الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي على لبنان

مقدمة:

يمثل الصراع العربي-الإسرائيلي أحد القضايا المركزية التي شكلت معالم الشرق الأوسط لعقود؛ حيث شهدت حدته تصعيدًا خطيرًا بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة. تزامن هذا التصعيد مع توسع رقعة المواجهات لتشمل جبهات أخرى، أبرزها لبنان؛ حيث دخل حزب الله كلاعب أساسي فتح جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية في التصدي للعدوان الإسرائيلي، مما أعاد التركيز على الترابط الوثيق بين ساحات الصراع المختلفة في المنطقة، وشكَّل حلقة جديدة من حلقات الصراع العربي- الإسرائيلي الممتد منذ 1948.

في ظل هذا السياق المتوتر، ظهر دور تركيا تجاه التوسعة الإسرائيلية لنطاق الحرب الأخيرة على المقاومة، فقد أبدت موقفًا داعمًا للبنان عقب تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله اللبناني. وتمثل هذا الموقف في انتقادات دبلوماسية وجهتها تركيا لإسرائيل، ووصفت خلالها العمليات العسكرية بأنها “انتهاكات خطيرة للقانون الدولي”، بالإضافة إلى إطلاق دعوات لوقف إطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية، وتنسيق الجهود الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة ولبنان. فهل مثَّل الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي في لبنان حالة إستثنائية مقارنةً بمواقف الدول العربية والإسلامية بشكل عام؟ هذا التساؤل يدعو إلى دراسة وتحليل هذا الموقف من أبعاده المختلفة للوقوف على مضامينه السياسية والدبلوماسية فضلًا عن الروابط الثقافية والأيديولوجية.

منهجيًا، يمكن تقسيم المواقف الإقليمية من توسع العدوان الإسرائيلي وفق معيار المواجهة والتفاعل إلى ثلاثة مستويات: الأول: محور خط المواجهة المباشرة مثل: فلسطين (السلطة والمقاومة)، لبنان (حزب الله)، اليمن (أنصار الله الحوثيون)، وتأتي مواقف هذا المستوى بالتدخل والمواجهة المباشرة على الأرض، الثاني: محور المقاومة مثل: إيران، حركات المقاومة في سوريا والعراق، وتختلط مواقف هذا المستوى بين المواجهة غير المباشرة والمقاومة السلبية المتمثلة في الرفض القاطع للعلاقات الدبلوماسية، الثالث: الدول العربية والإسلامية، وتتمثل مواقف هذا المستوى في الإدانة الدبلوماسية والرفض دون المواجهة المباشرة أو غير المباشرة. وتقع تركيا ضمن المستوى الأخير، ومن هذا المنطلق يمكن تسكين الموقف التركي تجاه العدوان الإسرائيلي على لبنان ضمن مستوى التفاعل الدبلوماسي والسياسي دون أي نوع من أنواع المواجهة مع إسرائيل.

كذلك، فإن النظرة الشمولية المنهجية تقتضي تناول الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة بعد طوفان الأقصى وليس بمعزل عنها، فالعلاقة بين الساحتين علاقة متغيرات تابعة؛ حيث مثلت ساحة لبنان جبهة إسناد لغزة غير منفصلة في السياقات والتداعيات. وبالتالي فإن الموقف التركي يرتسم وفق محددات في أساسها واحد تختلف في المظاهر ليس إلا، إذ يعكس الموقف التركي رؤية استراتيجية تتجاوز الدعم السياسي لقضية مركزية؛ فهو يهدف إلى تعزيز نفوذ تركيا في الشرق الأوسط وتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية على الساحة الدولية، مما يجعلها فاعلًا في إدارة الأزمات الإقليمية ورسم معالم السياسات المستقبلية في المنطقة.

وعليه، فإن هذا التقرير يهدف إلى تقديم تحليل للموقف التركي تجاه اتساع العمليات العسكرية الإسرائيلية بعد “طوفان الأقصى”، مع التركيز على العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال الفترة من أكتوبر 2023 إلى نوفمبر 2024. ويسعى التقرير إلى تسليط الضوء على الأبعاد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية التي تؤثر في هذا الموقف، وكذلك استكشاف العوامل الإقليمية والدولية التي ساهمت في تشكيله. إذ يأتي هذا التحليل في إطار فهم أعمق لدور تركيا كفاعل رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، والتحديات التي تواجهها في سعيها لتحقيق التوازن بين مصالحها الوطنية ودورها الإقليمي والدولي.

يتناول التقرير أيضًا الديناميكيات الداخلية التي تلعب دورًا في صياغة المواقف السياسية التركية، بما في ذلك التوجهات الأيديولوجية للحكومة التركية، والرأي العام المحلي، والاعتبارات الاقتصادية. كما يدرس الأبعاد الإقليمية والدولية، مثل علاقات تركيا مع الدول العربية، وتفاعلها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، ودورها في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي.

أولًا- ملامح الموقف التركي الرسمي:

اتخذ الموقف التركي تجاه اتساع نطاق العدوان الإسرائيلي على لبنان عدة أشكال، يمكن بيانها فيما يلي:

  • الإدانة الدبلوماسية

منذ تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، أعربت الحكومة التركية عن موقفها الرافض لهذه الأعمال. وقد برز ذلك في تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي وصف الهجمات الإسرائيلية بأنها انتهاكات للقانون الدولي، داعيًا المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات فاعلة لوقفها. وأكد أن هذه التطورات تشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي والعالمي، مشددًا على أهمية التعاون الدولي، لا سيما من دول المنطقة، للحد من التصعيد وضمان الأمن. كما أشار إلى ضرورة دعم القضية الفلسطينية، مؤكدًا التزام تركيا بالجهود الرامية لتحقيق السلام والعدالة في المنطقة([1]).

على الصعيد الدولي، لعبت تركيا دورًا نشطًا في المنظمات الدولية للتصدي للعدوان الإسرائيلي؛ حيث شاركت في تقديم بيانات شفهية أمام محكمة العدل الدولية، وانضمت إلى أكثر من 50 دولة أخرى في إدانة السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة([2])، في إطار سعيها لإدانة جرائم الاحتلال الإسرائيلي، كما أدانت الهجمات الإسرائيلية على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان، ووصفتها بأنها انتهاك للقانون الدولي([3]).

في إطار منظمة التعاون الإسلامي، شاركت تركيا في الاجتماعات التنسيقية لوزراء الخارجية؛ حيث دعت إلى اتخاذ مواقف واضحة ضد الانتهاكات الإسرائيلية، مؤكدة  أن هدف الاحتلال الإسرائيلي هو الاستيطان في غزة، وتدمير الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وضمها في نهاية المطاف([4]). بالإضافة إلى ذلك، ساهمت تركيا في إصدار قرارات مشتركة مع جامعة الدول العربية خلال القمة العربية والإسلامية المشتركة؛ حيث تمت إدانة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والمطالبة بوقفه فورًا([5]).

تزامنًا مع تصعيد العمليات العسكرية في لبنان تدهورت العلاقات التركية – الإسرائيلية؛ حيث تطور الموقف التركي من مستوى استدعاء السفراء وإلغاء الزيارات وتقييد التبادل التجاري إلى مستوى قطع العلاقات؛ حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قطع علاقات بلاده مع إسرائيل لا سيما التجارية، جاء ذلك عقب زيارته للسعودية لحضور القمة المشتركة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية؛ حيث قال: “تشكل القيود التجارية والحظر على إسرائيل شكلا من أشكال النضال، ومن المهم انتهاج دبلوماسية نشطة من شأنها أن تحاصر إسرائيل في كل المجالات من أجل زيادة الضغط الدبلوماسي عليها، فنحن في خضم اختبار عظيم للإنسانية ممكن اجتيازه إذا كنا جزءا من التحالف الإنساني، وإلا فإن التاريخ سيحاكم من يقفون إلى جانب إسرائيل ويصمتون إزاء الظلم”([6]).

من خلال هذه التحركات الدبلوماسية، أبرزت تركيا موقفًا ديناميكيًا من توسع العدوان الإسرائيلي في المنطقة؛ حيث أعربت عن رفضها للتصعيد الإسرائيلي لا سيما التطورات الأخيرة في لبنان. وتأتي هذه المواقف في إطار تأكيدها أهمية احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، مع الدعوة إلى اتخاذ خطوات عملية للحد من التوتر وتعزيز الاستقرار الإقليمي.

  • المساعدات الإنسانية

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، انخرطت تركيا في الجهود الإنسانية الإغاثية؛ حيث أرسلت العديد من طائرات المساعدات ومواد الإغاثة إلى غزة عبر معبر رفح، كما أرسل الهلال الأحمر التركي مساعدات تركية عبر السفن، بجانب إرسال تركيا وفود طبية من مختلف التخصصات لعلاج المصابين داخل مستشفيات شمال سيناء([7]).

في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير في لبنان، برزت تركيا كداعم للبنان من خلال تقديم مساعدات إنسانية متنوعة؛ تجسدت في إرسال شحنات كبيرة من المواد الغذائية والطبية، بالإضافة إلى توفير الدعم اللوجستي للنازحين والمتضررين، كما تعاونت الحكومة التركية مع منظمات غير حكومية تركية ولبنانية لضمان وصول المساعدات إلى جميع المناطق اللبنانية المتضررة، مما يعكس التزامها ودورها في تقديم الدعم الشامل للبنان في هذه الظروف الصعبة.

ففي 25 سبتمبر 2024، هبطت في مطار رفيق الحريري الدولي ببيروت طائرة مساعدات طبية تركية لدعم القطاع الصحي في البلاد، على متنها 30 طنًا من الأدوية والمستلزمات الطبية. كما افتتحت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) مطبخًا خيريًا في منطقة إقليم الخروب بقضاء الشوف في محافظة جبل لبنان، لتلبية احتياجات النازحين الفارين من القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة في جنوب البلاد.([8])

وفي 9 أكتوبر 2024، وصلت إلى مرفأ بيروت سفينتا مساعدات تركيتان تحملان 300 طن من المساعدات لتلبية احتياجات اللبنانيين. وفي 1 نوفمبر التالي، وصلت سفينة تركية ثالثة تحمل نحو ألف طن من المساعدات الإنسانية، في عمل إغاثي رتبت له جمعيات ومنظمات تركية غير حكومية عاملة في لبنان، تضمنت هذه المساعدات مواد غذائية، أدوية، مستلزمات طبية، بطانيات، وخيام، بالإضافة إلى مواد النظافة والملابس. تم توزيع هذه المساعدات على مختلف المناطق اللبنانية، بالتنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة والسلطات المحلية، لضمان وصولها إلى المستفيدين بشكل فعال.([9])

من خلال هذه الجهود، حاولت تركيا تأكيد التزامها بدعم لبنان وشعبه في مواجهة التحديات الإنسانية الناجمة عن التصعيد العسكري الإسرائيلي، وسعيها لتعزيز العلاقات الثنائية وتقديم الدعم المستمر لها.

  • الدعوة إلى الحوار

في أعقاب التصعيد العسكري الأخير في غزة ولبنان، كثفت تركيا جهودها الدبلوماسية لدعم وقف إطلاق النار؛ حيث أجرى وزير الخارجية التركي، اتصالات مكثفة مع نظرائه في المنطقة، بما في ذلك وزراء خارجية مصر وقطر والأردن، بهدف تنسيق الجهود لوقف الأعمال العدائية. كما شاركت تركيا في اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي، داعية إلى اتخاذ موقف موحد لوقف العدوان الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك، تواصلت أنقرة مع الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لحثها على ممارسة ضغوط على إسرائيل لوقف العمليات العسكرية([10]).

بشكل عام، يتسم الموقف التركي تجاه توسع العدوان الإسرائيلي في المنطقة بالانتقاد والرفض للسياسات الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالعمليات العسكرية الأخيرة في لبنان. حيث تُظهر تركيا دعمًا للجانبي العربي الإسلامي خلال مسار الصراع العربي – الإسرائيلي الممتد، بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا إلى لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية؛ حيث دعت إلى وقف إطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين. على الصعيد الدولي، تعمل تركيا على حشد الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، لإدانة السياسات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان.

ثانيًا- محددات الموقف التركي:

أ) العلاقات التركية-الإسرائيلية:

تعود العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى عام 1949، وتعد تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل. شهدت هذه العلاقات مراحل من التعاون والتوتر على مر العقود؛ في التسعينيات تعززت العلاقات بشكل ملحوظ؛ حيث تم توقيع اتفاقيات تعاون عسكري واقتصادي، مما جعل إسرائيل أحد أهم شركاء تركيا في المنطقة. ثم بدأت العلاقات في التدهور بعد عام 2002، خاصة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا؛ حيث تبنت تركيا مواقف أكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. بلغ التوتر ذروته في عام 2010 بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة”؛ حيث قتلت القوات الإسرائيلية نشطاء أتراك كانوا على متن السفينة المتجهة إلى غزة. أدى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لفترة. وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات محاولات للتطبيع، مع تبادل الزيارات الرسمية وإعادة السفراء، إلا أن التوترات ظلت قائمة بسبب القضايا الإقليمية والسياسات الداخلية لكل من البلدين.([11])

تتأثر العلاقات التركية-الإسرائيلية بشكل مباشر بالتصعيدات العسكرية في المنطقة. كلما زادت حدة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة أو الضفة الغربية أو لبنان، تصاعدت الانتقادات التركية، مما يؤدي إلى توتر العلاقات الثنائية. وبالتالي، يمكن القول إن العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان يمثل عقبة جديدة أمام استقرار وتطوير العلاقات التركية-الإسرائيلية.([12])

وهو ما حدث بالفعل؛ حيث قيدت تركيا -في بداية العدوان- تبادلاتها التجارية مع إسرائيل ثم أعلنت قطع علاقاتها التجارية معها في مايو 2024، و مع توسع العدوان الإسرائيلي وتواصله أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 13 نوفمبر 2024 قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل حيث قال: “نحن، كدولة وحكومة في الجمهورية التركية، قررنا قطع العلاقات مع إسرائيل، والآن ليس لدينا أي علاقات معها”([13]). ويمكن القول إن مسوغات تركيا لهذا القرار تأتي ترجمة لموقفها الرافض للعدوان الإسرائيلي المتزايد في المنطقة خاصة على لبنان.

على الرغم من التوترات المتصاعدة في العلاقات بين البلدين، تظل إحدى الديناميكيات المهمة ثابتة وقد تحد من الإجراءات الانتقامية ضد إسرائيل، وهي تحديدًا رغبة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لعب دور في مرحلة ما بعد الحرب في لبنان. تماشيًا مع رؤية تركيا كقوة إقليمية؛ حيث تسعى أنقرة للمشاركة في إعادة بلورة المشهد الإقليمي، وتنظيم سياساته، والتوسط لإيجاد حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. هذا يشير إلى إمكانية سعي تركيا لتجنب استمرار القطيعة الكاملة مع إسرائيل وتداعياتها كما حدث في عام 2010، حتى المقاطعة التجارية قد تكون قابلة للاختراق؛ حيث تستمر تركيا في تزويد إسرائيل بالنفط، الذي يُنقل عبر خط أنابيب من بحر قزوين إلى ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط، ومن هناك إلى إسرائيل. ومع ذلك، يمكن أن تتفاقم القطيعة بسرعة إذا عارضت إسرائيل تطلعات تركيا في المنطقة عبر ساحات عدة من أبرزها سوريا وغزة ولبنان.

ب) السياسة الخارجية التركية

تسعى تركيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، من أبرز هذه الأهداف: تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال دعم الحلول السلمية للنزاعات، وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة لزيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة. كما تهدف تركيا إلى تعزيز نفوذها الثقافي والسياسي عبر دعم القضايا الإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى ذلك تسعى تركيا إلى تأمين مصادر الطاقة وتنويعها، خاصة في ظل اعتمادها الكبير على واردات الطاقة، وذلك من خلال إقامة شراكات استراتيجية مع دول منتجة للنفط والغاز في المنطقة([14]).

في هذا الإطار سعت تركيا في الفترة الماضية إلى لعب دور إقليمي في الشرق الأوسط مستفيدة من قدراتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية. فعلى الصعيد الاقتصادي، حققت تركيا نموًا ملحوظًا جعلها من أكبر الاقتصادات في المنطقة وساهم في تعزيز علاقاتها التجارية مع دول الجوار. عسكريًا، طورت تركيا صناعاتها الدفاعية وزادت من قدراتها العسكرية مما مكنها من لعب دور في النزاعات الإقليمية، كما هو الحال في سوريا. دبلوماسيًا، انتهجت تركيا سياسة خارجية نشطة؛ حيث سعت إلى الوساطة في النزاعات وعملت على تعزيز علاقاتها مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.([15])

تزامنًا مع توسع العدوان الإسرائيلي على لبنان، أظهرت تركيا سياسة خارجية متشددة تجاه إسرائيل من خلال الإدانة الدبلوماسية وقطع العلاقات، كما سعت لإدانة العدوان في المحافل الدولية، تماشيًا مع أهدافها الإستراتيجية المتضمنة تعزيز نفوذها الثقافي والسياسي في دعم القضايا الإسلامية. هكذا، تتقاطع الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية التركية ودورها في الشرق الأوسط، لتمثل أحد العوامل المؤثرة في الموقف التركي من اتساع العدوان الإسرائيلي على لبنان.

ج) الرأي العام التركي

يلعب الرأي العام التركي دورًا حيويًا في تشكيل سياسات الحكومة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية والدولية. تُظهر المظاهرات والاحتجاجات الشعبية مدى تفاعل المجتمع مع الأحداث الجارية، مما يفرض على الحكومة مراعاة هذه التوجهات في صياغة مواقفها الرسمية، فقد دفع الزخم الشعبي والاحتجاجات المتتالية الرئيس التركي إلى التهديد بالتدخل العسكري ضد إسرائيل مخاطبًا حشدًا من الناس في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية([16]).

خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة ولبنان، شهدت المدن التركية مظاهرات حاشدة تندد بالعمليات العسكرية وتدعو لدعم الفلسطينيين. هذه التحركات الشعبية دفعت الحكومة التركية إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة في إدانة إسرائيل؛ حيث وصف الرئيس رجب طيب أردوغان العمليات الإسرائيلية بأنها “جرائم حرب” ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك لوقفها.

فقد أظهر توسع العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، أن الحكومة التركية تأخذ بعين الاعتبار مشاعر المواطنين تجاه القضايا الإقليمية، وتسعى إلى تبني مواقف تتماشى مع تطلعاتهم، مما يعزز من شعبيتها ويضمن استقرارها السياسي، فالرأي العام التركي يتجه لمزيد من السخط والرفض للعدوان الإسرائيلي ومعه يزداد الموقف التركي الرسمي شدةً تجاه إسرائيل وتصرفاتها، ولا شك أن هذا التوازن بين الاستجابة لمطالب الرأي العام والحفاظ على المصالح الوطنية يُعد عنصرًا أساسيًا في نهج السياسة الخارجية التركية.

د) التحالفات الدولية

تتمتع تركيا بعلاقات تاريخية ومعقدة مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تُعتبر تركيا شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة؛ حيث يتعاون البلدان في مجالات الدفاع والأمن ومكافحة الإرهاب. ومع ذلك، شهدت العلاقات بينهما توترات في السنوات الأخيرة بسبب قضايا عدة مثل شراء تركيا لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية S-400، مما أدى إلى فرض عقوبات أمريكية على تركيا([17]).

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد سعت تركيا منذ عقود للانضمام إليه، وبدأت مفاوضات العضوية رسميًا في عام 2005. إلا أن هذه المفاوضات شهدت تباطؤًا بسبب مخاوف الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا حقوق الإنسان وسيادة القانون في تركيا، كما أثرت التوترات في شرق البحر المتوسط، خاصة مع اليونان وقبرص، على مسار العلاقات بين أنقرة وبروكسل([18]).

تؤثر علاقات تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل مباشر على سياساتها تجاه النزاعات الإقليمية، بما في ذلك الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فعلى الرغم من أن تركيا تتخذ مواقف داعمة للفلسطينيين وتنتقد السياسات الإسرائيلية، إلا أنها تسعى للحفاظ على توازن في علاقاتها مع الغرب. على سبيل المثال، في عام 2022 شهدت العلاقات التركية-الإسرائيلية تحسنًا ملحوظًا؛ حيث زار الرئيس الإسرائيلي تركيا، مما اعتُبر خطوة نحو تطبيع العلاقات بين البلدين([19]). ويمكن القول إن هذا التقارب كان مدفوعًا برغبة تركيا في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حيث يُنظر إلى تعزيز العلاقات مع إسرائيل كوسيلة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.

بالإضافة إلى ذلك، سعت تركيا إلى لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية لتعزيز صورتها كقوة إقليمية مسؤولة. فعلى سبيل المثال، حاولت التوسط بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، وسعت إلى لعب دور في محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذه الجهود تُظهر رغبة تركيا في تحقيق توازن بين دعمها للقضايا الإقليمية والحفاظ على علاقات بناءة مع القوى الغربية([20]).

مؤخرًا، ومع توسع العدوان الإسرائيلي في لبنان، اشتبك الموقف التركي مع توازنات العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الغربية؛ حيث حذرت تركيا على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان إسرائيل من توسع حربها في غزة ولبنان، واستنكر الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل قائلًا: “من العار على المجتمع الدولي ألا تتوقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل،… لقد شهدنا ارتكاب إبادة جماعية مفتوحة عندما كان الديمقراطيون في السلطة بأميركا، ونرى ذلك أيضًا والجمهوريون في السلطة”([21]). كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على منبر الجمعية العامة للأم المتحدة الأخيرة ضرورة إيقاف العدوان الإسرائيلي على لبنان عبر تحالف إنساني([22])، في إشارة إلى أهمية التحالفات الدولية والإقليمية ودورها في تشكيل الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على لبنان.

كذلك، يمكن النظر إلى الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان من ثنايا العلاقة بين تركيا وحزب الله اللبناني المتوترة منذ 2011 بسبب تعارض المصالح في سوريا؛ حيث يدعم حزب الله نظام بشار الأسد، في حين تدعم تركيا المعارضة السورية، بجانب رؤية تركيا للحزب باعتباره “درة التاج الإيراني” وتوجس تركيا من دور الحزب في دعم النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب الدور التركي، انعكس ذلك –مثلًا– على التصريحات التركية المتباينة عقب اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله مقارنة باغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية([23]).

إذًا، يتشكل الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي في المنطقة خاصة في التصعيد الأخير تجاه لبنان نتيجة تفاعل عدة عوامل استراتيجية وسياسية. تُعد العلاقات التركية-الإسرائيلية أحد المحاور الرئيسية؛ حيث تتسم بالتذبذب بين التعاون والتوتر، مع تأثير مباشر للأحداث الإقليمية مثل العدوان على لبنان في تحديد طبيعة هذه العلاقات. إلى جانب ذلك، تلعب السياسة الخارجية التركية دورًا مهمًا؛ حيث تسعى تركيا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية كقوة إقليمية من خلال تبني مواقف داعمة للقضايا العربية والإسلامية، بما في ذلك القضية الفلسطينية.

الرأي العام التركي أيضًا عامل مؤثر؛ حيث شهدت البلاد مظاهرات واحتجاجات واسعة للضغط على الحكومة لاتخاذ مواقف صارمة تجاه إسرائيل. أما على الصعيد الدولي، فإن تحالفات تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تُشكل عاملًا مهمًا في صياغة مواقفها، إذ تسعى تركيا للموازنة بين تعزيز علاقاتها مع هذه القوى الكبرى والحفاظ على دورها كمدافع عن الحقوق الفلسطينية.

ثالثًا- الانعكاسات المستقبلية للموقف التركي:

أ) تعزيز الدور الإقليمي

تسعى تركيا إلى تعزيز مكانتها كوسيط في النزاعات الإقليمية، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وعلاقاتها المتوازنة مع مختلف الأطراف. على سبيل المثال، لعبت تركيا دورًا محوريًا في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث استضافت محادثات السلام وساهمت في التوصل إلى اتفاقيات لتصدير الحبوب عبر البحر الأسود. بالإضافة إلى ذلك، نظمت تركيا “مؤتمر إسطنبول للوساطة” الذي يجمع خبراء ودبلوماسيين لمناقشة سبل تعزيز الوساطة في حل النزاعات([24]). ومن خلال هذه المبادرات، تسعى تركيا إلى تعزيز مكانتها كقوة إقليمية، قادرة على المساهمة في استقرار المنطقة وحل النزاعات بطرق سلمية.

انعكس الموقف التركي من اتساع رقعة العدوان الإسرائيلي في المنطقة لتشمل لبنان، على مسارها كوسيط بين أطراف الحرب؛ حيث دخلت على خط الوساطة بين إسرائيل وحماس في ظل حراك دولي متجدد لوقف الحرب في غزة عقب اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، إذ أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن “الولايات المتحدة ستبذل جهدًا آخر مع تركيا ودول أخرى لتحقيق وقف إطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب من دون ’حماس‘ في السلطة. أميركا ستدفع مرة أخرى باتجاه التوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة، عبر اتصالات مع أنقرة”([25])، سبق ذلك إعلان رغبة تركيا في لعب دور وسيط بين طرفي النزاع حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “بلادنا على استعداد للمساعدة بأية طريقة ممكنة للتوصل لوقف إطلاق نار دائم في غزة، سنبذل كل ما في وسعنا لوقف المجزرة الإسرائيلية في القطاع، وضمان وقف إطلاق النار بصورة دائمة”([26]).

يأتي الموقف التركي الرافض لتوسع العدوان الإسرائيلي على لبنان معززًا لدورها كوسيط في النزاعات بالمنطقة ضمن مقاربة تركية تقوم على أمرين: أولهما أن الدبلوماسية الوقائية تمثل أكثر السبل تأثيرًا وأقلها تكلفة في حل النزاعات الإقليمية، ثانيهما أن تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة ينعكس بشكل إيجابي على تركيا سياسيًا، واقتصاديًا.

ب) تحسين العلاقات مع الدول العربية

تسعى تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية من خلال دعمها للبنان في مواجهة التوسع العدواني الإسرائيلي في المنطقة. على سبيل المثال، أدانت تركيا بشدة الهجمات الإسرائيلية على لبنان، ووصفتها بأنها محاولة لإغراق المنطقة في الفوضى([27])، بالإضافة إلى ذلك، اتهمت تركيا إسرائيل بالسعي إلى احتلال لبنان من خلال هجومها البري، ودعت مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ التدابير اللازمة ضد هذا الهجوم([28]).

هذه المواقف التركية الداعمة للبنان في مواجهة التوسع العدواني الإسرائيلي تعزز من علاقاتها مع الدول العربية؛ حيث تُظهر التزام أنقرة بدعم القضايا العربية والإسلامية، مما ينعكس إيجابًا على مكانتها كقوة إقليمية في المنطقة، وقد تُرجم ذلك إلى تطور في العلاقات التركية العربية على المستوى السياسي من حيث الانسجام في المواقف والزيارات الدبلوماسية المتبادلة، والاقتصادي؛ حيث تزايد معدل نمو التبادل التجاري بنسبة 7.7٪ في عام 2024([29]).

ج) تأثير الموقف التركي على علاقاتها مع إسرائيل

تتسم العلاقات التركية-الإسرائيلية بتقلبات متكررة؛ حيث تتأثر بالتطورات الإقليمية والمواقف السياسية لكل من البلدين. في السنوات الأخيرة، شهدت هذه العلاقات تحسنًا ملحوظًا، تمثل في تبادل السفراء وتوسيع التعاون الاقتصادي.

رغم ذلك، فإن المواقف التركية تجاه السياسات الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالعمليات العسكرية في غزة والضفة الغربية، قد انعكست بشكل مباشر على العلاقات الدبلوماسية، التجارية، الاقتصادية، العسكرية بين البلدين؛ حيث أعلن الرئيس التركي قطع علاقات بلاده مع إسرائيل –كما سبق وأشرنا– كدلالة على الموقف التركي الرافض لتوسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في المنطقة.

د) أثر الموقف على علاقات تركيا مع الغرب

تسعى تركيا إلى تحقيق توازن بين مواقفها الإقليمية والدولية، خاصة في ظل علاقاتها المعقدة مع الدول الغربية. فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيل على لبنان، تتبنى تركيا مواقف داعمة للبنان ورافضة لهذا للعمليات العسكرية الإسرائيلة في لبنان، هذه المواقف قد تؤدي إلى توترات مع الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللتين تربطهما بتركيا علاقات استراتيجية واقتصادية مهمة؛ حيث انتقدت تركيا دعم بعض الدول الغربية لإسرائيل، مما أثار ردود فعل متباينة.

بالرغم من ذلك، تحاول أنقرة الحفاظ على علاقاتها مع الغرب من خلال التأكيد على أهمية التعاون في مجالات الأمن والاقتصاد. فعلى سبيل المثال، تستمر تركيا في لعب دور حيوي داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتشارك في مبادرات أمنية مشتركة مع الدول الغربية.([30])

هذا التوازن بين المواقف الإقليمية الداعمة للقضايا العربية والإسلامية، والحفاظ على علاقات بناءة مع الدول الغربية، يعكس استراتيجية تركيا في تعزيز دورها كقوة إقليمية مؤثرة، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية على الساحة الدولية.

رابعًا- تحليل الموقف التركي

أ) الموقف التركي: بين القول والفعل

يُظهر الدور التركي في التعامل مع التصعيد الإسرائيلي في لبنان تركيزًا واضحًا على الإدانة الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية، دون أن يترجَم ذلك إلى تأثير فعلي على مجريات الأحداث أو تغيير في موازين القوى. فرغم التصريحات الحادة والانتقادات الموجهة لإسرائيل، تظل هذه المواقف في إطار الخطاب السياسي والإعلامي، بينما لم تُسفر الجهود التركية عن خطوات عملية ملموسة توقف التصعيد أو تحدّ من تداعياته. كما أن المبادرات الإنسانية، رغم أهميتها، تقتصر على التخفيف من حدة الأزمة الإنسانية بدلًا من معالجة جذورها أو تحقيق اختراقات دبلوماسية حقيقية. وهذا يُبرز محدودية التأثير التركي في إدارة النزاعات الإقليمية، ما يعكس الحاجة إلى استراتيجيات أكثر شمولية وقدرة على إحداث تغيير فعلي في الواقع السياسي.

كذلك، تُظهر السياسة التركية تركيزًا أكبر على القضايا المرتبطة بأمنها القومي المباشر، مثل العمليات العسكرية في سوريا والعراق، مقارنة بتعاملها مع التصعيد في لبنان. ففي حين تتبنى تركيا خطابًا داعمًا للبنان وتُدين الاعتداءات الإسرائيلية، إلا أن تحركاتها الفعلية على أرض الواقع تظل محدودة، نظرًا لاعتبارات جيوسياسية وأمنية تجعل من الحدود الجنوبية مع سوريا والعراق أولوية استراتيجية. فالتدخلات التركية في تلك المناطق ترتبط بشكل وثيق بمواجهة التهديدات الأمنية، مثل الجماعات الكردية المسلحة، وتأمين نفوذها الإقليمي. وفي المقابل، يُنظر إلى الأزمة في لبنان من منظور أقل إلحاحًا؛ حيث تقتصر الاستجابة التركية على الدعم الدبلوماسي والمساعدات الإنسانية، ما يعكس اختلاف أولوياتها الاستراتيجية وتوزيع جهودها بناءً على المصالح المباشرة بدلًا من التفاعل العميق مع الأزمات الإقليمية الأبعد جغرافيًا، مما يثير تساؤلات حول غياب سياسات واضحة أو أدوار مؤثرة لتركيا في هذه الأزمات، وهو الأمر الذي يشير إلى تفوق الأولويات الأمنية الاستراتيجية على حساب الروابط الأيديولوجية والثقافية في الرؤية التركية.

ب) الحرب والقوة الناعمة التركية

تُولِي تركيا اهتمامًا بحقوق الإنسان ودعم الشعوب المتضررة، خاصة في سياق العدوان الإسرائيلي المتوسع في المنطقة وتعمل على تقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين من العمليات العسكرية الإسرائيلية؛ حيث أرسلت شحنات مساعدات طبية وغذائية إلى قطاع غزة ولبنان عبر هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، كما نظّمت تركيا تجمعات جماهيرية ومظاهرات حاشدة، مثل “تجمُّع فلسطين الكبير” في إسطنبول بحضور الرئيس رجب طيب أردوغان، للتعبير عن دعمها للشعب الفلسطيني وتنديدها بالعدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.

على الصعيد الدبلوماسي، دعت تركيا المجتمع الدولي إلى التحرك لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، مؤكدةً ضرورة حماية حقوق الإنسان خلال الحرب. في الوقت نفسه تتخذ تركيا من النهج العسكري في سوريا –على سبيل المثال- سبيلًا لتقويض القوات الكردية المسلحة في الشمال السوري مستغلة بذلك الأزمة السورية لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، الأمر الذي يضع الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي خاصة التصعيد الأخير في لبنان موضع تساؤل حول أبعاد هذا الموقف ودلالاته السياسية.

ج) الاستفادة السياسية: كيف استثمرت تركيا الأزمة لتعزيز حضورها الإقليمي!

استثمرت تركيا الأزمة الناتجة عن توسع العدوان الإسرائيلي على لبنان لتعزيز حضورها الإقليمي من خلال عدة استراتيجيات:

أولًا: قامت بتكثيف جهودها الدبلوماسية عبر التواصل مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، داعية إلى وقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين.

ثانيًا: سعت تركيا إلى لعب دور الوسيط في النزاع، مستفيدة من علاقاتها التاريخية مع مختلف الأطراف، بما يعزز من مكانة أنقرة كقوة إقليمية تسعى لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة.

ثالثًا: استغلت تركيا الأزمة لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، مؤكدة دعمها للقضية الفلسطينية ومعارضة العدوان الإسرائيلي على لبنان، مما يكسبها تأييدًا في العالمين العربي والإسلامي، ويعزز من نفوذها الإقليمي.

من خلال هذه التحركات، حاولت تركيا تعزيز حضورها الإقليمي، وتأكيد دورها كفاعل يسعى لضبط معادلة ميزان القوى في المنطقة؛ بغض النظر عن التدليل على دور فعال في ساحة الحرب أو التأثير المباشر في أطراف النزاع.

خاتمة: دلالات وخلاصات

يتسم الموقف التركي من توسع العدوان الإسرائيلي في المنطقة بالوضوح النسبي مقارنة بغيرها من الدول الإسلامية والعربية؛ حيث تُظهر أنقرة دعم القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الإنسان في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان من خلال تصريحاتها الرسمية، ودورها الدبلوماسي، وتقديم المساعدات الإنسانية.

سياسيًا، يُعد الموقف التركي الرافض للعدوان الإسرائيلي على لبنان لبنة في تعزيز مكانة تركيا على مختلف المستويات، فعلى المستوى الإقليمي، عززت تركيا مكانتها كمدافع عن القضايا الإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مما أكسبها شعبية في العالمين العربي والإسلامي. أما دوليًا، فقد استثمرت تركيا هذا الموقف لتعزيز دورها كوسيط في النزاعات الإقليمية، مع السعي لتحقيق توازن في علاقاتها مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين، ما يعكس رؤيتها للتحرك في نظام عالمي متغير.

داخليًا، توظف تركيا هذا الدعم لتعزيز وحدتها الوطنية؛ حيث تحظى القضية الفلسطينية –لا سيما بعد طوفان الأقصى- بتأييد شعبي واسع بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية. هذا الإجماع يمنح القيادة التركية زخمًا إضافيًا لمواجهة التحديات الداخلية، إلى جانب تعزيز مكانتها كصوت يدافع عن حقوق الفلسطينيين على الساحة الدولية من خلال منابر مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي.

وتحاول تركيا أن تلعب دورا في تحقيق الاستقرار الإقليمي، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وعلاقاتها المتنوعة، من خلال جهودها في الوساطة، ومحاولة الوصول إلى توازن بين الأطراف المختلفة، والوصول إلى حلول سلمية للنزاعات؛ الأمر الذي يساهم في تعزيز مكانتها كقوة إقليمية.

ورغم موقف تركيا العلني الرافض لتوسع العدوان الإسرائيلي، فإنه محدود في تأثيره العملي؛ حيث تُظهر تركيا تضامنًا مع القضية الفلسطينية عبر الخطابات والمساعدات الإنسانية، لكنها لم تتمكن حتى الآن من تحقيق تغييرات جوهرية على الأرض أو التأثير الفعلي في مجريات الصراع؛ حيث يقتصر التأثير التركي غالبًا على الخطاب الدبلوماسي والإعلامي، دون أن يترافق ذلك مع خطوات ملموسة لتحقيق توازن حقيقي للقوى.

علاوة على ذلك، يتزامن الموقف التركي مع علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية التاريخية مع إسرائيل، مما يضعف مصداقيتها في دعم القضية الفلسطينية ورفض العدوان الإسرائيلي على لبنان، فرغم التوترات المتقطعة بين أنقرة وتل أبيب، لا تزال هناك مجالات وسياقات تعاون، خصوصًا في التجارة والطاقة، وهو ما قد يُنظر إليه كتناقض مع خطابها الحاد تجاه إسرائيل.

في السياق ذاته، يمكن القول إن الموقف التركي يُستغل أحيانًا لتعزيز مصالح أنقرة الإقليمية أكثر من كونه دعمًا حقيقيًا للجانب الفلسطيني واللبناني. فالدبلوماسية التركية تجاه النزاع تسهم في تحسين صورتها كمدافع عن الشعوب المظلومة، لكنها تُستخدم أيضًا كورقة ضغط في علاقاتها مع الدول الغربية والعربية.

وبالرغم من الانتقادات الموجهة للموقف التركي، يظل دوره مهمًا في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة الإسلامية والعربية، لكن هذا الدور يبقى محدودًا ما لم يُترجم إلى أفعال ملموسة ويُنسّق بشكل أفضل مع الدول العربية التي تحتاج بدورها إلى تجاوز خلافاتها والعمل بشكل جماعي لتعزيز الموقف الإقليمي.

______________________

هوامش

باحث في العلوم السياسية.

([1])  أردوغان يدعو إلى تضامن دول الشرق الأوسط “لوقف التصرفات الإسرائيلية”، RT عربي، 1 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/r3xE8n2p

([2])  هاني زقوت، بمشاركة تركيا و52 دولة ومنظمة إسرائيل تمثل مجددًا أمام العدل الدولية، 29 فبراير 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/vZxJZdnw

([3]) Turkey condemns Israeli attacks against UN peacekeepers in Lebanon, Reuters, 11 October 2024, Accessed at: 15 November 2024, available at: https://2u.pw/rugaAID3

([4]) القمة العربية الإسلامية.. الرئيس التركي: هدف إسرائيل هو الاستيطان في غزة وتدمير الوجود الفلسطيني بالضفة، وكالة الأنباء القطرية، 11 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4hFpYF5

([5]) للمزيد عن قرارات القمة العربية والإسلامية المشتركة غير العادية، انظر: صدور قرار عن القمة العربية والإسلامية المشتركة غير العادية لبحث العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، صحيفة المدينة، 11 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/GWGRdyFG

([6]) أردوغان يؤكد على قطع بلاده للتجارة والعلاقات مع إسرائيل، الجزيرة، 13 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://aja.ws/zi9fby

([7])  الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة: الأبعاد والمحددات، الشارع السياسي، 5 أبريل 2024، تاريخ الاطلاع: 16 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://politicalstreet.org/6380/

([8])  فيدان يؤكد لميقاتي استعداد تركيا لتقديم مزيد من الدعم الإغاثي للبنان، صحيفة يني شفق، 6 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 16 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/JhCcWhIz

([9])  تحمل 1000 طن.. سفينة مساعدات تركية ثالثة تصل إلى بيروت، TRT عربي، 1 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 16 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/A97qMrBV

([10])  وزيرا خارجية تركيا والولايات المتحدة يبحثان جهود وقف إطلاق النار في غزة، LBC، 21 أغسطس 2024، تاريخ الاطلاع: 17 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/PgxuBP7d

([11])  تطور العلاقات التركية الإسرائيلية في سطور، RT عربي، 27 أكتوبر 2022، تاريخ الاطلاع: 17 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://ar.rt.com/u284

([12]) للمزيد حول تعقد العلاقات التركية الإسرائيلية على إثر تصاعد العدوان الإسرائيلي خلال السنوات الماضية، انظر: وحدة الدراسات السياسية، أزمة العلاقات التركية – الإسرائيلية: أسبابها وآفاقها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، مايو 2018، تاريخ الاطلاع: 17 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/gr6toAuQ

([13])  أردوغان يعلن قطع العلاقات مع إسرائيل، RT عربي، 13 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 18 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/1oxpm2jP

([14]) عماد قدورة، السياسة الخارجية التركية: الاتجاهات، التحالفات المرنة، سياسة القوة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2021).

([15])  كيف أصبحت تركيا شريكًا في صياغة التوازنات الإقليمية والدولية؟، TRT عربي، 27 ديسمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 19 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/N8PRrpIR

([16]) Dror Doron, The reality behind Erdoğan’s fiery rhetoric against Israel, The Jewish Independent, 6 August 2024, Accessed at: 18 November 2024, available at: https://2u.pw/3nsEVtdg

([17]) Soner Cagaptay, The Future of U.S.-Turkish Ties: A New Relationship, Not a Reset, The Washington Institute, 26 Jan 2024, Accessed at: 19 November 2024, available at: https://2u.pw/HTX8MmZK

([18]) أحمد محمد فال، عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.. عثرات وعقبات ورفض معلن، الجزيرة، 20 يوليو 2024، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://aja.ws/y2njhn

([19]) “فتح صفحة جديدة”.. ما أسرار التقارب بين إسرائيل وتركيا؟، DW، 18 فبراير 2022، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://p.dw.com/p/47EAa

([20]) Bora Bayraktar, The Palestinian Question In Turkish Foreign Policy, Akademik Bakış, Issue, 24, Vol. 12, 2019, available at: Https://2u.Pw/Tpxlrlbb

([21]) سعيد عبدالرازق، تركيا تحذّر إسرائيل من توسيع حربها، الشرق الأوسط، 16 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/GHGTqEWG

([22])  أردوغان: علينا إيقاف نتنياهو وعصابته المجرمة بتحالف إنساني، الجزيرة، 24 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 20 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://aja.ws/nnanlw

([23])  غدى قنديل، حرب إسرائيل على حزب الله.. إلى أي الجبهات ستنضم تركيا؟، مركز الدراسات العربية الأوراسية، 16 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 30 ديسمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/EobYvWyc

([24])  آخرها الوساطة بين روسيا وأوكرانيا.. دور تركي رائد في حل النزاعات الدولية، TRT عربي، 20 مارس 2024، تاريخ الاطلاع: 21 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/yUkLBDZS

([25])  مسعى أميركي لوقف النار في غزة و”حماس” تؤكد تعاونها، إندبنديت عربية، 27 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 27 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/px0C5p2F

([26])  عز الدين أبو عيشة، تركيا أمام “ميكروفون” الوساطة في غزة، إندبينديت عربية، تاريخ النشر: 29 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 29 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tt3l1VY7

([27])  تركيا حول هجمات إسرائيل على لبنان: مرحلة جديدة من جهود تبذلها تل أبيب لإغراق المنطقة في الفوضى، RT، 29 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 21 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/iOmEDwKF

([28])  من خلال هجومها البري.. تركيا تتهم إسرائيل بالسعي لاحتلال لبنان، اليوم، 1 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 21 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ajLnjX3L

([29])  زيد اسليم، لماذا تحقق التجارة بين تركيا والدول العربية أرقاما قياسية؟، الجزيرة، 24 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 9 ديسمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://aja.ws/kpddwa

([30]) Henri J. Barkey, Turkey, the United States, and the Israel-Hamas War, Council On Foreign Relation, 25 October 2023, Accessed at: 23 November 2024, available at: https://2u.pw/zXOPZUB2

  •  فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس والثلاثون- يناير 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى