وقف الحرب أم تحويلها..؟ بين محدودية الدعم الشعبي والتفكير خارج الصندوق

إشكالية وقف الحرب

إن الحديث عن وقف الحرب لا بد أن يتضمن نقاشًا حول ماهية الوقف ونفعية استمرار جذوة الحرب متقدة، وما يترتب عليها من استمرار خلخلة الوضع، واستمرار كون العدو في حالة عدم اتزان، والرأي العام الداخلي في إسرائيل في حالة عدم استقرار.

من الواضح أن هناك اتفاق على أن قتل المدنيين في غزة وفي لبنان لا بد له أن يتوقف الآن، ولكن إذا توقف في إطار حل سياسي قد يترتب عليه فقدان الزخم الذي بنته هذه الحرب الأخيرة؛ وبالتالي تصفية قدرة محور المقاومة على الضغط المستقبلي على الكيان الصهيوني. وهذا قد يترتب عليه الرجوع مرة أخرى إلى التطبيع الرسمي العربي وضياع القضية الفلسطينية، ولكن هذه المرة بوتيرة أسرع.

وهنا يجب الحديث عن تحويل الحرب إلى شكل آخر يبني على المكتسبات، ولا يسمح باستمرار قتل المدنيين، قد يكون هذا في صورة حرب قانونية على الإطار الدولي، كما قد تكون عن طريق الأنظمة القضائية في دول تسمح أنظمتها بمقاضاة العدو الصهيوني على جرائم الحرب؛ بما قد يضيق الخناق على قدرة حكومة الكيان الصهيوني على التعامل السياسي والدبلوماسي الحر مع كثير من الدول. صورة أخرى قد تكون حربًا في إطار الرأي العام العالمي وتحويل الرأي العام إلى آليات فاعلة داخل الأنظمة الديمقراطية لإعادة توجيه بوصلة السياسة الخارجية لهذه الدول.

محدودية الدور الشعبي الغربي والإسلامي

مع الإقرار بالتغير الكبير في صورة الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية وقدرات أعداد كبيرة من المعترضين على أخذ خطوات عملية والمخاطرة بأنفسهم للتأكيد على مناصرة القضية الفلسطينية ومعارضة أي انتهاك لحقوق الإنسان من الجانب الصهيوني، لا بد لنا أيضا أن نقر أن الرأي العام الشعبي الغربي يعمل في إطار محدود للغاية، وأن تأثيره على سياسات دوله قد يكون وقتيًا وغير فعال. كذلك نظرتنا إلى حرية التعبير في الغرب لا بد أن تؤطر في داخل حدود رؤية الحكومات لدور الشعوب في هذه الدول؛ حيث إنه في معظم الدول الغربية لا يقود الرأي العام السياسة، بل على العكس فإن سياسات الحكومات هي التي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام، ثم في استفتائه لتمرير السياسات.

ولنا في حرب العراق أوضح مثال؛ حيث قامت وزارة الدفاع الأمريكية ببث الذعر بين أوساط الرأي العام ودفع خبراء للخروج في وسائل الإعلام لإعطاء الانطباع أن الحرب ستقع في جميع الأحوال؛ وبالتالي كان الرأي العام الأمريكي على استعداد لإرسال الجنود إلى العراق، ولم يتم سحب الجنود من العراق ومن أفغانستان فقط بناءً على المعارضة الكبيرة في الرأي العام الأمريكي، ولكن تمت بناءً على سياسات مدروسة أفضت إلى عدم نفعية بقاء الجنود.

المحصلة النهائية هي أن دور الرأي العام الغربي مهم، ولكن ليس محوريًّا أو فعّالاً في تغيير السياسات، مما يحتم استثماره بطريقة أو بأخرى، وفي إطار أدوات أخرى؛ كجمع التبرعات، والدعوة إلى الإسلام، وتحويل مقاومة الشعب الفلسطيني إلى أيقونة تاريخية تصبح جزءًا من الوعي الغربي، وتكسر الحواجز بين الشعوب العربية والشعوب الغربية.

في المقابل، ومع خفوت صوت علماء الشريعة المستقلين في العالم الإسلامي حاليًا، وزيادة حدة القمع تجاه الخطاب العام الديني غير المنصاع للسياسات الرسمية للدول، وذلك في نفس وقت ارتفاع حدة القمع الإلكتروني من الشركات الخاصة؛ سواء بضغط من الحكومات أو بوازع أيديولوجي من مالكي هذه المنصات، فإنه لا مجال لإظهار الجانب الشرعي من الصراع؛ وبالتالي لا مجال –في مثل هذا الوضع- لتحريك الرأي العام الإسلامي من منطلق شرعي، مما يخرج خطابًا مشوهًا يعتمد على المشاعر والهوية المشتركة سواء الإنسانية أو الإسلامية. وعلى ذلك، لا يتطرق أي نقاش حول فريضة المناصرة وآلياتها وثوابها وعواقبها في إطار الشرع. بينما لو تم هذا فإن شكل الحماس الإسلامي تجاه القضية الفلسطينية سيختلف جذريًا، وسيترتب عليه قلق رسمي عميق وضغط مباشر لإيقاف هذه الحرب قبل أن تأخذ منحي آخر.

التأطير الديني في إسرائيل ونقل المعركة إلى الداخل

يتضح مع الوقت أن التيار الديني داخل إسرائيل في صعود، وأنه مع زيادة الضغوط الأمنية والاقتصادية على أفراد المجتمع الإسرائيلي يزداد معدل الهجرة الخارجية، خاصةً من أولئك الذين يحملون جنسيات أخرى. ومع استمرار وتيرة الصراع فإن التجنيد أصبح كابوسًا يهرب منه الكثيرون مع زيادة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية في تجنيد التيار الديني المتشدد.

تشير هذه المؤشرات إلى أننا قد نكون أمام وضع مستقبلي تنهار فيه الدوافع القومية للتجنيد، ويبقى فيه الدافع الديني هو الأساس والحافز للاستمرار على أرض المعركة، وهذا يتماشى مع زيادة توغل التيار الديني في السياسة الإسرائيلية وتفريغ مضمون الصهيونية من الفكر العلماني واشتداد ارتباطها بالدين مع زيادة إقصاء غير اليهود من السياسة والأرض والدولة اليهودية.

من الواضح أن الضغوط الأمنية والاقتصادية على أفراد المجتمع الإسرائيلي تدفع الكثيرين إلى الهجرة. ومع العلم أن الهجرة إلى داخل إسرائيل هي عمود أساسي لبقاء هذا الكيان، فإن العمل على تعزيز المخاوف التي تنبني عليها الهجرة واجب؛ إذ إن واحدًا من التطلعات الأساسية للمجتمع الإسرائيلي هو الإحساس بانتمائه للمنطقة العربية، وإحساسه بالقبول من جانب الشعب العربي، وهو أمر واضح لمن يتابع شكل الثقافة داخل المجتمع الإسرائيلي واقترابها كثيرًا من الثقافة العربية؛ سواء في الفن أو في المجالات الأخرى، وهو واضح أيضًا من سعادة وترحيب الإسرائيليين عند الإحساس بقبولهم من العرب، وهذا أمر يتجلى في المجتمعات الغربية عند التقاء الطرفين.

وفي إطار ما سبق الحديث عنه من المحددات والقيود عن مستوى العالمي والإسلامي والعربي، فإنه من الواجب التفكير خارج الصندوق في شكل مناصرة القضية الفلسطينية.

إن ما يستطيعه العرب والمسلمون بدون تكلفة أمنية عالية هو تعزيز الإحساس لدى الإسرائيلي أنه ملفوظ مكروه من محيطه العربي، وإن اختلفت المواقف الرسمية، وأن مشروع دولته هو مشروع مؤقت وغير مستمر، وأن الأمر لو كان في يد الشعوب لما كان هناك أي تطبيع من أي نوع تحت أي مسمى من المسميات. ومن الوسائل والأدوات السهلة الميسورة لتعزيز هذا الإحساس هي وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك بعض الأمثلة الشاهدة على عظم هذا العامل وتأثيره لا يتسع المقام لذكرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى