طوفان الأقصى وسؤال التقييم

يطرح طوفان الأقصى أسئلة على أسئلة، لعل أهمها سؤال التقييم، وسؤال العمل، ثم أسئلة ما يجب عمله من أجل العمل.

إن سؤال التقييم مشروع، بل واجب… لكن ميزان التقييم وضبطه مهم جدًا حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد انتقاد متساهل أو في المقابل دفاع حماسي وحسب.. وهذه الورقة ستُعني بالأساس بهذا السؤال.

أولًا- ميزان التقييم:

أوله سياسي عسكري؛ بحكم طبيعة المجال والموضوع، ولكن ينبغي أن يؤطر بمنظور حضاري إيماني، وفق طبيعة المعركة وأطرافها وخاصة طرف المقاومة. والتحليل أو الميزان السياسي يقوم على ثلاثة عناصر أساسية: موازين المصالح، موازين القوة، وأثر السياقات على تلك الموازين.

(1) موازين المصالح في إطار سياق ما قبل 7 أكتوبر

تحدثنا السياقات أنه عند 6 أكتوبر 2023 كانت القضية الفلسطينية في طور التصفية –لا التسوية- النهائية، ولا التسوية العادلة، ولا حتى التسوية الجائرة، إنما التصفية النهائية؛ وذلك بتكوين (نظام عربي إسرائيلي جديد)؛ قوامه الإمعان في التطبيع العربي الإسرائيلي: الاقتصادي والسياسي والأمني، والاتفاق على اعتبار “الحركة الإسلامية” عدوًّا مشتركًا، حاضرًا ومستقبلًا، إقليميًّا ودوليًّا… بينما لم يعد يدافع عن القضية الفلسطينية سوى الفصائل الصغيرة التي تقودها حركة حماس، ولم يدعمها عبر عقدين وعبر السنة الماضية سوى إيران وحزب الله، وتركيا نسبيًا أو سياسيًا على درجات من المساندة… بينما تكاثر أعداؤها حتى داخل فلسطين والحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها…

فما الخيارات أمام المقاومة قبل 7 أكتوبر 2023؟ وما المصالح الأولى بالرعاية… هل حفظ الحركة على حساب القضية؟ هل حفظ النفوس على حساب القضية؟ هل حفظ الواقع على حساب المستقبل؟ هل حفظ السياسة السلمية على حساب القضية؟ هل حفظ الصورة على حساب الحقيقة…؟!

إن السؤال لا يتوجه إلى الماضي (أي قبل 13 شهرًا) وحسب، إنما إلى المستقبل أيضًا…  فما العمل الذي يمكن أن يحفظ القضية ويجدد حيويتها؟ وكيف؟ وما ثمنه؟

قد يضطرنا ذلك إلى بعض التأمل الهادئ حول معنى ومضمون وجوهر القضية (من تحرير الأرض، إلى تحرير إرادة تحرير الأرض، إلى تحرير الوعي بالحق في الأرض؛ ودلالتها المقدسة عند المسلمين). والوعي والإرادة كانا هما السهمين الأخيرين المعرّضين للاستلاب قبل 7 أكتوبر 2023 لمن يتذكر، أو كان واعيًا وحيًّا…

لقد رأى مُخطِط 7 أكتوبر، وقائدها، أن مصلحة إحياء قضية الشعب المستعبد من أعدائه، المستذل المخذول من أقاربه أعظم من مصلحة حفظ نفوس المقاومين وشعبهم؛ خاصة وهي مستذلة مستعبدة محاصرة؛ ومعرضة للتهجير البارد في أي وقت في ظلال صفقة القرن، وهي لا شك رؤية محل نقض ودحض حتى من الرؤى الواقعية البرجماتية ذات الموازين والمعايير المختلفة عن المصلحة.

ولكن السؤال هنا: من يحدّد المصلحة ويعيد ترتيب المصالح المتعارضة؟

إن عامًا من العدوان ردًّا على الطوفان، والصمود الجلي المتصل من أهل غزة وعموم فلسطين، وعدم إعلان قطاعات منهم رغبتهم في الهروب من المحرقة، أو الهجرة إلى مكان آخر آمن مريح رغم العروض والضغوط، هذا الصمود نوع من الاستفتاء العملي؛ استفتاء بالدماء والأرواح والآباء والأزواج والأبناء… إنه واحد من أعظم الاستفتاءات في التاريخ البشري: أهل غزة – والضفة والداخل – تقييمهم اسمه: الصمود للعدوان لا السجود له، والثبات رغم الممات وليس حتى الممات، والاستمرار رغم المرار، التكميل رغم التنكيل، والصبر والاصطبار والمصابرة والمرابطة رغم مرار الخذلان العربي والعالمي، وهوانهم على العالم من حولهم… وهذه جميعًا مصالح لا يعرفها ولا يعترف بها المتحدثون بخطاب الأمن القومي الذي يتخذونه ذريعة دون النصرة والمساندة مخافة دفع أثمان مادية.

(2) موازين القوة:

إن موازين القوة معروفة، وكانت في حراك قوي نحو مزيد من الاختلال لصالح التحالف العربي الإسرائيلي الجديد، وفق صفقة القرن، وكانت المقاومة والسلطة تُحاصَران من كل جهة، والمدافعون عن القضية يتناقصون، خاصة مع ضرب التيار الإسلامي ما بعد الربيع العربي (ومع الضرب السابق للتيارين القومي واليساري المدافعين عن فلسطين).

فكيف يتصرف المرء مع حراك ميزان القوى نحو الاختلال الشديد؟… هل يتركه حتى يستمكن ويستحكم ويفرض إرادته ومصالحه بأسهل الطرق…؟ هل كانت عمليات أخف مثل سيف القدس ستخفف الوطأة وتتفادى التدمير والإبادة الجاريين؟ أم لن تعدوَ أن تكون تكرارًا في غير موضعه، وستجلب من النقد والانتقاد مثل ما هو قائم، ولم ينقطع…؟!

(3) أثر السياق:

هل السياق الآن أفضل أم أسوأ مما كان قبل 7 أكتوبر؟

أعتقد أن السياق اختلف، وجمع بين سوءات جديدة، وإيجابيات أيضًا، ونحن نحتاج إلى تدبره، … لكن ماذا صنع جديدًا…؟

ثانيًا- في أسئلة التقييم:

بعد عام من العدوان الطاغي بدعم غربي وأمريكي هائل، فإن أداء المقاومة العسكري يُعد أسطوريًّا، وخاصة القدرة على إطلاق صواريخ بعد سنة من الاجتياح والاستباحة التامة (احتفلت المقاومة بذكرى 7 أكتوبر بإطلاقات صواريخ على العدو حتى تل أبيب)، وذلك في إطار اختلال موازين القدرات ومضاداة السياقات، فضلًا عن بطولية أداء الأفراد الذي تجسد في استشهاد رئيس الحركة يحيى السنوار… فالصورة في جهة المقاومة تعبر عن بطولات بعضها فوق بعض… لكن رغم ذلك فإن عامًا من المقاومة المباشرة، والمقاومة المساندة لم يصل إلى درجة إيلام العدو إيلامًا فارقًا، يكف عدوانه أو يقلل منه. وهو ما يستوجب منا تقييم الأداءات والمواقف المختلفة للمقاومة، وذلك على النحو التالي:

أما الأداء السياسي للمقاومة ففيه وفيه؛ فهو من حيث المتاح وموقف السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية، يُعد من أفضل الممكن، لكنه من حيث المنشود افتقد الكثير من البدائل (مثل وجود جناح محرّك يفتح مسارات مختلفة – عدم ضبط التحالف السياسي مع قوى أخرى غير إيران مثل الأتراك- الانتقال إلى كوادر سياسية أكثر قدرة على طرح البدائل، وتقديم خطاب يناضل عن القضية بصور مختلفة)، فقد افتقدت المقاومة التنويع في الأداء والخطاب السياسي.

ومع ذلك، فقد أثبت العام الماضي أن هجوم السابع من أكتوبر يحمل مبرراته ومفسّراته، ربما لم يكن مدورسًا بكفاية، ولكنه كان يستحق وضع بدائل أخرى، وسيناريوهات أكثر… لكنه بعد عام نجح في تحريك ماء البحيرة الراكد الذي كان يُعد للتجفيف، وأن تحيله إلى بركان متفجّر

وكما كانت صفقة القرن سببًا ومبررًا لهذا الطوفان لأنها كانت بصدد إنهاء القضية، لكن، وبعد عام من العدوان، هل لنا أن نتساءل: هل كان يمكن مواجهة هذا التخطيط من قِبل العدو بمجموعة من الأعمال الأصغر حجمًا والأدوم فعلًا…؟! هل كان هذا ممكنًا وصحيحًا؟  يعني هل نحن بحاجة إلى التخطيط لحرب استنزاف ضد التحالف الإسرائيلي الإقليمي–الدولي؟ أم إن ضربات من نوع (اضرب واهرب) Hit and Run من غير مهرب، أو محاولة توجيه ضربة قاضية Knockdown/knockout blow- أو مدوية Thunderous Blow أو مدوّخة dizzying Blow مثل ضربة 7 أكتوبر هي الأنسب؟

(1) إن دراسة المآلات لا تزال بحاجة إلى مراجعة، وكذلك قراءة السياق قراءة معمقة:

– فهل كان المُخطِط لـ7 أكتوبر يتوقع تداعيًا منتميًا من الأنظمة كتداعي أعضاء الجسد الواحد للعضو المشتكي؟

الجواب المعروف: لا.

– وهل كان هذا المُخطِط يرى الشعوب في حالة من حرية الحركة بحيث تنصره؟

الأقرب أن جوابه كان: لا.

– فهل كان يرى السياق الإقليمي أو الدولي (ومنه مواقف قوى مثل روسيا، الصين، المنظمات الدولية..)، ستوقف العدوان الصهيوني –الهجمة المضادة- عن قريب؟

الإجابة في الغالب: لا.

لكن الشيء الذي لم يتوقعه مُخطِط 7 أكتوبر غالبًا هو التركيبة التي صنعتها إسرائيل بقيادة نتنياهو وتجاوب السياق الإقليمي والدولي معها؛ فلم يتوقع هذه الدرجة من التوحش والقسوة، ولا هذه المدة من الحصار والإبادة، ولا هذا الموقف العربي والإسلامي الرسمي المستسلم تمامًا للتوحش الإسرائيلي من غير أية مخوفات كبرى. ويبدو أنه لم يتوقع ذلك المستوى من الاستسلام الشعبي العربي والإسلامي، ولا الفلسطيني في الضفة.

(2) من ناحية أخرى، يبدو أن طبيعة ضربات أو عمليات مثل طوفان الأقصى، يكون من الصعب التحكم بها هي ذاتها، في تمددها ونتائجها المباشرة، فضلًا عن ردود الأفعال عليها، وآثارها وتداعياتها ومن ثم مآلاتها الأبعد.

– فهل كان لا بد منها؟

رأيي في ضوء معطيات آخر خمس سنوات قبل الطوفان: نعم .. فالضربات المعتادة (مثل سيف القدس 2021) تذهب هباءً أو قليلة الأثر، وفي الوقت نفسه تثير نفس الهجوم ضد المقاومة من دعاة مسالمة العدو أو السياسة بديلا عن السلاح. إذًا فلتكن ضربة مدوية. ولكن بالتأكيد لو وضع المُخطِط في ذهنه احتمال ضربة كبيرة للمقاومة ولأهلها، وذلك التدمير الشديد الجاري في غزة.. لغالبًا ما كان فعلها.

(3) ولكن – من ناحية أخرى- لو لم يفعلها مُخطِط 7 أكتوبر ومنفّـذها، لكان السؤال: فماذا كان يجب أو يمكن أن يفعل؟ هذا هو السؤال الأجدر بالطرح لكل نظر نقدي حقيقي وجاد، فضلًا عن أن يطرح بإزاء كل هجوم انتقادي (نفرق بين النقد والانتقاد، فالنقد منهجي يهدف إلى الفهم، والانتقاد قد يكون ذاتي أو مزاجي أو هوائي يهدف إلى المهاجمة).

لقد كشف الطوفان عن انتقالنا الواضح الفاضح من الصراع العربي- الإسرائيلي المعروف، إلى نظام عربي–إسرائيلي جديد قيد التشكيل والتأكيد، وكشف حقيقة أنه لا تحرير للقدس والأقصى إلا بضرب هذا النظام الشرق أوسطي العدو لفلسطين الحرة، الداعي إلى استكمال احتلالها، برغم كل الديباجات المكرورة الخادعة.

هذا، وكشف الطوفان الكثير: كشف إسرائيل أمام الشعوب الغربية، وكشف حقائق ضخمة أمام الشعوب العربية والإسلامية، وكشف أهمية التغيير، وأهمية حركات التغيير، ووجوب أن تكون الحركات القادمة ذات رؤية وموقف شامل، وكشف الهوة التي وصلت إليها (القدرة والإرادة) العربية الرسمية!

إذًا، تقييم السابع من أكتوبر يستصحب السياقات السابقة، والمساوقة وكذلك اللاحقة (المآلات). والناقدون يعتمدون عادة على المآلات فقط. والعجيب أن نفس الأمر النقدي حاضر في الخطاب الإسرائيلي الداخلي الناقد لسياسة نتنياهو، لكنه –مع هذا النقد- يحتفظ بالأهداف العليا ثابتًا واضحًا ومشتركا: “فإسرائيليا محل إجماع”، بخلافنا نحن الذين لا ثوابت تقوينا ولا مشتركات تجمعنا.

والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى