محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية فترة ما بعد الحرب الباردة

مقدمة:

إن دراسة السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه جوارها الإقليمي، تُعطي لنا في العالم العربي صورةً عن التفاعلات في تلك المنطقة ومدى تأثير واشنطن كقوة عالمية على بلدانٍ نامية أو متوسطة. ذلك كون السياسة الأمريكية في هذا النطاق تتسم بتباينٍ مُفرط؛ فمن علاقات تعاونية مع بلدان مثل المكسيك والبرازيل في فترات إلى فتور تلك العلاقات عند صعود قادة في تلك الدول يسعون إلى الخروج من أسر الهيمنة الأمريكية كحالة البرازيل أثناء فترة حكم “لولا دا سيلفا” الأولى، أو قطع العلاقات عقب صعود ترامب وسياسته التي اُعتُبرت عدائية لدولة كالمكسيك. وفي الوقت نفسه، نجد أن علاقات واشنطن مع بعض الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية تتسم بعداءٍ شديد يكاد يصل إلى درجة الصدام، كما هو الحال مع دول مثل كوبا وفنزويلا.

في هذا السياق، نقوم بعرض دراسة أعدها الباحث محمد سيد إمام أحمد وهيدي، بعنوان “محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية فترة ما بعد الحرب الباردة[1]، وهي رسالة ماجستير حصل عليها الباحث من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية -جامعة القاهرة عام 2020. تقع الدراسة في 245 صفحة، وتتألف من ثلاثة فصول يشتمل كل فصل على مبحثين فضلا عن مقدمة وخاتمة.

  • الإطار التحليلي للدراسة:

في المقدمة يُحدد محمد سيد وهيدي أربعة مفاهيم أساسية ينطلق منها في الاقتراب من مشكلته البحثية، وهي: المحددات الداخلية / الخارجية – السياسة الخارجية – مناطق النفوذ والتدخل الدولي. كما يرتكز على نظرية التغير في السياسة الخارجية كإطار تفسيري لبحث مدى تغير أو استمرار سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية خلال فترة دراسته التي امتدت من عام 1993 حتى عام 2020، والتي تعاقبت فيها أربع إدارات أمريكية مختلفة (بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب).

ويعتبر وهيدي أن عملية الاستمرار أو التغير في السياسة الخارجية لأي دولة محكومة بعددٍ من المحددات الخارجية كــــ (القدرات النسبية للدولة، والوحدات الدولية التي تتعامل معها السياسة، والقواعد الحاكمة للتفاعلات على الساحة الدولية.. وغيرها)، والمحددات الداخلية (تصورات النخبة الحاكمة عن الدولة وسياستها الخارجية، والبدائل المتاحة للسياسات القائمة، والتكلفة المادية والمعنوية لما يفرضه التغيير).

ومن ثم، يولي “وهيدي” اهتمامًا كبيرًا بأثر التغير في القيادة السياسية على التغير في السياسة الخارجية للدولة، محددًا ذلك التغير في القيادة بثلاثة أنماط، هي:

  1. تغير رئيس الدولة وإحلاله بغيره من نفس الاتجاه السياسي.
  2. إحلال بعض أعضاء النخبة بغيرهم من نفس الاتجاه السياسي، أو من اتجاه سياسي مخالف.
  3. إحلال النخبة القائمة بنخبة معادية للنظام القائم عن طريق تغيير ثوري؛ الأمر الذي يؤدي إلى تغييرٍ جذري في السياسة الخارجية.

ويعتمد الباحث في تحليله على المنهج المقارن، معللًا ذلك بقدرة هذا المنهج على “رصد أوجه التشابه والاختلاف والتداخل في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية“، موضحًا أن الدراسة تعتمد على “المقارنة الطولية، من خلال اختيار متغير واحد، ومتابعة أوجه التغير عبر فترة زمنية محددة، وتمر فترة الدراسة بأكثر من رئيس أمريكي يعبر عن توجهات أكثر من حزب، ومن ثم يعد المنهج المقارن وسيلة لرصد جوانب التشابه والاختلاف وعناصر التغير والاستمرار في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية..”.

أولًا- محددات السياسة الخارجية الأمريكية

  • المحددات الداخلية

يعتبر وهيدي أن طبيعة النظام السياسي الأمريكي تُتيح للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية لعب دور فاعل في صياغة ورسم معالم السياسة الخارجية بدرجاتٍ مختلفة من التأثير؛ مرجعًا ذلك لطبيعة النظام الأمريكي الذي يقوم على مبدأي الرقابة والتوازن بين المؤسسات، ففي الوقت الذي يمنح فيه مؤسسة سلطة يُعطي لغيرها سلطة الرقابة عليها، الأمر الذي أدى إلى أن تكون علاقة تلك المؤسسات ببعضها أقرب إلى “مؤسسات منفصلة تتقاسم السلطة”.

استعرض الباحث أهم العوامل الداخلية التي تتحكم أو تؤثر في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية بشكلٍ عام، واعتبر أن عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية تتسم بالتعقيد والتشابك نظرًا لتداخل صلاحيات وتأثير أكثر من مؤسسة رسمية وغير رسمية، وتشتمل المحددات الرسمية على:

  1. دور الرئيس في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية.
  2. أبرز الوزارات المعنية بصنع وتنفيذ تلك السياسة (الخارجية، والدفاع، والأمن الداخلي).
  3. الهيئات الرسمية المشاركة في صنع السياسة الخارجية (مجلس الأمن القومي، ووكالة الاستخبارات المركزية، والكونجرس، ونائب الرئيس).

توصل الباحث إلى أن الولايات المتحدة كنظام سياسي رئاسي فيدرالي تلعب فيه مؤسسة الرئاسة الدور المحوري والأبرز في عملية صنع القرار الخارجي ولكن في إطار مؤسسي يشارك فيه الكونجرس؛ الأمر الذي يحد من صلاحيات الرئيس أحيانًا، ويؤدي إلى عمليات جذبٍ وشد بين المؤسستين في عملية صنع القرار الخارجي.

أما المحددات غير الرسمية، فقد حددها الباحث في:

  1. الأحزاب السياسية.
  2. الرأي العام.
  3. الإعلام.
  4. جماعات الضغط والمصالح.

استنتج الباحث أن أكثر تلك المحددات غير الرسمية تأثيرًا هي الأحزاب السياسية، ويرجع ذلك إلى أنه قد تؤثر الأيديولوجيا والانتماء الحزبي للرئيس الأمريكي على سياسته الخارجية، فالأمر مرتبط بالرئيس الذي أعطاه الباحث الدور المحوري والفاعل في عملية صنع السياسة الخارجية.

  • المحددات الخارجية

انصب اهتمام الباحث في هذا الجزء على إبراز أهمية منطقة أمريكا اللاتينية وخصائصها الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية، وما شهدته من تحولات –في أعقاب الحرب الباردة– أدت إلى زيادة وزنها الإقليمي والدولي. وفي هذا الإطار، عرضت الدراسة لثلاث من تجارب التحول في دول (البرازيل، وفنزويلا، والمكسيك)، والتي نازعت الهيمنة الأمريكية في مجال أمنها القومي واتسمت بالاستقلال عن هيمنة واشنطن، ما أثَّر على نفوذها في تلك البلدان.

ومن ثم، تناول الباحث أثر التنافس الدولي على أمريكا اللاتينية في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية تجاهها، معتبرًا أن ذلك التنافس محدد من المحددات الخارجية. هذا لكون وجود أي دولة أو فاعل دولي منافس للمصالح الأمريكية في منطقة أمريكا اللاتينية التي تمثل عمقًا استراتيجيًا ومنطقة نفوذ تقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، وبما يستتبعه من تهديدات مباشرة للمصالح الأمريكية، سوف يؤدي إلى رد فعل أمريكي على تلك التحركات.

ثانيًا- السياسة الخارجية أثناء حكم الديمقراطيين

يعود الباحث في هذا الجزء ليُطبق فرضياته النظرية على الممارسة العملية، وفيما يتعلق بالمحددات الداخلية الرسمية في فترة حكم الرئيسين أصحاب الخلفية الديمقراطية، فإنه يرى أن المحدد الأول، المتعلق بدور الرئيس في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، يتأثر بمجموعة من العوامل التي تتكامل وتشكل محددات السياسة الخارجية الأمريكية، تلك العوامل هي: سمات الرئيس الشخصية، والبيئة السياسية المحيطة به، وديناميات التفاعلات السياسية.

  • عهد بيل كلينتون (1993-2001)

فيما يتعلق بسياسة إدارة كلينتون تجاه أمريكا اللاتينية، استعرض الباحث خمس قضايا، الأولى تتعلق باتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، التي أسست لانعقاد قمة الأمريكيتين (SOA) في أبريل 1994، بهدف تعميق الممارسات الديمقراطية، وتحقيق النمو الاقتصادي، والقضاء على الفقر والتمييز، إلا أن تلك القمة وما نتج عنها من اجتماعات لم تحقق أهدافها. القضيتان الثانية والثالثة تتعلقان بدعم الأنظمة المتحولة إلى الديمقراطية في المكسيك وهاييتي؛ اقتصاديًا في حالة المكسيك وعسكريًا في حالة هاييتي مما أدى في حالة المكسيك إلى خروجها من الأزمة الاقتصادية بعد تقديم الدعم المالي اللازم من قبل إدارة كلينتون، وعودة الرئيس الهاييتي إلى الحكم بعد الضغط على قادة الانقلاب الذي شهدته.

أما القضية الرابعة، فتتعلق بسياسة احتواء كوبا، والتي يرى الباحث أن إدارة كلينتون قد فشلت في تطوير استراتيجية فعالة لتعزيز نمو الديمقراطية فيها، وأرجعت الدراسة الأمر إلى تناقضات سياسات إدارة كلينتون التي تعود إلى تناقض مصالح أعضائها، ما أدى في نهاية المطاف إلى انعزال واشنطن عن قضايا كوبا، الأمر الذي يؤكد تسيد برجماتية “كلينتون” مبادئ الليبرالية. أما القضية الخامسة، فتتعلق بموقف الإدارة من الإرهاب والمخدرات في أمريكا اللاتينية، حيث يرى الباحث أن تركيز إدارة كلينتون على سياسات مكافحة المخدرات دفعها إلى عدم الالتزام بقضايا الديمقراطية في عددٍ من دول أمريكا اللاتينية مثل كولومبيا وبيرو وغيرهما، مكتفيةً بإصدار التشريعات المغلظة وغلق الحدود مع المكسيك.

خلص الباحث إلى أن الإدارة الأمريكية في فترة حكم كلينتون افتقدت إلى القدرة على صياغة نهج شامل للتعاطي مع دول أمريكا اللاتينية، وأنها لم تستثمر نجاحاتها الأولية في تعميق الروابط والمشاركات الاستراتيجية بالمنطقة، مرجعًا ذلك إلى أسباب شخصية متعلقة بالرئيس كلينتون وأسباب هيكلية تتعلق بطبيعة النظام السياسي الأمريكي. وفيما يتعلق بالأسباب الشخصية؛ فقصرها على عدم إلمام الرئيس بقضايا المنطقة، وانشغاله داخليًا بقضايا عزله ومحاولته لإيجاد التوازنات اللازمة لتدعيم موقفه الداخلي. أما الأسباب الهيكلية؛ فأرجعها إلى تشابك المؤسسات الحكومية المنوطة بصنع السياسة الخارجية، وضعف اهتمام وزراء خارجيته بالمنطقة، فضلًا عن سيطرة الجمهوريين على الكونجرس التي أدت لتصاعد الخلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما أدى إلى تراجع علاقات واشنطن مع دول أمريكا اللاتينية خلال سنوات حكم كلينتون.

ب‌) عهد باراك أوباما (2009-2017)

ينطلق الباحث في هذا الجزء من عدة تساؤلات نُجملها في الآتي: هل انتهج أوباما نفس نهج سلفه الديمقراطي كلينتون في التعاطي مع أمريكا اللاتينية؟ أم أن سياسته الخارجية اختلفت نتيجة سماته الشخصية المختلفة عن كلينتون؟ أم أن هناك عوامل أخرى أدت لاختلاف النهج بين الإدارتين؟ وما محددات سياسة أوباما الخارجية تجاه دول أمريكا اللاتينية؟

استعرض الباحث سبع قضايا لإبراز الاستمرار أو التغيير في نهج إدارة أوباما مقارنةً بإدارة كلينتون، وكذلك لتعقب السياسة الخارجية الأمريكية عامةً تجاه دول القارة اللاتينية فترة حكم أوباما. حيث اعتبر الباحث أن عدم اهتمام إدارة أوباما بالانقلاب العسكري في الهندوراس، وتوقيع إدارته لاتفاقية مع كولومبيا تُمنح بموجبها القوات الأمريكية الحق لاستغلال سبع قواعد عسكرية، وغضَّ إدارته الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان في المكسيك مع استمرارها في تقديم الدعم لها بشأن مسألة تأمين الحدود ومكافحة تهريب المخدرات والمهاجرين، بالرغم من فشل سياساتها تلك في إصلاح ما يتصل بالهجرة أو الحد من تهريب المخدرات عبر المكسيك، هذه القضايا الثلاث تبرز فشل وعدم اتساق الإدارة الأمريكية مع شعاراتها ومبادئها المعلنة عن دعم الديمقراطية.

كما فشلت إدارة أوباما في تقديم اتفاقيات مرضية لفنزويلا لاستعادة الوضع الاقتصادي والسياسي الذي تمتعت به سابقًا سواء في عهد شافيز أو مادورو. وقد أدت كل هذه القضايا وممارسات إدارة أوباما حيالها إلى توترات سياسية مع البرازيل، التي أعرب قادتها عن انزعاجهم حيال الممارسات “غير المسؤولة للإدارة الأمريكية”؛ الأمر الذي أدى لجمود العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من محاولة أوباما تحسين العلاقات مع البرازيل بعد صعود “ديلما روسييف” خلفًا لــ “لولا دا سيلفا” إلا أن العلاقات بين الدولتين افتقرت إلى الانسجام؛ نظرًا للتناقض الحاد في صميم السياسة الخارجية بين الجانبين والذي يتمثل في استقلال البرازيل في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة.

وفيما يتعلق بمسألة الاستمرار أو التغير في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما عن عهد سلفه الديمقراطي كلينتون، رأي الباحث أن أوباما استمر في متابعة سياسات المساعدات الاقتصادية التي أطلقها كلينتون للدول الموالية للولايات المتحدة. ونستطيع أن نستشف من الدراسة ما يتعلق بالتغيير -حيث لم يعقد الباحث مقارنة بالرغم من انطلاقه من سؤال الاستمرار والتغير بين أوباما وكلينتون- فنجد أن إدارة أوباما لم تول -كما إدارة كلينتون- اهتمام بمسائل التحول الديمقراطي في دول القارة حينما غضت الطرف عن الانقلاب العسكري في هندوراس، كما غضت الطرف عن الفساد وانتهاكات حقوق الانسان في المكسيك وانصب اهتمام الإدارة على مسائل تأمين الحدود وإيقاف حركة تهريب المخدرات والمهاجرين، في اختلاف شديد عن نهج إدارة كلينتون التي قامت بدعم عمليات التحول الديمقراطي خاصةً في المكسيك وهاييتي.

خلص الباحث إلى أن الإدارة الأمريكية في فترة حكم أوباما مزجت بين المدرسة المثالية في أهدافها ومنطلقاتها الفكرية؛ حيث حاول صياغة سياسة عالمية متكاملة لم يتخلَّ فيها عن قيادة واشنطن للعالم، والمدرسة الواقعية في استراتيجياته؛ إذ فرضت تلك الواقعية على أوباما تغييرات تكتيكية في أداء إدارته لم ترتقَ إلى مستوى التغيير الاستراتيجي عن نهج الإدارات السابقة.

ثالثًا- السياسة الخارجية أثناء حكم الجمهوريين

قام الباحث في هذا الجزء من دراسته بتحليل السياسات الخارجية لنموذجين من الرؤساء المنتمين إلى الحزب الجمهوري، ودراسة محددات وتوجهات كلٍ منهما تجاه أمريكا اللاتينية.

  • عهد جورج دبليو بوش (2001-2009)

استعرض الباحث خمس قضايا فيما يتعلق بسياسة إدارة بوش الابن الخارجية تجاه أمريكا اللاتينية، الأولى تتعلق بتعزيز العلاقات الأمنية ومكافحة الهجرة غير الشرعية مع المكسيك، حيث وضع بوش الابن المكسيك على أولويات إدارته، وتتمثل القضية الثانية في سعى إدارته إلى تجاوز الخلافات مع البرازيل، والقضية الثالثة هي عمل إدارة بوش على تسخير قدراتها لدعم الاستقرار في كولومبيا، من خلال تعزيز قدرات الدولة في مكافحتها لتهريب المخدرات وأنشطة المنظمات الإرهابية، إلا أن ذلك الاهتمام البالغ بالمحور الأمني من قبل إدارة بوش قد أدى إلى توتر العلاقات مع عددٍ من دول المنطقة على رأسها بوليفيا وفنزويلا.

أما فيما يتعلق بالقضية الرابعة المتعلقة بمجابهة المد اليساري وطرد سفراء واشنطن من فنزويلا وبوليفيا، في إطار سعي الرئيسين الفنزويلي “تشافيز” والبوليفي “إيفو موراليس” للخروج من هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة، فقد سعت إدارة بوش إلى تغيير النظامين عبر دعم المعارضة وأطراف في المجتمع المدني، الأمر الذي دفع تشافيز إلى عدائه للولايات المتحدة وقام بسحب سفيره لدى واشنطن وطرد السفير الأمريكي من كاراكاس، وهو نفس نهج الرئيس البوليفي “موراليس” الذي قام بطرد السفير الأمريكي لدى بلاده بتهمة دعم الاحتجاجات المعارضة لحكومته. وفيما يتعلق بالقضية الخامسة المتمثلة في المساعدات الأمريكية لدول أمريكا اللاتينية، فإنها قد شهدت تراجعًا في نهاية فترة ولاية بوش خلافًا لبدايات حكمه؛ وذلك بسبب انصراف إدارته عن الاهتمام بالمنطقة وانصباب اهتمامه على الشرق الأوسط.

وخلص الباحث إلى أن استراتيجية بوش الاستباقية قد بالغت في استخدام القوة الصلبة، وأن إدارته عجزت عن التقارب مع دول أمريكا اللاتينية، وفشلت في تحقيق هدفها الرئيس المتمثل في تحقيق الأمن، سواء بمفهومه الشامل الذي يتمثل في الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، أو بمفهومه العسكري الضيق الذي يتمثل في منع وقوع الصراعات العسكرية. وعلى العكس من ذلك، أدت استراتيجية إدارة بوش الابن التي أفرطت في استخدام عناصر القوة الصلبة إلى إضاعة فرص التقارب المتاحة مع دول المنطقة اللاتينية، وقد أرجع الباحث ذلك إلى أسباب شخصية متعلقة بالرئيس جورج دبليو بوش وأسباب هيكلية تتعلق بطبيعة النظام السياسي الأمريكي، وفيما يتعلق بالأسباب الشخصية ربطها الباحث بسعي بوش لتحقيق انتصارات شخصية ليُضاهي بها انتصارات والده، الأمر الذي جعله ينصرف عن قضايا أمريكا اللاتينية. أما الأسباب الهيكلية، فأرجعها إلى طبيعة الحزب الجمهوري وسيطرته على النظام السياسي فترة حكم بوش الابن، والتي جاءت رؤية قادته متوافقة مع طموحات الرئيس الأمريكي في اهتمامهم الشديد بمنطقة الشرق الأوسط على حساب باقي العالم بما في ذلك منطقة أمريكا اللاتينية.

ب‌) عهد دونالد ترامب (2017-2020)

أدت استراتيجية ترامب الانعزالية للأمن القومي -“أمريكا أولًا”- إلى انسحاب واشنطن من المسرح الدولي خاصةً من الشرق الأوسط ودول أمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي اُعتُبر قطيعة عن سياسات الإدارات الأمريكية السابقة الديمقراطية والجمهورية على السواء، وذلك رغم سعي إدارة ترامب للحفاظ على تفوق القدرات الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، والإبقاء على دورها الريادي على الساحة الدولية، إلا أنه “عمد إلى استخدام أدوات جديدة مثل التخلي عن الدفاع المشترك، وعن تصدير الديمقراطية والامتناع عن الاستمرار في العديد من الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف“.

تضمنت استراتيجية ترامب الخارجية تجاه دول أمريكا اللاتينية إلغاء جميع الاتفاقات التي أُبرمت في عهد الإدارات الأمريكية السابقة، منها إلغاء اتفاقية (NAFTA)، الذي أدى إلغاؤها إلى توتر العلاقات مع المكسيك، في الوقت نفسه صعدت الإدارة الأمريكية من حدة خلافاتها مع فنزويلا بإدراجها ضمن الأنظمة اليسارية التي تُمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي، وذلك على الرغم من أن فنزويلا واحدة من أكبر خمسة موردين للنفط للولايات المتحدة الأمريكية. كما اتجهت الإدارة الأمريكية إلى تخفيض المساعدات إلى دول أمريكا اللاتينية بما فيها الدول الحليفة والصديقة لواشنطن، مع تأكديها على ضرورة مشاركة دول أمريكا اللاتينية “الأعباء المترتبة على التعاون في المجالات الأمنية”.

إن سياسة ترامب الانعزالية قد أفرزت سياسات خارجية عدائية تجاه دول أمريكا اللاتينية، وأحدثت فوضى دولية، أدت إلى تراجع الدور الأمريكي على الساحتين العالمية والإقليمية خاصةً في أمريكا اللاتينية. أرجع الباحث هذه السياسات إلى سمات الرئيس الشخصية التي تتمثل بكونه شخصية سلطوية تميل للانفراد بالرؤية والقرارات، والذي لا يثق في المؤسسات الأمريكية، الأمر الذي دفع به إلى الإدارة من خلال دائرته العائلية الضيقة من مستشاريه كابنته “إيفانكا” وزوجها “جاريد كوشنر”، الأمر الذي أدى إلى تنامي تأثير اللوبيات على القرار الأمريكي متجاوزةً بذلك تأثير المؤسسات الأمريكية.

وفي شأن التغير والاستمرارية، فقد خلصت الدراسة إلى أنه على الرغم مما بدا من انصراف الرؤساء الأربعة محل الدراسة عن صياغة سياسة خارجية متكاملة تجاه أمريكا اللاتينية، فإن البراجماتية قد سيطرت في كثيرٍ من الأحيان من حيث الحرص على تكريس نمط سياسة التبعية في العلاقات. ولكن على جانب آخر، ورغم رسوخ تقاليد النظام السياسي الأمريكي، ظل لشخصية وسمات الرئيس أثرها في السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية بين التغير والاستمرار.

خلاصة نقدية:

على الرغم من إسهاب الباحث في عرض المحددات الداخلية والخارجية لكل فترة رئاسية، على غرار ما جاء في المقدمة النظرية للدراسة والتزامه الشديد بتلك الطريقة المدرسية، إلا أن الدراسة جاءت مفككة ولا تعبر عن وحدة زمنية، وذلك على الرغم من المنهج المقارن والأسئلة البحثية التي طرحها الباحث والمنصبة جُلها على عملية الاستمرار والتغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول القارة اللاتينية.

من جانبٍ آخر، تظل منهجية الدراسة القائمة على التجميع دون النقد والتعقيب تصم الدراسة بالضعف في بعض النواحي النظرية، لذلك نقدم هنا بعض الملاحظات كتعقيبٍ عام:

الملاحظة الأولى: على الرغم من المادة الغزيرة التي أُتيحت للباحث، فإنه لم يعمل على توظيفها بالشكل الذي يُظهر هويته وبصمته البحثية ويضيف إلى تلك المادة، بل إننا وجدناه عبر صفحات الدراسة يُجمع تلك المادة ويرتبها ويضيف إليها كتابات أخرى خارج نطاق الدراسة، فعلى سبيل المثال، توسع الباحث في ذكر الأنماط الشخصية لكل رئيس دون توضيح أثر تلك الأنماط في توجيه السياسات الخارجية، خاصةً في ظل العوامل المؤسسية الأخرى، وأثر ذلك كله على مسألة التغير والاستمرارية.

الملاحظة الثانية: عدم التزام الباحث بالمنهج المقارن الذي اعتمده كمنهج للدراسة، وعدم إجابته عن الأسئلة البحثية التي وضعها في المقدمة المنهجية أو بداخل كل مبحث. ومن ذلك أنه لم يُجب على مسائل التغير والاستمرار في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في فترة بوش الابن مقارنةً بالفترة السابقة عليها، وكذلك مع أوباما مقارنةً بفترة بوش الابن، وترامب مقارنةُ بأوباما.

الملاحظة الثالثة: ترتبط بما سبقها، وتتعلق بالقضايا التي قام الباحث باختيارها حتى يتسنى له مقاربة السياسة الخارجية لكل رئيس، لم نجد الباحث قام باختيار قضايا موحدة بما يُتيح له اختبار منهجه وأسئلته البحثية، وذلك قد يعود إلى المادة البحثية التي أُتيحت له ووجهته للكتابة عن مسائل منقطعة لا يوجد بينها رابط.

الملاحظة الرابعة: تتعلق بكون عنوان الدراسة لا يُعبر عن محتواها الداخلي المتوقع، حيث لم يقم الباحث بدراسة علاقات الولايات المتحدة بقطاعات فرعية داخل القارة اللاتينية، فضلًا عن دراسة علاقة واشنطن بكافة دول القارة. الأمر الذي أدى لانتقائية الاختيار من القضايا، وكان من الأجدى تقسيم دول القارة إلى قطاعات أو فئات فرعية تٌسلط الضوء على الخصائص البارزة التي تجعل أعضاء كل فئة فرعية يتصرفون بشكلٍ مشابه في بعض الجوانب المهمة، حتى يكون من اليسير بعد ذلك تقييم سياسات واشنطن تجاه تلك الدول، ومن ثم دراسة عملية التغير والاستمرارية في سياستها بتغير الإدارات في البيت الأبيض[2].

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_____________________

الهوامش 

[1] محمد سيد إمام أحمد وهيدي، محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية فترة ما بعد الحرب الباردة، رسالة ماجستير، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2020).

[2] Abraham F. Lowenthal, Disaggregating Latin America: Diverse Trajectories, Emerging Clusters and their Implications, Brookings, 01 November 2011, Accessed: 25 December 2022, 01:00, available at: https://cutt.us/w7Vxw.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى