيلي على تهافت الادعاءات الصهيونية الأساسية التي زعمت وجود شعب يهودي في منفى، (أي تحويل الانتماء الديني لليهود في مختلف أنحاء العالم إلى قومية)، وادعت أن التعبير الحقيقي عن هذا الشعب لا يمكن أن يتم إلا في دولة يهودية، حيث يمكن أن يعيش فيها بشكل طبيعي متخلصا من شوائب المنفى. فقد أنشئت الدولة “اليهودية”، ولكن معظم “الشعب اليهودي” فضل “المنفى” على الهجرة إليها.*

أما اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل فقد أثبتوا بشكل واضح أنهم لا يمكن أن يكونوا، بأية حال من الأحوال، شعبا، نظرا إلى ما بينهم من تناقضات جذرية؛ دينية، وإثنية، وحضارية، لم تزدها العقود المتتالية للدولة، التي احتفلت هذا العام بخمسينيتها، إلا حدة، ويتخوف أكثر من نصفهم اليوم، حسب استطلاعات الرأي المتكررة، من نشوب حرب أهلية فيما بينهم. واتضح أن انتقالهم إلي هذه الدولة هو أكبر خدعة تعرضوا لها أبعدتهم عن الحياة الطبيعية التي كان من الممكن أن يحيوها لو أنهم استمروا في بلدانهم الحقيقية، حيث ينعم اليهود في تلك البلدان فقط بالأمن، على خلاف اليهود الإسرائيليين الذين أوجدتهم الصهيونية في محيط من العداء والصراع الداخلي والخارجي. وهذا ما يظهر الآن في توجهات بعض المستوطنين القدامى في إسرائيل الذين أخذوا يبحثون عن جذورهم في البلدان التي وفدوا منها، وخاصة أولئك اليهود الشرقيين الذين لم يستطيعوا الاندماج في نمط الحياة الصهيوني الغربي الذي فرضته الصهيونية عليهم باعتبارها حركة استعمارية غربية، وأنهم لم يقدموا فكرا صهيونيا على الإطلاق، وأوقعتهم بذلك في صراع مع ذواتهم الحضارية كجزء من الشرق الذي تناصبه العداء. كما برز سعي البعض من المستوطنين الغربيين القدامى إلى استعادة جنسية الدول التي هجروها وحرمتهم منها في ظروف معينة.**  وهو ما يبرز ضعف الولاء للصهيونية ودولتها، تماما مثلما كان ولاؤهم ضعيفا للدول التي وفدوا منها. ناهيك عن هجرة كثير منهم من إسرائيل عندما تتاح فرصة أفضل للحياة.

أما أصحاب الأرض الشرعيون، فلم تستطع الصهيونية ودولتها اقتلاعهم منها، ويشكلون بوجودهم، وكفاحهم السياسي والثقافي في تلك الدولة، تحديا جذريا لهويتها “اليهودية”، بصرف النظر عن مضمون هذه اليهودية، وأيديولوجيتها الصهيونية. وتعبر أحوالهم عن زيف الواجهة الديمقراطية المتحضرة التي ادعتها النخبة الصهيونية للدولة.

وتعكس هذه المعطيات الطبيعة المصطنعة للدولة الإسرائيلية، وأزمة شرعية الوجود التي تعانيها. فقد نشأت إسرائيل واستمرت بحكم الضعف العربي والدعم الدولي. أما العوامل الداخلية التي يفترض أنها حافظت على وجودها واستمرارها، فإن كلا منها هو في ذاته موضوع للصراع الداخلي:

فاليهودية موضوع لصراع حاد بين المتدينين والعلمانيين، وبين أطراف فرعية في كل مجموعة، حيث ينظر إليها البعض باعتبارها دينا، والبعض الآخر باعتبارها قومية، والبعض يمزج بين الموقفين، ولا يوجد اتفاق بين الإسرائيليين، ولا بين اليهود في العالم على تحديد من هو اليهودي الذي تتوجه الصهيونية إليه، وتمنحه إسرائيل “حق العودة”، ومزايا متعددة قبل أن تطأ قدمه إسرائيل.

والصهيونية التي تأسست عليها إسرائيل، حوت بدورها ومنذ ظهورها تيارات متناقضة، انتقد كل منها  من داخله ومن خارجه، وأضافت بذلك إلى الانقسامات بين اليهود في العالم وفي إسرائيل انقسامات جديدة حول الموقف من “الصهيونية”، في الوقت الذي ادعت فيه وحدة “الشعب اليهودي”.

وإذا كانت إسرائيل ورثت عن الحركة الصهيونية سياسة الإرجاء وعدم حسم التناقضات، وترك كل فريق يعمل بالأساليب التي يراها، واعتبرت ذلك أساس نظامها الديمقراطي، فإن هذه الديمقراطية الإسرائيلية الفريدة، لم تكن سوى ستار يخفي وراءه أبشع أساليب الإجرام في مواجهة الضعفاء من اليهود وغيرهم. فلم نر دولة ديمقراطية تتجر بأطفال فريق من مواطنيها، وتقتل فريقا آخر، وتصادر أراضي فريق ثالث وتهدم بيوتهم. وحدث ولا حرج عن التعامل الإسرائيلي الخارجي عدوانا وتوسعا، وخرقا للالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل أن يجف مدادها.

وعلى الرغم من استمرار الدعم الدولي لإسرائيل، ومحاولات القوى الكبرى لدمجها في المنطقة العربية، التي لم يعد بمقدور دولها في المرحلة الراهنة، الامتناع والمقاومة، فضلا عن أن ترفض الوجود الإسرائيلي غير الشرعي بين ظهرانيها، فإن أزمة شرعية الوجود الإسرائيلية تتفجر في إسرائيل بحكم منطقها الذاتي، وأنها أزمة هيكلية، لا يجدي معها الاستمرار في الإخفاء أو التجاهل، وشغل الأنظار عنها بقضايا ومشكلات ومسائل ثانوية وهامشية ومفتعلة. ولذا تتزايد حدة الصراعات والانقسامات الداخلية في إسرائيل على الرغم من كل مظاهر القوة الخارجية التي لا تنبثق من بناء داخلي متين، ولكن من وهن عربي وإسلامي شامل.

وينصب هذا التقرير على رصد تطورات أربعة أنماط من الصراع الداخلي في إسرائيل تتصاعد بقوة في المرحلة الراهنة، وتعكس في مجملها أهم القضايا المثارة هناك، وتوازنات القوى المتورطة فيها، الأمر الذي لا شك أنه سيساهم في تحديد السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاهنا في المرحلة الراهنة وفي المستقبل المنظور. وهذه الأنماط الصراعية هي: الصراع العلماني- الديني، والصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي، والصراع العربي- اليهودي، والصراع اليميني- اليساري.

ونظرا إلى أن هذا الموضوع مثار جدل واسع في العالم العربي بين رؤى متباينة، يهون بعضها من الصراعات التي تشهدها الساحة الإسرائيلية إلى حد اعتبارها مجرد توزيع أدوار ودعاية مغرضة، ويهول بعضها الآخر منها إلى حد اعتبارها مقدمة لحرب أهلية إسرائيلية وانهيار وشيك من الداخل، فقد كان الحرص في هذا القسم على حشد أكبر قدر ممكن من المعلومات التي تفيض بها وسائل الإعلام والدوريات المختصة بالشئون الإسرائيلية، في هذا الصدد، وتنظيم هذه المعلومات المباشرة ضمن إطار معين، والإقلال قدر المستطاع من التدخل في تفسيرها والحكم عليها، لنترك الواقع يتحدث عن ذاته.

أولا، الصراع العلماني- الديني

خلفية عامة:

تشير دراسة لمعهد جوتمان الإسرائيلي(1) إلى أن معظم اليهود الإسرائيليين متدينون تقليديون، وأن القليل منهم فقط ذو توجه أيديولوجي علماني أو أيديولوجي ديني. وتوضح أن نسبة العلمانيين في المجتمع الإسرائيلي 20% ومعظمهم من اليهود الغربيين، ويشكلون معظم النخبة الحاكمة في إسرائيل، وينتمون إلى الأحزاب العلمانية المختلفة. أما المتدينون التقليديون فيمثلون 55%، ومعظمهم من اليهود الشرقيين، وهم يعتبرون اليهودية هوية ثقافية أكثر منها دينية، حيث لا يلتزمون تماما بالشريعة، ويتوزعون بين الأحزاب الصهيونية العلمانية والدينية والأحزاب الدينية اللاصهيونية، وأما المتدينون الصهيونيون فيمثلون 17% ويؤمنون بالصهيونية ويخدمون في الجيش، وينتمي معظمهم إلى المفدال (الحزب القومي الديني)، وحركة جوش إيمونيم (كتلة المؤمنين) والحركات المتطرفة الأخرى، التي تضفي القداسة الدينية على الممارسات الصهيونية- وأهمها الاستيطان وتهويد الأراضي المحتلة. وأخيرا، يمثل الحريديم (المتشددون دينيا وغير المؤمنين بالصهيونية) 8%، وهم يتوزعون بين الأحزاب الدينية اللاصهيونية مثل شاس ويهدوت هتوراة، ويحاولون فرض الطبيعة الدينية على الدولة، ولا يخدمون في الجيش، ولا يعتدُّون بمؤسسات الدولة التشريعية والقضائية، التي يشاركون فيها فقط بما يتلاءم مع أوامر حاخاماتهم ومجالسهم الدينية العليا، التي تعتبر المرجعية العليا لهم.(2)

ويتوزع المتدينون في إسرائيل حسب المذهب الديني إلى أرثوذكس يمثلون التيار الرئيس للديانة اليهودية في إسرائيل، وأقلية إصلاحية ومحافظة لا توجد لها أحزاب تعبر عنها. وذلك على خلاف يهود الخارج الذين يغلب عليهم التياران الإصلاحي والمحافظ، ويمثل الأرثوذكس أقلية بينهم.(3)

وقد تصاعدت قوة التيار الديني: الصهيوني والحريدي في إسرائيل بمرور الوقت، حتى أصبحت قوة مؤثرة في مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية.

فمن الناحية الديموغرافية، يتراوح متوسط عدد أفراد الأسر الحريدية بين 5.5 طفل، و7.2 طفل، مقابل 3.3 طفل للأسر غير الحريدية، وتأتي أكبر نسبة للإنجاب في إسرائيل بين المجتمع الحريدي، حيث يشجعون الزواج المبكر، وزيادة النسل لأسباب دينية واجتماعية وثقافية، كما يضمن لهم ذلك أيضا الحصول على المزيد من المخصصات المالية، والإعفاء من الخدمة العسكرية. ويؤكد بعض الدارسين الإسرائيليين أنه من غير الممكن تقليل معدلات الإنجاب لدى العائلات الحريدية إلا من خلال إجراء حاد، وهو أمر غير وارد في ظل الثقل الحالي للقوى الدينية في الحكومة الإسرائيلية الحالية. ويتساءلون: هل سيتمكن المتدينون من أن يشكلوا في نهاية الأمر غالبية السكان في إسرائيل.(4)

وعلى المستوى السياسي، تصاعد نصيب القوى الدينية من مقاعد الكنيست وبلغ 23 مقعدا في انتخابات 1996. (شاس 10 مقاعد، المفدال 9 مقاعد، يهدوت هتوراة 4 مقاعد) وقد أهلها ذلك للتحكم في ست وزارات تسيطر على الحياة العامة في إسرائيل، وهي الداخلية، والعمل والرفاهية، ويسيطر عليهما حزب شاس الديني اللاصهيوني الشرقي، والتعليم، والمواصلات، ويسيطر عليهما المفدال الديني الصهيوني، ووزارة الأديان، ويقتسمها الحزبان المذكوران، ووزارة المالية، ويسيطر عليها حزب يهدوت هتوراة اللاصهيوني الغربي، إضافة إلى ترؤس شاس للجنة الكنيست.(5)

ويمتلك المتدينون مؤسسات مختلفة من الأحزاب السياسية إلى الصحف إلى المستشفيات إلى المطاعم، وهو ما يزيد من استقلاليتهم في مواجهة المجتمع العلماني، وقدرتهم على تجنيد الأنصار، ويعمق الاستقطاب بين الطرفين.(6)

قضايا الصراع العلماني- الديني:

تهدف القوى الدينية في إسرائيل إلى إضفاء الطبيعة الدينية على الدولة في مختلف الميادين. ويلاحظ بشكل عام قلة اهتمامها بكثير من القضايا السياسية، وتركيزها على قضيتين محددتين هما الهوية، وعملية تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي. وفيما يلي تفصيل للصراع العلماني- الديني بشأن الهوية، في حين سيتم تفصيل مواقف المتدينين من قضايا تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي في الجزء المتعلق بالصراع اليميني- اليساري، حيث تتفق مواقف المتدينين في معظمها مع قسم كبير من العلمانيين هو اليمين، وبذلك لا يكون الصراع بهذا الخصوص بين متدينين وعلمانيين ولكن بين يمين ديني وعلماني ويسار علماني.

تشمل قضية الهوية موضوعين هامين، وهما: هوية الدولة، وهوية اليهودي. ويعتبر الصراع بشأن هذين الموضوعين، صراعا محوريا بالنسبة إلى أزمة شرعية الوجود الإسرائيلي، وبنية الأيديولوجية الصهيونية التي زعمت أنها تهدف إلى إنقاذ اليهود في العالم، والأحزاب اليهودية العلمانية والدينية في إسرائيل التي ترغب في المحافظة على الطبيعة اليهودية للدولة، كل ذلك دون أن يكون هناك اتفاق على تشخيص هذا اليهودي، أو هذه الطبيعة اليهودية للدولة.

هوية الدولة:

يتفق المتدينون والعلمانيون من اليهود في إسرائيل على تكريس الطبيعة اليهودية للدولة، ولكنهم يتصارعون بشأن محتوى اليهودية وطبيعتها، فيعرفها المتدينون تعريفا إثنيا دينيا، يقتضي تطبيق الشريعة اليهودية على مختلف مجالات الحياة، ويهمش العلمانيين وغير اليهود. ويعرفها العلمانيون تعريفا إثنيا غير ديني، يقتضي الفصل بين الدين وهذه المجالات التي يجب، من وجهة نظرهم، أن يخضع تنظيمها لقواعد الديمقراطية التي يعتبرون أنها تعني حكم الأغلبية (اليهودية). ونظرا إلى أن كلا منهما إثني (يهودي)، فهما يستبعدان العرب الإسرائيليين من المشاركة في تحديد هوية الدولة التي يعيشون فيها، ويشكلون سدس سكانها تقريبا، وتعتبر القوى الدينية أكثر تشددا في هذا المجال من القوى العلمانية. ويرى معظم العرب الإسرائيليين أن هوية الدولة يجب أن تستبعد اليهودية والصهيونية معا، وأن تكون علمانية ديمقراطية، وأن تكون إسرائيل “دولة مواطنيها” من العرب واليهود على السواء، وليست دولة يهودية، ولا دولة اليهود في العالم كما تدعي الصهيونية.

ويرتبط بهذه المسألة تباين مواقف كل من اليهود المتدينين واليهود العلمانيين والعرب بشأن الإباحية، حيث يدافع أكثر العلمانيين علمانية، ويتركزون في حزب ميرتس، عن التحلل من أية قيود دينية، ويدافعون حتى عن الشذوذ الجنسي، في الوقت الذي تؤمن فيه أغلبية المتدينين الحريديم والتقليديين والعرب بالحفاظ على القواعد الأخلاقية والدينية في هذا المجال كل حسب معتقداته. ويرى فريق من المتدينين اليهود من الأقلية الإصلاحية ضرورة ضمان حقوق الشواذ وأبنائهم في مسائل كالميراث وغيرها، ولم يتورعوا عن إضفاء صبغة دينية ما على زواج المتماثلين، في إطار الصراع بين الإصلاحيين والأرثوذكس، حيث انتهزوا فرصة قرار الحاخامية الإصلاحية الأمريكية في مارس 1996، تأييدها لمنح حقوق مدنية للزيجات الشاذة، وقرر مجلس الحاخامات التقدميين (الإصلاحيين) في إسرائيل اتخاذ خطوة أكثر انفتاحا، وهي السماح بالتوثيق الديني لمثل هذه العلاقات، وجاء في قرار للمجلس: “إن مجلس الربانيين التقدميين يقدر حاجة كل إنسان الأساسية للحب والدفء والزواج والأسرة وللحياة الروحانية والقداسة. ويرى المجلس أن قدسية عقد الزواج بين رجل وامرأة نموذج يهودي لإقامة أسرة، ولاستمرار الشعب اليهودي. والمجلس يرى إعطاء أية فرصة لإجراء طقوس الزواج وفقا للشريعة الموسوية والإسرائيلية للأزواج من نفس النوع”. وطالب الإصلاحيون في الكنيست بتوثيق الزيجات الشاذة دون عقد قران، ولكنهم لم يتمكنوا من تمرير مشروعهم، وظلوا يخضعون لموقف الحاخامية الأرثوذكسية الذي يؤمن به معظم اليهود في إسرائيل. ولكن في 18 يونيو 1997 احتفلت فتاتان بالزواج على يد حاخام إصلاحي، وسمي العقد الذي عقده بينهما الحاخام ديفيد أريئيل يوئيل عقد ارتباط وليس عقد قران!(7)  وقد جاء توقيت هذا الفعل الدرامي كنوع من تأكيد الوجود للأقلية الإصلاحية في إسرائيل في الوقت الذي كانت القوى الدينية الأرثوذكسية تحاول تمرير قانون في الكنيست يحسم مسألة من هو اليهودي لصالحها.

وفي ظل الغلبة العلمانية على الدولة، يردد كثير من قادة الأحزاب الدينية في مناسبات عديدة أنهم لا ينوون دفع أية حكومة يشاركون فيها إلى إقامة “دولة الشريعة” اليهودية، التي يزعمون أنها لن تتحقق إلا عند عودة المسيح، ولكنهم يريدون فقط تحقيق مصلحتين محددتين هما أولا، تعزيز الشخصية اليهودية للدولة، وأن يدرس التراث اليهودي في النظام التعليمي الإسرائيلي بطريقة ملائمة، وثانيا، المساواة بين المتدينين وغيرهم في الحصول على المنافع المادية والتعليمية والسكنية، وأن تمد الدولة نفس المساندة للصياغات المختلفة من التعليم العام واليهودي الذي يفضله الأرثوذكس والحريديم، والنظر إلى هذه الأحزاب على أنها تمثل مصالح مشروعة لفريق كبير من السكان الإسرائيليين مثل أي فريق له مصالح مشروعة.(8)

بيد أنه بالنظر إلى الواقع، يلاحظ أن الحريديم يعملون بالفعل على تحقيق دولة الشريعة، وإضفاء الطبيعة الدينية على كل ما يستطيعون إضفاءها عليه من مجالات الحياة، بمختلف الأساليب.

كما يلاحظ أن  ما يحصل عليه المتدينون أكثر بكثير من وزنهم النسبي في المجتمع الإسرائيلي كفريق له مصالح مشروعة (8% أو حتى 25% بإضافة المتدينين الصهيونيين)، ويتجلى ذلك فيما يحصل عليه الحريدي من امتيازات كبيرة لا ينالها غير الحريدي في الدولة، سواء أكان عربيا أم يهوديا علمانيا، ومن ذلك إمكان حصول الحريدي على منح مالية ضخمة، وإعفاءات من الضرائب، وأهمها ضريبة العقارات (الأرنونا) تصل إلى أكثر من 90% في كثير من الأحيان، وخاصة في الأحياء التي تسيطر على مجالسها قوى دينية، الأمر الذي يسمح للحريدي بأن يعول أسرة كاملة بدن أداء أي عمل على الإطلاق، إضافة إلى الإعفاء من التجنيد.(9) ولعل هذا يفسر الارتفاع المطرد في أعداد طلاب المدارس الدينية، الذين يوفر لهم التفرغ لدراسة التوراة هذه المزايا، كما يوفر تزايدهم للأحزاب الدينية فرصة للمطالبة بمزيد من المخصصات التي توجهها لخدمة هذه الجماهير المتزايدة، ويزيد من شرعيتها. ومن ناحية أخرى يفسر ذلك اشتداد نقمة العلمانيين على المتدينين، إذ يرون أنهم يحاولون بسط سيطرتهم على الحياة العامة للمجتمع العلماني في حين أنهم يعيشون عالة على هذا المجتمع اقتصاديا وأمنيا!

هوية اليهودي (من هو اليهودي):

يدور الصراع في هذا المجال بين أنصار التيار الأرثوذكسي الغالب في إسرائيل، وأنصار التيارين الإصلاحي والمحافظ السائدين في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة، على تعريف من هو اليهودي، حيث تعرفه القوى الأرثوذكسية السائدة في إسرائيل بأنه من ولد لأم يهودية أو تهود على يد حاخام أرثوذكسي، الأمر الذي يستبعد من حظيرة اليهودية الإصلاحيين والمحافظين، بينما يضم إليها الملحدين الذين ينحدرون من أمهات يهوديات! كما توجد تعريفات علمانية لليهودي لا تعتمد على هذا العنصر الديني، ولكنها تعتمد على التعريف الثقافي والإثني والذاتي لليهودية، بل وحتى نظرة الآخرين، إذ يعرف البعض اليهودي بأنه من يظنه الآخرون كذلك!(10)

وقد ثارت هذه القضية مرارا، وخاصة في التسعينيات، مع توافد المزيد من المهاجرين إلى إسرائيل من دول الاتحاد السوفيتي السابق ومن إثيوبيا، الذين سمحت لهم إسرائيل بالهجرة رغم أن كثيرا منهم غير يهود أصلا، أو حتى مشكوك في يهوديتهم حسب التعريف الأرثوذكسي السائد. وتوضح الإحصاءات  الرسمية الإسرائيلية أن نسبة هؤلاء من اليهود السوفييت سابقا تتزايد عاما بعد عام، وأنها بلغت 37% سنة 1996، وارتفعت إلى 43.6% سنة 1997.(11) أما اليهود الإثيوبيون فقد خضعوا لعملية إعادة تهويد لدى وصولهم إلى إسرائيل، وتنافس فيها الحاخامان الأرثوذكسيان الشرقي والغربي.(12)

ومن جهتها، حاولت الأحزاب الدينية الإسرائيلية مرارا حسم المشكلة لصالحها، من خلال استصدار قانون يحدد من هو اليهودي، ولكن دائما ما كانت هذه القضية ترجأ بسبب حساسيتها بالنسبة إلى بنية المجتمع الإسرائيلي، وحاجته المستمرة إلى الهجرة، وكذلك بالنسبة إلى العلاقات الإسرائيلية بيهود الولايات المتحدة الإصلاحيين في معظمهم، الذين تتبعهم أقلية إصلاحية إسرائيلية.

وتثير هذه القضية تعقيدات كثيرة في الحياة اليومية لليهود في إسرائيل، في ظل سيطرة القوى الدينية على مجالات الأحوال الشخصية، حيث تعتبر المحاكم الدينية، وعلى رأسها الحاخامية العليا، هي محاكم الدولة في مجالات الأحوال الشخصية، وإن كانت محاكم أخرى موازية، هي “محاكم الأسرة” المدنية، قد انتشرت مؤخرا لتفادي الصدام بين المحاكم الحاخامية التي تعتبر رمزا ليهودية الدولة، والجمهور العلماني الذي ينفر من هذه المحاكم، وخاصة مع انتشار حالات الزواج المدني، بسبب عدم اعتراف الحاخامية بيهودية كثير من الإسرائيليين، وتحريمها الزواج منهم. ويلاحظ  البعض أن عدد الزيجات في الحاخامية آخذ في التناقص، وأن المحاكم الحاخامية “تتحول إلى بصامة مطواعة لشئون العقوبات وغيرها”.(13) وفي حال التنازع بين العلمانيين والمحاكم الدينية، يتم اللجوء إلى المحكمة العليا التي تعتبر قمة الجهاز القضائي الإسرائيلي، وتضم قضاة علمانيين ومتدينين. وهو ما يؤكد خضوع المحاكم الدينية للدولة العلمانية.

بيد أن المشكلة لا تكمن في الزواج بقدر ما تكمن في الطلاق، حيث لا يعترف في إسرائيل إلا بالطلاق الحاخامي، ولذا تتزايد نسبة النساء المعلقات في المجتمع الإسرائيلي. وتتولى المحكمة العليا في الوقت الراهن دراسة إمكانية استصدار قانون يخول محاكم الأسرة سلطة التطليق أيضا لحل هذه المشكلة.(14)

إدارة الصراع العلماني- الديني:

الإكراه الديني والعنف:

يؤمن اليهود الحريديم بمبدأ الإكراه الديني كوسيلة لفرض الالتزام بقواعد الشريعة على الجمهور العلماني المخالف لها، وخاصة فيما يتعلق بثلاثة موضوعات رئيسة في الشريعة اليهودية، وهي حرمة السبت، وطهارة العائلة (تشمل الزواج، وتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة عموما)، والطعام الشرعي،(15) إضافة إلى قضايا التسوية وقدسية الأرض والصراعات بين أتباع المذاهب اليهودية.

ويكشف الرصد المتتابع للتفاعل بين الجمهورين العلماني والمتدين وبالمثل بين أتباع المذاهب اليهودية المتصارعة عن كثير من حالات استخدام العنف المستندة إلى هذا المبدأ من قبل المتدينين، والعنف المضاد من قبل العلمانيين. حتى إن البعض يتخوف من تحول هذا الصراع  بالذات إلى حرب أهلية بين “المجتمعين” الديني والعلماني. ومن بين تلك الحالات الشائعة يمكن الإشارة إلى ما يلي:

– الاغتيال، وكان من أبرز استخدامات هذه الوسيلة اغتيال رئيس الوزرء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين في نوفمبر 1995.

– حرق روضة للأطفال خاصة باليهود الإصلاحيين في بلدة مفسر تسيون قرب القدس في أغسطس 1997، واتهام اليهود الإصلاحيين اليهود الأرثوذكس بتدبير هذا الحادث، وتصاعد التهديدات المتبادلة على إثر ذلك بين الطرفين.(16)

– تعرض اليهود الأرثوذكس المتشددين لليهود الإصلاحيين أثناء صلاتهم عند حائط البراق بالضرب والبصق والرجم بالحجارة، وإلقاء القاذورات عليهم. وقد بلغ عنف هذه الاعتداءات حد إعلان الشرطة لليهود الإصلاحيين في بعض المناسبات أنها لن تكون قادرة على حمايتهم، ونصحهم بالانسحاب من أمام اليهود المتشددين.(17)

– الاعتداء على مجموعة من المصليات اليهوديات من أصل أمريكي عند ما يسمى “حائط المبكى” بالضرب بالكراسي لجهرهن بالصلاة، بحجة أن صوت المرأة عورة.(18)

– إلقاء الشاي المغلي على يد ياعيل دايان ابنة موشيه دايان بسبب مواقفها الإباحية وتأييدها لقيام دولة فلسطينية.(19)

– قام المتدينون بمهاجمة السائحات الأجنبيات على الشواطئ والاعتداء عليهن بالضرب بسبب عريهن، واعتبارهم ذلك تدنيسا لأرض إسرائيل المقدسة. وقد تقدم كثير منهن بشكاوى إلى سفارات دولهن. وأوضح وزير السياحة الإسرائيلي أن معدلات السياحة، وخاصة من الدول الإسكندنافية، قد انخفضت بنسبة 30% بسبب ما يتعرض له السائحون من اعتداءات.(20)

– الاعتداء بالضرب والرجم بالحجارة على مجموعة من السائحات الأمريكيات بسبب ارتدائهن ملابس فاضحة أثناء زيارتهن لمزار ديني يهودي، الأمر الذي اعتبروه تدنيسا لحرمة المزار. وقد تطورت عملية التأديب هذه إلى جريمة اغتصاب جماعي قام بها المتدينون ضد هؤلاء السائحات!(21)

– قام المتدينون بتشكيل ما أسموه “دوريات الحشمة”، وهي دوريات تهاجم النساء اللائى لا يلتزمن بارتداء ملابس ضافية. وقد قامت هذه الدوريات بإضرام النيران في شقق ثلاث مسيحيات سويسريات يشتبه بقيامهن بالتبشير وتنصير اليهود. واجتمعت لجنة برلمانية لإدانة دوريات الحشمة، وفتحت تحقيقا وأوقفت أشخاصا. وقال يوسي ساريد زعيم ميرتس إن مشكلة هذه الدوريات يجب أن تعالج ليس على مستوى الشرطة فحسب، بل أيضا من جانب الحاخامات الحريديم الذين يتمتعون باحترام كبير في صفوف جماعاتهم.(22)

– مهاجمة دور السينما والمسارح العلمانية، وطمس الإعلانات التي تتضمن صورا خليعة.(23)

– شبه الحاخام عوفاديا يوسف زعيم حزب شاس، النساء بالبغال والإبل، وقال في أحد دروس السبت: “إن من يمشي بين بغلين أو بعيرين يمكن أن يتحول إلى بغل. وعلى الرجل ألا يمشي بين امرأتين أو بغلين أو بعيرين. لماذا؟ لأن النساء لا يشغلن أنفسهن بدرس التوراة، ومن يمشي بينهن يمكن أن يصبح مثلهن، إذ سينسى التوراة. لذا عليه أن يكون حريصا ولا يمشي هناك”. وقد أثار هذا الحديث استياء الحركات النسائية والعلمانيين، وقالت رئيسة إحدى الجمعيات: “إذا كان الحاخام يوسف لا يسمح للنساء بدرس التوراة، فعليه على الأقل ألا يوجه إليهن الإهانة، وأن يتركهن وشأنهن”. وقال زعيم حزب ميرتس يوسي ساريد: “ليقتصر اهتمام الحاخام يوسف على البغال، فهذا على الأقل موضوع يفقه فيه جيدا”.(24)

– الاعتداء على المحلات التي تفتح أبوابها يوم السبت. مهاجمة قائدي السيارات في يوم السبت، حيث تحرم الشريعة اليهودية استخدام أية آلة في هذا اليوم. ومن ذلك رجم ضابط يهودي بالحجارة أثناء مروره بمستوطنتي جيفون ومعاليه عوديم بسبب قيادته سيارة في “يوم الغفران”.(25)

– الاعتداء على مطاعم المأكولات غير الشرعية. ومن ذلك تجمهر مائتين من المتدينين أمام مطعم للمأكولات الفرنسية في القدس في يوليو 1998، وقد أطلق المتظاهرون الحجارة على الشرطة التي حاولت تفريقهم.(26)

– أصدر مجلس الحاخامات أمرا بنبش قبر وإخراج جثة يهودي من الاتحاد السوفيتي السابق منه،  بعد خمس سنوات من دفنه، وذلك بحجة أنه ليس يهوديا. وقد برر أحد المسئولين في المجلس ذلك بقوله: “لقد ذهبنا إلى بيت أرملته، وشاهدناها تأكل لحوما باردة وألبانا، وهذا دليل واضح أن عائلة المتوفى ليست يهودية”.(27)

– طالب بعض الحاخامات وزارة الصحة الإسرائيلية بمنع نقل دماء غير المتدينين إلى متدينين، حتى لا تختلط دماؤهم غير المؤمنة، التي تكونت من طعام غير شرعي، بدماء المؤمنين. ومن جانبه، اكتفى الحاخام الأكبر السابق مردخاي إلياهو، بتحريم نقل دماء “الأغيار”، لأنها، حسب تفسيره، تؤثر في تصرفات الإنسان وروحه. كما أفتى بعضهم بتحريم نقل أعضاء المتدينين إلى علمانيين أو أغيار.(28)

– مقاطعة طوائف دينية حريدية معارضة للصهيونية أبرزها نطوري كارتا لمؤسسات الدولة وانتخاباتها. وقد قامت الحركة بمسيرات جنائزية في ذكرى إعلان قيام الدولة، وسار أتباعها بملابس الحداد في شوارع حي ميا شعاريم في القدس. ورجم عشرات المتدينين المعادين للصهيونية دوريات الشرطة الإسرائيلية بالحجارة.(29)

وفي المقابل قام العلمانيون بالعديد من حوادث الاعتداء على متدينين، ومن ذلك إلقاء بعضهم قنابل حارقة على مدرسة دينية أراد المتدينون إقامتها في حي علماني في قرية باردس حنا شمال إسرائيل.(30)

– شكا نائب حزب يهودية التوراة المتحدة في الكنيست من تعرض الطلاب المتدينين للضرب على أيدي العلمانيين، وهدد بتشكيل ميليشيات للدفاع عن المتدينين، وقال: “نحن في حرب أهلية، وأنصارنا وحدهم يتعرضون لهجمات، إن الدماء ستراق قريبا، فإذا كان اليهود العلمانيون يريدون الحرب فليكن لهم ذلك. سنشكل وحدات مسلحة.” وقد أثارت هذه التهديدات استنكار النواب العلمانيين، وقال رومان برونفمان نائب يسرائيل بعالياه” “إن جافني سكب الزيت على النار عوضا عن التحدث عن مصالحة بين العلمانيين والمتدينين”، في حين سخر يوسي ساريد زعيم ميرتس من هذا التهديد وقال: “إذا كان جافني يعد لحرب أهلية، يتعين عليه الذهاب أولا لتأدية الخدمة العسكرية مما سيهدئ بالتأكيد من نزعاته العدوانية”.(31)

الوسائل التشريعية والتنفيذية:

الكنيست:

– اقترح إيهود باراك زعيم حزب العمل المعارض، إجراء تعديل لقانون الخدمة العسكرية يقضي بتجنيد 700 من طلبة المعاهد الدينية. وفي المقابل، هدد زعيم حزب ديجل هتوراة المشارك في الائتلاف بالانسحاب من الحكومة، إلى أن يشطب هذا المشروع من جدول الأعمال في الكنيست. واقترح رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو تشكيل لجنة لدراسة الأمر.(32) ولكن الحزب نفذ تهديده وانسحب من الائتلاف بالفعل لبضع ساعات فقدت فيها الحكومة الأغلبية في الكنيست، وأكد مجلس حكماء التوراة الخاص به أن الحزب لن يعود إلى الحكومة إلا إذا تراجع نتانياهو عن قرار تشكيل اللجنة المذكورة. ولم يعد الحزب إلى الحكومة إلا بعد أن وعد نتانياهو بألا تشكل اللجنة إلا بالتشاور مع قادة الحزب.(33)

– هددت الأحزاب الدينية بإسقاط حكومة نتانياهو إذا لم يوافق على سن قانونين جديدين يحدد أحدهما هوية اليهودي حسب المذهب الأرثوذكسي، والآخر يلزم المجالس البلدية الدينية بالخضوع للمؤسسة الدينية الرسمية الأرثوذكسية. وقد اعترض حزبا يسرائيل بعالياه والطريق الثالث المشاركان في الائتلاف الحكومي على ذلك، وطالبا بأن يؤخذ في الاعتبار موقف التيارين الإصلاحي والتقليدي اللذين يريدان الاعتراف بالطقوس الليبرالية أيضا، ويصران على أن يتاح لممثليهما في المجالس البلدية استقلالية القرار وعدم الخضوع للمؤسسة الدينية الرسمية.(34)

– تقضي القوانين الإسرائيلية بضرورة موافقة الكنيست على مشروع الموازنة الذي تتقدم به الحكومة كل عام، خلال ثلاث جلسات على الأكثر، وإلا تسقط الحكومة، ويتم إجراء انتخابات مبكرة. وتعتبر هذه المناسبة ظرفا مثاليا لكل من الأحزاب المؤتلفة والمعارضة على السواء لفرض مطالبها. وقد مارست الأحزاب الدينية هذه السياسة في 1998 من أجل الحصول على مزيد من المخصصات للبرامج التربوية اليهودية، ومساندة الاستيطان، وهو ما رفضه نتانياهو في حينه.(35)

– رفض الكنيست مشروعي قانونين تقدمت بهما الأحزاب الدينية يقضيان برقابة السلطات الدينية على مواقع التنقيب عن الآثار، واتهم النواب المتدينون الليكود بأنه لم يحشد أنصاره لدعم مشروعيهم في الكنيست، ووصفوا نواب الليكود (العلمانيين) المتحالفين معهم بأنهم خونة وقذرون.(36)

– أقر الكنيست في نوفمبر 1997 مشروع قانون تقدمت به المعارضة العمالية يقضي بإلغاء المجالس البلدية الدينية.(37)

الحكومة:

– قامت وزارة العمل التي يسيطر عليها حزب شاس الديني اللاصهيوني بتطبيق قانون إغلاق المتاجر في العطلة اليهودية التي تبدأ من غروب الجمعة إلى غروب السبت، وقد حدثت مواجهات بين الشرطة وأصحاب المحلات والعملاء العلمانيين في بعض الكيبوتسات، حينما طالبت الشرطة (البدوية) تقديمهم أوراقا تثبت أنهم ليسوا يهودا، ورفضوا ذلك، وطالبوا الشرطة بمغادرة المكان، واتهم رجال أعمال ومثقفون علمانيون وزارة العمل بأنها تثير حربا ثقافية.(38)

– ومن جانبهم، نظم أرباب العمل الإسرائيليون حملة للسماح بفتح شركاتهم يوم السبت، وقال رئيس جمعية الصناعيين: “يجب أن نتمكن من العمل يوم السبت إذا أردنا أن نجذب المستثمرين الأجانب إلى إسرائيل”. وذكر بأن شركة “إنتل” الأمريكية حصلت على إذن عام 1996 بالعمل أيام السبت.(39)

– قررت وزارة المواصلات التي يسيطر عليها المفدال الفصل بين الرجال والنساء في المواصلات العامة، وتخصيص المقاعد الخلفية للنساء.  وقد أثار ذلك القرار استياء النائبات في الكنيست- وكلهن علمانيات- وقدمت النائبة عن ميرتس ناعومي حزان استجوابا إلى وزير المواصلات ليشرح لها أسبابا عقلانية لهذا القرار. وقالت: “سنحارب القرار بأظافرنا وأنيابنا، ولو اضطررنا أن نكون في الباصات ليلا نهارا، وسنمنعهم من تنفيذه”. وأضافت: “إنهم يريدون إعادتنا إلى العصور المظلمة فهم يعتقدون أنهم بوصولهم إلى الحكم أصبح بإمكانهم أن يفرضوا علينا ما يشاءون، لكننا نريد أن ننقل الناس إلى عصر التنوير”.(40)

– تحويل مباريات كرة القدم من السبت إلى الأربعاء احتراما لحرمة السبت.(41)

– تقدم قادة الأحزاب الدينية بطلب رسمي لنتانياهو في يناير 1998 بتخصيص شواطئ للمتدينين، وتمت الموافقة على هذا الطلب بتخصيص بعض الشواطئ على البحر المتوسط بعيدا عن شواطئ العلمانيين. أما البحر الأحمر فرفضت الحكومة تخصيص شواطئ دينية عليه لأهميته الاستراتيجية والسياحية، وقد تفاوتت مواقف العلمانيين من هذه المسألة، حيث قررت وزارة الدفاع عدم تخصيص هذه الشواطئ بالقرب من الوحدات العسكرية على البحر المتوسط أيضا، بسبب عدم ثقة الوزارة بالمتدينين الذين يكفرون الدولة ولا يخدمون في الجيش، وعارضها رؤساء البلديات والأجهزة الأمنية التي يمنع دخولها شواطئ المتدينين، وطالبوا باستصدار تشريع جديد يمكنهم من دخول هذه الشواطئ، وإلا فإنها يمكن أن تتحول، كما يرى رئيس الاستخبارات الداخلية اللواء عامي إيالون، إلى مناطق تجمع لرءوس التطرف اليهودي، ويستخدموها كمراكز عمليات آمنة للتطرف اليهودي الموجه إلى المجتمع. أما وزارة السياحة فقد أيدتها بسبب تكرار حوادث الاعتداء على السائحين وتراجع معدلات السياحة.(42)

ثانيا، الصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي

خلفية عامة:

يكشف الصراع اليهودي الشرقي (المزراحي)- اليهودي الغربي (الأشكينازي) عن الطبيعة الغربية الاستعمارية الخالصة للظاهرة الصهيونية، التي ظلت مهيمنة على إسرائيل حتى الآن، حيث لم يسهم يهود البلدان الإسلامية في تطوير فكر صهيوني، وهاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد تمام المشروع الصهيوني وإنشاء دولة إسرائيل في ظروف مختلفة تنوعت بين الإغراء والإرهاب ومعاناة ضغوط حكوماتهم الاستبدادية أو المتواطئة مع الصهيونية، التي تعرض لها غيرهم من المواطنين.

وعلى الرغم من تشكيل اليهود الشرقيين لغالبية سكان إسرائيل حتى منتصف الثمانينيات، فقد فشلوا في تغيير هويتها الغربية، أو تعديل أولوياتها العدوانية تجاه الشرق الذي ينتمون إليه، والأكثر من ذلك هو فشلهم في الحصول على حقوقهم الكاملة كمواطنين إسرائيليين بالمقارنة بنظرائهم من المجتمع الأشكينازي، وذلك رغم تنكرهم لهويتهم الأصلية، ومحاولاتهم الاندماج في ذلك المجتمع واتباع أنماطه السلوكية بما فيها العداء للعرب! ولذا يشيع في الأدبيات الإسرائيلية التي تعالج هذا الصراع استخدام مصطلح إسرائيل الأولى (الأشكينازية)، وإسرائيل الثانية (المزراحية) للتعبير عن الانقسام الإثني بين المجتمعين اليهوديين في إسرائيل.

يتكون اليهود الشرقيون في إسرائيل من طوائف متعددة من السفارديم (اليهود ذوي الأصول الأسبانية الذين استوطنوا تركيا واليونان وشمال إفريقيا ومصر)، والإيرانيين والأكراد، والعراقيين، واليمنيين، والمغاربة، والبخاريين، والحلبيين، ويهود آرام صوبا، ويهود جروزيا، والأفغانيين.(43) وأخيرا يهود إثيوبيا.

أما اليهود الغربيون فترجع أصولهم إلى أوربا وأمريكا، ويشكلون 90% من يهود العالم.(44)

وحسب الإحصاءات الإسرائيلية لسنة 1993، ينقسم السكان اليهود في إسرائيل حسب بلد الأصل، أي بلد مولد الشخص ومولد أبيه إلى ثلاث مجموعات رئيسة، هي:(45)

أ- يهود غربيون، وهم مواليد أوربا وأمريكا ومواليد إسرائيل لآباء أوربيين وأمريكيين، ويشكلون 39.9% من السكان.

ب- يهود شرقيون، وهم مواليد أسيا وإفريقيا ومواليد إسرائيل لآباء آسيويين وإفريقيين، ويشكلون 36.3% من السكان.

ج- يهود أبناء البلد، وهم المولودون هم وآباؤهم في إسرائيل، ويمثلون 23.8% من السكان، وهم يصنفون أيضا بحسب أصولهم الاجتماعية الغربية والشرقية والعربية.

وفي 1995 بلغت نسبة مواليد إسرائيل اليهود (من أصول شرقية وغربية) 61,2% من السكان، ومواليد أسيا وإفريقيا 12.8% ومواليد أوربا وأمريكا 26%.(46) وهو ما يعكس ميل ميزان الهجرة إلى إسرائيل في السنوات الأخيرة لصالح اليهود الغربيين.

ويتوالد اليهود الشرقيون بمعدل 3.4% بينما يتوالد اليهود الغربيون بمعدل 2.1%  حسب إحصاء 1993. ورغم ذلك فإن الملاحظ هو الثبات النسبي لتوالد اليهود الغربيين، والتراجع المطرد لمعدل توالد اليهود الشرقيين، نتيجة اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي، واكتسابهم الأنماط الاجتماعية الغربية.(47)

قضايا الصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي:

الهوية:

يلاحظ أن اليهود الشرقيين لم ينصهروا في المجتمع الإسرائيلي، ولا في مجتمع يهودي شرقي واحد، رغم وعيهم المشترك بالتمييز ضدهم من قبل المؤسسات الصهيونية والمجتمع الأشكينازي. بل على العكس، لم تزل الطائفية هي الغالبة عليهم. ورغم اختلاف أسباب كل طائفة للنقمة على الدولة الأشكينازية، فإن الجميع يشتركون في الشعور بالدونية والتمييز من قبل النخب الأشكينازية، وخصوصا في المجالات الثقافية والاجتماعية، في حين تطورت المشاركة السياسية لليهود الشرقيين في إسرائيل إلى حد بعيد، وأصبحوا يتقاسمون مقاعد الكنيست والحقائب الوزارية مع المجتمع الأشكينازي مناصفة تقريبا، ويتنافسون معهم على رئاسة الدولة.

وتعتبر كلمة “معبراة” أو “معسكر انتقال” هي الكلمة المفتاح لإثارة كل مشاعر الكراهية والظلم لدى اليهود الشرقيين تجاه اليهود الغربيين. حيث تضمنت عمليات انتقالهم إلى إسرائيل والمراحل الأولى من استيعابهم أفعالا قاسية وغير إنسانية بحقهم، فيهود اليمن خطف أطفالهم، وبيعوا للعائلات الأشكينازية في إسرائيل وخارجها، إضافة إلى سوء الأحوال المعيشية التي عانوها، وموت كثير منهم أثناء عملية تهجيرهم. ويهود المغرب توفي أطفالهم نتيجة سوء التغذية والأحوال غير الصحية في معسكرات الانتقال، وتم رشهم بالدي. دي. تي. فور وصولهم إسرائيل، وأودعوا أماكن غير لائقة بالسكنى الآدمية، بلا مرافق، وبلا تعليم. ويهود إثيوبيا تعرض عشرات الآلاف منهم للموت في معسكرات الانتقال تمهيدا لتهجيرهم إلى إسرائيل. ويكشف تعامل السلطات الإسرائيلية مع هؤلاء جميعا عن سياسة متعمدة لم تزل متبعة لتفريق التجمعات اليهودية الشرقية على أنحاء البلاد، واستخدامهم كخط دفاعي على الحدود مع الدول العربية، وإجبارهم على الانتقال من المراكز التي ألفوها وإسكانهم المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة سنة 1967، ومناطق حديثة أكثر تدنيا، لتبنى مكانها ضواح أرستقراطية ومراكز سياحية واستثمارية للأشكينازيين.(48) أما اليهود الغربيون فلم يتعرضوا للمعاملة ذاتها، وفي السنوات الأخيرة، تعاملت السلطات الإسرائيلية مع موجات المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق على أساس مختلف، وهو منح المهاجر مبلغا من المال، وتركه للتعامل مباشرة مع السوق. كما تركزوا في المناطق الرئيسة في إسرائيل، وتجمعوا مع عائلاتهم، وذوي جلدتهم الأسبق هجرة، وتمكن كثير منهم من تحقيق حراك اجتماعي عال في فترة محدودة.(49)

ويرى أفيشاي مرجيليت أن تجربة معسكر الانتقال قد أصبحت هي أسطورة الهوية اليهودية الشرقية في إسرائيل.(50) ومع ذلك ربما يكون من الأفضل اعتبار هذه التجربة مجرد مؤشر لتعامل الدولة الأشكينازية مع اليهود الشرقيين، الذين تجمعهم الهوية الحضارية العربية- الإسلامية، بكل أساطيرها الذاتية، وميراثها الحضاري المشترك، الذي لم يختف رغم حاجتهم الملحة إلى التكيف مع المجتمع الأشكينازي المسيطر. ويوضح شلومو بن عامي (أستاذ الاجتماع وأحد قيادات حزب العمل البارزة) أسبابا أكثر عمقا لنقمة اليهود الشرقيين على المؤسسات الأشكينازية، تتعلق بالاختلاف الحضاري بين الطرفين، حيث يقول: “الجرح المفتوح هنا هو التقاليد، الإحساس بالمساس بالتقاليد، إن على اليسار أن يدرك أن لا وجود، أساسا، لما يسمى اليهودي العلماني المغربي الأصل. فالعلمانية، أساسا، مصطلح غربي. إنها نتاج الثورة الفرنسية، ولمبدأ الانعتاق الذاتي والحداثة الجارفة. وهذه المسارات لم تحدث في شمال إفريقيا، ولهذا السبب لم تظهر العلمانية هناك. كان هناك نوع غير واضح من حل وسط غير منظم، بين التقاليد والحداثة. وهذا هو السبب في أن يهود الشرق الذين أتوا البلد.. لم يكونوا علمانيين، لكنهم غير أصوليين [حريديم] أيضا”.

ويوضح أن انتقال يهود الشرق من شمال إفريقيا إلى إسرائيل جلب لهم تحسنا اقتصاديا، “لكن ما كان هناك في الواقع- وفقدناه- هو تلك الروح التضامنية. كانت الجالية اليهودية هناك منظمة جدا، كان هناك تكافل اجتماعي، وجهاز تعليم جيد متاح للجميع، وكنيس. كان هناك المنزل، ووجبات الطعام التي تجمعنا حول المائدة العائلية. وبمعنى معين، كانت حياة يهود شمال إفريقيا حياة ما قبل الحداثة، مع كل دعة ما قبل الحداثة. كان هناك ذلك الإحساس بالأمان، وبنظام واضح المعالم للأمور. حتى عندما كانت تحدث متاعب كانت الأمور واضحة. كانت تلك حياة مفعمة بالأمان. كان هناك نسيج ما حافظ على الجميع”.

ويكشف بن عامي عن حنينه المتزايد إلى بلده الأصلي طنجة، والفارق بينها وبين إسرائيل، بقوله: “… أكرر العودة إلى هناك، وأفعل ذلك نظرا إلى أن طنجة توضح لي ما في أعماقي وتفسره. إنها تسوي تناقضاتي، إذ يوجد فيها شيء ما من الإحساس بالراحة، وشيء من الميل الجميل جدا في نظري نحو عدم إغلاق الأمور، أي البقاء في حالة ما من الانفتاح اللانهائي، مع الكثير من التعاطف مع حالات الضعف الإنسانية، ومع تعايش بين الرموز الخلقية والثقافية المتعددة من دون دكتاتورية قيم واحدة”.(51)

ولذا لم يكن من الغريب انسلاخ اليهود الشرقيين من الأحزاب الأشكينازية، وتكوين أحزاب يهودية شرقية تحمل التوجهات ذاتها، إضافة إلى البعد الإثني. ومن ذلك حزب شاس الديني الذي انشق سنة 1984 من أجودات إسرائيل. وحركة تامي، وتضم يهود المغرب التي انشقت في 1981 من المفدال، وحركة “الشرق من أجل السلام” التي انشقت من حركة “السلام الآن” سنة 1983.(52) وكتلة جيشر  التي انشقت عن الليكود في 1996.

وحتى حزب العمل، شهد تذمر اليهود الشرقيين الذين يبلغون 40% من أعضائه. واستند أحد قادته في انتخابات الحزب التي أجريت في أعقاب هزيمته في انتخابات 1996، وهو شلومو بن عامي، إلى انتمائه الشرقي المغربي وأكد “أن فشل حزب العمل في الانتخابات يرجع أساسا إلى قلة اهتمامه بالشرائح الضعيفة في المجتمع، وفشله في فهم ذهنية اليهود الشرقيين ونفسيتهم، وعدم تعاطفه مع مجموعة القيم التي توجه تفكيرهم وسلوكهم، والموقف المتعالي للنخب النافذة في الحزب تجاههم، وأضاف أن السبيل الوحيد أمام الحزب للعودة إلى الحكم هو في تغيير الأولويات في برنامجه السياسي، والتشديد على تضييق الفجوات بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، وتبني أيضا أنماط سلوك وتفكير أخرى تجاه الشرقيين وثقافتهم”.(53)

العدالة الاجتماعية:

يتجلى التمييز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين في كثير من المظاهر مثل الفجوة بين الطرفين في مجال التعليم، والعمل، والدخل، والسكن،  حيث يتميز الأشكينازيون بسنوات تعليم أكثر، وخاصة في مراحل التعليم العليا، وعلى هذا الأساس يتمتعون بفرص أعلى للحصول على وظائف متميزة، ويسكنون في المدن الراقية، في حين يتركز اليهود الشرقيون في أدنى السلم الاجتماعي في هذه المجالات.

“وتشير معلومات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي إلى أن ربع اليهود الشرقيين يذهب إلى الجامعات، بينما يشكل اليهود الغربيون الغالبية العظمى من طلبة كليات الطب والمحاماة والتكنولوجيا.. أما نسبة من يحصلون على الدكتوراة فهم 82% من الأشكيناز و18% من السفارديم. ويزيد معدل دخل الأشكينازي بنسبة 50% عن نظيره السفاردي”.(54)

وتبرز الفجوة بين الطرفين كذلك في مجال البطالة، والجريمة، حيث يعاني اليهود الشرقيون من ارتفاع نسبة البطالة بينهم حسب إحصاءات 1995 بمعدلات أكبر من نظرائهم الغربيين بحوالي 2.44%.(55)

وفيما يلي بعض التطورات التي أمكن رصدها في الصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي بالنسبة إلى طوائف شرقية محددة:

يهود اليمن:

يقدر تعداد يهود اليمن بحوالي 150 ألف نسمة،(56) وقد هجروا إلى إسرائيل ما بين 1946 و1956. ويذكر بعض الكتاب الإسرائيليين كيف تعرضوا خلال هذه الهجرات لمعاملة غير إنسانية، إذ “أدت الرحلة عبر الصحراء التي تفاقمت بفعل الأوضاع غير الإنسانية في معسكرات الانتقال الصهيونية إلى المجاعة والمرض، الأمر الذي أدى بدوره إلى نوع قاس من الانتقاء الطبيعي، وفي ظل القلق بشأن عبء العناية بالمرضى اليمنيين طمأن يتسحاق رفائيل (من الحزب الديني القومي) زملاءه أعضاء الوكالة اليهودية إلى أن لا حاجة إلى التخوف من وصول عدد كبير من المرضى المزمنين إذ لا بد من أن يسيروا على أقدامهم نحو أسبوعين، وأن المصابين بمرض شديد لن يستطيعوا السير”.(57)

ويتهم اليهود اليمنيون السلطات الإسرائيلية -التي كان على رأسها حزب العمل خلال هذه الفترة- بخطف خمسة آلاف من أطفالهم، وبيعهم إلى عائلات أوربية داخل إسرائيل وخارجها خلال هذه الهجرة وبعد وصولهم إلى إسرائيل، حيث أخبروا عائلاتهم أنهم ماتوا في المستشفيات، ودفنوا بدون مشاركة الأهل، واستخرجت لهم شهادات وفاة وتصاريح دفن وهمية!(58)

وقد ظلت هذه القضية مثارة طوال العقود الماضية، وتصاعدت في السنوات الأخيرة عندما تمردت جماعة من اليهود من أصل يمني، بقيادة الحاخام عوزي مشولم سنة 1993، واشتبكت مع الشرطة الأمر الذي أدى إلى وقوع قتلى وجرحى، واختطفت المجموعة شرطيا. ومنذئذ يقضي مشولم حكما بالسجن. وأسفرت هذه العملية عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الموضوع بقيادة رئيس الدولة الأسبق إسحق نافون وما زالت تواصل تحقيقاتها، وتفتح ملفات الأطفال المتبنين والمفقودين خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات.(59)

وفي أكتوبر 1997، اعترف الحاخام مناحم بورش ببيع أطفال المهاجرين اليمنيين إلى أسر أوربية لتبنيهم. ووصف هذه العملية بأنها أخزى وصمة في جبين إسرائيل. وأكد أن السلطات الإسرائيلية أخبرت الأمهات بموت أبنائهم في المستشفيات.(60)

وفي أغسطس 1998، كشف التليفزيون الإسرائيلي أن أربعة قبور للأطفال اليمنيين المفقودين فتحت ثلاثة منها ووجدت خالية من الرفات. وعندئذ شن قادة الطائفة اليمنية ووزير الأمن الداخلي أفيجدور كهلاني (وهو من أصل يمني) ووزراء الليكود الآخرون هجوما مجددا على حكومات العمل الأولى المتهمة بالمتاجرة بالأطفال.(61)

يهود المغرب وشمال إفريقيا:

يشكل اليهود المغاربة أكبر تجمع يهودي شرقي في إسرائيل، وثاني تجمع إثني يهودي بعد اليهود الروس، ويبلغ عددهم نحو نصف مليون نسمة.(62)

ويتميز اليهود المغاربة بميل أكبر إلى التدين، يعكسه تعاظم وزن حزب شاس الديني اللاصهيوني الذي يستمد معظم قوته من أصوات اليهود المغاربة بالذات، ويعتبر أكبر حزب ديني وشرقي في الوقت نفسه، في إسرائيل، في حين يصوت معظم المتدينين الشرقيين الآخرين للحزب الديني القومي (الصهيوني).(63)

ويفسر شلومو بن عامي اتجاه اليهود المغربيين إلى شاس بأنه محاولة للهرب من أزمتي الهوية والتمييز اللتين يعانونهما.(64) وبالفعل، يعاني اليهود المغربيون- مثل الفلاشا- تمييزا أكبر في المجالات الاجتماعية، بالمقارنة باليهود الشرقيين الآخرين، إذ إنه في حين اضمحلت مراكز الاستيعاب التي أسكن فيها هؤلاء الأخيرون، وانتقلوا مع الوقت إلى المدن الإسرائيلية المختلفة، فإن اليهود المغاربة قد أسكنوا ما يسمى “بلدات التطوير”، التي أصبحت مساكن دائمة.(65)

وفي حين يقدم شاس الخدمات الاجتماعية المختلفة لأتباعه، ويطالب بالمزيد من المخصصات شأن مختلف الأحزاب الدينية الإسرائيلية، فقد برر ديفيد ليفي وزير الخارجية السابق، وزعيم كتلة جيشر التي تقوم على الصوت المغربي أساسا، انسحابه من الائتلاف الحاكم بأسباب اجتماعية، وطالب بتخصيص قدر أكبر من ميزانية الدولة للخدمات الاجتماعية في الوسط اليهودي الشرقي. وهي الدعوة ذاتها التي توجهها قيادات حزب العمل من اليهود المغاربة لتحويل اهتمام الحزب من التركيز على عملية التسوية إلى التركيز على البرامج الاجتماعية وخاصة لليهود الشرقيين.

يهود العراق:

يقدر عدد اليهود الإسرائيليين من أصل عراقي بحوالي 300 ألف نسمة.

وقد استطاعوا شق طريقهم إلى النخبة السياسية، ومع ذلك فإنهم أيضا ينقمون على حزب العمل والمؤسسات الأشكينازية، وإن كان بدرجة أقل من غيرهم من اليهود الشرقيين. وقد تعرضوا للحرج في المرحلة الأخيرة بسبب الموقف الإسرائيلي من العراق. وفي مارس 1998، أعلن حوالي مائة من المثقفين ورجال الأعمال الإسرائيليين ومعظمهم من أصل عراقي تأسيس جمعية الصداقة الإسرائيلية- العراقية. وأوضح بعض أعضائها أن أهدافها هي:(66)

– تعزيز العلاقات مع العراقيين في الشتات لكي يكون لهم أكبر في الوضع السياسي في العراق.

– المساعدة في تنظيم المعارضة العراقية وتمرير رسائل وتنظيم بحوث، من أجل إسقاط نظام الرئيس صدام حسين.

– إفهام الشعب الإسرائيلي أن السلام ممكن مع العرب وخاصة العراقيين.

– القضاء على الأفكار المسبقة لدى الإسرائيليين تجاه العرب، وتعاملهم معهم من منظور أمني.

– المساهمة في تحقيق “السلام” من خلال تغيير نظرة الإسرائيليين إلى الفلسطينيين أيضا.

ومن ناحية أخرى، قام وفد من اليهود العراقيين بزيارة الأردن في 28/6/1998، بدعوة من الأمير رعد، وضم الوفد أربعين شخصية، وعبر أعضاؤه عن معاناتهم التمييز الذي يتعرضون له داخل المجتمع الإسرائيلي.(67)

يهود إثيوبيا:

توافد اليهود الإثيوبيون على إسرائيل في ثلاث موجات: الأولى في الخمسينيات، وضمت 3500 مهاجر، والثانية في منصف الثمانينيات (عملية موسى، وضمت 8000 مهاجر) والثالثة في 1991 (عملية سليمان، وضمت 14000 مهاجر) ثم توافدت بعد ذلك دفعات متفرقة بلغت 6000 مهاجر ليصل مجموع اليهود الإثيوبيين في إسرائيل في بداية 1996 إلى 56 ألف مهاجر.(68)

ومن المخطط وصول 4000 مهاجر إثيوبي آخرين يعيشون الآن في معسكرات انتقالية في أديس أبابا تمهيدا لنقلهم خلال عام 1999 ليصل إجمالي المهاجرين الإثيوبيين إلى إسرائيل 60 ألفا.(69)

-ويقطن معظم المهاجرين الإثيوبيين بمن فيهم أولئك الذين هاجروا في أواسط الثمانينيات في مساكن شعبية في المناطق النائية، بعد أن كانوا يعيشون حتى 1992 في منازل متنقلة، ويتوزعون بين 65 تجمعا سكنيا شعبيا في إسرائيل، ويشغلون قاعدة الهرم الاجتماعي في العمل والتعليم.(70)

-وعلى مستوى الجيش، ندد شلومو مولا (الأمين العام للمنظمة الموحدة لليهود الإثيوبيين) في أبريل 1997 بالتمييز العنصري ضد الإثيوبيين في الجيش، حيث أوضح أن هؤلاء لا يشكلون سوى 4% من عدد أفراد الجيش، ولكنهم يشكلون 10% من الجنود الذين ينتحرون كل عام. وأضاف أن معظم حالات الانتحار هذه ناجمة من المعاملة السيئة والعنصرية، خصوصا على مستوى القيادات المباشرة، التي يتعرض لها اليهود الإثيوبيون في أغلب الأحيان. كما اتهم النائب عن حزب العمل أديسو ماسالا، وهو أول نائب من أصل إثيوبي، الجيش باتخاذ موقف تمييزي من اليهود الإثيوبيين.(71)

-كشفت صحيفة هآرتس عن أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) قتل نحو 4 آلاف من اليهود الفلاشا أثناء وبعد تهجيرهم إلى إسرائيل مباشرة منذ 15 عاما. ورغم اعتراف السلطات الرسمية الإسرائيلية بموت 4 آلاف من يهود الفلاشا بسبب الجوع والأمراض المزمنة وأعمال العنف التي كانت تنفذ ضدهم من اللاجئين الآخرين، فإن الفلاشا يكذبون هذه الأرقام، ويقولون إن الضحايا كانوا عشرات الآلاف، وقد شهدت الممثلة مهترة باروخ التي رحلت إلى إسرائيل مع هذه الهجرة بأن عشرات كانوا يموتون يوميا بآلام شديدة في البطن، دون أن يعرف سببها، وأن بعضهم تعرض لعمليات تعذيب.(72)

– كشفت صحيفة معاريف في يناير 1996 أن بنوك الدم لا تستخدم الدم الذي تبرع به يهود إثيوبيون. وعلى أثر ذلك ثارت أزمة بين المجتمع اليهودي الإثيوبي وبنوك الدم، وتشكلت لجنة برئاسة رئيس الدولة الأسبق إسحق نافون للتحقيق في هذه المسألة،  وجاء في تقريرها الصادر في 28 يوليو 1996 أن في إسرائيل 1400 حامل معروف لفيروس الإيدز، 850 منهم من الجمهور العام، و550 من المهاجرين الإثيوبيين. وناشدت اللجنة في تقريرها الحكومة الإسرائيلية على أن تعمل على تأمين حصول المهاجرين الإثيوبيين على الاعتراف الكامل بهم كيهود، وأن تعمل الشبكات التعليمية والثقافية على تغيير نظرة الجمهور السائدة إلى اليهود الإثيوبيين على أنهم مجموعة خطرة، وأن تسرع الحكومة بإعداد البرامج اللازمة لتسهيل الاستيعاب الكامل لليهود الإثيوبيين، من أجل إحلال السلام بين المجتمعات المختلفة في إسرائيل.(73)

إدارة الصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي:

الدعاية:

في يونيو 1997، عقد حزب العمل مؤتمره على غير العادة، في بلدة نتيفوت، التي يسكنها في الغالب يهود شرقيون، وألقى زعيم الحزب إيهود باراك خطابا افتتاحيا اعتذر فيه باسمه وباسم “العمل” عن المعاناة التي تسببت فيها الحكومات العمالية الأولى لليهود الشرقيين. وقال: إنه في حين ينبغي لحركة العمل أن تكون فخورة بدورها في إقامة دولة إسرائيل وتنظيم جمع المنافي، فإننا يجب أن نعترف أمام أنفسنا بأن المهاجرين الجدد أرسلوا مباشرة إلى بلدات تطوير كنتيفوت. وفي سياق هذه العملية “تمزق النسيج الداخلي للحياة الجماعية. وفعلا حتى النسيج الحميم للحياة العائلية تمزق هو أيضا في بعض الأحيان… إن المسئولين عن جلب المهاجرين إلى هنا لم يتعمدوا المكر. على العكس تماما، كان هناك الكثير من النيات الحسنة. لكن الألم وقع في أية حال. اعترافا بهذه المعاناة والألم، وانطلاقا من التماثل بالمتألمين ونسلهم، فإني ههنا أسأل الصفح، باسمي الشخصي، وباسم حركة العمل التاريخية”.(74)

ورغم أن هذه التصريحات قصد منها تغيير الاتجاه العام لتصويت اليهود الشرقيين من الليكود إلى حزب العمل، فقد انتقد بعض قيادات حزب العمل باراك لذلك الاعتذار الذي لم يكن مضطرا إليه في نظرهم. والأكثر من ذلك أنه في مناسبات تالية، وجه بعض هؤلاء القادة إهانة لليهود المغاربة بالتحديد، حيث قال نائب وزير الدفاع السابق أوري أور: إن المجموعة اليهودية المغربية الكبيرة هي التي تطرح أكبر قدر من المشكلات في البلاد. وأوضح: “عندما أشير إلى مزراحي، فأنا أعني خصوصا المغاربة. إنهم أكبر المجموعات العرقية في البلاد، وأكثرها إثارة للجدل. أنا حزين لأنه ليس بين صفوفهم من يثار فضوله لمعرفة ما يجري حوله، ولماذا يحدث”. ووصف اعتذارات باراك بأنها لم تصلح لشيء، وليس باراك من يتحمل مسئولية ذلك، بل اليهود الشرقيون الذين يرفضون النظر حولهم”.(75)

– في مارس 1998، جرت الانتخابات لرئاسة الدولة، وتنافس فيها مرشحان يهودي غربي هو الرئيس الإسرائيلي الحالي عزرا وايزمان، ويهودي شرقي هو شاول عمور، وكانت هذه مناسبة لإظهار مختلف التناقضات ومظاهر التمييز بين المجتمعين اليهودي الشرقي واليهودي الغربي في إسرائيل. وفي هذا السياق روج شاول لنفسه بأنه يمثل المضطهدين والمسحوقين في إسرائيل لأنه من عامة الناس ولا ينتمي إلى النخبة التي ينتمي إليها وايزمان، ولذا فهو أقدر على رأب الصدع الذي يتوسع داخل المجتمع الإسرائيلي وأقدر على توحيد فئاته. وقال: “لقد مررنا بكل تجارب ومآسي الاستيعاب، وأعرف جيدا طبيعتها..”.(77)

اللجوء السياسي :

– في أغسطس 1997 توجهت مجموعة من اليهود المغاربة إلى مناطق السلطة الفلسطينية، وطلبت “اللجوء السياسي”، واشتكت من سوء المعاملة التي يلقاها اليهود الشرقيون على أيدي اليهود الغربيين، بما في ذلك اعتداءات بالضرب، والطرد من المناطق الغنية الأشكينازية. وقال بعضهم إن هناك نية لدى نحو مائة عائلة مزراحية للجوء إلى المناطق الفلسطينية إذا وافقت السلطة الفلسطينية على ذلك، وأضاف: “نريد أن نعيش هنا بين الفلسطينيين لأنهم يعاملوننا كأناس مثلهم، وليس كمواطنين من الدرجة الثانية”.(76)

الحكومة:

أعلن ديفيد ليفي استقالته من منصبه احتجاجا على سياسة رئيس الوزراء الاجتماعية والسياسية، وانتقد حكومة نتانياهو لعدم احترامها مختلف التعهدات والاتفاقات، مشيرا إلى الوثيقة التي وقعها نتانياهو وتعهد فيها بتنفيذ مطالب جيشر بشأن الميزانية العامة، وما يتعلق بالمخصصات الاجتماعية للطبقات الفقيرة، والأزواج الشبان، ومدن التطوير. وقال ليفي: “آسف لمشاهدتي تلك المناظر المخزية في الكنيست حيث توزع ملايين الشيكلات للمجموعات المختلفة وتترك الطبقات الفقيرة من دون أموال”.(78)

ثالثا، الصراع العربي- اليهودي

خلفية عامة:

يتكون المجتمع الإسرائيلي من أقلية فلسطينية تمثل أصحاب البلاد الشرعيين، وأغلبية من المستوطنين اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين بقصد استيطانها في مراحل متفاوتة، وأبنائهم. ومع الوقت تحول الفلسطينيون من أغلبية إلى أقلية مضطهدة، واكتسبوا الجنسية الإسرائيلية، وخضعوا لقوانين الدولة. ويطلق على هذه الأقلية العربية الفلسطينية “عرب 1948” أو “فلسطينيو 1948″، نسبة إلى العام الذي أعلنت فيه الدولة الإسرائيلية، وتمييزا لهم عن فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1967.

وتشير بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي،(79) إلى أنه كان في إسرائيل في نهاية سنة 1996، نحو 922 ألف مواطن غير يهودي، أكثر من 90% منهم (أي أكثر من 830 ألف نسمة تقريبا) عرب، يشكلون 16.6% من مجموع عدد السكان، وذلك من دون المواطنين العرب في القدس الشرقية وهضبة الجولان. وقد اتسمت هذه النسبة بالثبات النسبي (14.6% في نهاية عام 1948) رغم موجات الهجرة المتتالية لليهود إلى فلسطين، وذلك بسبب ارتفاع معدلات التكاثر الطبيعي للعرب التي تبلغ (حسب إحصاءات 1993) 4.68% لدى المسلمين، و3.76% لدى الدروز، و2.03% لدى المسيحيين، مقابل 2.61% لدى اليهود.(80)

ويتوزع العرب حسب الديانة إلى مسلمين يشكلون نحو 76% أو ما يوازي 14.1% من مجموع السكان في إسرائيل، والمسيحيين، ويشكلون نحو 15% أي ما يوازي 2.8% من سكان إسرائيل، والدروز وأتباع الديانات الأخرى، ويشكلون 9% من العرب، أو نحو 1.7% من سكان إسرائيل.(81)

وقد طبقت الأحكام العسكرية على العرب في إسرائيل حتى 1966 حينما حصلوا على الاعتراف الرسمي بهم كمواطنين إسرائيليين، بصرف النظر عن مدى تحول هذا الاعتراف الرسمي إلى واقع عملي. ومع ذلك استطاع العرب الإسرائيليون الاستفادة من هذا التحول، وتكوين أحزاب سياسية خاصة بهم، واستطاعوا أن يحققوا بعض الانتصارات في انتخابات المجالس البلدية، وخلافها، ولكن دون أن يعبر ذلك عن استقلالية حقيقية في إطار الدولة “اليهودية”.

قضايا الصراع العربي- اليهودي:

المساواة والعدالة الاجتماعية:

يقع العرب الإسرائيليون في أدنى السلم الطبقي في إسرائيل، وتتعامل السلطات الإسرائيلية معهم على اعتبار أنهم مشكلة أمنية، الأمر الذي يتضح من تفويض صلاحيات معالجة قضايا العرب وتحديد السياسة تجاههم إلى المؤسسات الأمنية المختلفة.(82)

ويتجلى التمييز ضد العرب في إسرائيل في العديد من المظاهر وعلى مختلف المستويات:

فعلى المستوى الديمغرافي، يعاني العرب في إسرائيل مثل فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة الإهمال، والاعتداء على حقوقهم من قبيل هدم منازلهم، ومصادرة أراضيهم، وتهجيرهم، واعتبار أراضيهم محميات. وتهويد هذه الأراضي بإنشاء المستوطنات فيها وجلب المستوطنين اليهود إليها لئلا يشكل السكان العرب أغلبية في هذه المناطق، وخاصة منطقة الجليل حيث يعيش أكثر من نصف السكان العرب في إسرائيل.(83)

وعلى المستوى السياسي، يلاحظ أنه رغم مشاركة العرب في الانتخابات العامة في إسرائيل، وحصول عدد منهم على مقاعد في الكنيست، فإنهم يمثلون معارضة دائمة على حد تعبير البعض، حيث لا يشاركون عمليا في صنع القرارات العامة، وهم إذا شاركوا، من خارج الائتلاف الحكومي،  في ظل الحكومات اليسارية، يشاركون مشاركة هامشية، لا تتجاوز القضايا الخاصة بهم كأقلية في المجتمع الإسرائيلي، أما في ظل الحكومات اليمينية، فإنهم لا يشاركون على الإطلاق.(84)

وعلى المستوى الإداري، يندر تولي العرب مناصب رفيعة في المكاتب الحكومية، أو في المشاريع الصناعية، أو في المشاريع الزراعية التابعة للحكومة. ولم يكن هناك قط وزير عربي، أو قاض في محكمة العدل العليا. وكذا في معظم الدوائر الحكومية وفي القطاع الخاص الذي يشغل فيه عدد قليل من العرب مناصب رفيعة المستوى. ولأن معظم العرب لا يطالَب ولا يسمح له بالخدمة العسكرية، فإنه لا يسمح له، بالعمل في الصناعات العسكرية الكبرى والمتطورة، كما يتم تجاهل الثقافة العربية واللغة العربية، والتاريخ العربي، وقمع الهوية العربية.(85)

وحتى على المستوى القضائي، تكشف الدراسات عن تمييز المؤسسات القضائية الإسرائيلية ضدهم، حيث يذهب مثلا، إلى السجن 81% من المدانين العرب مقابل 60% من المدانين اليهود في جرائم متشابهة”،(86) ناهيك عن مختلف القوانين التي صدرت بحقهم، من أجل تسهيل اغتصاب أراضيهم، أو تهميشهم في الحياة السياسية والاقتصادية، وإبقائمهم في وضع الأقلية المقهورة.

ورغم إدراك التمييز الواقع ضد العرب في إسرائيل من قبل المؤسسات الرسمية، يؤيد الجمهور اليهودي هذه السياسة التمييزية، ويبررها بمقولات أيديولوجية عنصرية. وتبرز الدراسات الإسرائيلية، أن كراهية الغير منتشرة لدى الشباب الإسرائيليين، وأن أكثر “الأجانب” الذين يتعرضون لكراهية الشباب اليهود في إسرائيل هم العرب، وفصلت هذه الدراسة رؤية الشباب اليهودي للعرب والعلاقات اليهودية- العربية داخل إسرائيل كما يلي:(87)

 

الموضوع النسبة %
لا يمكن منح الثقة الكاملة لأي عربي إسرائيلي 68
عرب إسرائيل يرغبون في إبادة الدولة 71
التمثيل العربي في الكنيست يعرض أمن إسرائيل للخطر 73
التمثيل العربي في الكنيست يعرض طبيعة الدولة اليهودية للخطر 74
اليهود لا يجب أن يتزوجوا من غير اليهود 74
من الأفضل أن يعيش في إسرائيل اليهود فقط 74

 

الهوية:

حاولت السلطات الإسرائيلية فرض الطبيعة الإسرائيلية على فلسطينيي 1948، والفصل بينهم وبين إخوانهم من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، بيد أن هذه المحاولات لم تنجح، وكانت السياسة الإسرائيلية التمييزية والعدوانية نفسها عاملا في زيادة وعي العرب الإسرائيليين بهويتهم الفلسطينية، التي بلغت ذروتها في أثناء الانتفاضة الفلسطينية. ومع توصل إسرائيل ومنظمة التحرير إلى الاعتراف المتبادل خفت حدة القيود الإسرائيلية في هذا الشأن، وتمتعت الهوية الفلسطينية للفلسطينيين الإسرائيليين بالشرعية، وأصبح بإمكانهم لأول مرة التعبير علنا عن هذه الهوية، وأن يرفعوا أعلاما فلسطينية،  ويرددوا شعارات مؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن يدرسوا التاريخ والأدب الفلسطينيين في مدارسهم، وسمح لهم، أكثر من ذلك، بالانضمام إلى المنظمات الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وعمل أحد زعمائهم السياسيين، وهو أحمد الطيبي كمستشار للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.(88)

ونتيجة لتزايد الوعي بهذه الهوية، يطالب الفلسطينيون في إسرائيل بأن تكون إسرائيل دولة جميع مواطنيها، إذ إنهم يرفضون الطبيعة اليهودية- الصهيونية التي تستبعدهم من المشاركة الفعالة في الحياة العامة. ويطالبون “بأن يُعترف بهم كأقلية قومية، ويطالبون بإدارة ذاتية مؤسسية، وبالسيطرة على نظامهم التعليمي المنفصل، وأوقافهم ومحاكمهم الدينية، ومحطات الإذاعة والتليفزيون. ويريدون أن يؤسسوا جامعة ناطقة بالعربية، تعبر عن احتياجاتهم ومصالحهم. كما يطالبون باعتراف رسمي بمؤسساتهم التمثيلية مثل الرابطة القومية للمجالس المحلية العربية، ولجنة المتابعة العليا، والاتحاد القومي للطلاب العرب. وهم معنيون جدا بحكم ذاتي أكبر، وسيطرة على مصيرهم. ويطالبون بإدارة ذاتية شخصية أو ثقافية أو مؤسسية وليست إدارة إقليمية”.(89)

أما اليهود الإسرائيليون فتختلف مواقفهم من هذه المسألة، ويتفق القليل منهم من قوى أقصي اليسار العلماني مع الرؤية العربية التي تساوي بين المواطنين في إسرائيل، وتدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، في حين لا تري غالبية القوى السياسية الإسرائيلية تعارضا بين أن يكون طابع الدولة يهوديا، وديموقراطيا في الوقت نفسه. ويدعو المتطرفون منهم إلى التخلص نهائيا من العرب في إسرائيل.

التسوية:

أبرزت برامج الأحزاب والحركات العربية التي شاركت في الانتخابات الأخيرة مواقف هذه الأحزاب من قضايا تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، واتفقت جميعها على المطالبة بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة عام 1967، والاعتراف بالحق القومي الكامل للشعب الفلسطيني في هذه الأراضي، وتفكيك المستوطنات المقامة في هذه المناطق بما فيها القدس الشرقية، وحل قضايا اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة، وإلغاء الاتفاقات الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة، وإحباط المشروع الأمريكي- الإسرائيلي بشأن إقامة محاور عسكرية في الشرق الأوسط، ونزع أسلحة الدمار الشامل، وانضمام إسرائيل إلى الميثاق الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية.(90)

وفي الوقت الذي يؤكد فيه الفلسطينيون في إسرائيل ارتباطهم بإخوانهم في الأراضي المحتلة سنة 1967،  فإن البعض من اليهود الإسرائيليين يدينون هذا التوجه، ويدعون إلى فرض قيود على تصويت العرب الإسرائيليين في الكنيست فيما يتعلق بعملية التسوية والعلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين، على اعتبار أن ذلك شأن يهودي خاص، لا ينبغي للعرب أن يتدخلوا فيه! ويطرح هذه الدعوة أساسا الأحزاب الدينية، ويؤيدها 70% من الحريديم، ويعارضها 24% منهم، كما يعارض هذه الدعوة 27% فقط من المتدينين الصهيونيين.(91) وقد برز هذا الاتجاه مع محاولة بنيامين نتانياهو عرقلة الانسحاب من 13% من أراضي الضفة الغربية، من خلال اقتراحه إجراء استفتاء على ذلك، حيث حرص الليكود والأحزاب اليمينية على استثناء العرب في إسرائيل من المشاركة في الاستفتاء، وأوضح استطلاع للرأي أن 50% من اليهود في إسرائيل يرون أن العرب لا يجب أن يشاركوا في الاستفتاء. وعارض حزب ميرتس هذا التوجه، وأعلن زعيمه يوسي ساريد أنه على الرغم من اعتقاده بأن الاستفتاء لن يتم، فإن حزبه لن يسمح بأن يستثنى العرب منه، “فهم شركاء في الدولة، ويحق لهم أن يأخذوا دورهم بمساواة تامة”. كما أيد المساواة بين العرب واليهود في هذا الشأن وزير القضاء تساحي هنجبي، وقال: “لن نسمح بالتمييز ضد المواطنين العرب. إن لهم كامل الحق للمشاركة في الاستفتاء”.(92)

إدارة الصراع العربي- اليهودي:

يبرز رصد تطورات الصراع العربي- اليهودي في إسرائيل التطورات التالية:

العنف:

– وزعت “الجبهة الأيديولوجية” في ذكرى اغتيال كاهانا زعيم حزب كاخ المحظور، ملصقات ضد العرب، وجاء في بعضها: “لمناسبة ذكرى مقتل كاهانا نذكر بأن العدو العربي سرطان في جسمنا، ويجب على العرب أن يرحلوا”.(93)

-تعرضت ثلاث طالبات عربيات يدرسن في جامعة القدس من تحرشات واستفزازات متكررة من قبل المستوطنين اليمينيين في القدس الغربية، حيث استأجرن منزلا لعدم وجود أماكن في مساكن الطالبات، لدفعهن إلى مغادرة المدينة، وقد جرت محاولة إحراق البيت الذي يسكنَّ فيه أكثر من مرة، وعلى أثر ذلك أصدرت بلديتا الناصرة وطمرة بيانا إلى الرأي العام، تشكوان فيه سياسة التمييز العنصري التي تنتهجها إسرائيل ضد المواطنين العرب، وتحثان السلطات على حماية الطالبات وليس ترحيلهن، والقبض على الإرهابيين. وجاء في البيان: “لو كانوا عربا اعتدوا على يهود، لكانت الشرطة قبضت عليهم، وأنهت محاكمتهم، وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية والوزراء هرعوا إلى مكان الحادث متضامنين”. ومن جانبه، أعلن رئيس لجنة المتابعة إبراهيم نمر حسن أنه سيدعو اللجنة إلى اجتماع خاص لتدارس هذا الأمر واتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهته.(94)

– شكا نواب الكنيست العرب من تلقيهم رسائل تهديدات بالقتل موقعة باسم “جبهة من أجل أرض يهودية فقط”، واتهم عبد الوهاب دراوشة زعيم الحزب الديمقراطي العربي الحكومة والكنيست بالعنصرية لتجاهلهما التهديدات وعدم اتخاذهما أية خطوات لحمايتهم. وقال: “لقد سلمنا نسخا من الرسائل والمعلومات عن الاتصالات الهاتفية إلى أمن الكنيست وإلى الجهات المختصة، غير أنهم لم يحركوا ساكنا، ولم يتخذوا أي إجراء لكشف الفاعلين وتوفير الحماية لنا”. ومن جانبه، قال عبد المالك دهامشة عضو الكنيست عن الحركة الإسلامية: “لقد عقد الكنيست جلسة خاصة للبحث في المسألة عندما تعرض عضو ينتمي إلى اليمين المتطرف [بني إيلون من حزب موليدت] الذي يطالب بترحيل الفلسطينيين، أما بما يخصنا، فلم يكلف أحد من المسئولين خاطره بالاتصال بنا”.(95)

-في أبريل 1998 هدمت الشرطة الإسرائيلية ثلاثة منازل عربية في مدينة “أم السحالي” في إطار خطة لهدم 12 ألف منزل عربي، وتحويل المنطقة إلى مستوطنات يهودية. وقد حاول العرب إعادة بناء البيوت المهدومة، “رغم أنف السلطات” وبدءوا البناء فعلا في نفس اليوم. وعلى أثر ذلك هاجم 700 من أفراد الشرطة وحرس الحدود والاستخبارات وطوقوا الأهالي، وشرعوا في هدم المنازل، وفي المقابل تجمع مئات من العرب، وهاجموا الشرطة بالعصي والحجارة، وردت الشرطة بالغاز والرصاص المطاطي، ثم الرصاص الحي. وفور انتشار الخبر انتقلت جماهير من مدينة الناصرة المجاورة، بقيادة رئيس بلدتها رامز جرايسي، وطوقت قوات الشرطة، التي انسحبت في نهاية الأمر. وجرح في المواجهات 40 شخصا منهم 28 من الشرطة الإسرائيلية، وكان بين الجرحى عضوا الكنيست العربيان أحمد سعد من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وعبد المالك دهامشة من الحركة الإسلامية. وعلى أثر ذلك اجتمعت “لجنة المتابعة العليا لشئون المواطنين العرب في إسرائيل” وأعلنت إضرابا في اليوم التالي، تسير فيه المظاهرات إلى مدينة “أم السحالي”. كما قررت القيادات الوطنية العربية إعادة بناء البيوت رغم أنف السلطات. وقد دفع حجم العنف المستخدم بوزير السياحة الإسرائيلي المسئول عن ملف العرب في إسرائيل في الحكومة إلى القول: “ما كان يجب هدم البيوت، والعنف المستخدم كان زائدا”.(96) كما قال رئيس الدولة عزرا فايتسمان إنه لا يقبل رد الفعل العنيف من المواطنين العرب، إلا أنه يتفهمه جيدا. وأضاف أنه سبق وحذر من انفجار بين العرب، واتصل برئيس الوزراء بنيامين نتانياهو طالبا منه وضع قضايا العرب في إسرائيل ومعاناتهم من التمييز ومصادرة الأراضي على رأس سلم اهتماماته.(97)

– هدد عدد من الجنود البدو من عرب 1948 باستعمال أسلحتهم ضد الشرطة الإسرائيلية إذا تكررت اعتداءاتها على أهلهم ونسائهم كما حدث في “أم السحالي”، وشارك هؤلاء في إعادة بناء البيوت المهدومة. ومن جانبه أعلن إبراهيم نمر حسن رئيس لجنة المتابعة أن رد الجماهير العربية على الاعتداء كان درسا للشرطة، وقال: “سنرد بانتفاضة على كل محاولة أخرى للهدم”.(98)

الأدوات السياسية:

الكنيست:

– تقدم النائب ميخائيل كلاينر زعيم مجموعة “أرض إسرائيل” في الكنيست باقتراح قانون يقضي بعدم اعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية الثانية بعد العبرية في إسرائيل. وقال: إن على إسرائيل أن تتبنى رموزا يهودية بالكامل، وأن تفرض اللغة العبرية كلغة رسمية وحيدة في البلاد. و”إن إسرائيل لا يمكن أن تتحول في أي حال من الأحوال إلى دولة بقوميتين”.(99)

-تقدم طلب الصانع النائب العربي عن اللائحة العربية الموحدة بمشروع قانون يقضي بتغيير علم إسرائيل ونشيدها، بما يتلاءم مع الهوية العربية، واقترح أن يضم العلم الإسرائيلي الصليب والهلال ونجمة داود. وقد رفض الاقتراح بأغلبية 57 صوتا.(100)

لجنة المتابعة والبلديات العربية:

-قررت لجنة المتابعة العربية مقاطعة المنتجات المصنعة في المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة في 1967. وقال رئيس اللجنة: “قرارنا (جاء) نتيجة التعنت (الإسرائيلي) وعدم الاستعداد للمضي قدما في عملية السلام، من أجل تحقيق سلام عادل وشامل لأشقائنا الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي”.(101)

– التقى عدد من رؤساء البلديات العرب واليهود في حيفا في نهاية ديسمبر 1997، في إطار الاحتفالات بحلول رمضان، وعيد الميلاد، وعيد الأنوار (اليهودي) وهي مناسبات تشهد مهرجانات وبرامج ثقافية وفنية عربية ويهودية، وتزامن ذلك مع التحضير للانتخابات البلدية. وقد تناقش الحاضرون في كيفية مواجهة النزعة العنصرية لليمين الإسرائيلي وتحقيق التعايش السلمي بين العرب واليهود في إسرائيل. وقد لوحظ اقتصار الحضور على 8 رؤساء بلديات من أصل 159 في إسرائيل، منهم 3 يهود و5 عرب.(102)

رابعا، الصراع اليميني- اليساري

خلفية عامة:

يمكن تحديد أطراف الصراع اليميني اليساري في معسكرين يضمان، من ناحية، الليكود الذي يقع في يمين الوسط واليمين، وفاز مرشحه بنيامين نتانياهو في 1996 بالأغلبية كرئيس للوزراء بفارق 0.9% من الأصوات (50.4% لنتانياهو مقابل 49.5% لبيريز)، وأحزاب أقصى اليمين التي تضم الأحزاب الدينية (23 مقعدا)، وبعض الأحزاب العلمانية الصغيرة مثل جيشر وتسوميت (انضمتا إلى قائمة الليكود في انتخابات 1996 التي حصلت مجتمعة على 32 مقعدا في الكنيست كان لليكود 22 مقعدا منها فقط ولتسوميت خمسة ولجيشر خمسة) وموليدت، وقد حصل على مقعدين في الكنيست في 1996 ليصبح عدد المقاعد التي حصل عليها اليمين العلماني 34 مقعدا، واليمين بشقيه العلماني والديني 57 مقعدا. ومن الناحية الأخرى حزب العمل الذي يشغل يسار الوسط واليسار وقد حصل على 34 مقعدا في انتخابات 1996، وأحزاب أقصى اليسار التي تشمل ميرتس (9 مقاعد) والأحزاب العربية (9مقاعد)، ليصبح مجموع مقاعد اليسار في الكنيست الأخيرة 52 مقعدا.(103)

ويلاحظ التلازم بين اليمين العلماني واليمين الديني في المرحلة الراهنة، حيث أبرز استطلاع للرأي أن جميع الحريديم يصنفون أنفسهم كيمينيين، وكذلك الحال بالنسبة إلى 81% من المتدينين، وحوالي 50% من التقليديين، و20% من العلمانيين.(104) كما أبرزت نتائج انتخابات رئاسة الوزراء هذا التلازم، إذ قدر أن نتانياهو حصل على 5% فقط من أصوات غير اليهود، وثلث أصوات الناخبين العلمانيين، وثلثي أصوات اليهود التقليديين، ونحو 90% من أصوات اليهود المتدينين، و95% من أصوات الناخبين الحريديم.(105)

كما أبرزت نتائج الانتخابات ذاتها التلازم بين اليمين والطبقات الفقيرة المتدينة، وبين اليسار والطبقات الغنية العلمانية. ومن بين ثمان وثمانين مدينة وبلدة في إسرائيل، فاز شيمون بيريز في الانتخابات الأخيرة بأغلبية فقط في خمس وعشرين منها، هي بالذات المناطق التي تسكنها مجتمعات ثرية لا دينية، وفاز بنيامين نتانياهو بالأغلبية في المناطق الأخرى، الأقل ثراء والفقيرة، والأكثر تدينا، وذات الطابع الشرقي. وكان متوسط ما حصل عليه بيرس من الأصوات في البلدات الأربع الأعلى طبقيا شمالي تل أبيب 73% في حين لم يتجاوز نصيبه من الأصوات في البلدات الأربع الأدنى طبقيا جنوبي تل أبيب 19%. حيث تخوف كثير من اليهود الشرقيين الذين يشكلون معظم سكان المناطق الفقيرة من توجه بيريز الشرق أوسطي، الذي اعتبروه في صالح النخب الاقتصادية الأشكينازية.(106)

وقد أفاد الليكود من التحالف مع اليمين الديني من الناحية المؤسسية التي عانى فيها من ضعف نسبي مزمن بالمقارنة بحزب العمل، حيث وجهت القوى الدينية تنظيماتها الفعالة لدعم نتانياهو، واعتبر ذلك رصيدا إضافيا له ولليكود في مواجهة اليسار،(107) وإن كان قد ربط مصير الليكود العلماني بإرادة القوى الدينية، مسببا مزيدا من التناقضات لليكود.

قضايا الصراع اليميني- اليساري:

الهوية:

اليمين الديني:

يؤمن اليمين المتدين بضرورة فرض الطبيعة الدينية على الدولة الإسرائيلية، وهي هوية إثنية دينية كما سبق توضيحه.

اليمين العلماني:

يؤيد اليمين العلماني الطبيعة اليهودية العلمانية للدولة التي تستمد موجهاتها من الأيديولوجية الصهيونية المراجِعة التي ينحدر منها الليكود. وقد شكا زعيم الحزب بنيامين نتانياهو من تدهور التمسك بالصهيونية لدى قطاع كبير من الإسرائيليين، ودعا في أكثر من مناسبة إلى إحياء هذه الأيديولوجية، ومن ذلك قوله: “إن الصهيونية لم تمت، على الرغم من أنهم في دوائر معينة وضعوها بين قوسين. لدينا شباب رائع مستعد للتجند للمهمات القومية، ونحن سنشجع هذه الروح: الاستيطان الطلائعي في أرض إسرائيل: في النقب والجليل، في يهودا والسامرة، في غزة والجولان. إن المستوطنين هم الطلائعيون الحقيقيون في أيامنا. وهم لذلك يستحقون كل دعم وتقدير. لكن، أولا وقبل كل شيء، سنحافظ على ونعزز القدس، عاصمة إسرائيل الأبدي، كمدينة موحدة وكاملة تحت سيادة إسرائيل”.(108)

وفي أثناء تصاعد الصراع بين يهود إسرائيل ويهود الولايات المتحدة حول تعريف اليهودي، قال نتانياهو: “..إن النضال ضد الاندماج والاغتراب أهم كثيرا من أن تحرفه عن مساره المشاحنات الداخلية بشأن شرعية التحول إلى اليهودية. إن طاقاتنا ستصرف بصورة أفضل كثيرا إذا ما ركزنا على التعليم اليهودي وعلى ترسيخ القيم والتقاليد اليهودية في نفوس صغارنا. أنا أؤمن بأنه ينبغي لنا ألا ننظر أبدا إلى الروابط بين إسرائيل والشتات على أنها ليست أمرا حيويا، كما ليس في وسعنا أن ندع أي شيء يفك هذه الروابط. فهي تمنح الشعب اليهودي القوة في الحاضر والثقة في المستقبل. لكننا ونحن نسجل مرور مائة عام على الصهيونية الحديثة، وندخل العام الخمسين على إقامة إسرائيل، علينا ألا ندع هدف الصهيونية يغيب عن أعيننا: جمع الشعب اليهودي داخل الدولة اليهودية..”.(109)

اليسار اليهودي:

يميل اليسار اليهودي إلى تكريس هوية يهودية إثنية علمانية شأنه شأن اليمين العلماني، ولكنه يضفي عليها طابعا ليبراليا ينحو إلى الاندماج والتكيف إقليميا وعالميا، بدلا من الانغلاق والانعزالية اللذين يميزان الهوية اليمينية بشقيها الديني والعلماني. وقد اتُهم حزب العمل وقيادته السابقة بتهديد الطبيعة اليهودية للدولة بسبب ارتباطهما بحزب ميرتس والأحزاب العربية. وكان ذلك سببا هاما لتحول قسم كبير من اليهود التقليديين  (الأرثوذكس) إلى الأحزاب الدينية رغم ضعف التزامهم الديني، وتصويتهم لصالح نتانياهو في انتخابات رئاسة الوزراء.

 

اليسار العربي:

يدعو اليسار العربي في إسرائيل إلى تبني هوية إسرائيلية ليبرالية، لا يهودية ولا صهيونية، ويرى عزمي بشارة مثلا، أن الصهيونية العلمانية أنهت مهمتها بإقامة دولة إسرائيل، وإيجاد قومية عبرية في فلسطين، وأن استمرار الصهيونية والتمسك بالطبيعة اليهودية يهددان بسيطرة الأصولية- القومية المتمثلة في تصهين الأصولية وتدين اليمين العلماني، التي ستكسب المعركة، وتقضي على كل السمات الليبرالية للهوية الإسرائيلية التي نجحت الصهيونية العلمانية في تحقيقها.(110) وبذلك يلتقي مع تيار ما بعد الصهيونية الذي يشكك في إمكان اجتماع اليهودية والديمقراطية كهوية للدولة، ويدعو إلى بناء هوية الدولة على أسس مستمدة من القيم العالمية ما بعد الحداثية، القائمة على الفردية وحقوق الإنسان.

التسوية:

تتفاوت مواقف الأطراف الإسرائيلية من التسوية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:

اليمين الديني:

تتفاوت مواقف المتدينين في إسرائيل من التسوية، حيث يؤمن التيار السائد منهم بفكرة الحق الإلهي لليهود في كامل فلسطين. ويعتبر أمور الاحتلال والاستيطان من الواجبات الدينية المقدسة. ولذا يلاحظ إسهام أنصار هذه الاتجاهات الدينية بفاعلية في الاستيطان في الأراضي العربية، وإن كانت ليست الوحيدة في هذا المجال حيث يقوم بمختلف هذه الأنشطة التيار العلماني بما في ذلك اليسار الصهيوني. وفي المقابل، يميل فريق من المتدينين إلى توجيه جل طاقاته إلى الشئون الدينية المحضة، ولا يمانع من انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي المحتلة، من منطلق الحفاظ على الحياة، وقد تكونت على هذا الأساس حركتا سلام دينيتان هما “القوة والسلام” و”سبل السلام” وكونتا جبهة في مواجهة الحركات الدينية المتطرفة، وإن كان نفوذها محدودا مثل بقية حركات السلام العلمانية في إسرائيل.(111)

اليمين العلماني (الصهيونيون الجدد):

يتكون الصهيونيون الجدد من اليمين العلماني ممثلا في موليدت، وتسوميت، ويمين الليكود، ويؤمنون بفكرة الحق التاريخي (وليس الديني) لليهود في كل فلسطين، وقد رفض أنصار هذا التيار وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو اتفاقية أوسلو، وإعادة الانتشار في الضفة الغربية وقطاع غزة، وشكك نتانياهو في أهمية التعاون الإقليمي مع العالم العربي والمنافع الاقتصادية لعملية التسوية.

ومع ذلك يلاحظ التراجع المضطرد في مواقف نتانياهو على المستوى العملي فيما يخص تطبيقات اتفاقية أوسلو، والعلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية، إذ عارض تلك الاتفاقية لأسباب أمنية، إلا أنه قد اعترف بها قبيل انتخابات 1996، مبررا ذلك الاعتراف بأسباب أمنية أيضا تلخصت في تقليص المخاطر المترتبة عليها، وبعد أن عارض إعادة الانتشار الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، وقع اتفاق الخليل ثم مذكرة “واي ريفر” التي تنظم عملية إعادة الانتشار الثانية، ونفذ بالفعل جزءا منها. وبعد الرفض التام لفكرة الدولة الفلسطينية، أعلن نتانياهو استعداده لقبول دولة فلسطينية على غرار دولة إندورا، ثم أصبحت مسألة قبول الدولة الفلسطينية تتكرر على لسانه وعلى ألسنة قادة الليكود المتشددين مثل شارون، وأصبح الخلاف لا يدور حول المبدأ، ولكن صلاحيات هذه الدولة، وموعد إعلان قيامها، وألا يكون ذلك إجراء أحادي الجانب. وعلى هذا الأساس أصبح كثير من الإسرائيليين يتساءلون عن الفارق بين الليكود والعمل في هذا المجال، وأصبحوا يسخرون من التفسير الجاهز الذي يبرر به نتانياهو امتثاله لمتطلبات عملية التسوية في كل مرة، وهو أن “العمل كان سيعطي أكثر”!(112)

وإذا كانت هذه التطورات تعكس تراجع نتانياهو عن مواقفه الجامدة فيما يخص التسوية مع الفلسطينيين، وغلبة الطبيعة البراجماتية والرغبة في الاحتفاظ بالسلطة على الموجهات الأيديولوجية التي يعلن عن تبنيها،  فقد استمر في موقفه من التسوية الإقليمية والتعاون مع العالم العربي، حيث قال في يونيو 1998: إن “العلاقات مع العالم العربي ستعود بفوائد هامشية. فهناك فوارق جوهرية بيننا وبين العرب من حيث النهج والطباع والتطور، ليس سرا أنهم متأخرون عنا كثيرا. الثورة الليبرالية، الديمقراطية، العولمة قفزت عن الدول العربية ولم تترك فيها أثرا، وأبقتها في غياهب المحافظة والانغلاق وانعدام الحرية. ومعروف أن مفتاح بوابة الدخول إلى القرن الحادي والعشرين هو الحرية والحرية والحرية. ونحن في إسرائيل اهتدينا إلى هذا المفتاح منذ سنين طويلة. وليس صدفة أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتبر اليوم من الأنجح في العالم، ويندرج في المكانة 24 بين الدول المتقدمة. فنحن في المرتبة الثانية في العالم، بعد الولايات المتحدة، من حيث معاهد الأبحاث والعلوم والإعلام. وفي المرتبة الثانية بعد ألمانيا في كثرة المهندسين بالقياس إلى عدد السكان. ونحن في المرتبة الرابعة بعد اليابان والولايات المتحدة وفنلندا من حيث استيعاب التطورات التكنولوجية. وخلال 12 عاما سنصبح بين الدول العشر الأكثر ثراء في الخبرات التكنولوجية وفي نسبة الدخل القومي. ولكن من أجل الوصول لذلك، فإن مصيرنا غير مرهون بالعالم العربي، بل بتعميق العلاقات مع أوربا وتطوير العلاقات وتوسيعها مع دول شرق آسيا”.(113)

ويعكس هذا التصور التوجه الاقتصادي المحافظ الذي يتبناه الليكود، مغفلا التطورات الاجتماعية والسياسية التي تمزق المجتمع الإسرائيلي، وتهدد بفقدان هذه المزايا، كما يعكس اتجاها لإيلاء قضية الهوية الأولوية على عملية التسوية.

 

اليسار التقليدي:

اعتبرت الصهيونية العمالية أن لليهود حقا تاريخيا في فلسطين، واعتمدت على التوراة كمستند لتأكيد هذا الحق، في مواجهة معارضة أصحاب الأرض الشرعيين لاغتصاب فلسطين. ثم عدلت موقفها من خلال قبول قرار تقسيم فلسطين، مدعية بذلك وجود حقين تاريخيين لليهود والعرب في فلسطين، وفقا لمبدأ “العدالة التقسيمية”. وظلت تعتنق هذا المبدأ لتبرير الوجود الإسرائيلي، حتى 1967 عندما استكملت إسرائيل بقيادة حزب العمل احتلال كل فلسطين. ومنذئذ اعتنقت أوساط واسعة من اليسار أيضا فكرة الحق التاريخي لليهود في كامل فلسطين.(114)

وإذا كان رابين قد أعلن أن لليهود الحق في الأراضي المحتلة في 1967 التي سكنوها وامتلكوها، فقد تبعه باراك في الادعاء بأن لليهود الحق الكامل في كل فلسطين، ولكنه مستعد للتنازل عن تطبيق هذا الحق من أجل التوصل إلى تسوية مع الشعب الفلسطيني، تقوم على الفصل بين “الشعبين” الفلسطيني واليهودي، وذلك لنفس الاعتبارات التي استند إليها سلفه إسحق رابين، وهي الحفاظ على الهوية اليهودية لإسرائيل وتفادي تحولها إلى دولة ثنائية القومية، ووضع نهاية “للإرهاب الفلسطيني”، وتسهيل المفاوضات مع العالم العربي. كما أعلن باراك مثل رابين أيضا، التمسك بالسيادة الإسرائيلية على معظم المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة. وإجمالا، أكد باراك ثوابت سياسته وسياسة حزب العمل بقوله: هناك خطوط حمراء لا يمكن أن نسمح بتجاوزها، في أي حال من الأحوال، هي أن معظم المستوطنات اليهودية ومستوطنيها سيبقون في مكانهم إلى الأبد، وفقط تحت السيادة الإسرائيلية، مثلما سيبقى أهل رام الله الفلسطينيون فيها إلى الأبد، تحت السيادة الفلسطينية. وكذلك الأمر، لا تنازل عن القدس وعن مكانتها مدينة موحدة وعاصمة لدولة إسرائيل، ولا يمكن العودة إلى حدود 1967 بأي حال من الأحوال، ولا مكان لجيش آخر غربي نهر الأردن.(115)

اليسار الوظيفي:

يمثل هذا التيار شيمون بيريز وبعض قيادات حزب العمل مثل يوسي بيلين، ويعمل على تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي من خلال مجموعة من الترتيبات الإقليمية تهدف في النهاية إلى اندماج إسرائيل في محيطها الإقليمي. وقد ركز بيريز على فكرة الفساد الذي يجلبه الاحتلال للدولة القائمة بالاحتلال، في ظل فهم علاقة الأرض بالسكان، حيث ينتقل العنف مع الوقت إلى داخل الدولة القائمة بالاحتلال نتيجة تعود أبنائها على ممارسته لقمع الخاضعين للاحتلال، كما أبرز تكاليف الاحتلال المادية التي تهدر في صراع لن يحسم لصالح أي من الطرفين،  بعد أن أثبتت جولات الصراع العربي- الإسرائيلي عقم الانتصار، وجلبت على إسرائيل مشكلات أمنية أكبر نتيجة انتصارها الساحق في 1967. ولذا، ومن أجل أن تصبح إسرائيل دولة ديمقراطية، ومقبولة من الفلسطينيين والعالم العربي، عرض الانسحاب من الأراضي المحتلة، وتعويض العالم العربي والفلسطينيين عن الاحتلال بإقامة تكتل اقتصادي شرق أوسطي، تقدم فيه إسرائيل إلى العالم العربي العقل اليهودي، والتكنولوجيا، والتأثير الغربي. وهو طرح يتجاهل الطبيعة اليهودية، ويهدف إلى التماثل مع نمط الحياة الغربي، ولذا رفضه معظم اليهود، واعتبروه تهديدا لإسرائيل.(116)

وعلى العكس من تصور نتانياهو للعلاقات مع العالم العربي، يرى بيريز أن إسرائيل لا تستطيع أن تبني مستقبلها على أساس العداء المتواصل مع من حولها. ويرى أن السلام هو مفتاح الدخول إلى القرن الحادي والعشرين، ويقول: “بسبب غياب السلام والجمود المتواصل في عملية السلام، نواجه أخطار انفجار مدمر. وحتى على الصعيد الاقتصادي، نشعر بآثار الجمود، وذلك بالركود الاقتصادي البارز، وانتشار البطالة، ومضاعفة عدد العاطلين عن العمل خلال سنتين (8.6%) وبتدهور فرع السياحة، وبتراجع الاستثمارات الأجنبية بنسبة 77% (خلال سنة إذ بلغت 1.3 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من سنة 1997 وأصبحت 300 مليون دولار في الفترة نفسها من عام 1998). ويرى بيريز أن تقدم عملية السلام بحد ذاتها سيوقف التدهور في الاقتصاد. ويقول: “عندئذ تفتح أمامنا أسواق العالم كله، بما في ذلك العالم العربي..”.(117)

اليساريون الجدد:

يتكون اليساريون الجدد من أنصار ميرتس ويسار حزب العمل من القيادات الشابة التي كانت القوة الدافعة لعملية التسوية واعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد أبرزوا مفاسد الاحتلال من الناحية القيمية على الدولة القائمة بالاحتلال. وبدون الحديث عن حق يهودي في فلسطين، رفعوا راية الدفاع عن حقوق الإنسان في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967، ودعوا إلى انسحاب إسرائيل من هذه الأراضي طالما أنها ليست مستعدة لتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان عليها، وذلك للحفاظ على القيم الليبرالية “الإسرائيلية”، وأبدوا استعدادهم لقبول قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.(118) وينتمي كثير من أعضاء حركات السلام العلمانية إلى هذا الاتجاه.

اليسار العربي:

يؤكد اليسار العربي الحق العربي الكامل في كل فلسطين، مع الاستعداد لقبول اليهود الإسرائيليين كقومية تشكلت مع الوقت في فلسطين، والاعتراف لها- وليس للشعب اليهودي كما تدعي الصهيونية- بحق تقرير المصير، وتكوين دولتين لشعبين كحل مؤقت، من خلال إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 كحل وسط لا يمكن التنازل عنه، والتوقف عن فرض الطبيعة اليهودية والصهيونية على الدولة الإسرائيلية، وإلغاء قانون العودة، وفي المقابل، التزام إسرائيل بتطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين. أما الحل الدائم فيقوم على الحفاظ على وحدة فلسطين، في إطار ديمقراطي ثنائي القومية، يمكن أن يتخذ أية صياغة ممكنة للتعبير عن التمايز القومي بين المجموعتين العربية واليهودية.(119)

إدارة الصراع اليميني- اليساري:

الفتاوى:

ينفرد بهذه الوسيلة من وسائل إدارة الصراع، اليمين الديني. وقد أصدر بعض الحاخامات فتاوى تحرض الجنود الإسرائيليين على عدم طاعة أوامر قادتهم فيما يتعلق بإخلاء المستوطنات أو الانسحاب من أراض فلسطينية، باعتبارها حسب زعمهم جزءا من أرض إسرائيل المقدسة. الأمر الذي أزعج كثيرا من المجتمع العلماني، واعتبروا ذلك بمثابة انقلاب ديني يتم من داخل الجيش.(120) وقد تكررت هذه الفتاوى عدة مرات منها فتوى حاخام مستوطنة كريات أربع إسحق ليئور الذي يشرف على عدد من المدارس العسكرية الدينية،  التي دعا فيها الجنود والضباط المتدينين إلى استخدام العنف ضد زملائهم فيما لو شرعوا في تنفيذ عمليات تتعارض مع تعاليم الشريعة. وجاء فيها: “إنه لو سلك الجيش طريقا وهو يقصد إجلاء اليهود من مستوطنة ما في أرض إسرائيل، فعلينا منعه ولو زرعنا هذه الطريق بالمتفجرات”. وقد اعتمد يجئال عمير على هذه الفتوى في اغتيال رابين.(121) وكان آخرها في أعقاب التوصل إلى مذكرة “واي”، حيث نشر بعض حاخامات مجلس كبار حكماء التوراة الخاص بحزب أجودات يسرائيل بيانا دعوا فيه إلى يوم صوم وصلاة في ساحة البراق، احتجاجا على انسحاب إسرائيل من أجزاء من “أرض إسرائيل” التي تمتد حسب زعمهم من النيل إلى الفرات. وجاء في البيان إن “الجزع يملأ قلوبهم إزاء المؤامرة الرامية إلى تمزيق أرض الميعاد المقدسة التي أورثها الله لليهود.. وتسليمها إلى أيدي غرباء يكرهون إسرائيل”.(122)

العنف:

– هدد مجهولون من اليسار الإسرائيلي في ذكرى اغتيال رابين، نائب حزب موليدت بنيامين ايلون بالقتل، وجاء في رسالة إليه مرفقة بغلاف رصاصة: “لقد قتلتم رابين أيها المتوحشون. قتلتم الأمل والسلام. سنصفيكم”. وفي المناسبة ذاتها، اتهم اليسار حزب الليكود بشن حملة عداء أفضت إلى اغتيال رابين.(123)

التحريض:

– في احتفال مشترك بميلاد كل من نتانياهو والحاخام كدوري من شاس، صرخ نتانياهو في أذن كدوري الذي يعاني ضعف السمع: “إن اليسار في إسرائيل نسي كيف تكون اليهودية. إنهم يريدون أن يعطوا أمننا بأيدي العرب. يريدون تسليم أرض إسرائيل للعرب، ويعتمدون على العرب في الدفاع عن أمننا نحن اليهود. هل هؤلاء يهود؟ ..”، مغفلا ميكروفون الإذاعة التي كانت تبث وقائع الاحتفال. وعلى أثر ذلك توجه مختلف القوى السياسية بالاتهام لنتانياهو لطعنه في يهودية اليساريين، وتمزيقه “الشعب الإسرائيلي”.  وطالب الحاخام يسرائيل لاو نتانياهو بالاعتذار لليسار والتوقف عن إطلاق الكلام الذي يؤدي إلى التفسخ. وقال أحد وزراء الليكود: “إنه (نتانياهو) كالعادة يورطنا كل يوم من جديد. يوجه ضرباته للخصوم بلا حذر فترتد إلى نحره ونحرنا. وكما في كل فضيحة جديدة، علينا أن ندافع عنه ونصلح ما يخربه”.(124)

وقال وزير الصناعة ناتان شارانسكي، زعيم حزب يسرائيل بعالياه: “لا يمكن أن نحدد من هو اليهودي، أو على الأقل اليهودي الجيد، بناء على معايير سياسية. أتوقع من أي قائد أن يوحد الشعب لا أن يقسمه”.(125)

أما معسكر اليسار، فقد شدد من هجومه على نتانياهو، وقال باراك زعيم حزب العمل: “حتى ناخبي نتانياهو يدركون أنه يشغل منصبا أكبر منه بثلاث مرات، وأنه يجب أن نفعل شيئا”. وتقدم نائب العمل في الكنيست أوفير بنيس بشكوى للشرطة ضد نتانياهو على اعتبار أن تصريحاته “استفزاز لقسم كبير من الإسرائيليين”. وقال زعيم ميرتس يوسي ساريد: “إن نتانياهو نسي معنى أن يكون رجلا ورئيسا للوزراء”. وقرر حزبه (ميرتس) التقدم بمذكرة في الدورة البرلمانية الجديدة لسحب الثقة عن الحكومة. وبدأت مجموعة من نشطاء اليسار مسيرة ثلاثة أيام مشيا من تل أبيب إلى بيت نتانياهو في القدس احتجاجا على هذا التحريض. (126)

– في الاحتفال بمرور سنتين على اغتيال رابين، تظاهر مائتا ألف إسرائيلي في تل أبيب، ورفع المتظاهرون لافتات تحمل عبارات مثل: “أنقذوا السلام”، و”لن ننسى”. وحمل بارك الليكود واليمين الإسرائيلي مسئولية التحريض الذي انتهى باغتيال رابين، وقال: “لن ننسى رابين ولا المحرضين ضد هؤلاء. لن ننسى حاملي النعش ولا اللافتات المناوئة له”. ومن جانبه، قال يوسي ساريد زعيم ميرتس: “نحن لا نطالب نتانياهو بتقديم الاعتذار، بل بالاستقالة، ولن نرضى حتى يتم ذلك”. وفي المقابل اتهمت الناطقة باسم الليكود باراك باستغلال المناسبة لأغراضه الشخصية ولتعزيز مكانته الانتخابية”.(127)

– دعت حركة “كتلة السلام” الإسرائيلية في سبتمبر 1997 إلى مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحذرت الجمهور الإسرائيلي من أن المستوطنين والمتطرفين يجرون إسرائيل إلى حرب قادمة. وجاء في بيان للكتلة “لا تساعدوهم على هدم الدولة (إسرائيل)، لا تساعدوهم على إشعال الحرب القادمة. لقد دلت فضيحة رأس العمود مرة أخرى وبشكل مذهل كيف يمكن لنفر من المتعصبين أن يشعلوا حريقا هائلا. مثل هذا النفر المنتشر على طول البلاد وعرضها يريد أن يفرض علينا نحن الغالبية الكبيرة في الدولة طريق الانتحار القومي المفسود. وأنتم أيها المواطنون الكرام في إسرائيل تستطيعون وضع حد لهم. كل شيكل (العملة الإسرائيلية) تدفعونه لقاء المنتوجات المصنعة لديهم تقوي المستوطنين وقادتهم المتطرفين. كل شيكل تدفعونه لقاء بضائعهم يؤدي إلى جلب مستثمرين إضافيين، وكما تعلمون فإن الحكومة تمنحهم امتيازات كبيرة. فأثبتوا لهم أن هذا الاستثمار غير مربح. برهنوا لهم على أن غالبية الشعب يقف لهم بالمرصاد. قاطعوا منتوجات المستوطنات” وعرضت الحركة تقديم بيان بأسماء المنتجات والمصانع المراد مقاطعتها.(128)

– بدأت “كتلة السلام” إعادة رسم الحدود الإسرائيلية حيث اختارت 18 نقطة على طول الخط الأخضر، لتغرس في كل منها لافتة مكتوبا عليها: “قف! الحدود أمامك”. وقال زعيم الحركة أوري أفنيري: “نحن نعتقد أن الكفاح الأساسي اليوم يتركز حول الخط الأخضر الفاصل بين إسرائيل وفلسطين، فمن جهتنا نرى أن النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية قد أثمر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. غالبية الناس في إسرائيل تقر اليوم بأن الدولة الفلسطينية يجب أن تقوم.

وبالنسبة لنا انتهى النقاش في هذا الموضوع. لذلك نرى أن الدور الأساسي ينحصر في تحديد الأهداف حسب سلم الأفضليات المطلوب. والسؤال لم يعد حول إقامة أو عدم إقامة دولة فلسطين، إنما أين ستكون حدود هذه الدولة. وهل ستكون عبارة عن مجموعة كانتونات كما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، أو موحدة جغرافيا ولكن على رقعة صغيرة كما يريد أريئيل شارون، أو على كل الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة كما نريد نحن. وفي إطار رغبتنا هذه وكفاحنا من أجل الوصول إليها بادرنا إلى هذا الإجراء.”(129)

– على أثر توقيع مذكرة “واي ريفر” شن يمين اليمين حملة تحريض ضد نتانياهو، ووزعت جماعة تسمى “جبهة الأفكار” ملصقات تظهر نتانياهو معتمرا كوفية فلسطينية، وتصفه بالكذاب. وقال أحد نشطاء اليمين: “أكد نتانياهو قبل أسبوعين أو ثلاثة فقط أنه لن يقوم بأي انسحاب آخر، لكنه اليوم يكذب ويفعل هذا. فما الفرق إذن بينه وبين رابين؟”. وعلى أثر ذلك أعلن الحاخام بنيامين إيلون من حزب موليدت أنه يتفهم مشاعر القائمين بالحملة، لكنه استنكر الطبيعة الشخصية للهجمات قائلا: “إنها تبدأ بالكذاب، وتنتهي بأشياء أخرى”، مذكرا بالتحريض الذي انتهى باغتيال رابين.(130)

الكنيست:

منذ تكوين الائتلاف الحكومي لنتانياهو في 1996، تكررت محاولات المعارضة لطرح الثقة بحكومته، لا سيما وأن هذه الحكومة لم تتمتع بأغلبية كبيرة في الكنيست، واستندت فقط إلى تأييد 61 عضوا مقابل 59 للمعارضة. بيد أن قانون الانتخابات الجديد قد عقد من عملية طرح الثقة بالحكومة، إذ اشترط لذلك مع بقاء الكنيست أغلبية الثلثين، في حين أتاح إمكانية إسقاط الحكومة بأغلبية بسيطة مع حل الكنيست والدعوة إلى انتخابات جديدة، وهو الأمر الذي تتخوف منه الأحزاب الصغيرة، ولذا لا تؤيده، ولكنها تحاول استغلال أهميتها في بقاء أحد الحزبين الكبيرين في الحكم من أجل جذبه تجاهها.

وقد نجحت الحكومة الإسرائيلية الحالية في الإفلات من كل محاولات طرح الثقة عنها، وإن كان ذلك قد تم في كثير من الأحيان بفعل أغلبية ضئيلة، الأمر الذي أفقدها مع الوقت شرعيتها الأخلاقية، وقدرتها على العمل، وإن لم تفقد السلطة من الناحية القانونية المجردة.

حكومة الوحدة الوطنية:

يطلق هذا المصطلح على الحكومات التي تتشكل من كلا الحزبين الكبيرين في إسرائيل: العمل والليكود أساسا. وهو خيار طرحته قيادة كل من الحزبين مرارا طوال فترة الحكومة الحالية، ولا سيما بفعل الأغلبية الضئيلة التي تمتع بها الائتلاف الحاكم في الكنيست، وخضوع القيادة الإسرائيلية لابتزازات الأحزاب الصغيرة. وقد لجأ الحزبان أكثر من مرة إلى التلويح بهذا هذا الخيار، من أجل تحقيق مصالح حزبية خاصة، ومن جانبه هدف نتانياهو إلى التخفف من وطأة ضغوط الأحزاب الصغيرة في ائتلافه الحاكم، وكذا إحداث تصدعات في حزب العمل بين مؤيد ومعارض للدخول مع الليكود في مثل هذه الحكومة. أما شيمون بيريز الزعيم السابق لحزب العمل، فقد استهدف من هذا التكتيك الاستمرار في قيادة الحزب بعد سقوطه في انتخابات رئاسة الوزراء في 1996، وشغل منصب وزاري إذا قامت حكومة وحدة بين العمل والليكود. وبعد تولي باراك قيادة الحزب، وظهور شلل الحكومة اليمينية في كثير من المجالات الداخلية والخارجية، اقترح حزب العمل وبعض أعضاء الائتلاف الحاكم تشكيل حكومة وحدة وطنية، دون أن يكون نتانياهو قائدا أوشريكا فيها.(131) ورغم رفض معظم قيادات حزب العمل لهذا الاقتراح، وفشله عمليا، فإنه أظهر مدى تفسخ الائتلاف الحاكم فضلا عن الليكود نفسه.

تقويم الصراع الداخلي في إسرائيل:

عوامل الصراع:

يكشف الاستعراض السابق للتفاعلات الصراعية بين الأطراف الإسرائيلية المختلفة عن فشل النظام السياسي الإسرائيلي في تحقيق التكامل بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، وأن هذا الفشل يرجع إلى عوامل هيكلية إثنية، ودينية، وحضارية، لم تستطع العقود المتتالية من عمر الدولة الإسرائيلية تجاوزها، ولا يبدو أنها مؤهلة لذلك في المرحلة القادمة.

مستوى الاستقطاب:

يكشف رصد التفاعلات الصراعية السابقة عن ميل كل من أطرافها إلى الانغلاق على ذاته، مكونا مجتمعا خاصا داخل “المجتمع الإسرائيلي”، وإن كان غير موحد أيضا، شأن النظام الاجتماعي- السياسي الإسرائيلي كله. ولذا نجد أن هناك مجتمعين إسرائيليين على أساس ديني، ومجتمعين آخرين على أساس إثني، ومجتمعين على أساس اللغة والقومية، ومجتمعين على أساس التوجه الأيديولوجي، وتقييم المرحلة الراهنة وما ينبغي أن يكون في المستقبل. ومع ذلك يلاحظ أن هذا الاستقطاب بين الأطراف الصراعية المختلفة تتفاوت حدته من صراع إلى آخر، ويبدو الصراع العلماني- الديني، والصراع العربي- اليهودي أكثر هذه الصراعات استقطابا، في حين تقل درجة الاستقطاب بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، بسبب ارتفاع فرص الحراك الاجتماعي لليهود الشرقيين، وخاصة في المجالات السياسية، وتقل أكثر بين اليمين واليسار، نظرا إلى ضعف الأيديولوجيا كموجه للسياسة الإسرائيلية في المرحلة الراهنة.

حدة الصراع:

وعلى الرغم من حدة هذه الانقسامات بين المجتمعات الإسرائيلية المذكورة، فإن الصراع بينها ليس مرشحا، فيما يبدو، للانفجار في المستقبل المنظور، وذلك بسبب تقاطعها وتداخلها، الأمر الذي يفتت كلا منها، ويوجد بينها قدرا من الصلات المشتركة في الوقت نفسه. ولكن ذلك لا يعني أنها مرشحة لمزيد من الانقسام والتشظي. وهو ما يحدث فعلا.

ويبدو أن الأطراف المتصارعة تلوذ بالانشقاقات والانسحابات من المواجهة الداخلية، طالما كانت هناك فرصة لكل فريق للعمل على تحقيق مصالحه بشكل منفرد.

اتجاه التحالفات:

تبرز تطورات الصراع الداخلي في إسرائيل التلازم بين اليمين الديني واليمين العلماني، وميل المجتمع اليهودي الشرقي إلى هذا المحور اليميني بسبب النقمة على حزب العمل. ومع ذلك، يبدو أن هذا الاتجاه مرشح للتغير في المستقبل المنظور، بسبب التوجه الاقتصادي المحافظ لليكود، وتقليله من أهمية الأبعاد الاقتصادية للتسوية الإقليمية للصراع العربي- الإسرائيلي، وهي العملية التي تمكنت إسرائيل من خلالها في سنوات حكم العمل (1992-1996) من رفع مستوى النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمار، وتقليص معدلات البطالة، وهو الأمر الذي لم تستطع الحكومة الحالية أن تحافظ عليه. وفي المقابل يلاحظ ميل الأطراف اليسارية الأشكينازية العلمانية إلى التحالف، وهو الأمر الذي يعكس في الغالب استعادة سيطرة هذه التركيبة التي حكمت إسرائيل طوال العقود الثلاثة الأولى من تأسيسها، ومواجهة تمرد الفئات اليمينية العلمانية والدينية، والشرقية، التي بدأ صوتها في الارتفاع في العقود الأخيرة. مع ملاحظة اتجاه حزب العمل إلى استقطاب اليهود الشرقيين واحتوائهم.

أما المجتمع العربي، فيبدو أقرب إلى المحور الثاني، وإن كان يقع خارج المحورين معا، بسبب اتفاقهما على الهوية اليهودية للدولة، وإن اختلف كل منهما في تعريفها، وهي هوية تستثني العربي من الناحيتين القومية والدينية.

قضايا الصراع:

يبرز رصد تطور الصراع الإسرائيلي الداخلي أهمية قضايا الهوية، والتسوية، والعدالة الاجتماعية في المرحلة الراهنة، وإن كانت أهمية كل من هذه القضايا تتفاوت من طرف إلى آخر، حيث يبدو اليهود الشرقيون  مثلا، معنيين أكثر من غيرهم بقضية العدالة الاجتماعية، ويبدو المتدينون مثلا، معنيين أكثر من غيرهم بقضايا الهوية، ويبدو العرب معنيين أكثر من غيرهم بقضايا التسوية. وهكذا، دون أن يعني هذا تقليل أهمية جميع هذه القضايا بالنسبة إلى كل الأطراف.

وعلى المستوى العام، يرجح أن تطغى على اهتمامات المجتمع الإسرائيلي في المرحلة القادمة قضايا العدالة الاجتماعية والهوية بدرجة أعلى من قضايا التسوية، بعد أن أصبح الصراع بشأنها أقل حدة بين الأطراف المختلفة، بالمقارنة بالوضع في بداية العقد الحالي. ويعكس ذلك، من ناحية أخرى، توازن القوى في النظام السياسي الإسرائيلي، الذي برزت فيه القوى الدينية واليهود الشرقيون بشكل ملحوظ. مع إدراك تداخل الطرفين بقوة، حيث أن أغلب اليهود الشرقيين متدينون، وأغلب المتدينين يقعون بين الفئات الفقيرة بسبب قلة مؤهلاتهم العلمية والعملية، وكثرة أعبائهم الناتجة عن الزواج المبكر وكثرة الأطفال.

الأثر في عملية التسوية:

إذا كان من المرجح أن تقل أهمية قضايا تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي كموضوع للصراع الداخلي في إسرائيل، بالمقارنة بقضيتي العدالة الاجتماعية والهوية، فإن ذلك لا يعني أنها لن تحتل موقعا بارزا في سلم الأولويات الإسرائيلي للمرحلة القادمة، خاصة وأنها غير منفصلة عن القضيتين السابقتين، وأن الصراع الداخلي في إسرائيل ليس سوى واحد فقط من محددات عديدة داخلية وإقليمية ودولية، تفرض على إسرائيل والدول العربية المضي في هذه العملية، في إطار الترتيبات المحتملة للمنطقة العربية، وارتباطها بإعادة تشكيل النظام الدولي.

وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى أثر الصراع الداخلي في إسرائيل على عملية التسوية، حيث يرجح أن تبقى إسرائيل مترددة بين عوائد التسوية الاقتصادية وانعكاساتها الإيجابية على الداخل، وتكاليفها الأمنية والثقافية، وهو حساب يبدو أن المجتمع الإسرائيلي يميل إلى حسمه لصالح العوائد الاقتصادية، والتكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية التي لا تستطيع إسرائيل تجاوزها. ومع ذلك يجدر التحذير من الاعتقاد بأن هذا الاختيار سيسهل عملية التفاوض مع إسرائيل في المستقبل، فانتصار الاتجاهات الداعية إلى التسوية هو في النهاية محكوم بتوازن القوى الداخلي، والمساومات بين الأطراف الإسرائيلية المختلفة حول القضايا التي تتصارع بشأنها. ومن ناحية أخرى، فإن كلا من الصراع الداخلي الإسرائيلي وعملية التسوية، وما تستطيع إسرائيل والأطراف العربية أن تجنيه من ورائها، مرهون بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، التي يجب على العالم العربي أن يجذبها لصالحه، بمختلف الوسائل، حتى يتحقق الحد الأدنى المطلوب على الأقل من التوازن في هذه العملية.

__________________________

الهوامش

*  يشكل اليهود في إسرائيل حسب إحصاءاتها الرسمية في 1995 فقط 34.9% من يهود العالم.

http://www.israel-mfa.gov.il

gopher://israel-info.gov.il

وانظر في هذا المعنى، عبد الوهاب المسيري، أزمة الصهيونية، في:  ندوة مائة عام على الحركة الصهيونية 1897-1997- دروس للحاضر والمستقبل، في: مجلة البحوث والدراسات العربية، 28، القاهرة، مركز البحوث والدراسات العربية، 1997، ص.:102 وما بعدها.

** أعلنت وزارة العدل البلغارية أن نحو 43 ألف إسرائيلي من أصل بلغاري هاجروا إلى إسرائيل ما بين 1948 و1950 سيكونون قادرين على استعادة جنسيتهم البلغارية  التي سحبتها منهم السلطات الشيوعية. وشمل القرار الأرمن الذين قدر ممثل الطائفة الأرمنية في صوفيا عددهم بنحو 15 ألفا. وقد برر وزير العل البلغاري ذلك بالرغبة في اجتذاب المستثمرين من أصل بلغاري إلى بلغاريا. الشرق الأوسط 5/11/1997.

(1) Daniel J. Elazar and Shmuel Sandler, The Battle over Jewishness and Zionism in the Post-                               Modern Era, Israel Affairs, Vol., No.1, London: Frank Cass, 1997, P.: 15-17

(2) رشاد الشامي، القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، عالم المعرفة186، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1994، ص.: 237-238.

(3) أحمد خليفة، الأحزاب السياسية، في: أحمد خليفة وصبري جريس (محررين)، دليل إسرائيل العام، ط.2 بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996، ص.: 165.

(4) شاحر إيلان، معدل الإنجاب في الأوساط الحريدية والعلمانية، هآرتس 4/3/1998، نقلا عن: مختارات إسرائيلية40، القاهرة: الأهرام، أبريل 1998، ص.: 35-36.

(5) المفدال والخيار، هآرتس، 52/2/1998، نقلا عن: مختارات إسرائيلية، 4، القاهرة: الأهرام، أبريل 1998، ص.: 28.

(6) خالد عايد، المتدينون والعلمانيون في إسرائيل- جدل الوحدة والصراع، مجلة الدراسات الفلسطينية، 30، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997، ص.:120.

(7) انظر: هالة العيسوي، الحاخامات يباركون زواج الشواذ، آخر ساعة، 16/7/1997.

(8) Daniel J. Elazar and Shmuel Sandler, op. cit., P.:20.

(9) شاحر إيلان، مئة بوابة للأرنونا- زيادة إغراءات التطرف اليهودي، هآرتس، 26/3/1998، نقلا عن: الرأي العام، 12/4/1998.

(10) لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، انظر: عبد الوهاب المسيري، من هو اليهودي، القاهرة: دار الشروق، 1997.

(11) الشرق الأوسط، 13/6/1998.

(12) المسيري، مرجع سابق، ص.: 71.

(13) أبير ماجولان، الزواج المدني موقظ العلمانيين النائمين، هآرتس، 19/5/1998، نقلا عن: الرأي العام، 19/5/1998.

(14) المرجع السابق.

(15) ديفيد لانداو، الأصولية اليهودية- العقيدة والقوة، القاهرة: مدبولي، 1994، ص.: 39 وما بعدها.

(16) الحياة، 30/9/1997.

(17) المرجع السابق.

(18) عايد، مرجع سابق، ص.: 120-121.

(19) معاريف، 22/12/1996، نقلا عن: مختارات إسرائيلية 26، القاهرة: الأهرام، فبراير1997، ص.:17-18.

(20) العالم اليوم، 11/5/1998.

(21) المرجع السابق.

(22) الحياة، 28/11/1998.

(23) عايد، مرجع سابق، ص.:116.

(24) الحياة، 22/7/1997.

(25) الحياة، 13/10/1997.

(26) الشرق الأوسط، 20/7/1998.

(27) الشرق الأوسط، 8/1/1998.

(28) العربي، القاهرة، 26/2/1996.

(29) الشرق الأوسط، 1/5/1998.

(30) الأهرام، 2/1/1998.

(31) الشرق الأوسط، 14/1/1998.

(32) المشاهد السياسي، 31/5-6/6/1998.

(33) الشرق الأوسط، 19/7/1998.

(34) الشرق الأوسط، 16/10/1997.

(35) الأهرام، 30/12/1997.

(36) الأهرام، 2/11/1997.

(37) الأهرام، 2/11/1997.

(38) الحياة، 13/1/1998.

(39) الشرق الأوسط، 25/3/1998.

(40) الشرق الأوسط، 25/3/1998.

(41) إنها ليست كرة قدم فقط، هآرتس،9/2/1998، نقلا عن: مختارات إسرائيلية40، القاهرة: الأهرام،  أبريل 1998، ص.:25.

(42) العالم اليوم، 15/6/1997.

(43) الشامي، القوى الدينية، مرجع سابق، ص.:179.

(44) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(45) انظر: محمود ميعاري، التركيب السكاني، في: أحمد خليفة وصبري جريس (محررين)، مرجع سابق، ص.:85.

(46)   URL: http://www.israel-mfa.gov.il

gopher://israel-info.gov.il/00/govmin/stats/stats1

(47) ميعاري، مرجع سابق، ص.: 74-79.

(48) إيلا حبيبة شوحط، اليهود الشرقيون في إسرائيل- الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها اليهود، في: خالد عايد (محررا)، اليهود الشرقيون في إسرائيل، مجلة الدراسات الفلسطينية، 36، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998، ص.: 107-110.

(49) لمزيد من التفاصيل حول أوضاع اليهود الروس في إسرائيل، انظر:

Naomi Shepherd, Ex-Soviet Jews in Israel: Asset, Burden, or Challenge? Israel Affairs, Vol.1, No2, 1994, P.:P. 245-257.

(50) أفيشاي مرجليت، إسرائيل الأخرى، في: عايد، اليهود الشرقيون في إسرائيل، مرجع سابق، ص.: 134.

(51) آري شفيط، مقابلة مع عضو الكنيست شلومو بن عامي، في: المرجع السابق، ص.:140-141.

(52) الشامي، القوى الدينية، مرجع سابق، ص.: 188 وما بعدها.

(53) أحمد خليفة، القيادة الجديدة لحزب العمل- شخصيات ومواقف، مجلة الدراسات الفلسطينية، 32، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997، ص.: 107.

(54) الحياة، 9/9/1997.

(55) أوركتشي، الفجوة الطائفية- البطالة، هآرتس، د.ت.، نقلا عن: مختارات إسرائيلية، 33، القاهرة: الأهرام، سبتمبر 1997، ص.:41-42.

(56) Barry Turner (ed.), The Statesman’s Year Book, London: MacMillan, 1998, P.798.

(57) توم سيجاف، الإسرائيليون الأوائل، نقلا عن: شوحط، مرجع سابق، ص. 108.

(58) الشرق الأوسط، 18/8/1997.

(59) الشرق الأوسط، 18/8/1997.

(60) الوفد، 19/10/1997.

(61) الشرق الأوسط، 18/8/1998.

(62) الشرق الأوسط، 18/8/1998.

(63) Eliezer Don-Yehiya, Religion, Ethnicity and Electoral Reform: The Religious Parties and the 1996 Elections, Israel affairs, Vol.4, No.1, 1997, P.-P:80-81

(64) مقابلة مع بن عامي، مرجع سابق، ص.: 139-140.

(65) مرجيليت، مرجع سابق، ص.: 132.

(66) الحياة، 29/3/1998.

(67) الرأي العام، 29/6/1998.

(68) URL: http://www.israel-mfa.gov.il

gopher://israel-info.gov.il/00/immig/960128.imm

(69) URL: http://www.israel-mfa.gov.il

gopher://israel-info.gov.il

(70) URL: http://www.israel-mfa.gpv.il

gopher://israel-info.gov.il/00/immig/960128.imm

(71) عبد الوهاب المسيري، من هو اليهودي، مرجع سابق، ص.:5-6.

(72) العربي، 13/7/1998.

(73) URL: http://www.israel-mfa.gpv.il

gopher//israel-info.gov.il/00/imm/960729.imm

(74) مرجليت، مرجع سابق، ص.: 123.

(75) الحياة، 30/7/1998.

(77) الحياة، 4/3/1998.

(76) الحياة، 9/9/1997.

(78) الحياة، 1/5/1998.

(79) أسعد غانم ونديم روحانا، المواطنون  الفلسطينيون في دولة إسرائيل- أزمة الأقلية القومية في دولة إثنية، مجلة الدراسات الفلسطينية، 35، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998، ص.:50.

(80) Gopher://israelinfo.gov.il//00/govmin/labor/pop1995/950001.lab-

(81) ميعاري، مرجع سابق، ص.: 53.

(82) غانم وروحانا، مرجع سابق، ص.:55.

(83) ميعاري، مرجع سابق، ص.: 73-74.

(84) انظر:  As’ad Ghanem, The Limits of Parliamentary Politics: The Arab Minority in Israel and the 1992 and 1996 Elections, Israel Affairs, Vol.4, No.2, London: Frank Cass, 1997, P.:74.

(85) غانم وروحانا، مرجع سابق، ص.:54-55.

(86) الحياة، 7/2/1998.

(87) حاييم هانجبي، واحسرتاه- عنصرية، معاريف،25/7/1997، نقلا عن: مختارات إسرائيلية33، القاهرة: الأهرام، ديسمبر 1997،ص.: 39-40.

(88) Sammy Smooha, Arab- Jewish Relations in Israel in the Peace Era, Israel Affairs, Vol.1, No.2, London: Frank Cass, 1994, P..:236.

(89) Ibid, p.:  234-235.

(90) راجع نتائج الانتخابات الإسرائيلية في: أحمد خليفة وآخرون، الانتخابات الإسرائيلية وثائق تأليف الحكومة الجديدة والنتائج والبرامج الانتخابية، مجلة الدراسات الفلسطينية، 27، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996. ص.: 93-98.

(91) شاحر إيلان، اتجاهات التصويت لدى الحريديم، هآرتس،11/3/1998، نقلا عن: مختارات إسرائيلية40، القاهرة: الأهرام، أبريل 1998، ص31.

(92) الشرق الأوسط، 26/6/1998.

(93) الحياة، 20/11/1997.

(94) الشرق الأوسط، 3/12/1997.

(95) الحياة، 12/12/1997.

(96) الشرق الأوسط، 6/4/1998.

(97) الشرق الأوسط، 7/4/1998.

(98) الشرق الأوسط، 7/4/1998.

(99) الشرق الأوسط، 29/5/1998.

(100) الشرق الأوسط، 18/6/1998.

(101) الحياة، 6/6/1998.

(102) الشرق الأوسط، 30/12/1997.

(103) راجع نتائج الانتخابات في: خليفة وأخرون، الانتخابات الإسرائيلية..، مرجع سابق، ص.: 93-98.

(104) مقياس السلام، هآرتس2/2/1998،  نقلا عن: مختارات إسرائيلية 39، القاهرة: الأهرام، مارس1998.

(105) Giora Goldberg, The Electoral Fall of the Israeli Left, Israel Affairs, Vol.4, No.1, 1997, P.:58.

(106) Ibid, p. 66.

(107) Ibid, p.-p.: 62-63.

(108) بنيامين نتانياهو، من خطبته أمام الكنيست التي عرض فيها حكومته، يديعوت احرونوت، 19/6/1996، نقلا عن: مجلة الدراسات الفلسطينية، 27، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996. ص.:70.

(109) خطاب بنيامين نتانياهو بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين لإقامة دولة إسرائيل، في: مجلة الدراسات الفلسطينية، 32، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997، ص.: 207-208.

(110) أحمد خليفة، نقاش صاخب بين عزمي بشارة واليسار الصهيوني، مجلة الدراسات الفلسطينية 35، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1998، ص.:151-152.

(111) إيمان حمدي، جماعات السلام الصهيونية- جذورها وتركيبتها وحدودها، شؤون الأوسط، 73 بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1998، ص.:15.

(112) انظر مثلا، عقيبا إلدار، برنامج بيبي المرحلي، هآرتس، 18/11/1998، نقلا عن: مختارات إسرائيلية، 49، القاهرة: الأهرام، 1999، ص.:29.

(113) الشرق الأوسط، 8/6/1998.

(114) Lilly Weissbrod, Israeli Identity in transition, Israel Affairs, Vol.3, No.3&4, London: Frank Cass, 1996, P.:54.

(115) الشرق الأوسط، 13/5/1998.

 (116) Lilly Weissbrod, op. cit., P.: 53.

(117) الحياة، 28/6/1998.

(118) Lilly Weissbrod, op. cit.,  p-p: 53-54.

(119) أحمد خليفة، نقاش صاخب، مرجع سابق، ص.: 145.

(120) أوري أفنيري، شئ ما يحدث في الجيش، معاريف، 6/1/1997، نقلا عن: مختارات إسرائيلية، 26، القاهرة: الأهرام، فبراير 1997، ص.: 38-39.

(121) صالح النعامي، اندفاع أتباع التيار الديني إلى المراكز القيادية في الجيش يثير مخاوف صهيونية في إسرائيل، الحياة، 22/3/1998.

(122) القدس العربي، 19/11/1998.

(123) الشرق الأوسط، 13/11/1997.

(124) الشرق الأوسط، 24/10/1997.

(125) الحياة، 23/10/1997.

(126) الحياة، 23/10/1997.

(127) الحياة، 10/11/1997.

(128) الشرق الأوسط، 27/9/1997.

(129) الشرق الأوسط، 19/7/1998

(130) الحياة، 28/11/1998.

(131) الشرق الأوسط، 20/10/1997.

 

  • نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى