تطور صفقة القرن، وآفاق ترتيب الصفوف الفلسطينية

مقدمة:

تعيش أمتنا أياما عصيبة في ظل تدهور النظام الإقليمي العربي؛ نتيجة حدة الاستقطاب بين قواه، بصورة أظهرت تحولات استراتيجية كبرى، تتجلى تداعياتها بوضوح على القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والشعوب العربية بصفة عامة.

ويبدو أن حالة الاصطفاف الداخلي الفلسطيني، التي أحدثتها القرارات الهوجاء التي صدرت من إدارة الرئيس الأسوء في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، في طريقها للتراجع نتيجة الردّة التي تحققت جراء قرارات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن بعودة التنسيق الأمني مع الاحتلال، وتداعيات هذا القرار على طابور التطبيع العربي.

ويسعى هذا التقرير، إلى تقديم صورة أوسع للمشهد الفلسطيني، لا تقلل من حجم الخسائر والانكسارات التي نتجت عن التطبيع العربي، ولكنها لا تقع أسيرة لليأس والشعور بالمظلومية؛ حيث يبحث هذا التقرير تداعيات عودة التزام السلطة الفلسطينية باتفاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي، مع مناقشة آفاق الاصطفاف وفقًا لعدد من القضايا المرتبطة بملف المصالحة، وسبل دعم القضية الفلسطينية من بوابة الأسرى والوعي الجمعي العربي، وأخيرًا باستشراف مستقبل مشروع المقاومة ومراحل تطوره ومآلاته المنتظرة.

أولًا- ما وراء عودة التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال:

لم تتاونَ السلطة الفلسطينية في تقديم قرابين الولاء لإدارة جو بايدن الديمقراطية، في محاولة منها لكسب ودها للضغط على إسرائيل للتراجع عن بعض هزائمها في فترة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، رغم أن قرار السلطة الأخير ينسف محاولات التقارب الفلسطيني-الفلسطيني الذي تمت مؤخرًا في القاهرة، وثمة نتائج من قرار عباس هذا، وهي:

أ- أن سيل التطبيع العربي الإسرائيلي المتدفق من موانئ دبي وأبراج أبوظبي إلى عواصم عربية وإسلامية كثيرة، يحظى بدعم فلسطيني رسمي؛ لذلك سارع عباس  بُعيْد الإعلان عن استئناف التعاون الأمني إلى إعادة سفيريه في كل من الإمارات والبحرين. وأظهرت السلطة الفلسطينية نيتها هذه عندما عبرت بعض أبواقها الإعلامية عن حالة ترحيب غريب بقرار حل الدولة الواحدة الذي سينتج بصورة فعلية عن إجراءات الضم الإسرائيلي للضفة، على اعتبار أن التعداد الفلسطيني في تلك المناطق، سيمكن الفلسطينيين من الوصول للحكم بسهولة، في حالة عقد أي انتخابات. وتبدو غرابة هذا الطرح من يقينية أصحابه وتأكيدهم على أن الحكومة الإسرائيلية ستمنح المواطنة الإسرائيلية للفلسطينيين لمنحهم حق المشاركة في العمل السياسي، رغم أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه، صرح بأنه لن يمنح الفلسطينيين الموجودين في المناطق التي ستضمها حكومته حق المواطنة الإسرائيلية. وبالتالي فعودة التنسيق الأمني توضح أن السلطة لا ترى خطورة ما يحدث في الإقليم وحتى ما يتغير على الأرض من حقائق جغرافية وتاريخية[1].

ب- أن موقف الرئيس الفلسطيني هذا لا يعني في حقيقة الأمر أن جو بايدن سيتراجع عن شيء مما قام به ترامب، لاسيما أنه أعلن أكثر من مرة عن دعمه لكثير من مستجدات الصراع العربي الإسرائيلي؛ لذلك ما الذي سيدفع لخسارة مكاسب تمت بالفعل، بل ولم يحاول أبو مازن حتى الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة، بمطالبتها بضرورة الحفاظ على صورتها في المنطقة العربية كوسيط محايد[2].

ج- يرسخ أبو مازن الانقسام الفلسطيني أكثر وأكثر، بل يعزل بذلك حركة فتح والمنتمين لها عن باقي عناصر الشعب الغاضب من إجراءات الضم، ومواكب التطبيع العربي، ويعيد الأمور إلى سياق الحرب الأهلية في 2007، خاصة بعد عودة التصعيد الخطابي بين فصائل المقاومة ومنظمة التحرير. وفي هذا الإطار اتهمت حركة حماس، اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بأنها تعيش في حالة من “التيه السياسي” لإرضاء الولايات المتحدة الأمريكية[3]. وردًا على ذلك، قامت السلطة بشن حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية ضد عناصر حركة حماس؛ وهو الأمر الذي وجده البعض تأكيدا من عباس على التزامه باتفاقيات التنسيق الأمني[4].

د- تقترب الأوضاع في الضفة الغربية أكثر نحو الانفجار، وحينها لن يكون هناك أمام السلطة إلا السقوط والزوال[5]، لاسيما في ظل وجود حالة غضب حقيقي بين أوساط شباب حركة فتح؛ نتيجة استمرار الاستيطان وسياسة التهويد، وغياب أي أفق للحل السياسي. وما العمليات الفردية المستمرة من وقت لآخر من الشباب الفلسطيني تجاه القمع الإسرائيلي، إلا تمهيدا لمثل ذلك الانفجار؛ ولذلك أقدم شباب من حركة فتح على طرد وفد أمريكي من بيت لحم وقام نشطاء فلسطينيون بإحباط مشاركة وفد آخر في مؤتمر بحثي نظم في رام الله. إن كثيرا من الدلائل تشير إلى أن إستراتيجية السلطة القائمة على المراوحة في المكان تلفظ أنفاسها[6]. ومثال على ذلك وأمام القمع المتصاعد قتلت مستوطنة صهيونية في شمال الضفة ما دفع الاحتلال للشعور بالخطر، وقرر إرسال تعزيز من قوات الفرقة العسكرية في الضفة الغربية لتقييم الوضع، ومن أجل حراسة المستوطنات والطرق في المنطقة، بل منع الإجازات لحين استقرار الوضع[7].

ثانيًا- آفاق ترتيب الصفوف الفلسطينية: ما بعد نخبة عباس

في هذا الجزء نناقش عددا من القضايا الخلافية التي تمثل في أجزاء منها بعض العقبات أمام إتمام ملف المصالحة الفلسطينية؛ وهي: قضية الانتخابات الفلسطينية، وقضية الصراع حول جدوى أي المسارين: التسوية السياسية، أم المقاومة العسكرية؟

  1. الانتخابات الفلسطينية آلية للانقسام!

تعد مسألة الانتخابات واحدة من المسائل التي تتناولها وسائل الإعلام المهتمة بالشأن الفلسطيني، كما أنها إحدى النقاط التي توضع عادة على طاولة المصالحة بين الفرقاء، كآلية لتجاوز حالة الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني.

ورغم كثافة دعوات لعقد جلسات الحوار بين فتح وحماس، إلا أن الجلسة الأخيرة التي كانت في اسطنبول أظهرت فيها الفصائل جدية أعلى نسبية مما سبقها من اجتماعات؛ لعقد انتخابات تمهد لتوحيد الصف الفلسطيني، بصورة جعلت الكثير من المنتمين للمقاومة يفرحون بقرار الإعداد للانتخابات، كآلية تأسيسية لمواجهة صفقة القرن، وبناء توافق وطني يعوّض حالة الانكشاف العربي. ولكن هل تحتاج القضية فعلا لملف الانتخابات؟ أو بالأحرى كيف يكون هناك نتائج إيجابية من ملف الانتخابات؟

الظاهر أن السياق الذي أسهم في الانقسام الفلسطيني في 2007، وجرد حماس من شرعيتها، لم يتغير كي يمكن القول بأن الانتخابات ستحدث فارقا إيجابيا هذه المرة. بل على العكس، فالأوضاع حاليًا أسوء بمراحل مما كانت عليه في السابق؛ فالانتخابات لن تسهم فقط في تفاقم الانقسام الفلسطيني، بل إنها ستوفر مسوغات لفرض مزيد من الحصار على غزة والضفة معا؛ حيث إن أحدا ليس بوسعه أن يضمن ألا تسفر هذه الانتخابات عن فوز لحركة حماس مجددا؛ وهي النتيجة التي لن تقبلها إسرائيل والولايات المتحدة ونظم التطبيع العربية[8]. فماذا يمكن أن يكون ساعتها؟

ربما من المجدي أكثر أن يكون الحديث عن أمور أكثر فعالية من الانتخابات؛ ليس لأن الأخيرة غير مهمة في ذاتها، ولكن خشية أن تكرس صعوبة الحل الفلسطيني أكثر ربما إلى درجة الاستحالة وذهاب فكرة تأسيس دولة فلسطينية مستقلة بلا رجعة. ومن ثم يمكن الاستعاضة عنها بالنقاش ومراجعة السنوات الماضية، وأن يأخذ كل طرف خطوة للوراء فيما يخص رؤيته لنفسه وللآخر؛ بحيث يكون هناك تقدير متبادل لموقف كل طرف، ويكون هناك مراعاة لحساباتهما معًا.

ويمكن أن يكون هناك تركيز على طريقة للتعاطي مع الضفة الغربية كسياق جغرافي محتل على مستوياته الكلية من العمران إلى الاقتصاد والسياسة، مرورًا بتجريف الوعي المقاوم، وقتل روح الصمود نتيجة التمدد الاستيطاني.

من هذه الزواية فلعل انضمام حماس وفصائل غزة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطنينة، بتشكيل قد يكون بدرجة أقل من تشكيل فتح وفصائل الضفة، أفضل بكثير من انتخابات لن يعترف أحد بمصير نتائجها، في حال قررت حماس الدخول بقائمة في الضفة. فـ”بداهة فإنّ النقد لا يطال الحوارات، ولا مبدأ الاتفاق، فهو أمر محلّ تثمين وتقدير وإيمان بضرورته. والحوار بدلا من تصعيد الخصومة الداخلية هو أدنى ما يمكن فعله، وإنما يتجه النقد إلى النتائج والمقرارات والاتجاه العامّ الذي تشير إليه الحوارات”[9].

وبناء عليه يمكن أن يكون هناك حديث حول ضرورة اعادة بناء منظمة التحرير، ومراجعة رؤيتها ووسائلها وادواتها، وأن تراعي فصائل المقاومة المسلحة بصورة خاصة، أن هدف حمايتها من الاستهداف الأمني للاحتلال، والاستهداف السياسي والاقتصادي من الإقليم هدف محوري على الأقل في المرحلة الحالية؛ انتظارًا لحين حدوث تحولات في المشهد المحلي والإقليمي. لتكون المحصلة: “بقاء كلّ منهما في سلطته، مع الامتناع الكامل عن أي مناكفات أو خصومات أو تفرد باتخاذ أي خطوة سياسية، وحلّ الملفات الصغيرة والمتوسطة، وإرجاء ملفات الانقسام الكبرى، والسماح لكلّ منهما بالعمل المتفق عليه في مجال سلطة الآخر دون استهداف أمنيّ، والاتفاق على خطوات نضالية متدرجة، والتمثيل المشترك في الوفود السياسية، ومنح أهمية خاصة لانعقاد دائم لمجلس الأمناء العامين. وبالرغم من أنّ هذا الخيار شديد التواضع فإنّه أفضل من إعادة إنتاج الانقسام على أرضية أوسلو، في حال امتنع الاتفاق على البدء في إعادة بناء منظمة التحرير”[10].

  1. الخيار الوحيد للقضية: المقاومة في مقابل التسوية:

لقد أحدث الصراع حول ماهية الدفاع عن القضية الفلسطينية شرخًا وجوديًا وتقسيمًا فعليًا للمجتمع الفلسطيني وأنصار القضية في العالم العربي والإسلامي قبل لحظة الانقسام النهائي في 2007؛ ولذلك يمكننا القول إن تلك اللحظة كانت نتيجة لما سبقها ومؤسسة لما سيأتي بعدها. وقد أحدثت ثنائية (المقاومة في مقابل التسوية) رؤية نهائية تنظيرية غير مرتبطة بالواقع، ولا تؤمن بها الفصائل ممارسة وواقعًا، حتى لو ادعت عكس ذلك خطابًا ورؤيةً، وهو ما سنشير إليه لاحقًا.

لقد رسخت الثنائية الحدية بين الفصائل الفلسطينية كمعسكرين متقابلين في كل شيء لدى الجمهور، ثم أخذ كل طرف يرمي الآخر بالخيانة والتبعية. فالمسار الأول يرى أن الطريق السياسي هو الحل النهائي الأكثر جدوى وفعالية، بل ويحمل فصائل المقاومة في غزة مسئولية ما آلت إليه الأوضاع، ويرى أن فشل التسوية السياسية سببها طريقة إدارة ترامب باعتباره وسيطا تخلى عن النزاهة[11]؛ أي إنه لا يحاكم اتفاقية أوسلو وما أنتجته.

وعلى الجهة الأخرى، يرى معسكر المقاومة أن الطريق السياسي هو الخيانة بعينها، وأنه ليس ثمة تحرير للأراضي المحتلة بدون الحسم العسكري. ويغفل أصحاب هذا التوجه غياب مقومات نجاح هذا المسار؛ بداية من العناصر العسكرية الحربية التي تحقق هذا الحسم، مرورًا بالبيئة الإقليمية الداعمة للمشروع العسكري، نهاية بوجود بيئة محلية قادرة على الصمود من الأساس، وليست مستهلكة ومستنزفة بصورة تامة جراء سنوات من التدمير المادي والمعنوي، ناهيك أن الجناح الثاني لاستكمال هذا التصور، مرتبط بالسلطة الفلسطينية وما تملكه من أدوات لإشعال الضفة الغربية[12].

فقد أنتجت ثنائية المقاومة والتسوية سيلا من من الثنائيات المتناقضة؛ فالحرب في مقابل التفاوض، والبارود في وجه السياسة، والنضال في وجه المحادثات، فكانت المحصلة أن اصبحت السلطة الفلسطينية في وجه المجتمع، والنخبة المنتفعة نقيضا للأسرى، والفتحاوي ضد الحمساوي. ولذلك فقد أبعد هذا الصراع القطاع الأوسع من الشعب نفسه عن القضية ومفرداتها، التي وجدتها لا تعبر في كثير من أحيانها عنه؛ نتيجة تحول الصراع من شعب ضد سلطة احتلال، إلى فصائل متناحرة تبحث عن بعض مصالحها، في ظل بيئة محاصَرة تئن من صعوبة الظروف، بل انعكست تلك الأوضاع حتى على حياة الأسرى في سجون الاحتلال وذويهم، وهو ما سنشير إليه لاحقًا.

ويمكن مشاهدة حالة الانقسام الشديدة للمجتمع في مرآة النخبة المستقلة غير الفصائلية، التي من المفترض أن تعبر عن رؤيتها الذاتية؛ حيث “تبدو النخبة المعارضة من خارج الفصائل في الساحة الفلسطينية مشلولة وبلا تأثير، مجرّد أشخاص يكتبون مقالات ودراسات هنا وهناك. ويبقى كل شيء على حاله من دون تغيير؛ نتيجة ارتباطهما بصورة فيزيائية ومعنوية بطرفي الصراع، وأصبح القطاع الأعظم منهم رهينَ لُقمة عيشه لكل أجندة؛ حيث “تفتقد التجربة الفلسطينية المؤسسات المستقلة التي تجعل القدرة على التأثير في واقع حالها وتغييره يكاد يكون معدوماً، وإذا كانت الحالة الفلسطينية قد حافظت على هامش استقلاليةٍ في اللعب على التناقضات العربية-العربية، خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، إلا أن هذا الهامش قد انعدم تماماً مع توقيع اتفاق أوسلو الذي حكم السلطة الفلسطينية بالمانحين. هذا الواقع، جعل السلطة الفلسطينية مرهونةً للاحتلال من جانب، وللدول المانحة من جانب آخر؛ وهو ما أفقد الفلسطينيين حتى الهامش الذي كانوا يناورون به قبل أوسلو. وهذا الهامش لم يضِق على السلطة فحسب، بل ضاق أيضاً على النخبة المعارضة من خارج الفصائل”.

تعبر الصورة السابقة عن معسكرين متناقضين، ولكن في حقيقة الأمر لا يبدو الواقع بهذه الصورة القاتمة، بل على العكس تمامًا فقد توصلت الفصائل الفلسطينية جميعها بصورة مباشرة وغير مباشرة، إلى أن أساس تأسيس دولة فلسطينية مستقلة، سيبدأ من وحدة الصف الداخلي قبل أي شىء؛ حيث “إنّ الفلسطينيين فعلا اعترفوا بـإسرائيل على ثلثي فلسطين، وأنّهم لم يتلقوا مقابلا إسرائيليّا يعترف بحقهم في تقرير مصيرهم على ما تبقى من فلسطين. وهذا المتبقي من فلسطين؛ أي الضفّة الغربية، مهدّد بالضم الإسرائيلي، بعد الضمّ الفعلي الجاري برعاية إدراة ترامب وسكوت عربي مطبِق هو أقرب للموافقة منه للرفض، لو أخذنا بعين الاعتبار مظاهر التطبيع العلني، وعلاقات التحالف التحتي، وحملات التشهير بالفلسطينيين.. ولك أن تدرك أن هذا المسار، الذي اختطته منظمة التحرير؛ أي الاعتراف بـإسرائيل، والسعي لإحراز ما تبقى من فلسطين، هو مسار فلسطيني شامل بالفعل والواقع، بغضّ النظر عن الموقف النظري والأيديولوجي. فكلّ معارضي التسوية قبلوا إمّا سياسيّا بالسلطة الفلسطينية، كحركة حماس وبعض قوى اليسار، أو تعاملوا معها باعتبارها باتت واقعا فلسطينيّا يعبّر عن وجهة نظر سياسية حتّى لو كانت مرفوضة، كالجهاد الإسلامي، ولم يرفع أحد السلاح في وجه السلطة المنبثقة عن الاعتراف بـإسرائيل”[13].

ما نود قوله هنا هو أن ما يبدو للعيان اختلافًا جذريًا يستحيل معه بناء أرضية مشتركة تؤسس لوحدة وطنية بين الفصائل الفلسطينية، هو غير حقيقي وفقًا لوقائع فعلية، وأن فصائل المقاومة المسلحة تسعى بكل جهدها لتوفير أي هامش من التوافق، رغم نتائج أوسلو الكارثية على القضية، إلا أن هناك نخبة متنفعة ولدت في أحضان السلطة الفلسطينية، ومن منح ومعونات أوسلو، وترفض التخلي عن تلك المصالح في حال تقاربت مع حماس، رغم أن صفقة القرن وما واكبها من أحداث كانت فرصة ذهبية لحدوث ذلك.

والمستهدف من ذكر تلك الحقائق نوعان من الجمهور: أولهما الجمهور الذي يخوِّن فصيلا على حساب آخر؛ وهو ما ينتج شيطنته واستباحة دمه وعرضه وحريته، والجمهور الثاني هم قطاعات من المتأثرين بخطاب الثورة المضادة والمحور العربي الصهيوني الذي يحمل الفلسطينيين وتعتنهم مسئولية ما آلت إليه الأحداث، رغم أنهم قدموا كل شىء وتنازلوا عن ثوابت كثيرة في سبيل الحصول على الفتات، ولم يحصلوا عليه أيضًا.

انطلاقًا من النقطة السابقة، يمكننا القول إن ثنائية التسوية والمقاومة يمكن أن تكون في سبيل القضية، وليست معول هدم لها، وذلك من خلال توزيع الأدوار بين الفصائل والقوى الفلسطينية. فحقيقة التطبيع العربي الإسرائيلي تجاوزت سطوع الشمس، وأصبح الأمر علنيا وتقوده قوى تستهدف تحقيق واقع عربي جديد، بمفاهيم وعناصر جديدة، تشكلت من رؤية وهوية مغايرة لما طبع عليه التاريخ العربي الحديث. ولذلك فهناك مساران: أولهما الهجوم الكامل على الدول العربية التي ستطبع مع الاحتلال واتهامها بالخيانة، وحينها ستنتج تعرية كاملة للظهير العربي المساند ولو صوريًا للقضية. والمسار الثاني هو التراخي الكامل في التعامل مع هذا الملف كما لو أنه لم يكن؛ وهو أيضًا تجاهل لحقائق جديدة ستنتج وقائع مغايرة لما حدث في السابق. لذلك فالأحرى أن يحدث توزيعٌ للأدوار بين من يندد بما يحدث، ويخلق وعيا جماهيريا مضادا للضغط أكثر على تلك الدول، ويشحن أنصار القضية الفلسطينية لدعمها بشتى السبل، وبين آخر لا يقطع الاتصال، ويحاول الحفاظ على أي مكتسبات حتى لو كانت قليلة جدا، أو يسعى لكسب محاور جديدة، كتمويل بسيط يقدم للأسرى وذويهم. ما أقصده أن يتم استخدام الدور الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية في دعم صمود الفلسطينيين محليًا، بدلًا من اللاشيء، في مقابل كل شيء، وأن يتم التعامل بهذا المنطق في تلك المرحلة الصعبة من عمر الأمة؛ انتظارًا لقدر ما يغيّر المسار.

ثالثًا- وسائل دعم الصمود الفلسطيني:

إن التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي من منظور رياضة ملاكمة تنتهي بضربة قاضية، هو نوع من الخيال؛ لأنها قضية أجيال تؤثر فيها وتتأثر بها، تتقدم حينًا وتتراجع أحايين، ولذلك فتوفير بيئة صامدة تتمكن من مواجهة التحديات الكبرى والمتجددة التي يخلقها الاحتلال لطرد أبناء فلسطين وإجبارهم على الهجرة، لإعادة إنتاج الشتات الذي كان يعاني منه اليهود في الماضي، لهو أمر مصيري في مشروع التحرير. ولذلك تعد قضية دعم صمود الفلسطينيين من أهم وسائل دعم القضية الفلسطينية؛ ليس لأن الشعارات والشحن الإعلامي وحده ليس كافيًا فحسب، ولكن لأن الوجود الفلسطيني هو الحامي الأول للأرض والتاريخ والمستقبل العربي في تلك الجغرافيا.

ونشير في هذا الجزء إلى نقطتين من نقاط هذا الدعم للقضية الفلسطينية، ونحن نستشرف العام المقبل بسؤال ما العمل وكيف يمكننا دعمها؟ أولاهما محلية وهي دعم الأسرى في سجون الاحتلال، والثانية خارجية خاصة بحماية وإحياء الوعي العربي تجاه القضية.

  1. الصمود الفلسطيني يبدأ من دعم الأسرى:

إن الاعتماد على قوة الإرادة وحدها في تحقيق الأحلام أمر غير واقعي في كثير من الأحيان، ولكن وجود بيئة حاضنة لتلك الأحلام، يجعل تحقيقها أقرب للتطبيق، وبالقياس على حرب طويلة المدى، تحتاج إلى دماء وأعمار، فهذا أدعى لتوفير تلك البيئة الحاضنة.

تبدأ مهمة حماية حالة المقاومة والنضال لدى الشعور الفلسطيني، من اطمئنان المقاوم على أسرته وذويه في حالة تعرضه للأسر في أيدي سلطات الاحتلال. وفي الحقيقة، لقد قدمت الحالة الفلسطينية تجربة ملهمة في دعم الأسير وتكريم وحماية ذويه من الفقر والاحتياج، بصورة حررت الكثير من المقاومين من الضغوط النفسية التي تفرض على قلوبهم من باب المسئولية تجاه ذويهم، وذلك بعدما تم تشييد مؤسسات مستقلة ترعى الأسير وتحمى له وجوده المادي والمعنوي، وتوفر له حياة كريمة، كوزارة الأسرى ونادي الأسير وغيرهم من الكيانات؛ وهو الأمر الذي خلق لدى الوعي الجمعي الفلسطيني حالة من الامتنان تجاه الأسرى، باعتبارهم مناضلين لهم مكانة رفيعة في مشروع الدولة الفلسطينية، بما يرسخ فكرة المشروع السياسي والهوية الوطنية الكفاحية للشعب[14].

أدرك الاحتلال سريعًا أن مساعيه في فرض الرعب والقلق في نفوس الفلسطينيين ستبوء بالفشل نتيجة ارتياح الأسرى من أوضاعهم في سجون الاحتلال وأحوال ذويهم في الخارج. لذلك عمل الاحتلال على الفتك بأوضاع الأسرى في السجون، وتجريد ذويهم من الاستقرار الاقتصادي؛ للضغط أكثر عليهم، وبالفعل “بدأت ملاحقة مخصّصات الأسرى التي تصلُ حساباتِ ذويهم البنكيّة من تنظيماتهم وفصائلهم، من بعد انتفاضة الأقصى، والذي تعامل معها بدوره بجدّية بالغة عدّها فيها امتداداً لـحرب الاستقلال.. ومصادرة إنجازاتِ الأسرى في السجون التي من شأنها أن تخفّف من الآثار الاعتقالية على إراداتهم النضاليّة. ولم يكن إخراج المعتقلات التي بلغت فيها إنجازاتُ المعتقلين ذروةً غير مسبوقة، من مسؤولية الجيش إلى مسؤولية مصلحة السّجون، إلا خطوةً في اتجاه السحب المكثّف لإنجازات المعتقلين، ومعالجة إشكالية عودة المعتقلين أنفسهم إلى السجن؛ بمعنى اكتشاف الاحتلال أنّ السجن لم يعد رادعاً لشريحة واسعة من منتسبي بعض الفصائل الفلسطينيّة، ولاسيما فصائل المقاومة. واستغل في ذلك حالة الانقسام بقوة، ليعززه في السجون أكثر… وخارجيًا، بدأ الاحتلال باستهداف حوالات فصائل المقاومة لحسابات أهالي منتسبيها من الأسرى. ومنذ ذلك الوقت، صارت مخصّصات أسرى فصائل المقاومة من فصائلهم قضيّةً بالغة الخطورة والصعوبة، وتحوّلت إلى مهمّة نضاليّة سرّية محفوفة بالقلق والخوف، من حيث تنفيذها، فإدخال مخصّصات أسرى فصائل المقاومة شبه محال. ومع الانقسام الفلسطيني زادت الجهات التي تلاحق مخصّصات الأسرى في الضفّة الغربيّة، وبات الأسير المحرّر أو أهل الأسير يدفعون ثمناً مُكلفاً بالاعتقال والغرامات جرّاء محاولتهم إدخال مخصّصات الأسير. كما استثمر الاحتلال أحداثَ 11 سبتمبر المُتزامنة مع انتفاضة الأقصى، والأنظمة العالميّة الصارمة في مراقبة الحوالات الماليّة بحجّة “الحرب على الإرهاب”، في الفتك بالعصب الاقتصاديّ للأسرى وذويهم. واستجابت البنوك العاملة في مجال السلطة الفلسطينيّة لذلك، ودخل الفلسطينيّون بدورهم في منظومةٍ قاسيةٍ من الرقابة الماليّة تُضعِفُ من صمود الفلسطينيّين عموماً… كما عمل الاحتلال على تحطيم الروافد الاقتصاديّة للأسرى، والتي منها الرواتب المقدّمة من السلطة الفلسطينيّة، بالضغط المباشر على السّلطة بابتزازها بأموال الضرائب التي يجبيها لصالح السلطة (المقاصّة)، واقتطاع قيمة مخصصات الأسرى وعوائل الشهداء منها. كما استهدف الاحتلال البنوك مباشرةً، وهو استهدافٌ أخذ أشكالاً متعدّدة متدحرجة من الاقتحام المباشر والمصادرة، إلى المقاضاة”[15].

ولذلك فإذا كنا تحدثنا في مساحات العمل الممكنة بين شتى الفصائل الفلسطينية، فيحب أن تكون قضية دعم الصمود الفلسطيني واحدة من أهم أولويات العمل السياسي، لاسيما بعدما “أكد قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بجامعة الدول العربية أن عام 2020 يعد الأكثر انتهاكاً بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ أمعن الاحتلال في الإهمال الطبي المتعمد بحق الأسرى، وتجاهل توصيات المنظمات الدولية بالإفراج عنهم تخوفاً من تفشي فيروس كورونا في ظل اكتظاظ السجون، بالإضافة إلى الاعتقالات الإدارية بدون لائحة اتهام، مضيفًا أن الاحتلال الإسرائيلي سعى خلال عام 2020 إلى إعادة أوضاع الأسرى للمربع الأول من تجربة الاعتقال في بداية الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة”[16].

الاهتمام بقضية الأسرى، بدلًا من التركيز على قضايا أخرى قد تكون نتائجها السلبية أكثر من الإيجابية، ناهيك عن اهتمام الفصائل بقضية الصمود، سينقل هذا إلى مشاعر الجماهير ويجبرها على احترام الفصائل والانتماء لها، والشعور بأنها تمثلها وأن مشروعهم واحد. بينما أن يكون كل الحديث حول قضايا سياسية أغلبها يمس الفصائل نفسها، فسوف يؤدي ذلك لعزل عامة الناس، وارتمائهم في أحضان السلام الاقتصادي الذي يقدمه الاحتلال مقابل تدمير المشروع الكفاحي لتحرير فلسطين، وليس هناك أدل من النتائج التي وصل إليها الحال في الضفة الغربية، نتيجة تركها فريسة سهلة في يد الصهاينة، بدون حماية سياسية واقتصادية أو حتى اجتماعية.

  1. حماية الوعي العربي تجاه القضية الفلسطينية:

لا يموت التاريخ مادام هناك قلوب تحيي عليه، ولا يمكن قتل الحقيقة إلا إذا توجهت الرصاصة لوعي صاحبها، وتهميشه لعدالة قضيته، ولذلك يحارب الاحتلال بقوة في الفترة الماضية لتجريف الوعي العربي، بمحو آثار القضية الفلسطينية من حاضره، وهو ما تجتهد فيه بقوة هذه الأيام بعض الدول التي تقدم الصهاينة باعتبارهم دعاة سلام، والمقاومة باعتبارها فصائل إرهابية بطبيعة الحال.

لذلك فمن المهم أن يكون هناك وعي بأن حضور القضية الفلسطينية في الوعي العربي المعاصر لدى مجتمعاتنا؛ لأنه من نقاط دعم الصمود الفلسطيني ذاته، شعوره بأنه هناك حماية شعبية لظهره من جانب إخوانه.

وهنا يجب الفصل بين دور الشعوب والحكومات، فالمعروف أن الدولة العربية تعاني اليوم تآكلًا غير مسبوق في مستوى شرعيتها، وجدوى وجودها؛ لدرجة جعلت من وعي قادتها السياسييين أن تقوية الدولة العربية أضحى هدفًا أهم وأخطر من القضية الفلسطينية ذاتها؛ باعتبار أن سقوط الدول العربية سيعني لا محالة سيطرة تل بيب على الإقليم. كما أن حرص القادة السياسيين العرب على تحقيق نجاحات تمنحهم الشرعية، يدفعهم للهرولة خلف إسرائيل نظرًا للفوائد والمنافع التي تعود عليهم من هذا الأمر، وليس هناك أدل من النموذجين المغربي والسوداني[17]. و”الأحداث المتلاحقة منذ الثورات العربيّة وحتّى الآن، لا ينبغي أن تترك مجالاً للحديث في ما هو أولى، فلسطين، أم القضايا العربية الداخلية وفي طليعتها الاستبداد والارتهان للخارج، ولا ينبغي أن تسمح بذلك الهذر حول امكانية التخلي عن فلسطين ، فالقضية الفلسطينية هي قضية العرب، لأن الاستعمار الصهيوني يستهدف إبقاء البلاد العربية ضعيفة، وهشة، وذليلة، وتابعة، ويستهدف سحق الرأي العام العربي؛ لأنّ استمراره (أي الاحتلال) محال دون ذلك، كما أنّ هذه وظيفة أريدت منه أساساً. فيكفي الحديث في سبب واحد عمليّ واقعي، يمس العربي بقدر ما يمس الفلسطيني، فإذا كان الفلسطيني يعاين الجندي الإسرائيلي، فإنّ العربي بات يعاين وكلاءه، أو يعاين تخلّفه وهشاشة دولته وتبعيتها وارتهانها وتخلّفها عن تحقيق شيء ذي بال من وعودها، والإسرائيلي سبب أساس في ذلك”[18].

تدرك الدول الخليجية -وفي مقدمتها الإمارات- هذا الأمر؛ لذلك تقدم أن تحالفها مع إسرائيل يسهم في تقويتها وليس العكس كما يدعي أنصار القضية الفلسطينية، حيث تستبدل هذا الخطر بعناصر أخرى تتقدمها الجماعات الإسلامية فتركيا وإيران، باعتبارهم دعاة فوضى وخراب[19].

كما يحمل أنصار هذا الرأي الفلسطينيين أنفسهم فشل ما يسمى بعملية السلام، بدعوى أنهم رفضوا كل المحاولات السابقة لمنحهم دولة، ورغم عدم صحة هذا الأمر، وهو ما وضحناه سلفًا، فيمكننا استدعاء حادثة أخرى لتأكيد كذب هذا الادعاء. وإذا كان الحديث في الفترة الماضية دائرًا حول قضية الضم، والذي قدمت فيه الإمارات تطبيعها باعتباره يحمي أرض فلسطين من الاستيطان، فالحقيقة أن الضم حدث بالفعل، وما يدور هو شرعنة للواقع الجديد؛ لمنحه صفة القانونية، وتجريد الفلسطينيين من المزيد من أوراقهم التفاوضية. علاوة على أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت أنها أرجأت الضم ولم تلغه تمامًا كما زعم وزير دولة الإمارات للشئون الخارجية أنور قرقاش. “ففي النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، أخذ الاحتلال يشقّ طريقاً يفصل به قرية رافات عن مدينة رام الله. تقع القرية شمال محافظة القدس، وتلتصق بجنوب مدينة رام الله. كذلك، يفصلُ هذا الطريق مدينةَ رام الله عن معسكر عوفر. ويمتدّ الطريق ذاته من بوابة المعسكر الشماليّة إلى حيّ “عين أم الشرايط”، فيفصل أجزاءً من هذا الحيّ عن مدينة البيرة التي يتبع لها. يمتد الطريق فاصلاً فيما يبدو قرية “كفر عقب” كذلك. فيما بعد، أصبح هذا الطريق داخليّاً للفلسطينيين، ولم تكن قد اتضحت بعد أهداف الاحتلال من شقّه ثمّ إهماله. كان هذا طريق الفصل الأوّل”. “بانت نوايا الاحتلال لاحقاً، مع نهاية التسعينيات، حينما بدا أنه تنازل عن الطريق الأوّل (الفاصل بين رافات ورام الله) وعاد ليقطع قرية رافات عن فضائها المقدسيّ هذه المرّة، بفصلها عن مجمّع “شمال غرب القدس” الذي يضمّ عدداً من القرى الفلسطينية لا يحمل سكانها، في الغالب، هويات المقدسيين الزرقاء. مع انفجار انتفاضة الأقصى، وعملية السور الواقي، فصل الاحتلال قرية رافات تماماً عن ذلك الفضاء من خلال مصادرة الأراضي، وفرض الجدار المتنوع ما بين سلك شائك وجدار إسمنتيّ، وشقّ طرق بديلة، ونَصَبَ جسراً يعلو نفقاً يفصل تماماً قريتي قلنديا ورافات عن منطقة “شمال غرب القدس”؛ ليكون هذا النفق “مَعْبراً” للمنطقة، تمكن السيطرة عليه أمنيّاً بكلّ سهولة، وليتألّف بهذا محور فصلٍ ثانٍ، بديل عن طريق الفصل الأوّل[20]؛ وهي الهندسة الاستعمارية التي يعلن الاحتلال اليوم عن نيته لضمها!

نستنتج من ذلك، أن مسار التسوية السياسية يعاني منذ اللحظة الأولى، لغياب النية لمنح الفلسطينيين دولة، وأن الاحتلال كان يحاول فقط الالتفاف على مكاسب الانتفاضة الأولى، لكسب الوقت لمزيد من قضم الأراضي، والأهم من ذلك، أن تلك الحادثة تؤكد كذب مزاعم أنصار الإمارات الذين يتهمون الفلسطينيين بأن دمويتهم في انتفاضة الأقصى هي سبب إجراءات الضم اليوم.

ولذلك يجب تزكية بعض الجهود في مساحات إحياء وحماية الوعي العربي الجمعي تجاه فلسطين، وحماية أهلها من اتهامات الخيانة والبيع وغيرها من الأساطير الصهيونية.

رابعًا- سلاح الردع الفلسطيني وتأثيره: الاغتيالات الإسرائيلية نموذجًا

ربما المتأمل لما آلت إليه أحوال القضية الفلسطينية مؤخرًا، يشعر للوهلة الأولى أن هناك هيمنة إسرائيلية كاملة، ومحوا كاملا للوجود الفلسطيني بصورة فيزيائية ومعنوية. ورغم أن ذلك في جزء منه حقيقي، ولكنه ليس كل الحق، فهناك صعود فلسطيني قائم ومستمر منذ سنوات، بل يتزايد يومًا بعد يومًا.

عانت إسرائيل عقب نكسة 1967، من عمليات التسلل خلف الحدود التي استهدفت المستوطنين وعناصر جيش الاحتلال، وزادت تحدياتها بحرب الاستنزاف المشتعلة مع الجبهة المصرية والسورية، “وبتعليمات مباشرة من قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال في ذلك الوقت، أرئيل شارون، تم تشكيل وحدة خاصة لتنفيذ الاغتيالات ضد قادة الخلايا الفلسطينية، أُطلق عليها وحدة ريمونيم، والتي قادها مائير دغان، الذي تولى فيما بعد رئاسة جهاز الموساد. وقد نجحت الوحدة في غضون ثلاث سنوات في القضاء على خلايا المقاومة بشكل تام”[21]. تم ذلك بصورة أدت لتوقف العمل العسكري لسنوات، نتيجة اغتيال أي عنصر يحتمل أنه قادر على تشكيل خطر على عناصر الاحتلال، واستمر الأمر هكذا حتى اشتعال الانتفاضة الأولى، التي أنجبت معها حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، حيث عاد العمل العسكري الفلسطيني بقوة، رغم الاختناق الكامل الذي كانت تعيشه فلسطين جراء هيمنة الاحتلال على قطاع غزة والضفة الغربية، ولذلك ارتفع عدد من اغتالتهم إسرائيل إلى 195 شهيدا[22].

انتهت الانتفاضة الأولى رسميًا بالوصول إلى اتفاق أوسلو 1993، والذي سعت فيه إسرائيل لاستغلال كل الجهود الممكنة، وهنا نقصد حتى الجهود الفلسطينية لتحييد القوة العسكرية للمقاومة سواء القائمة أو المحتملة مستقبلًا، واستبدالها بالفصائل السياسية التي تقودها حركة فتح ومنظمة التحرير، “حيث قادت السّلطة الفلسطينية بعد دخولها قطاع غزة في العام 1994 عمليةً واسعةً وعميقةً لإقصاء حركة حماس، فبعد ستة شهور فقط على دخول قوات السّلطة الفلسطينية قطاع غزّة، اصطدمت تلك القوات بجماهير حركة حماس في مسيرة نظمتها الأخيرة، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد سبعة عشر مصلّياً كانوا خارجين من مسجد فلسطين فيما عُرف بـمجزرة مسجد فلسطين”[23].

وفي 1996 اغتالت عناصر الاحتلال يحيي عياش، وهو ما أثر بقوة على الجهاز العسكري لحماس ولكنه لم ينته، فقد شنت المقاومة عمليات انتقامية في العامين التاليين، وهو ما استفز السلطة الفلسطينية التي شعرت بأن حماس تحرجها أمام الشعب واقعيًا، وبأنها تقدم مشروعا ليحل محلها نظريًا، ولذلك تحالف الاحتلال مع قيادة السلطة، لتشن حملة اجتثاث كامل في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعدما “تمكّن الاحتلال من تفكيك الجهاز العسكريّ للحركة، والإمساك بأرشيفه ومراسلاته وشيفراته، وقتل قادته محيي الدين الشّريف وعادل عوض الله، ومن اكتشاف البنية التنظيمية الإداريّة للحركة في كامل الضّفة الغربيّة”[24].

اندلعت الانتفاضة الثانية في 2000 في سياق مقتول عسكريًا بدون أي أنياب، مجرد بقايا متناثرة من المقاومين الذين تمكنوا من الاختباء، أو لم يفتضح أمرهم أمام الاحتلال والسلطة. ولكن ما حدث كان مذهلا في حقيقة الأمر، فالعمل العسكري يحتاج إلى تنسيق وجهود ووقت زمني طويل لصعوبة التواصل في بيئة أمنية محكمة، ورغم ذلك انتشرت العمليات الاستشهادية في كل مكان، لتضيف زخمًا شعبيًا على الانتفاضة، وتنقلها إلى مستوى جديد من الفعالية.

وعادت سياسة الاغتيالات الإسرائيلية للظهور بقوة في قطاع غزة بصفة خاصة، باعتباره الحاضنة الأهم لحركة حماس، ومثلت لحظة اغتيال زعيم حماس ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين في 2004 ذروة هذا التوجه[25].

عقب الانتفاضة، سعت حماس بقوة لحماية جهازها العسكري من الاستنزاف الناتج عن العمليات الاستشهادية من جهة، واستمرار الاغتيالات الإسرائيلية من جهة أخرى، وأخذت تتطور من أدواتها القتالية. وبالفعل أنتجت مقذوفات بدائية الصنع سميت بالقسّام، وقد حاولت الانتقام للشيخ ياسين بإطلاق ثلاث منها، لم يتجاوزن منطقة غلاف غزة، إلا أن المرحلة التي تلت الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على قطاع غزة، شهدت تطورًا كبيرًا في الجهاز العسكري لحماس، ليصبح بالفعل قوة لا يستهان بها، وهو ما ظهرت بوضوح في العدوان الإسرائيلي على غزة أواخر 2008، والذي شهد تطورا نوعيا أربك الاحتلال الذي شن هجومًا مفاجئًا بمئات الغارات التي تقودها أكثر من 80 طائرة، وظن الاحتلال أنه سيتمكن من إسقاط حماس وتدميرها، إلا أنه فوجئ بسقوط أكثر من 60 صاروخا على المستوطنات الصهيونية؛ وهو ما لم يحدث من قبل، ثم تقوم بعمل كمين لقوات إسرائيلية خاصة أثناء الاجتياح البري لغزة، بل وأسر عنصر من الجيش، ثم إسقاط طائرة بدون طيار، وقصف القاعدة الجوية حتسريم، وتعريض آلاف المستوطنين للصواريخ المباشرة، حيث وصلت عدد الصواريخ التي سقطت على إسرائيل إلى 980 صاروخًا وقذيفة، وهو ما أجبر الاحتلال نفسه على إعلان وقف العملية العسكرية من جانب واحد، وانسحابه من غزة، بعدما وصلت الخسائر لأكثر من 2.5 مليار دولار[26].

وقد تزايدت قوة سلاح الردع الفلسطيني بفضل زيادة قوته العسكرية عدة وعتادًا، جندًا وقادة، واليوم نجد أن قطاع غزة مليء بالفصائل المقاومة المسلحة، بصورة دفعتها لتشكيل غرفة عمليات مشتركة لتنسيق الجهود بينهم. ويمكننا تخيل حجم قوة المقاومة في الوقت الحالي، إذا ذكرنا رد فعل تنظيم صغير نسبيًا كتنظيم الجهاد الإسلامي، الذي شن هجومًا بأكثر من 450 صاروخًا في عمق الأراضي المحتلة، عندما اغتال الاحتلال قائد عسكريًا عنده وهو بهاء أبو العطا، رغم أن تنظيم الجهاد وحده هو من قام بالردّ، وليس كل الفصائل، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى إغلاق جميع المرافق التعليمية والاقتصادية الواقعة على مسافة 80 كلم شمال قطاع غزة؛ حيث لم يتمكن مليون طالب إسرائيلي من التوجه إلى مدارسهم. وقد قُدِّرت الكُلفة الاقتصادية لتعطيل المرافق الإنتاجية في كل يوم من يومي المواجهة الأخيرة بخمسة مليارات شيكل ما يعادل  مليارا و150 مليون دولار[27].

خاتمة:

نستنتج من هذا السرد التاريخي الموجز نتيجتين: أن توافر الحد الأدنى من الشروط الطبيعية للمقاومة ينتج وقائع قادرة على قلب المشهد بدون مبالغة. والنتيجة الثانية أن قوة المقاومة الفلسطينية تزداد يومًا بعد يوم، وقد نجد جهازا عسكريًا يتشكل في أيام في الضفة من بقايا متناثرة بصورة مقصودة، عندما ينفجر الوضع.

لقد حاولنا في هذا التقرير استشراف العام المقبل من عمر القضية الفلسطينية، برؤية واقعية، نتجت من تحليل المشهد الداخلي الفلسطيني بوجهيه: العبثي الذي يقوده رئيس السلطة الفلسطينية الذي منح صفقة القرن قُبلة الحياة من جديد بعودة التنسيق الأمني، والمثمر الذي يحدث على الأرض من تطوير وزيادة مساحة المشتركات بين الفصائل الفلسطينية وتكامل أدوارها بصورة كبيرة. كما آثرنا إلقاء الضوء على ضرورة دعم الصمود الفلسطيني، وعدم ترك عامة الناس يواجهون مصائر مجهولة لأسرهم، وضرورة توجيه الجهود نحو الوعي العام العربي، فيما يخص القضية الفلسطينية ليكون هو الحاضنة الأوسع لحماية ظهور الفلسطينيين التي تعرت بسبب سياسات التطبيع العربي، واختتمنا الدراسة بسرد تاريخي يمنح الأمل، ويوضح أن القضية مازالت فتية وقادرة على إثبات حضورها، بل إن الخذلان العربي، يدفع الفلسطينيين أكثر نحو الإيمان بأنفسهم وبعدالة قضيتهم نحو استثمار شتى الوسائل الممكنة.

*****

الهوامش

[1] صالح النعامي، ما وراء حماس البعض لحل “الدولة الواحدة”، وكالة شهاب للأنباء، 2/6/2020، تاريخ الدخول 24/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/y61do

[2] صالح النعامي، ” حتى لا تكونوا شركاء عباس في جرائمه”، الرسالة، 26/11/2020، تاريخ الدخول 21/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/TmSNV

[3] ” حماس: قيادة منظمة التحرير تعيش حالة من التيه السياسي لإرضاء واشنطن”، وكالة شهاب للأنباء، 21/12/2020، تاريخ الدخول 28/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/iRPTg

[4] “حماس تدين اعتقال أجهزة أمن السلطة لكوادرها بالضفة الغربية”، وكالة شهاب للأنباء، 21/12/2020، تاريخ الدخول 26/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/My7GF

[5] صالح النعامي، “فرص حماس في المصالحة”، وكالة شهاب للأنباء، 11/10/2017، تاريخ الدخول 17/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/KcPmC

[6] صالح النعامي، ” نقل السفارة يجرد عباس من أوراقه نهائيا”، وكالة شهاب للأنباء، 27/2/2018، تاريخ الدخول 20/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/lzFKI

[7] ”  الاحتلال يعزز قواته في الضفة”، وكالة شهاب للأنباء، 22/12/2020، تاريخ الدخول 19/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/VJjah

[8] صالح النعامي، ” انتخابات فلسطينية مصلحة صهيونية؟!”، الخليج الجديد، 13/10/2020، تاريخ الدخول 28/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Yjlqh

[9] ساري عرابي، ” هل المخرج في انتخابات تشريعية فلسطينية؟”، عربي 21، 29/9/2020، تاريخ الدخول 24/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/5tMcY

[10] المرجع السابق

[11] ايسر العيس، ” مسؤول فلسطيني للأناضول: عباس رفض تلقي اتصالاً من ترامب”، وكالة الأناضول، 27/1/2020، تاريخ الدخول 24/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/QOOkI

[12] ساري عرابي، ” اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية.. مسافات مملوءة بالخطابة!”، عربي 21، 8/9/2020، تاريخ الدخول 24/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Rk80f

[13] ساري عرابي، ” شحوم القضية الفلسطينية ولحومها.. وحازم صاغية!”، عربي 21، 4/8/2020، تاريخ الدخول 23/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/nalau

[14]  ” “فلسطينيو الخارج” يوجه رسالة دعم للأسرى في سجون الاحتلال”، المركز الفلسطيني الإعلامي، 4/4/2020، تاريخ الدخول 21/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/tDNgA

[15] ساري عرابي، ” الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكية!”، متراس، 10/5/2020، تاريخ الدخول 25/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/kTGKg

[16] ”  الجامعة العربية: 2020 الأكثر انتهاكاً بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي”، العربي الجديد، 16/12/2020، تاريخ الدخول 20/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/jr0tE

[17] خالد سلامة، ” أوراق الفلسطينيين وخياراتهم “المحدودة” لمواجهة “صفقة القرن”، 27/1/2020، تاريخ الدخول 24/12/2020 DW، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/NhzJi

[18] ساري عرابي، ”  سياقات التطبيع مع “إسرائيل”.. هشاشة المشروعية والتناقضات البينية  “، عربي 21، 15/12/2020، تاريخ الدخول 20/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/lJcxd

[19] ساري عرابي، ”  تحريف الأمن القومي العربي.. تحطيم أنظمة لشعوبها!”، عربي 21، 8/7/2020، تاريخ الدخول 23/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/vV8AS

[20] ساري عرابي، ” الضّم: “إسرائيل” تُهندس الأرض، السُّلطة تُهندس الصمت”، متراس، 30/6/2020، تاريخ الدخول 28/12/2020 ، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/7SUjz

[21] صالح النعامي، “غزة وسياسة الاغتيالات في الاستراتيجية الإسرائيلية”، مركز الجزيرة للدراسات، 20/11/2019، تاريخ الدخول 21/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/yImPu

[22]   مصعب البريم، “الأبعاد السياسية لسياسة الاغتيال الإسرائيلية على القضية الفلسطينية (1973-2017)”، رسالة ماجستير، جامعة الأزهر/ فلسطين، 2018، ص 35.

[23] ساري عرابي، ” هل تأخّرت “حماس” عن الالتحاق بالانتفاضة الثانيّة؟، متراس، 9/1/2019، تاريخ الدخول 24/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:   https://cutt.us/HVjXC

[24] المرجع السابق

[25] ” اغتيال الشيخ أحمد ياسين”، الجزيرة، 3/10/2004، تاريخ الدخول 19/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/B4ggQ

[26] “الرصاص المصبوب.. عدوان على غزة فشل بإخضاعها”، الجزيرة، 27/12/2016، تاريخ الدخول 20/12/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/0hRYN

[27] صالح النعامي، مرجع سابق

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد العشرون – يناير 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى