كوسوفا بعد عقد من الاستقلال: الطموح والواقع والآفاق

مقدمة:

كانت مشكلة كوسوفا واحدة من مشاكل يوغسلافيا ما بعد تيتو، حيث إن المراقبين كانوا قبيل وفاته بسنوات قد كرّسوا القلق على مصير يوغسلافيا بعد غيابه، وهو ما حدث في الواقع بعد 4/5/1980. فقد أدّت مظاهرات الطلبة في شوارع كوسوفا خلال ربيع 1981، أي قبل سنة من الذكرى السنوية الأولى لوفاته، إلى دخول يوغسلافيا في نفق لم تخرج منه إلا بانهيارها لتصدق بذلك النبوءة التي أطلقت عام 1981 بأن كوسوفا هي “بداية الأزمة في يوغسلافيا وخاتمتها”. وبالفعل فقد استقلت جمهوريات يوغسلافيا إما بالحرب (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) مع صربيا أو التفاهم (مكدونيا والجبل الأسود) خلال 1991-2006، بينما احتاج استقلال كوسوفا إلى حرب أوروبية في 1999 تمثلت في قيام قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقصف صربيا لمدة 74 يومًا لإرغام القوات الصربية على الانسحاب من كوسوفا.

أولًا- مقدمات الاستقلال:

بعد وصول سلوبودان ميلوشيفيتش إلى رئاسة الحزب الشيوعي في جمهورية صربيا في 1986 برزت إلى السطح الدعوة إلى “مراجعة يوغسلافيا التيتوية” و”توحيد الصرب” التي كانت تعني إعادة بسط سيطرة جمهورية صربيا على الوحدتين الفدراليتين كوسوفا وفويفودينا، وهو ما نجح فيه ميلوشيفتش في مارس 1989 ليتحول بذلك إلى بطل قومي في نظر الصرب الذين اجتمع حوالي مليون منهم للاحتفال بذاك “النصر” بمناسبة الذكرى الـ600 لمعركة كوسوفا[1].
إلا أن الغالبية الألبانية عارضت إلغاء الحكم الذاتي الواسع الذي كانت تتمتع به كوسوفا بموجب دستور 1974، حيث اُعتُبِرت وحدة فدرالية أو من مكوّنات الفدرالية اليوغسلافية، وعبّرت عن ذلك بمظاهرات واسعة في أواخر 1989 حين فقد الحزب الشيوعي احتكاره للحياة السياسية. وفي هذا السياق تأسّس في نهاية 1989 حزب “الرابطة الديمقراطية الكوسوفية” برئاسة د. إبراهيم روغوفا I.Rugova الذي تصدّر المعارضة السياسية المطالبة باستعادة كوسوفا لوضعيتها الفدرالية. ومع هذا الزخم السياسي اجتمع غالبية “مجلس الشعب” في كوسوفا (115 عضوًا) أمام مبنى المجلس، بعد أن منعتهم الشرطة الصربية من الدخول، في 2 يوليو 1990 وأعلنوا “الإعلان الدستوري” الذي ينص على استقلال كوسوفا ومساواتها بالوحدات الفدرالية الأخرى في كوسوفا. ولكن بلغراد ردت على ذلك بإلغاء “مجلس الشعب” في كوسوفا، ولذلك اجتمعت غالبية الأعضاء في مدينة كاتشانيك في 7 سبتمبر وأعلنوا “دستور جمهورية كوسوفو” ضمن الإطار اليوغسلافي[2].
وبالاستناد إلى هذا تمت الدعوة إلى استفتاء حول إعلان كوسوفا “دولة مستقلة وذات سيادة” في 30 سبتمبر 1991، حيث وصلت نسبة المشاركة إلى 87,1% ونسبة المؤيدين للاستقلال إلى 99,87%. وفي 24 مايو جرت أول انتخابات برلمانية أسفرت عن فوز “الرابطة الديمقراطية” بـ76,44% من الأصوات وانتخاب إبراهيم روغوفا رئيسًا للجمهورية. ولكن كل هذه الإجراءات جرت وسط تجاهل تام لبلغراد، بينما لم تعترف بالاستقلال المعلن لـ”جمهورية كوسوفا” سوى ألبانيا المجاورة. وفي هذا الحال أصبحت كوسوفا في وضع لا مثيل له؛ إذ كانت هناك جمهورية معلنة وحكومة تتحمل مسؤوليتها عن الصحة والتعليم… إلخ في الوقت الذي لا تعترف فيه بلغراد بهذا “الكيان الموازي” ولا تنفق عليه. وبسبب المصاعب الجمة بدأ التدخل الدولي بواسطة “جماعة القديس إديجو” الكاثوليكية التي تمكنت من عقد اتفاق موقع بين إبراهيم روغوفا (دون أي لقب) وبين الرئيس ميلوشيفيتش لـ”تطبيع التعليم” كخطوة أولى في سبتمبر [3]1996.
ولكن فشل هذا الاتفاق أفسح المجال للإحباط من جدوى “الكفاح السياسي” مع نظام ميلوشيفيتش وبروز الدعوة إلى “العمل المسلح”، وهو ما جعل “جيش تحرير كوسوفا” يلقى ترحيبًا وسط المحبطين من قيادة روغوفا. ومع العمليات الأولى لـ”جيش تحرير كوسوفا” في 1996 وردّ القوات الصربية بعنف عليها تحولت كوسوفا إلى ساحة للصراع بين العدد المتزايد لقوات “جيش تحرير كوسوفا” والقوات الصربية خلال 1998، التي شهدت ارتكاب مجازر ضد المدنيين (قرية أوبريObri إلخ) استدعت تدخلًا دوليًا متزايدًا. فقد أصدر مجلس الأمن في 31/3/1998 القرار رقم 1160 الذي أيّد فيه الجهود التي تبذلها منظمة الأمن والتعاون الأوروبي ومجموعة الاتصال الدولية لتسوية الأزمة، ودعا تحت تهديد الفصل السابع إلى الحوار بين الصرب والألبان لمنح كوسوفو حكمًا ذاتيًا أوسع ضمن الوحدة الإقليمية ليوغسلافيا الفدرالية التي أصبحت تقتصر على صربيا والجبل الأسود وكوسوفا وفويفودينا. وقد تبع ذلك قدوم ريتشارد هولبروك إلى بلغراد وإقناع ميلوشيفيتش بالقبول ببعثة مدنية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا لمراقبة وقف إطلاق النار[4].
ولكن قيام القوات الصربية بارتكاب مجزرة راتشاك Raçak في 15/1/1999 حرّك المجتمع الدولي وأرغم الصرب والألبان على الاجتماع في قلعة رامبوييه الفرنسية في مطلع 1999 للاتفاق على خطة سلام تحت غطاء دولي. وقد تضمنت خطة السلام المقترحة من مجموعة الاتصال الدولية ما يرضي الطرفين: حكم ذاتي واسع لكوسوفو ضمن يوغسلافيا الفدرالية لفترة انتقالية يحق للألبان بعد 3 سنوات إجراء استفتاء حول تقرير المصير مع وجود عسكري دولي لضمان تطبيق الاتفاق. وبعد مماحكات وافق الألبان في 13/3/1999 على الخطة بينما رفضها الصرب، وقام هولبروك في 22/3/1999 بزيارة ميلوشيفيتش ونقل رسالة أخيرة له بأن رفض الخطة يعني الحرب، وهو ما حدث بالفعل في 24/3/1999[5].
وبعد 78 يومًا من القصف على المواقع العسكرية الصربية اضطرت بلغراد إلى التوقيع على “اتفاق كومانوفو” في 9/6/1999 الذي ينص على انسحاب القوات الصربية من كوسوفا، في الوقت الذي كانت مجموعة الاتصال تعدّ فيه مشروع قرار لمجلس الأمن صدر في 10/6/1999 تحت الرقم 1244. وبموجب هذا القرار تحولت كوسوفا إلى محمية دولية لأجل “تيسير الوصول إلى عملية سياسية”، ولأجل الوصول إلى ذلك تشكلت “الإدارة الدولية المؤقتة للأمم المتحدة” UNMIK والقوات الدولية KFOR لحماية الحدود والأمن، وهو ما ساعد على عودة نصف سكان كوسوفا الذين كانوا قد هُجّروا خلال 1998-1999 إلى الدول المجاورة. وخلال الأسابيع الأولى جرت عملية سحب السلاح من “جيش تحرير كوسوفا” الذي تحول بعض أفراده إلى “فيلق حماية كوسوفا” والشرطة الكوسوفية الجديدة، كما أعلن قائده هاشم ثاتشي عن إنشاء حزب سياسي جديد (الحزب الديمقراطي) للمشاركة في العملية السياسية الجديدة[6].
وبعد نجاح الإدارة الدولية في عقد أول انتخابات بلدية في أكتوبر 2000 وأول انتخابات برلمانية في نوفمبر 2001، التي تقدم فيها حزب “الرابطة الديمقراطية”، انتخب البرلمان الكوسوفي الجديد في 28 فبراير 2002 إبراهيم روغوفا رئيسًا وتشكّلت حكومة ائتلافية برئاسة بيرم رجبي B.Rexhepi. وبهذا التطور أخذ البرلمان يصدر القوانين الجديدة التي تسدّ الفراغ القانوني بعد فصل كوسوفا عن صربيا، وأخذت الصلاحيات تنتقل بالتدريج من الإدارة الدولية إلى المؤسسات الكوسوفية الجديدة. ومع الانتخابات البرلمانية الثانية في 2004 انتقلت الإدارة الدولية إلى وضع معايير تحكم المفاوضات بين كوسوفا وصربيا للاتفاق على الوضع النهائي[7].

ثانيًا- إعلان الاستقلال:

في 27 مايو 2005 أعطى مجلس الأمن الضوء الأخضر للبدء في المفاوضات بين الألبان والصرب، وبعد تقرير ممثل الأمين العام كوفي عنان إلى المجلس في نوفمبر أصدر المجلس في 24/11/2005 قراره للبدء في مفاوضات الوضع النهائي لكوسوفا بين الألبان والصرب. وقد تبع ذلك القرار تعيين الرئيس الفنلندي السابق مارتي أهتيساري M.Ahtisaari ممثلًا خاصًا للأمين العام للأمم المتحدة حول تحديد الوضع النهائي لكوسوفا. وبعد عدة جولات من المفاوضات بين الصرب والألبان في فيينا خلال 2006 التي لم توصل إلى شيء قام أهتيساري بتقديم تصوّره حول “الاستقلال المشروط”، حيث قيّد رغبة الألبان بالاستقلال بعدة شروط ترضي صربيا: حكم ذاتي للأقلية الصربية في كوسوفا وحقها بعلاقة خاصة مع صربيا، ونصّ الدستور على الحيلولة دون أي اتحاد لكوسوفا مع ألبانيا في المستقبل وعلى أن يخلو الدستور من أية إشارة إلى كوسوفا باعتبارها دولة بغالبية ألبانية ومسلمة (95%) إلخ[8].
ومع موافقة القيادة الألبانية على هذه الشروط التأمَ البرلمان الكوسوفي في 17 فبراير 2008 وأعلن بغالبية الأصوات (مع انسحاب النواب الصرب) على وثيقة إعلان الاستقلال عن صربيا وسط حماس كبير بين الألبان في البلقان، لتولد بذلك أحدث دولة أوروبية تتميز بأعلى نسبة من المسلمين (95%) وسط معارضة شرسة من صربيا التي حذرت من تبعات ذلك “الانفصال” في المستقبل (تشكيل “ألبانيا الكبرى” و”دولة إسلامية راعية للإرهاب” إلخ).

ثالثًا- التحديات التي واجهت دولة كوسوفا:

عانت كوسوفا الدولة حديثة التشكيل من العديد من التحديات على صعيد العديد من المستويات، منها:
1- الاعترافات الدولية:
في الأيام الأولى التي تلت إعلان الاستقلال تتابعت اعترافات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بينما بقيت الأنظار شاخصة إلى الدول العربية والإسلامية مع الاندفاع الصربي- الروسي للحيلولة دون اعترافها باستقلال كوسوفا. فقد بادرت تركيا والسنغال وأفغانستان إلى الاعتراف فورًا دونما انتظار للقمة الحادية عشرة لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي كانت مقررة في 13-14 مارس 1999. ومع أن الأمين العام للمنظمة أكمل الدين إحسان أوغلو أعلن في اليوم التالي لإعلان الاستقلال (18 فبراير) عن تأييده وسعى إلى حثّ بعض الدول للاعتراف باستقلال كوسوفا إلا أن ضغط اللوبي الصربي- الروسي بين الدول الأعضاء أدى إلى أن تتخذ القمة قرارًا بالعلم وترك الاعتراف بالاستقلال للدول وفق علاقاتها الثنائية[9].
وبعد هذه القمة تتابعت الاعترافات العربية (الإمارات والسعودية والأردن وموريتانيا وجيبوتي والصومال وقطر وعُمان… إلخ) والإسلامية (ماليزيا والغابون ونيجيريا… إلخ) خلال 2008-2011 لتصل إلى حوالي المئة. وفي هذا السياق كان هناك اهتمام كوسوفي كبير باعتراف مصر، وهو ما لم يتحقق إلا في 26/6/2012 بعد تطور سريع في العلاقات وتبادل الزيارات على أعلى مستوى لتكون مصر الدولة الـ101 التي تعترف باستقلال كوسوفا[10]. وعلى الرغم من اعتراف معظم الدول العربية والإسلامية باستقلال كوسوفا إلا أن هذا لم ينعكس على تطور العلاقات، حيث إنه لم تُفتح بعد أية سفارة عربية في بريشتينا ولا توجد سفارات لدول إسلامية سوى لتركيا وألبانيا بحكم العلاقة التاريخية، ولم تحظ بريشتينا بزيارات لمسؤولين عرب كما كان الأمر مع المسؤولين الأوروبيين[11].
ويلاحظ أن الاعترافات تباطأت مع وقع الأزمات الداخلية في كوسوفا خلال 2014-2015، التي سنتعرض لها لاحقًا، وتوقفت عند رقم 111 (مع الاختلاف ما بين الموقع الرسمي للخارجية الكوسوفية والخارجية الأمريكية). وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من الاعترافات لا يزال اللوبي الصربي- الروسي يؤثر في عدم اعتراف بعض الدول العربية والإسلامية (إيران والعراق ولبنان… إلخ) باستقلال كوسوفا، كما أن الفيتو الصيني- الروسي لا يزال يغلق الباب أمام انضمام كوسوفا إلى الأمم المتحدة[12]. وفي مثل هذا الوضع سعت كوسوفا إلى الانضمام إلى المنظمات الدولية مثل اليونسكو والفدرالية الدولية للرياضة، حيث فشلت في الأولى بفارق 3 أصوات ونجحت في الثانية مما سمح لكوسوفو بالمشاركة في الألعاب الأولمبية الأخيرة في البرازيل حيث فازت بميدالية ذهبية كان لها دور كبير بالتعريف بالدولة الجديدة[13].
2- الدستور الإشكالي:
تفيد مقدمة الدستور الجديد أنه وُضع بالاستناد إلى خطة أهتيساري لـ”الاستقلال المشروط”، وقد أقرّه البرلمان في 9 مايو 2008 على أن يبدأ العمل به في 15 يونيو 2015. وبالاستناد إلى ذلك فقد خلت الدولة التي يؤلف الألبان المسلمون حوالي 95% من سكانها من أية إشارة إلى قومية أو ديانة الغالبية بل كرّسها الدستور باعتبارها “دولة المواطنين المتساوين”، مع تأكيده على أن “جمهورية كوسوفا مجتمع إثني متعدد” وعلى أن “الألبانية والصربية لغتان رسميتان” وتخصيص عشرة مقاعد للصرب في البرلمان الكوسوفي (من أصل 120) مع الحق أن يترشحوا ضمن القوائم الحزبية الأخرى بما يمكّنهم أن يكون لهم حوالي 15-20 عضوًا في البرلمان الجديد[14].
ومع أن البند الأول في الدستور يصف جمهورية كوسوفا بأنها “مستقلة وذات سيادة وديمقراطية وواحدة وغير قابلة للقسمة” إلا أنه بذلك لم يكن يعبّر عن واقع الحال الجديد منذ 1999. ففي يونيو 1999 وقفت القوة الفرنسية التابعة للقوات الدولية على جسر نهر إيبار Ibar الذي يفصل مدينة متروفيتسا Mitrovoca إلى قسمين لمنع الألبان من العبور نحو الجزء الشمالي ذي الغالبية الصربية، الذي اشتهر منذ ذلك الحين باسم “جيب متروفيتسا”. وفي الواقع بقي هذا الجزء المهم من حيث المساحة (حوالي 12%) والثروة الباطنية، الذي يضم أربع محافظات (متروفيتسا الشمالية ولبوسافياش وزفتشان وجوبين بوتوك)، من حيث الشكل ضمن خارطة كوسوفا على علم الدولة الجديدة إلا أنه في الواقع استمر جزءًا من صربيا المجاورة بالأعلام المرفوعة والاقتصاد والنقد والتعليم والصحة… إلخ، ولا يزال يمثل تناقضًا صارخًا مع البند الأول للدستور.
ومن ناحية أخرى فقد نصّ الدستور الكوسوفي في البند الثامن على أن “جمهورية كوسوفا دولة علمانية ومحايدة في أمور العقائد الدينية”، ولكن من المثير أن الدستور في طبعته الألبانية استخدم تعبير laic للعلمانية، بينما استخدمت الطبعتان الإنكليزية والصربية تعبير secular الذي يختلف كثيرًا عن الأول[15]، مما ولّد تناقضًا لاحقًا في المجتمع. ففي 2011 أقرّ البرلمان في كوسوفا اللائكيّة “قانون التعليم ما قبل الجامعي” الذي نصّ في البند الثالث على أن “المؤسسات الحكومية العامة يجب أن تمتنع عن تدريس الدين”[16]، في الوقت الذي سمح فيه القانون الجديد في صربيا السيكولارية بتعليم الدين بوصفه مادةً اختيارية. وبذلك أصبح لدينا ثنائية في التعليم حيث إن المدارس الحكومية الألبانية تمتنع عن تدريس الدين بينما المدارس الحكومية في المحافظات ذات الغالبية الصربية تدرس الدين[17].
3- السيادة المركّبة: كوسوفا وصربيا، الأونميك والكفور والأولكس
على الرغم من مرور عقد على إعلان الاستقلال إلا أن البند الأول في الدستور الكوسوفي (دولة مستقلة ذات سيادة وواحدة) لا ينطبق على الواقع حيث لدينا تعدّد في السيادات. فمن ناحية لا تزال صربيا حاضرة في قسم من كوسوفا بأعلامها واقتصادها ونقدها وشبكة اتصالاتها ومناهج تعليمها وأحزابها التي يصوّت لها الصرب في كوسوفا خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية الصربية… إلخ. وتبدو هذه السيادة الصربية أو السيادة المشتركة بشكل خاص في “جيب متروفيتسا” المجاور لصربيا، بينما هي بدرجة أقل في المحافظات الست ذات الغالبية الصربية داخل كوسوفا، أي التي لا يوجد تواصل جغرافي بينها وبين صربيا.
ومن ناحية أخرى لا تزال “الإدارة الدولية للأمم المتحدة” (الأونميك)، التي تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن 1244 بتاريخ 10/6/1999، موجودة في المبنى الخاص بها في قلب بريشتينا على الرغم من مرور عقد منذ استقلال كوسوفا. وبموجب هذا القرار لا يزال مجلس الأمن، صاحب الولاية على كوسوفا لموجب القرار، يناقش الوضع في كوسوفا في جلسة خاصة كل ستة شهور كان آخرها في شهر أغسطس 2016 التي تشابك فيها بالكلمات وزير الخارجية الصربي إيفيتسا داتشيتش وسفيرة كوسوفا في واشنطن فلورا تشيتاكو V.Çitaku. فصربيا، بدعم من روسيا، تحرص على أن تبقى كوسوفا تحت ولاية القرار 1244 إلى أن يتم الحل النهائي الذي يرضي صربيا وتعطي الضوء الأخضر لروسيا لتجاوز القرار 1244، وهو ما تأخذ به بعض الدول الأوروبية حتى الآن[18].
وإلى جانب “الأونميك” لا تزال القوات الدولية (الكفور) التي دخلت كوسوفا بموجب القرار 1244 في يونيو 1999 مرابطة في كوسوفا، ولا تزال الحكومة الكوسوفية لا تملك السيادة على الفضاء الكوسوفي لعدم وجود جيش أو أية قوة جوية على الرغم من تكرار مطالبها في الحملات الانتخابية لخلق جيش كوسوفي.
وأخيرًا لدينا “بعثة الاتحاد الأوروبي للأمن والقانون” أو “الأولكس”Eulex التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي بمساعدة الدولة الوليدة في مجال بسط دولة القانون. ومن صلاحيات هذه البعثة القيام بالتحقيقات في مجال الجريمة المنظمة والفساد ورفع قضايا ضد الأفراد والهيئات بالتعاون مع المؤسسات الكوسوفية. وفي 2016 قامت “الأولكس” بأكبر صيد لها حين وجّهت باعتقال حازم سيلا H.Syla عضو البرلمان الكوسوفي وقائد الأركان السابق لـ”جيش تحرير كوسوفا” مع مجموعة من مساعديه بتهمة الاستيلاء على الأملاك العامة وتحويلها إلى أملاك خاصة، مما أضرّ الدولة بأكثر من 30 مليون يورو[19].
4- المفاوضات مع صربيا:
مع فوز الحزب الديمقراطي برئاسة بوريس تاديتش في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في صربيا 2007-2008 بشعار “صربيا الأوروبية” بدأت صربيا مسيرتها الجديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي كان يشجعها على ذلك لامتصاص التوتر في غرب البلقان. وفي هذا السياق حصلت صربيا على “مكافأة” في نهاية 2009 بضمّها إلى منطقة “الشنغن” للخروج من عزلتها ولإطلاق الحوار الأولي مع كوسوفا بوساطة الاتحاد الأوروبي على أساس أن الدولتين حسمتا خياراتهما لأجل الانضمام إلى الاتحاد. وهكذا بدأت أول “مصافحة” كوسوفية – صربية في بروكسل في مارس 2011 على مستوى منخفض بين المسؤولين لتكسر جبل الجليد المتراكم منذ 1999. وقد رؤي أن تكون المفاوضات متدرجة، أي أن تبدأ بحل الإشكالات التي يعاني منها الصرب والألبان في الأمور اليومية والحياتية لتتدرج صعودًا إلى أن تصل إلى القضايا السياسية. وهكذا تم التوصل إلى أولى الاتفاقيات في يوليو 2011 التي تنظم الانتقال بين البلدين (الذي أصبح يتم بالهوية الشخصية) والاعتراف المتبادل بالشهادات المدرسية والجامعية… إلخ[20].
ومع تدرج المباحثات في بروكسل برعاية الاتحاد الأوروبي لـ”تطبيع” العلاقات بين صربيا وكوسوفا (الذي أصبح شرطًا على صربيا لأجل التقدم في المفاوضات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي) تمّ التوصل إلى أهم اتفاقية في 25 أغسطس 2015 حول حل وسط لاندماج الأقلية الصربية ضمن الدولة الكوسوفية. وقد عُرفت هذه الاتفاقية باسم “اتحاد المحافظات ذات الغالبية الصربية في كوسوفا” التي فجّرت الخلاف منذ ذلك الحين بين الحكومة والمعارضة في كوسوفا. فعلى حين أن الحكومة اعترفت بأن التنازلات المقدمة كان لابد منها لأجل أن تكون كوسوفا كما ينص دستورها “دولة مستقلة وذات سيادة وواحدة”، أي لأجل منع تكريس انقسام كوسوفا الموجود على الأرض، اعتبرت المعارضة أن تأسيس مثل هذا الكيان على مساحة 25% من مساحة كوسوفا (مع أن نسبة الصرب لا تتجاوز الآن 5%) إنما هو على نمط “جمهورية الصرب” في البوسنة مع اختلاف الاسم فقط لأن الكيان الجديد سيكون به رئيس معترف به دوليًّا ومجلس وحكومة… إلخ[21].
ولأجل ذلك تصاعد الخلاف بين الموالاة (“الرابطة الديمقراطية” برئاسة عيسى مصطفى و”الحزب الاشتراكي” برئاسة هاشم ثاتشي) والمعارضة (“حركة تقرير المصير” برئاسة ألبين كورتي و”الائتلاف لأجل مستقبل كوسوفا” برئاسة راموش خير الدين و”المبادرة لأجل كوسوفا” برئاسة فاتمير ليماي) ليصل إلى الصدام اللفظي والمباشر مع قوات الشرطة في الشارع وداخل البرلمان مع إلقاء العبوات المسيلة للدموع لمنع إقرار هذه الاتفاقية، مما أصبح يثير المخاوف مما هو أسوأ[22].
5- العلاقة مع الاتحاد الأوروبي:
أبرز الدستور الكوسوفي في مقدمته الرغبة في الاندماج الأوروبي- الأطلسي، أي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وقد عبّرت كل الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال على الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أسرع وقت، خاصة وأن 22 دولة من دوله الـ27 اعترفت بكوسوفو.
ولكن بروكسل تأنّت في استجابتها لرغبة الحكومات الكوسوفية إلى أن تتضح الظروف في صربيا المجاورة لتقبل كوسوفا كأمر واقع وليس بالضرورة الاعتراف بها. وهكذا بعد أن تقدّمت صربيا بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع خريطتها التي تعبر عن الواقع الجديد (دون كوسوفا) بدأت بروكسل تذكر “الأفق الأوروبي” لكوسوفا وتطالبها ببعض الإصلاحات كشرط للتوقيع على “اتفاقية الاستقرار والشراكة”، التي تعتبر الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما تمّ بالفعل في 2013 واعتُبِرَ أهم إنجاز لكوسوفا منذ الاستقلال على صعيد العلاقة مع الاتحاد الأوروبي على الرغم من التقدم البطيء في تنفيذ ما هو مطلوب[23].
وكما هو الأمر مع الدول المجاورة فقد كانت الخطوة الثانية المتوقعة هي ضم كوسوفا إلى منطقة “الشنغن”، أي تمكين الكوسوفيين من السفر بحرية إلى دول الاتحاد الأوروبي وذلك بعد أن حظيت صربيا ومكدونيا الجبل الأسود بذلك في 2009 وألبانيا والبوسنة في 2010. وقد بدأت الوعود بذلك منذ 2012 مع مطالبة السلطات الكوسوفية بسلسلة من الإصلاحات والإجراءات الفنية، حتى أصبحت التسريبات والتصريحات تذكر 2016 موعدًا مؤكدًا. ولكن الأمور تعقدت في صيف 2016 مع بروز الخلاف بين الموالاة والمعارضة حول إقرار اتفاقية ترسيم الحدود مع جمهورية الجبل الأسود. فقد كانت الحكومة الكوسوفية تسرّعت بإقرار الاتفاقية في أغسطس 2015 ولكن المعارضة كشفت عن تنازلات لصالح الجبل الأسود مما حوّل صيف 2016 إلى أزمة سياسية حادة في الشارع والبرلمان الذي عجز عن تمرير الاتفاقية في 1/9/2016. وبسبب ذلك فقد قرّر البرلمان الأوروبي في 5/9/2016 تأجيل ضم كوسوفا إلى منطقة “الشنغن” إلى أن يتم إقرار اتفاقية ترسيم الحدود مع الجبل الأسود بعد النقاش الذي دار حول ذلك في اللجنة البرلمانية للحقوق المدنية[24].
6- المحكمة الدولية الخاصة لجرائم الحرب :
من المعايير المعلنة وغير المعلنة لانضمام كوسوفا إلى الاتحاد الأوروبي محاربة الفساد والجريمة المنظمة في كوسوفا التي كثر الحديث عنها بعد الاستقلال. ولكن كان من الواضح أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كانت تفضّل الصمت عن حجم الفساد المتزايد لأجل تسويق استقلال كوسوفا باعتباره “قصة نجاح” للغرب بعد حرب 1999.
وقد بدأ الحديث عن الفساد يخرج إلى العلن بعد أن قدّم السيناتور السويسري ديك مارتي D.Mart في ديسمبر 2010 تقريرًا للمجلس الأوروبي عن “جرائم حرب” منسوبة لـقيادات في “جيش تحرير كوسوفا” خلال 1998-1999، ومن ذلك انتزاع أعضاء من مدنيين والمتاجرة بها. وعلى الرغم من نفي السلطات الكوسوفية لذلك واعتبار التقرير “من وضع بلغراد”، إلا أن إقرار المجلس الأوروبي للتقرير في 2011 دفع قيادة “البعثة الأوروبية للأمن والقانون” (الأولكس) للتحقيق في ذلك. وبسبب تسرّب الفساد الموجود في كوسوفا إلى أجهزة “الأولكس” الموجودة على الأرض فقد تمّ تكليف وحدة بحث مستقلة برئاسة القاضي الأمريكي كلينت وليامسون الذي انتهى بعد ثلاث سنوات من التحقيق إلى وجود أدلة قوية على الاتهامات المذكورة، والتوصية في 29/7/2014 بتشكيل محكمة دولية خاصة للتحقيق في هذه الاتهامات وإصدار ما تراه مناسبًا من أحكام[25].
وبعد أزمة ربيع 2014 وتشكل ائتلاف حكومي جديد بدعم أوروبي- أمريكي تقدّمت الحكومة الجديدة في يونيو 2015 بمشروع قانون لتعديل الدستور الكوسوفي لكي يسمح بتأسيس المحكمة الدولية التي ستكون مرجعيتها وسلطتها فوق القوانين الكوسوفية. ومع فشل الائتلاف بتأمين ثلثي الأصوات تعرّضت المؤسسات الكوسوفية إلى ضغوط بل وتحذيرات أوروبية- أمريكية من مغبة عدم القبول بتشكيل المحكمة الدولية الخاصة لجرائم الحرب المنسوبة لـ”جيش تحرير كوسوفو”، وهو ما تمّ أخيرًا في 3 أغسطس بصعوبة بعد أن نجح الائتلاف الحكومي بفضل أصوات النواب الصرب في تأمين 82 صوتًا من أصل 120 في البرلمان لتمرير تعديل الدستور الكوسوفي ليجيز بذلك تشكيل المحكمة الدولية الخاصة التي ستتخذ من لاهاي مقرًّا لها. وحسب تسريبات الصحافة فإن المدعي العام للمحكمة دافيد شونديمان D.Schwendiman سيعلن القائمة الأولى للمتهمين في نهاية 2016، التي ستشمل ثمانية متهمين. وقد نُقل عنه تصريحه بهذه المناسبة “أن المنصب لن يحمي صاحبه” في إشارة إلى كل من هاشم ثاتشي رئيس الجمهورية، وقدري فيصلي رئيس البرلمان[26].
7- الأزمة السياسية في 2014 وتداعياتها:
في مارس 2014 بدأت المعارضة لحكومة هاشم ثاتشي تضغط لعقد انتخابات برلمانية مبكرة، وهو ما تمّ في يونيو 2014. وعشية الانتخابات سربّت جهة ما للصحافة تقريرًا لاستخبارات حلف شمال الأطلسي يكشف فيه عن المافيات الجديدة التي تشكلت في كوسوفا من القادة السابقين لـ”جيش تحرير كوسوفا” الذين أصبحوا الآن قادة “الحزب الديمقراطي”، وعن تعاطي هذه المافيات لتهريب المخدرات والدخان والبشر… إلخ. وكان من الواضح أن “تسريب” هذا التقرير كان يهدف إلى التأثير على توجهات الناخبين[27].
وبالمقارنة مع الانتخابات السابقة فقد دخل هاشم ثاتشي رئيس “الحزب الديمقراطي” الانتخابات مع تحالف مع الأحزاب الصغيرة (“حزب العدالة” ذي التوجه الإسلامي و”الحزب الديمقراطي المسيحي” و”حزب المحافظين” و”الحركة لأجل الوحدة”)، بينما فضّلت أحزاب المعارضة (“الرابطة الديمقراطية” و”حركة تقرير المصير” و”التحالف لأجل مستقبل كوسوفا” و”المبادرة لأجل كوسوفا”) المشاركة بقوائم مستقلة. وبعد الإعلان عن الانتخابات تبين أن التحالف الذي يقوده ثاتشي فاز بحوالي 31% من الأصوات بينما حل حزب “الرابطة الديمقراطية” وحده في المرتبة الثانية بحوالي 26% من الأصوات. وقد بادرت أحزاب المعارضة الأربعة بعد أن اختبرت قوتها الانتخابية إلى تشكيل تحالف أصبح يمثل أكثر من 50% من أصوات الناخبين أو 61 مقعدًا في البرلمان من أصل 120. ومع ذلك دخلت البلاد في أزمة سياسية بسبب الخلاف حول تفسير الدستور، حيث إن ثاتشي أصرّ على كونه الأحق بتشكيل الحكومة، وساعده في ذلك مناورات رئيسة الجمهورية عاطفة يحيى آغا ورئيس المحكمة الدستورية العليا أنور حساني، الذي عُين في منصبه بتدخل ثاتشي وأحيل لاحقًا إلى المحكمة بتهمة الفساد. وفي غضون ذلك كانت تجري ضغوط أوروبية-أمريكية على حزب “الرابطة الديمقراطية” للانسحاب من تحالف المعارضة وتشكيل ائتلاف حكومي مع ثاتشي، وهو ما تمّ في نوفمبر 2014. وحسب هذا التحالف الجديد فقد تمّ الاتفاق على أن يتولى عيسى مصطفى رئيس “الرابطة الديمقراطية” رئاسة الحكومة على أن يتولى ثاتشي رئاسة الجمهورية في ربيع 2016[28].
وقد أساءت هذه الأزمة التي أبقت كوسوفا دونما حكومة حوالي ستة شهور إلى صورة البلاد في الخارج، ومن ذلك تراجع الاستثمارات الأجنبية وتعاظم البطالة حتى وصلت في صفوف الشباب إلى 60,2% حسب إحصائيات البنك الدولي، مع العلم أن المجتمع الكوسوفي يغلب عليه الشباب، على حين أن نسبة البطالة العامة وصلت إلى 35,1% أي أسوأ من فلسطين[29]. وبسبب الإحباط العام من انشغال زعماء الأحزاب بمصالحهم الضيقة وانسداد الأفق أمام الشباب، جرى في نهاية 2014 وبداية 2015 ما سُمي بـ”الخروج الجماعي” للسكان من كوسوفو إلى دول الاتحاد الأوروبي في قوافل جماعية أعادت إلى الأذهان فترة التسعينيات، حيث غادر كوسوفو حوالي 100 ألف من سكانها إلى دول الاتحاد الأوروبي بحثًا عن أية فرصة للحياة، وهو ما قلّل بشكل واضح من عدد السكان في كوسوفا الذي كان يتراجع باستمرار[30].

خاتمة: كوسوفا على مفترق طرق:

على الرغم من تفاقم المعارضة ضد الائتلاف الحكومي في الشهور الأولى من 2016 سواء في الشارع أو في البرلمان، وهو ما بدأ يتحول إلى قلق من انقسام عمودي في المجتمع الكوسوفي وعلى تأثير ذلك على صورة كوسوفا في الخارج، أصرّ هاشم ثاتشي على أن يرشح نفسه رئيسًا للجمهورية خلفًا للسيدة عاطفة يحيى آغا بناء على الاتفاق بين الائتلاف الحكومي الذي تشكّل في نهاية 2014. ومع أن الأصوات تزايدت لصالح شخصية توافقية توحد الأمة عوضًا عن شخصية انقسامية إلا أن الائتلاف طرح ثاتشي مرشحًا لرئاسة الجمهورية في جلسة البرلمان التي عقدت لهذا الغرض في 26 فبراير 2016 ففشل ثاتشي في حصد غالبية الأصوات في الجولة الأولى حسب الدستور، ولم يتح له الفوز إلا في الجلسة الثالثة بالأغلبية البسيطة بفضل أصوات النواب الصرب[31]. وبذلك تحوّلت مؤسسة الرئاسة في كوسوفا إلى مشكلة بعد الرئيس الأول إبراهيم روغوفا (2002-2006)[32].
كان التفسير الوحيد لإصرار ثاتشي على ترشيح نفسه، مع وضوح انعكاس ذلك بشكل سلبي على الأزمة السياسية في البلاد، هو حرصه على التمتع بحصانة رئاسية بعد تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب في كوسوفا وبعد أن بدأت الرؤوس الكبيرة القريبة منه في السقوط والذهاب إلى السجون. ففي نهاية 2015 حكم بالسجن لمدة 18 سنة على اثنين من قادة “جيش تحرير كوسوفا” وهما سامي لوشتاكو S.Lushtaku رئيس بلدية إسكندراي وسليمان سليميS.Selimi سفير كوسوفا في ألبانيا لارتكباهما جرائم حرب خلال 1998-1999[33]. وبعيد انتخاب ثاتشي بأيام قبض على رئيس الأركان السابق لـ”جيش تحرير كوسوفا” وعضو البرلمان الكوسوفي عن “الحزب الديمقراطي” حازم سيلا H.Syla لاتهامه بالاستيلاء على أملاك عامة وتحويلها إلى أملاك خاصة مما أضر الدولة بأكثر من 30 مليون يورو[34].
ولم تمض أسابيع حافلة بالاحتقان حتى انفجرت فضيحة أكبر في أغسطس 2016 حين عمد موقع “إنسايدر” Insider إلى نشر عشرات التسجيلات الهاتفية بين قادة “الكيان الموازي” (وهو التعبير الكوسوفي الملطّف عن المافيا الجديدة) التي تبيّن حرص هؤلاء على السيطرة على مفاصل الدولة الكوسوفية من خلال تعيين أتباعهم على رأس المؤسسات العامة والاقتصادية والقضائية… إلخ. وفي الحقيقة كان الناشر الكوسوفي المعروف فيتون سوروي (رئيس فريق التفاوض الكوسوفي مع صربيا) أول من تجرأ وكشف في كتابه “أرجل الثعبان” الذي صدر عام 2014 على وجود “الكيان الموازي” في الدولة بحدس المحلل السياسي[35]، ولكن التسجيلات التي لا تزال تنشر حتى كتابة هذه الكلمات (منتصف سبتمبر) وثقت سيرورة “الإمساك بالدولة” كما يسميها سوروي. ومع هذه التسجيلات تبيّن أن “المرجع” الذي يعود إليه الجميع (بمن فيهم هاشم ثاتشي) هو آدم غرابوفتسيA.Grabovci رئيس الكتلة البرلمانية لـ”الحزب الديمقراطي” في البرلمان الكوسوفي، الذي اضطر إلى الاستقالة بعد أيام من نشر أولى التسجيلات بينما اضطرت النيابة العامة الكوسوفية في 26/8/2016 إلى البدء في التحقيق مع غرابوفتسي والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في التسجيلات[36].
في بداية سبتمبر 2016 تبدو كوسوفا في أزمة سياسية خانقة بعد فشل الائتلاف الحكومي في تأمين الأصوات اللازمة لإقرار اتفاقية ترسيم الحدود مع جمهورية الجبل الأسود في 1 سبتمبر 2016، وهو ما أدى إلى عدم موافقة البرلمان الأوروبي في 5/9/2016 على ضم كوسوفا إلى منطقة “الشنغن”، وهو الأمر الذي كان الائتلاف الحكومي يمنّي به النفوس طيلة 2014-2016. وبذلك صدق ثاتشي في تصريحه بتاريخ 19/8/2016 أن “كوسوفا في مفترق طرق”: إما الاندماج الأوروبي الأطلسي أو المجهول[37].
وفي الوقت نفسه خرجت مجلة The National Interest الأمريكية المتخصصة بالشؤون الجيوبوليتيكية بمانشيت على غلافها “كيف بنى الغرب دولة فاشلة في كوسوفا” يعبّر عن واقع الحال عن حصيلة العقد الذي تلا الاستقلال الكوسوفي. وتقوم الفكرة الأساسية في تحليل البرفسور أيدن هيهر A.Hehirعلى أن إصرار المجتمع الدولي على الحفاظ على الواجهة المصطنعة للسلام والاستقرار في كوسوفا أدى إلى أن يتسامح اللاعبون الكبار (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) مع الفساد وانتهاك القانون من قبل الشبكة الإجرامية القوية في كوسوفا. ويأخذ المحلل الكوسوفي المعروف أنور روبللي E.Robelli كنموذج على ذلك السكوت على الفساد أو النفاق امتداح نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لهاشم ثاتشي باعتباره “جورج واشنطن كوسوفا” مع معرفته بالأحوال في كوسوفا[38].
*****

الهوامش:

· أستاذ التاريخ المحديث والمعاصر في جامعة العلوم الإسلامية العالمية – عمّان.
[1] – للمزيد عما حدث في يوغسلافيا وكوسوفا بعد وصول ميلوشيفيتش للسلطة انظر:
-Robert Thomas, Serbia under Milosevic: Politics in the 1990s,London(Hurst)1999.
[2] – للمزيد حول ذلك انظر: محمد م. الأرناؤوط، كوسوفو ما بين الماضي والحاضر، بيروت (الدار العربية للعلوم) 2008، ص 84-85.
[3]- للمزيد حول ذلك انظر: محمد م. الأرناؤوط، كوسوفو/ كوسوفا بؤرة النزاع الألباني– الصربي في القرن العشرين، القاهرة (مركز الحضارة للدراسات السياسية) 1998، ص 97-111.
[4] Tim Judah, Kosovo:War and Revenge,Yale University Press 2002,pp224-234.
[5] للمزيد حول ذلك انظر: كوسوفو ما بين الماضي والحاضر، ص 101-104.
[6] للمزيد حول هذه التطورات انظر الفصل الثالث “ترتيب الأوضاع أكتوبر 2000- يونيو 2002” من كتاب:
Iain King& Whit Mason,Peace at Any Price,London(Hurst)2006
[7] للمزيد حول هذه التطورات انظر الفصل الخامس “الحسبة: مارس 2004 – مايو 2006” من المرجع السابق.
[8] كوسوفو ما بين الماضي والحاضر، ص 125-126.
[9] كان للأمين العام د. إحسان أوغلو دوره الإيجابي في اعتراف بعض الدول باستقلال كوسوفا، سواء في تصريحه عبر “الجزيرة” في اليوم التالي (18 فبراير) أو من خلال ثقة الرؤساء به. فقد حدثني آنذاك في لقاء خاص أن رئيس السنغال اتصل به ليستشيره ويسأله عن ما هو أفضل: الاعتراف أو عدم الاعتراف، وعندما أوضح له إحسان أوغلو رأيه سارع الرئيس السنغالي إلى الاعتراف باستقلال كوسوفا.
[10] من المصادفات كما قيل أن القرار الأخير الذي وقعه الرئيس السابق محمد مرسي كان الاعتراف باستقلال كوسوفا.
[11] على الرغم من كل هذه الاعترافات العربية لا نجد سوى زيارات محدودة للمسؤولين العرب إلى كوسوفا بعد استقلالها، حيث نشطت الزيارات بين كوسوفا ومصر خلال حكم الرئيس محمد مرسي فجاءها د. صفوت حجازي في أكتوبر 2011 وبكينام الشرقاوي في 17 فبراير 2012 لمشاركة كوسوفا باحتفالات عيد الاستقلال ثم انقطعت الزيارات بعد خلع الرئيس مرسي، وبعد تبرؤ السفير الكوسوفي في القاهرة من وجود “أية علاقة للشعب الكوسوفي بجماعة الإخوان المسلمين” قام وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بزيارة رسمية إلى كوسوفو في مارس 2014 ثم جاءها الملك الأردني عبد الله الثاني في نوفمبر 2015 ليكون أعلى مسؤول عربي يزور كوسوفا منذ استقلالها:
محمد م.الأرناؤوط، “تبرؤ” كوسوفا من الإخوان المسلمين شجع وزير خارجية الإمارات على زيارتها، جريدة “المستقبل” 25/3/2014، عبد الله الثاني في كوسوفو على وقع أزمات تعصف بالدولة الوليدة، جريدة “الحياة” 4/12/2015.
[12] بسبب مواقف روسيا والصين المعارضة لاستقلال كوسوفا فإن أمل كوسوفا الوحيد كما يراه د. عوني مزراكو A.Mazraku أستاذ الحقوق الأوروبية يكمن في انضمام كوسوفا إلى الاتحاد الأوروبي أولًا (وهو لا يمكن أن يتم في رأينا قبل 2030) ثم السعي من خلال آليات الاتحاد للضغط على روسيا والصين لكي تغيّر موقفها وتسمح لكوسوفا بالانضمام إلى الأمم المتحدة:
Imazhi i Kosovës,argument kundër në politik[n e jashtme,Koha ditore(Prishtinë)28.09.201
[13] بعد فشل كوسوفو في الفوز بعضوية اليونسكو كان هناك تبرّم وحتى انزعاج في الصحافة الكوسوفية من موقف فلسطين التي صوتت ضد انضمام كوسوفا، ولكن كان هناك تعتيم كامل عما استفزّ فلسطين وجعلها تتصرف كذلك.
– للمزيد انظر: محمد م. الأرناؤوط، معركة في اليونسكو لمنع كوسوفو من الانضمام إلى المنظمة الدولية، جريدة “الحياة” 19/11/2015.
[14] Kushtetuta e Republikës së Kosovës, Prishtinë 2008, p.V.
[15] للمزيد حول الفرق بين اللائكية والسيكولارية في المجال الأوروبي انظر:
– أمير بايروش أحمدي، الدين والدولة في دساتير الدول الأوروبية، في الإسلام والمسلمون في البلقان، دبي (المسبار) 2014، ص 227-244.
[16] Ligji për arsimin parauniversitar ne Republikën e Kosovës, Gazeta zyrtare Nr.17,Prishtinë 16.09.2011,p.1.
[17] تصل المفارقة إلى ما هو أكبر حيث إن الطلبة الألبان في جنوب غرب صربيا (التي ليست دولتهم القومية) يدرسون الدين في المدارس باللغة الألبانية بينما لا يحق للطلبة الألبان في جمهوريتهم أن يدرسوه.
[18] لا تزال بعض الدول الأوروبية ترفض الاعتراف بكوسوفا دولة مستقلة بل ضمن ولاية “الأونميك” عليها بموجب القرار 1244، ولذلك انسحب وزير الداخلية الكوسوفي إسكندر حسيني من مؤتمر لوزراء الداخلية في براغ في منتصف سبتمبر لأن سلوفاكيا لم تسمح لوفد كوسوفا أن يمثل دولة مستقلة بل “حسب القرار 1244”:
Ministri Hyseini lëshon mbledhjen në Sllovaki,Koha ditore(Prishtinë)
[19] Të gjitha detajet e rastit Azem Syla-Daja,Zëri(Prishtinë) 29.4.2016.
[20] للمزيد: محمد م.الأرناؤوط، أولى الاتفاقيات بين صربيا وكوسوفو: فن التنازل واستعراض المكتسبات، جريدة “الحياة” 10/7/2011.
[21] للمزيد: محمد م. الأرناؤوط، كيان صربي في كوسوفو ودرس لدول سايكس بيكو، جريدة “الحياة” 11/9/2015.
[22] في 9 أغسطس 2016 عبّر السفير الأمريكي في بريشتينا غريغ دلاوي G.Delawie عن مخاوفه لأول مرة على مستقبل كوسوفا بسبب تصاعد العنف السياسي والفساد في البلاد:
Delawie i frikësuar për të ardhmën e Kosovës, Koha ditore(Prishtinë)10.8.2016.
[23] من الملاحظ هنا أن “اتفاقية الشراكة والاستقرار” التي وقعتها بروكسل مع كوسوفا تختلف عن كل الاتفاقيات التي أبرمتها مع الدول البلقانية المجاورة من حيث أنه لم ترد الإشارة الصريحة إلى كوسوفا باعتبارها دولة (لم يستخدم الاسم الرسمي لها “جمهورية كوسوفا”) نتيجة للضغوط التي مارسها اللوبي المؤيد لصربيا داخل الاتحاد الأوروبي الذي لم يعترف بعد باستقلال كوسوفا (إسبانيا ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص واليونان). ومع ذلك فقد كشف تقرير لمركز “مجموعة الدراسات السياسية والقانونية” في بريشتينا عن تقصير كبير للحكومة الكوسوفية في تطبيق التزاماتها حتى الآن لكي يتم الانتقال إلى الخطوة التالية: الترشح لعضوية الاتحاد الأوروبي. فمن أصل 158 التزامًا على الحكومة الكوسوفية لم يتم تنفيذ سوى 44 فقط:
Kosova ka përmbushur vetëm 44 nga 158 veprimet për MSA,Koha ditore(Prishtinë)18.09.2016.
[24] Libralizim po, por prapaprakisht demakracioni me Malin e Zi,Koha Ditore (Prishtinë) 5.9.2016.
[25] للمزيد: محمد م. الأرناؤوط، كوسوفو تُرغم على تشكيل محكمة دولية لجرائم حرب ارتكبها الحزب الحاكم، جريدة “الحياة” 10/8/2015.
[26] Aktakuzat e para të Speciales deri në fund të vitit,Koha ditore(Prishtinë)7.9.2016.
[27] Mafia politike e Kosovës,Koha ditore(Prishtinë) 15.5.2014
[28] للمزيد: محمد م. الأرناؤوط، ثاتشي يحتفل بالفوز وخير الدين يستعدّ لتشكيل حكومة، جريدة “الحياة 19/6/2016.
[29] Si e ndertoi Perëndimi një shtetë të deshtuar në Kosovë? Zëri(Prishtinë)1.9.2016.
[30] للمزيد حول هذا “الخروج الجماعي” وانعاكاساته انظر: محمد م. الأرناؤوط، “الطاعون الأبيض” يضرب البلقان: صربيا تخسر مدينة كل سنة وكوسوفو ربع سكانها، جريدة “الحياة” 15/4/2015.
[31] ثاتشي يمسك برئاسة كوسوفو وعبوات الغاز تلاحقه في البرلمان، جريدة “الحياة” 22/5/2016.
[32] باستثناء رئاسة إبراهيم روغوفا (2002-2006) الأولى والوحيدة التي جرت ومرّت بسلام تعرّضت مؤسسة الرئاسة في كوسوفا إلى سلسلة مشاكل أساءت إلى سمعتها. فبعد أن خلف الرئيس الجديد فاتمير سيديوF.Sejdiu إبراهيم روغوفا في رئاسة حزب “الرابطة الديمقراطية” أفتت المحكمة الدستورية في سبتمبر 2010 بعدم دستورية الرئيس. ومن ثم تحالف هاشم ثاتشي مع رجل الأعمال الإشكالي بهجت باتسولي B.Pacolli الذي أسّس حزب “التحالف لأجل كوسوفا الجديدة” لكي ينتخب رئيسًا في فبراير 2011 بـ62 صوتًا من أصل 120، ولكن المحكمة الدستورية أفتت في مارس 2011 بعدم دستوريته. ومع الأزمة السياسية التي نشأت في البلاد تدخل السفير الأمريكي في بريشتينا كرستوفر دل C.Dell، الذي كان يطبق عليه “الحاكم بأمره”، وجمع قادة الأحزاب وطلب منهم الموافقة على الاسم الموجود في المغلف الذي يحمله لسنة واحدة فقط تجري خلالها تعديلات دستورية لانتخاب الرئيس بشكل مباشر من الشعب. ولما وافق الجميع فتح السفير المغلف وقرأ اسم الرائدة عاطفة يحيى آغا نائبة مدير الشرطة الكوسوفية. ولما طالبت قيادات الأحزاب بتنفيذ الاتفاق لجأت يحيى آغا إلى المحكمة الدستورية، التي يحظى فيها ثاتشي بنفوذ، فأفتت بأن صلاحية الرئيس الدستورية خمس سنوات، ولذلك بقيت في المنصب حتى 2016 لتسلّمه إلى هاشم ثاتشي.
للمزيد انظر: محمد م. الأرناؤوط، رئيسة كوسوفا عاطفة يحيى آغا جاءت في مغلف ووُدّعت بسجل مدرسي ضعيف، جريدة “المستقبل” (بيروت) 1/3/2016.
[33] Shpallet verdikti i plotë,ja sa vite denohen grupi Drencia,Bota sot(Prishtinë)27.5.2015.
[34] Të gjitha detajet e rastit Azem Syla-Daja,Zëri(Prishtinë) 29.4.2016.
وكان سيلا قد غادر كوسوفا إلى سويسرا باعتباره لاجئًا سياسيًّا هربًا من بطش نظام ميلوشيفيتش، وعرض بعد فترة على السلطات السويسرية ما يثبت أنه عاجز عن العمل بنسبة 100% ليحصل على تقاعد مجزٍ ولكن السلطات السويسرية فوجئت في 1999 أن هذا “العاجز” أصبح رئيس الأركان لـ”جيش تحرير كوسوفا” فطالبته بإعادة نصف مليون فرنك سويسري:
Veton Surroi,Këmbët e gjarbrit,Prishtinë(Koha) 2014,pp.42-43.
[35] انظر عرضنا لهذا الكتاب بالعربية: كتاب يهدّد مستقبل رئيس حكومة كوسوفو، جريدة “الحياة” 10/8/2014.
[36] Prokuria nis zyrtarisht hetimit kunder Grabovcit dhe të tjerëve, Zëri(Prishtinë) 26.8.2016.
[37] Thaçi:Kosova është në udhëkryq,Zëri(Prishtinë)19.8.2016.
[38] Enver Robelli,Lajme nga Kayinoja politike e Kosoves,Koha ditore(Prishtine) 8.9.2016:
ومن المثير أن بايدن في زيارته الوداعية للبلقان حرص خلال لقائه للقادة الكوسوفيين (رئيس الجمهورية هاشم ثاتشي ورئيس الوزراء عيسى مصطفى) على انتقاد الفساد الموجود في البلاد معتبرًا إياه بمثابة “السرطان”، وهو ما يسبّب إحجام المستثمرين عن القدوم إلى كوسوفا:
Nënpresidenti amerikan Joe Biden në Kosovë,VOA 17.8.206.
ولكن رئيس أكبر حزب معارض (حركة تقرير المصير) انتقد اقتصار لقاء بايدن على “قادة المافيا” في كوسوفا وعبّر عن أسفه لأن بايدن “لا يقول الحقيقة عن هؤلاء المنتجين والمخرجين للجريمة المنظمة في كوسوفا”:
– محمد م. الأرناؤوط، زيارة بايدن إلى صربيا وكوسوفا تعمّق المسافة بين الموالاة والمعارضة، جريدة “المستقبل” (بيروت) 24/8/2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى