تطور المواقف الأوروبية والأمريكية من عملية طوفان الأقصى

مثلت عملية طوفان الأقصى تحديًا كبيرًا للهيمنة الغربية في النظام العالمي، بالغ من وقعه حقيقة أن هذا التحدِّي جاء من حركة مقاومة بدائية التسليح إذا ما قورنت بالقدرات العسكرية للقوى الغربية المتحالفة مع الكيان الصهيوني تحت مظلَّة الهيمنة الأمريكية، وبالرغم من ذلك، لم يتمكَّن هذا الكيان المدعوم بقوى الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من القضاء على حركة حماس وإزاحتها من حكم قطاع غزة.

وقد تفاوتت درجات الدعم الغربي المقدم لإسرائيل والذي ظهر في مواقف وخطابات الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تطوَّرت مع استمرار الحرب، وتنوَّعت بين مواقف شديدة الوضوح في انحيازها للكيان الصهيوني ومواقف حرصت على إظهار التوازن في مواقفها وخطاباتها لأسباب مختلفة، ويحاول التقرير تحليل تطوُّر المواقف الأمريكية والأوروبية من عملية طوفان الأقصى واستخلاص أهمِّ دلالاتها وتداعياتها.

أولا: الموقف الأمريكي من عملية طوفان الأقصى

  • في أعقاب بدء عملية طوفان الأقصى، قدَّمت الولايات المتحدة كافَّة وسائل الدعم العسكري والسياسي والمالي واللوجستي والإعلامي غير المشروط للكيان الصهيوني تحت مبرِّر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدَّ ما أسْمته “الهجوم الإرهابي لحركة حماس”، وتنوَّعت أشكالُ تعبير الولايات المتحدة عن “الالتزام الصلب كالصخر تجاه إسرائيل” ما بين زيارة الرئيس الأمريكي لإسرائيل ومشاركته في أعمال حكومة الحرب وانخراط كبار المسؤولين في إدارته في جولات دبلوماسية مكوكية لتنسيق خطط الحرب، وحشد الدعم الدولي لإسرائيل، وإرسال الأسلحة والذخائر والمساعدات الأمنية لقواتها، ونشر القوات والقدرات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط لردع القوى الإقليمية والحيلولة دون توسيع نطاق الحرب أو تحويلها لحرب إقليمية، وعرقلة محاولات العديد من القوى والجهات وقف إطلاق النار، على اعتبار أن ذلك سيسْمح لحماس بإعادة بناء قدراتها وتنظيم مقاتليها ممَّا سيشكل خطرًا على إسرائيل، ويحُول دون تحقيق الهدف الأمريكي الإسرائيلي المشترك في منع حماس من السيطرة على قطاع غزة مرة أخرى[1].
  • ومع تصعيد وكثافة القصف الإسرائيلي وتفاقم الكارثة الإنسانية في غزة وتصاعد الضغط الداخلي والدولي، شهد الموقف الأمريكي تغيُّرًا على مستوى لهجة الخطاب -وليس الموقف أو الاستراتيجية- من التشدُّد للمرونة. من ثم، بدأت الولايات المتحدة في تضْمين خطابها الاعتراف بوقوع ضحايا من المدنيِّين متبنِّية الرواية الإسرائيلية في تبرير ذلك بسبب اتخاذ حماس إياهم كدروع بشرية وباستخدامها للبنية التحتية المدنية في غزة لصالح أعمالها العسكرية[2]. ثم، بدأ الخطاب الأمريكي الرسمي تدريجيًّا في تغيير أكبر لنبرته نحو التأكيد على أهمية حماية المدنيِّين وإبراز الجهود الأمريكية للتنسيق مع إسرائيل والضغط عليها لكي تُراعي العملية العسكرية الإسرائيلية تقليلَ الضرر الواقع على المدنيين، وأهمية محاسبة المستوطنين المتطرفين على أعمال العنف في الضفة، وصولًا لاستعداد الولايات المتحدة لحظر دخولهم للأراضي الأمريكية، كما أطلق بايدن مشروعًا لمواجهة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة في محاولة للتقرُّب إلى الأصوات العربية والمسلمة[3].

ومن ناحية ثانية، بدأ الموقف الأمريكي الرسمي يتبنَّى فكرة فترات التوقُّف التكتيكية أو عقد هدن إنسانية لإجلاء المدنيين من مناطق القتال وإدخال المساعدات الإنسانية، ودخلت الولايات المتحدة في مباحثات مع إسرائيل وقطر ومصر وصولا لاتفاق حول هدنة مؤقتة لتبادل الأسرى والرهائن ودخول المساعدات، وعبَّر بايدن عن رغبته في تمديد الهدنة لإطلاق المزيد من الرهائن ودخول المساعدات. ومن ثم، جاء قبول إسرائيل لشروط الهدنة كنتيجة لفشلها في تحقيق أهدافها المعلنة حول القضاء على حماس واستعادة الرهائن، وللضغط الأمريكي على إسرائيل نتيجة تصاعد الغضب العالمي وخروج هذا الغضب من قلب أكبر الدول الحليفة والداعمة لإسرائيل وإقناعها أنه من الصعب تحقيق الأهداف العسكرية في غزة في ظلِّ اشتداد الغضب العالمي بشأن الكارثة الإنسانية هناك[4].

  • وقد أعلنت الولايات المتحدة عن رؤيتها لمستقبل غزة في أواخر أكتوبر والتي تتلخَّص في التالي: رفض التهجير القسري أو إعادة احتلال غزة، ورفض حصار وتقليص مساحة أراضيه، ورفض استخدام غزة ثانية منطلقًا لهجمات حماس ضدَّ إسرائيل. وتبنَّت الولايات المتحدة فكرة إعادة توحيد غزة والضفة في هيكل حكم واحد ليصبح الحكم في نهاية المطاف في يد سلطة فلسطينية متجدِّدة في إطار حلِّ الدولتين التي بدأت الولايات المتحدة في التأكيد عليه بشكل كبير باعتباره نقطة النهاية الوحيدة لهذا الصراع. ولكن يسبق ذلك وجود ترتيبات أمنية مؤقَّتة قد تشمل الاستعانة بدول إقليمية أو وكالات دولية لإدارة قطاع غزة[5].

ويمكن الخلوص بجملة من الدلالات حول الموقف الأمريكي من طوفان الأقصى على النحو التالي:

  • أوضحت حرب غزة أنه وبالرغم من الأهداف الأمريكية الإسرائيلية المشتركة حول القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس وإنهاء حكمها في غزة، إلا أن التصريحات والخطابات الرسمية أوضحت وجود خلاف بين الرؤية الأمريكية والإسرائيلية تصاعدَ عما كان عليه لمدة شهر منذ بدء طوفان الأقصى. ويدور الخلاف حول عدة موضوعات أبرزها نطاق العملية العسكرية ومراعاة حماية المدنيين حيث تتصاعد حدَّة الخطاب الأمريكي المشدِّد على ضرورة حماية المدنيين خاصة مع استئناف العملية العسكرية بعد الهدنة والإشارة لتجاهل إسرائيل لهذا الأمر بالرغم من الضغوط الأمريكية المتكررة (حديث وزير الخارجية الأمريكي عن فجوة بين نية إسرائيل حماية المدنيين وما تقوم به على الأرض)[6]. ومن ناحية ثانية، هناك خلاف بين الرؤيتين حول مسألة مستقبل الحكم في قطاع غزة، حيث أعلنت إسرائيل أنها ستتحمل المسؤولية أو السيطرة الأمنية الشاملة في غزة لفترة غير محددة بعد الحرب، وأن السلطة الفلسطينية بهيكلها الحالي لا يمكنها تولِّي إدارة القطاع وأن أيَّ سلطة تريد إدارة غزة يجب عليها محاربة الإرهاب وقبول السلام، بينما أعلنت الولايات المتحدة رفضها لإعادة احتلال القطاع وأنها تؤيِّد مَلْءَ الفراغ السياسي في غزة بعد حماس من خلال حكم السلطة الفلسطينية النشطة لغزة في إطار حكم موحَّد لغزة والضفة[7].
  • من ثم، لا تتوافق المصالح الوطنية الحيوية الأمريكية والإسرائيلية في بعض الأمور التي تتعلَّق بالحرب لعدَّة أسباب، فبالنسبة للولايات المتحدة يحكم الموقف الأمريكي عدَّة اعتبارات تتعلق بمجموعة من المحددات الداخلية والخارجية على النحو التالي:
  • لا تتوافق الحرب في غزة مع استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة ليست مستعدَّة لاستمرار الحرب أو تحوُّلها لحرب إقليمية لأن ذلك سيتطلَّب إعادة التمركز العسكري في الشرق الأوسط بعد فترة طويلة من تقليص حجم ونوعية وجودها الدفاعي في المنطقة. فالقدرات العسكرية التي تم نشرها في الشرق الأوسط عقب بداية الحرب على غزة كان هدفها الردع وليس الاشتباك، حيث يتطلَّب الاشتباك إرسالَ المزيد من القوات والقدرات العسكرية والذي لن يتم إلا على حساب منافستها للصين في شرق آسيا، واستراتيجيتها المعلنة في 2022 حول اعتبار الصين التهديد الاستراتيجي الأكبر، وكذلك قد يكون ذلك على حساب مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا[8]. وفي إطار ذلك الحرص الأمريكي على عدم توسيع نطاق الحرب، يمكن تفسير رد الفعل الأمريكي تجاه هجمات الفواعل المرتبطة بإيران مثل إيران وحزب الله.
  • تخشى إدارة بايدن من التداعيات الانتخابية لاستمرار التصعيد العسكري، خاصة في ظلِّ الانقسامات الداخلية وتصاعد حدَّة الانتقادات داخل الإدارة الأمريكية والتي تنامتْ داخلَ صفوف الحزب الديمقراطي وفي عدَّة مؤسسات رسمية مثل وزارة الخارجية والكونجرس والبيت الأبيض ووكالة الاستخبارات الأمريكية[9]. فمن ناحية، تزايد الانقسام داخل صفوف الحزب الديمقراطي حول حرب غزة بين من ينادون بوقف إطلاق النار ومن يدعمون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وينادون بهدن إنسانية مؤقَّتة[10]. في هذا الإطار، بدأ بايدان يفقد دعم الديمقراطيين خاصة الشباب منهم[11].

ومن ناحية ثانية، تصاعدت الاحتجاجات داخل المؤسسات الرسمية الأمريكية مثل وزارة الخارجية التي وقَّع المئات من موظفيها رسالة بعثوها لوزير الخارجية تنتقد التعامل الأمريكي مع حرب غزة، تبعتْها رسالة وقَّعها عشرات من الموظفين السابقين في إدارة بايدن تعبر عن دعم الموقف الأمريكي ومطالبة بعدم وقف الحرب، وقد اعترف وزير الخارجية بهذا الخلاف في الوزارة[12]. كما قام العشرات من موظفي الكونجرس بالاحتجاج وتقديم مذكرة تعبر عن رفضهم للدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وشهدت مؤسسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية ووكالة الاستخبارات الأمريكية والبيت الأبيض حراكًا مماثلًا[13].

  • أصبح الخلاف المتزايد داخل الحزب الديمقراطي بسبب عدم ضغط الولايات المتحدة بشكل كاف لوقف الحرب يمثِّل مشكلةً سياسيةً كبيرةً للرئيس بايدن، الذي يخشى من تأثير ذلك التراجع في تأييده على الانتخابات الرئاسية ومن بعدها انتخابات الكونجرس، ويعمِّق هذا التراجع تجاهل إسرائيل للدعوات الأمريكية لاستخدام القوة العسكرية بشكل حذر لتقليل الخسائر من المدنيِّين. وفي حين، تخفِّف اللهجة الأمريكية المتشدِّدة مع إسرائيل من حدَّة الانتقادات الموجَّهة له من الجناح اليساري في حزبه، فإنها تجذب انتقادات الجمهوريِّين واللوبي الصهيوني الذين يتَّهمونه بتكبيل يد إسرائيل في الدفاع عن نفسها والضغط عليها لاتباع مواقف ليست في صالحها[14].

ثانيا: المواقف الأوروبية من عملية طوفان الأقصى

مثَّل الانقسام والتناقض السمة الرئيسية للمواقف الأوروبية الرسمية خلال عملية طوفان الأقصى والذي تجسد في عدة مستويات كما يلي:

أ) التباين والانقسام بين مواقف الحكومات الأوروبية:

  • مثلت إدانة هجوم حماس ووصفه بالإرهابي ودعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها القاسم المشترك الذي انطلقت منه كافَّة الخطابات والمواقف الأوروبية والغربية في بداية طوفان الأقصى، ومع استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية وتصعيد القصف الإسرائيلي المكثَّف وتفاقُم الأزمة الإنسانية وتنامِي الأصوات الدولية المعارضة لاستهداف المدنيِّين، ظهر التبايُن بين المواقف الأوروبية وثارت الخلافات حول عدَّة مسائل، مثل: (وقف إطلاق النار أو الدعوة لهدنة إنسانية، واستمرار المساعدات للجانب الفلسطيني، وانتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي في الدفاع عن نفسها وإدانة هذا الانتهاك، ومستقبل الحكم في قطاع غزة)؛ من ثَمَّ، انقسمت المواقف الأوروبية بين ثلاث كتل رئيسية، ومن الجدير بالذكر أن هذا التقسيم لا يعكس تأثيرًا متساويًا من تلك الكُتل على مجريات الحرب، أو نفس مستوى الدعم داخل كلِّ كتلة، ولكنه يعكس اختلاف المواقف الغربية من الانحياز لإسرائيل في تلك الحرب:

1- دول ظلَّت ثابتةً على الانحياز التام لإسرائيل، وتبنِّي الرواية الإسرائيلية في خطابها، وتقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي والدبلوماسي واللوجستي لها، وعلى رأسها المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا.

2- ودول بدأت -في ظلِّ ضغوطٍ وانقساماتٍ داخلية وانتقادات دولية- في إدراك خطورة الانحياز التام لإسرائيل، ومن ثم ابتعدت ظاهريًّا عن الانحياز المطلق لإسرائيل وحاولت إحداث نوع من التوازن -دون استعداء إسرائيل- على رأسها فرنسا التي انتقلت من الدعوة لتحالف دولي لمكافحة إرهاب حماس إلى الدعوة لهدنة إنسانية تمهِّد لوقف إطلاق النار وإلى والتزام رَدِّ الفعل الإسرائيلي بقواعد القانون الدولي، وحماية المدنيِّين وضرورة إمداد الشعب الفلسطيني في غزة بالمساعدات الإنسانية، وصولا للتصريح بأنه ليس من حق إسرائيل تحديد الجهة التي ستحكم قطاع غزة[15]، لكنها رفضت إدانة إسرائيل واتهامها بانتهاك حقوق الإنسان وعاد رئيسُها ليؤكِّد أن إسرائيل لم تُؤْذِ المدنيِّين عمدًا[16]. كما تحرَّكت مواقف بعض الدول تجاه وقف إطلاق النار من الرفض وعرقلة قرار الجمعية العامة لوقف إطلاق النار إلى الدعوة له والمناداة بتفعيله مثل النمسا والمجر.

3- ودول تبنَّت مواقف أكثر اعتدالًا أصبحت مواقفها أكثر وضوحًا وجرأة في إدانة انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي، والتعبير عن دعم الحقوق الفلسطينية مثل النرويج وبلجيكا وإسبانيا وأيرلندا. وتراوحت أشكال هذا التعبير من إدانة انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي، وارتكابها لجرائم حرب في غزة (بلجيكا – إسبانيا – النرويج – أيرلندا)، للدعوة لمحاسبة إسرائيل وفقًا لتلك التهم أو استخدام أدوات الضغط الاقتصادي لوقف الحرب مثل اقتراح إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا منع دخول منتجات المستوطنات الإسرائيلية للأسواق الأوروبية، واقتراح بلجيكا منع دخول المتطرفين من المستوطنين من دخول أوروبا، والتحرُّك الأُحادي الجانب من إسبانيا والنرويج للاعتراف بالدولة الفلسطينية (دعوة إسبانيا الاتحاد الأوروبي للاعتراف بدولة فلسطين[17]، ودعوة البرلمان النرويجي الحكومة للاستعداد للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة[18]).

ومن ثَمَّ، ساهمَ الاستخدامُ المفرطُ للقوة من الجانب الإسرائيلي وتفاقم الكارثة الإنسانية في غزة في تعميق الصدْع بين الدول الأوروبية المنحازة لإسرائيل تحت المظلَّة الأمريكية والدول الأوروبية الأكثر استقلالًا أو اعتدالًا.

  • انتهت العديد من الدول الأوروبية المنحازة لإسرائيل قُبيل الهدنة لإضافة صياغة “مراعاة قواعد القانون الدولي ومراعاة المدنيِّين” لخطاباتهم بشأن حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما شدَّدت لهجتَها بعد الهدنة ومواصلة العملية العسكرية لتؤكِّد ضغطَها على إسرائيل لاحترام القانون الدولي الإنساني ووضع حدٍّ لعُنف المستوطنين في الضفة لكن دون تحرُّك حقيقي لإثْناء إسرائيل أو تقييد قُدرتها على قتل المدنيِّين[19].
  • ميَّزت سمةُ التناقض والانقسام أيضًا موقفَ الاتحاد الأوروبي تجاه الحرب في غزة، واستمرَّ في التخبُّط والعجز عن الحديث بصوت واحد أو الخروج برؤية موحَّدة عن الحرب، والذي كان قد بدأ بتصريحات متناقضة من مسؤوليه حول تعليق المساعدات التنموية للسلطة الفلسطينية ثم العدول عن قرار التعليق، واستمرَّ الاتحاد في التخبط بين إعلانه عن تضامنه التام مع إسرائيل حكومةً وشعبًا وبين انتقاده انتهاكها لقواعد القانون الدولي في غزة (التصريحات المتناقضة بين رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين وبين مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل، واحتجاج 800 من موظفي الاتحاد الأوروبي على انحياز رئيسة المفوضية لإسرائيل[20])، ووصل كعادته لموقف مبهم يتمثَّل في دعم حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها شريطة اختيار طريقة مناسبة. وقد ساهم الانقسام الأوروبي وعدم القدرة على الوصول لقرار بالإجماع  لوقف إطلاق النار وإدانة أعمال الإبادة الجماعية في غزة على تقويض نزاهة ومصداقية الاتحاد ومن وراءه القارة الأوروبية ككل. ومع اقتراب الهدنة، وتحت ضغط الانتقادات المتزايدة، أعلن الاتحاد الأوروبي تأييد الدول الأوروبية أعضاءه لوقف إطلاق النار في غزة وإنشاء ممرات إنسانية لتخفيف معاناة المدنيِّين، ومع إعلان الهدنة المؤقَّتة، أعلن الاتحاد الأوروبي ترحيبَه بها ودعا لتمديدها إلى وقف دائم لإطلاق النار لإمكانية مناقشة الحل السياسي محذِّرًا من سيناريو الدولة الفاشلة أو النكبة والذي سيهدِّد الأمن الأوروبي.
  • وأعلن الاتحاد الأوروبي قُبيل الهُدنة عن مجموعة من المبادئ تحكم رؤيتَه تجاه مستقبل غزة، تتلخَّص في: (رفض التهجير القسري، أو إعادة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وكذلك رفض عودة حماس لحكم غزة، أو تقسيم أراضي غزة. ودعا في المقابل لتسليم إدارة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية التي ستحتاج للدعم في الفترة الانتقالية، واقترح عقد مؤتمر سلام بموجبه تُساهم الدولُ العربيةُ التي تحظى بثقة السلطة الفلسطينية وإسرائيل في تقديم هذا الدعم، وأن يكون للاتحاد الأوروبي دورٌ هامٌّ في العملية السياسية لبناء الدولة في غزة كجزء من تحقيق حلِّ الدولتين)[21].

ب) الخلافات والانقسامات داخل الدول الأوروبية:

  • ظهرت الخلافات والانقسامات داخل الدول الأوروبية التي استمرَّت في دعمها لإسرائيل بدرجات مختلفة بسبب غضِّها الطرف عن الإبادة الجماعية في غزة وعرقلتها جهود وقف إطلاق النار، فمن ناحية، ظهرت أصوات عدة من داخل المؤسسات الرسمية في حكومات تلك الدول تنتقد انحياز حكوماتهم لإسرائيل (التمرد الدبوماسي في فرنسا ومذكرة السفراء الفرنسيين في دول الشرق الأوسط المرفوعة لوزير الخارجية لانتقاد انحياز فرنسا لإسرائيل والمطالبة باتخاذ موقف متوازن[22]، والانقسامات داخل مجلس العموم البريطاني بين حزب المحافظين من ناحية، وبين أعضاء من حزب العمال والحزب الوطني الأسكتلندي من ناحية أخرى، على خلفية مطالبة الأخيرين بوقف إطلاق النار وبحق المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في جرائم حرب محتملة في غزة، كما حدثت انقسامات داخل حزب العمال على خلفية مطالبة بعض نوابه بوقف كامل لإطلاق النار وهو مايختلف عن موقف قيادة الحزب والتي هدَّدت بإقالة هؤلاء النواب[23]، وأخيرًا، إقالة وزيرة الداخلية البريطانية على خلفية تصريحاتها حول التظاهرات الداعمة للفلسطينيِّين[24])، ومن ناحية ثانية، ظهرت العديد من الانتقادات من قوى حزبية ومدنية لسياسات حكوماتها تجاه الحرب (انقسام فرنسي بين التيار اليميني المتشدِّد الداعم لإسرائيل، وبين أحزاب المعارضة التي تدعو لوقف إطلاق النار، ومطالبة زعيم المعارضة الحكومة الإيطالية بوقف إمدادات الأسلحة لإسرائيل[25]، وحراك من منظمات المجتمع المدني في هولندا يطالب برفع دعوى قضائية ضد الحكومة لعدم التزامها الحياد وتزويد إسرائيل بالأسلحة). كما ظهرت ضغوط داخل الحكومات التي أدانت إسرائيل تطالبها باتخاذ مواقف أكثر جرأة (مطالبة المعارضة الأيرلندية لإحالة نتنياهو للمحكمة الجنائية الدولية وطرد السفير الإسرائيلي[26]).
  • بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت الفجوة بين التوجُّهات الرسمية الأوروبية المنحازة لإسرائيل وبين التوجُّهات الشعبية في تلك الدول، وانتقد الرأي العام الغربي حكوماته التي انحازت إلى الجانب الإسرائيلي في الحرب، وانطلقت موجة من الاحتجاجات الشعبية الضخمة في عواصم الدول الأوروبية مثل لندن وباريس وغيرها مطالبة حكوماتها بوقف إطلاق النار ومندِّدة بمواقفها المؤيِّدة للقتل والإبادة الجماعية في غزة، بالرغم من محاولة الحكومات قمع التظاهرات واتهامها بدعم الإرهاب ونشر الكراهية، كما أظهرت استطلاعات الرأي انقسام الرأي العام حول دعم إسرائيل في عدد من الدول المنحازة بالكامل لإسرائيل مثل ألمانيا وفرنسا، وشهدت إيطاليا حراكًا أكاديميًّا جامعيًّا لوقف الحرب[27].

ويمكن الخلوص بجملة من الدلالات حول المواقف الأوروبية من طوفان الأقصى على النحو التالي:

كشفت حرب غزة عن خللٍ في جملةٍ من المرتكزات التي تعتمد عليها أوروبا في الحديث عن دورها ومكانتها في النظام العالمي:

  • فمن ناحية، أظهر الانقسام الأوروبي حول حرب غزة والفجوة بين مواقف الدول المنحازة لإسرائيل تحت مظلَّة الولايات المتحدة والدول التي اتَّخذت مواقف أكثر اعتدالًا أو توازنًا، وكذلك التضارب بين تصريحات مسؤولي الاتحاد، أن التحرُّك الفردي وليس الجماعي كان هو السمة السائدة على المواقف الأوروبية، وهو ما يرجح كفة المصالح القومية لكلِّ دولة على حدة في مقابل الكيان الجماعي الأوروبي الموحَّد باعتباره هو المحرك الأساسي لمواقف الدول، ويؤكِّد على أن الاتفاق على سياسة خارجية دفاعية أمنية واحدة هو أمر غير ممكن حاليًّا. في هذا الإطار، اقتضت المصلحة الوطنية لبعض الدول التمسُّك بالتحالف القوي مع الولايات المتحدة مثل ألمانيا التي أعلن مستشارها أن أمن إسرائيل مصلحة وطنية عُليا لألمانيا، والتي يمكن فهم موقفها في إطار كون دعم إسرائيل والتعويض عن ذنب المحرقة جزءًا رئيسيًّا من الهُوية الوطنية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك في إطار إعلانها في يونيو 2023 لأول استراتيجية للأمن القومي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي تنصُّ على أن روسيا -من أهم المستفيدين من الحرب-هي الخطر الأكبر لأمن أوروبا[28]. في المقابل هناك دول أخرى تسْعى لتحقيق مصالحها من خلال تحقيق قدرٍ من الاستقلالية عن الولايات المتحدة. ويمكن في هذا الإطار فهم الموقف الفرنسي الذي تغيَّر خلال الحرب ليكون أقل انحيازًا لإسرائيل في إطار ليس فقط الاستجابة للضغوط الداخلية من داخل الحكومة والضاغطة من أجل تبنِّي فرنسا موقفًا متوازنًا والخوف من تصاعُد العنف والاستقطاب الداخلي (حجم الجالية الإسلامية والمجتمع اليهودي وتصاعد اليمين المتطرف / قرار الرئيس الفرنسي بعدم المشاركة في مسيرة التنديد بمعاداة السامية في فرنسا خوفًا من تصاعُد الاحتقان الداخلي[29])، ولكن كجزء من رؤية الرئيس الفرنسي لإحياء ما أُطلق عليه الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا ودور فرنسا في قيادة تلك الاستقلالية بهدف تحويل أوروبا لقطب ذي تأثير في النظام الدولي، والحاجة لتقليل اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة[30].
  • ومن ناحية ثانية، سلَّطت الحرب على غزة الضوءَ على الأزمة الأخلاقية والنفاق الغربي للدول الأوروبية المنحازة لإسرائيل، ووضعت مكانة أوروبا في النظام العالمي في مأزق الاتهام بالتحيُّز وازدواجية المعايير. فقد أدَّت حرب غزة لتآكُل نموذج القوة الناعمة الذي تقدِّمه أوروبا باعتبارها حامية المبادئ والقيم العالمية مثل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وترويجها لنفسها باعتبارها أحد حرَّاس القانون الدولي الإنساني. فالدول الأوروبية التي أسَّست موقفها تجاه حرب روسيا وأوكرانيا على منظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي، أَمَدَّ العديدُ منها إسرائيلَ بالدعم العسكري والمالي والدبلوماسي والإعلامي، وعرقلت جهود وقف إطلاق النار، وتبنَّت الرواية الإسرائيلية للحرب، بل إن الاتحاد الأوروبي لم يستطعْ إخفاءَ مركزيةِ فكرةِ المصالحِ المتحالفةِ مع القوة المادية والتي يحاول تغطيتَها برداء القوة الناعمة، حين صرَّح مسؤول العلاقات الخارجية فيه جوزيب بوريل أن تنامي مشاعر العداء تجاه الدول الأوروبية في العالم الإسلامي بسبب اتهامها بالانحياز لإسرائيل وازدواجية المعايير بشأن الحرب في غزة، سوف يقوِّض الدعم الدبلوماسي لأوكرانيا الذي يقدِّمه الجنوبُ العالمي، ومن ثم، فإن على الاتحاد الأوروبي إبداء مزيد من التعاطف إزاء معاناة المدنيِّين وقتلهم[31].
  • كانت الأبعاد الإنسانية للحرب هي المحرِّك الرئيسي للرأي العام الأوروبي والغربي الداعم للفلسطينيين، والذي لم ينشغل كثيرًا بالتقييم الأوروبي الرسمي لحماس باعتبارها منظمة إرهابية ولم يقتنع بالدعم الأوروبي للرواية الإسرائيلية عن استخدام حماس للمدنيِّين كدروع بشرية ومن ثم إعطائها المبرِّر في استمرار إبادتها الجماعية لغزة. حيث تفوَّقت الرواية الفلسطينية باعتبارها رواية شرعية ذات مصداقية وموثَّقة بالصوت والصورة، وبالتالي لمست الضمائر الإنسانية عالميًّا وغربيًّا وحقَّقت تضامنًا عالميًّا مع الفلسطينيِّين وغضبًا غربيًّا وعالميًّا من جرائم الاحتلال ومن نفاق الحكومات الأوروبية واتهامها بتلوُّث أيديها بالدماء الفلسطينية، وكشفت عن وجود مسار شعبي داعم للقضية الفلسطينية حتى في داخل الدول التي تمتلك تحالفًا تاريخيًّا مع الكيان الصهيوني.
  • يُثير تنامي الاستقطاب داخل المجتمعات الأوروبية والحديث عن تنامي الحوادث المعادية للسامية وتعرُّض أمن المجتمعات اليهودية في أوروبا للخطر، ومن ناحية ثانية تنامي الإسلاموفوبيا وتحريض اليمين المتطرف عليها، وتنامي نفوذ اللوبي اليهودي في العديد من الدول الأوروبية، تساؤلات هامة تتعلَّق بوضع المسلمين في أوروبا. حيث مثَّلت الحربُ على غزة فرصة لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا لمحاولة كسب أرضية سياسية من خلال إبداء الدعم لإسرائيل والتحريض ضد المهاجرين وتشجيع الإسلاموفوبيا. ففي هولندا، دعا خيرت فيلدرز الذي فاز حزبه اليميني المتطرِّف مؤخَّرًا بالانتخابات التشريعية -والمتوقَّع أن يكون رئيس الوزراء الهولندي القادم- إلى ترحيل الفلسطينيِّين إلى الأردن[32]. وفي ألمانيا، دعا حزب البديل من أجل ألمانيا إلى خفض المساعدات والدعم المالي المقدَّم من ألمانيا للفلسطينيِّين ووقف التبرعات المالية للأونروا، وفي فرنسا شارك حزب التجمع الوطني في المسيرات المعادية للسامية مخاطبًا وُدَّ الجالية اليهودية، وفي الدنمارك، صعَّد حزب الشعب الدنماركي من خطابه المحرِّض ضدَّ المهاجرين المسلمين وربط بينهم وبين تنامي العنف ضدَّ اليهود ومعاداة السامية، وفي إيطاليا، أعلن قيادي في حزب الرابطة أن هجوم حماس في السابع من أكتوبر هو بمثابة إعلان الحرب من كلِّ المتطرِّفين الإسلاميِّين على الغرب بأكمله[33].
  • تثور تساؤلات حول الأمن الأوروبي وكيفية استغلال روسيا للحرب على غزة والانقسام الأوروبي حولها باعتبارها من أكثر المستفيدين من تلك الحرب على عدَّة محاور، أهمها تشتيت انتباه الغرب عن الحرب في أوكرانيا سياسيًّا وإعلاميًّا، واستنفاد موارده، وإضعاف دور القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في لعب دور الوساطة بعد تراجع أكبر في مصداقيَّتها.

ثالثًا: دلالات الخطابات الأمريكية والأوروبية المنحازة للكيان الصهيوني وتفاعلات الهيمنة الغربية في النظام العالمي:

اشتركت الخطابات الأمريكية والأوروبية المنحازة للكيان الصهيوني والمتبنِّية للرواية الإسرائيلية في أنها حملت جميعًا في طيَّاتها رؤية النموذج الحضاري الغربي المهيمن الذي ينطلق من المركزية الغربية ونسبية القيم وازدواج المعايير، والذي يعتمد في فرض هيمنته على عدَّة آليات من أهمِّها بناء أُطُرٍ معرفية محدَّدة تضمن تلك الهيمنة وتضْفي الشرعية على ممارساتها، وهو ما يطلق عليه النقديُّون مصطلح العنف المعرفي أو العنف الذي يمارس من خلال المعرفة. ومن ثم، اشتركت تلك الخطابات في انطوائها على إطار معرفي ومنظومة قيمية واحدة يتم تمريرها من أجل التأطير الذهني لمتلقِّي الخطابات وفق رؤية معينة تجاه الحرب كما يلي:

  • فمن ناحية، تعتمد تلك الخطابات على آلية رئيسية من آليات الهيمنة تتمثَّل في استخدام المفاهيم كأداة للتضليل أو تحريف المفاهيم الرئيسية للصراع في فلسطين واستبدالها، لتحقيق مصالح معينة، بمفاهيم أخرى. في هذا الإطار، تصبح المقاومةُ إرهابًا لإفقادها الشرعية، والتضامنُ مع الفلسطينيِّين دعوات للكراهية ودعمًا للإرهاب، والقتلُ والتدميرُ والإبادةُ الجماعية دفاعًا عن النفس، ويتحول الصراع برمَّته من صراع بين دولة احتلال واغتصاب وبين شعب منكوب معاقب بالحصار والتجويع والتركيع والذبح والقتل الجماعي إلى صراع دولتين وشعبين، أو نزاع سياسي على حقوق مختلف عليها بين شعبين اتفقا أن يعيشا على الأرض نفسها من أجل إفقاد الصراع أصله وجذوره التاريخية. من ثم، تصبح المفاهيم -كما يؤكِّد د. سيف الدين عبد الفتاح- أولى المعارك التي يجب خوضها والدفاع عنها لأنها تنتهك كما تنتهك الأرض[34].
  • ومن ناحية ثانية، تسعى تلك الخطابات لفرض أجندة معيَّنة تحقِّق المصالح الغربية من خلال تغييب موضوعات واستحضار موضوعات أخرى، وتتشارك رواية واحدة عن سبب الحرب وطبيعة الصراع، ومن ثم اقتراح حلول لهذا الصراع. وفقًا لتلك الرواية، فإن سبب الحرب يتمثَّل في هجوم حماس على إسرائيل، وتضْفي تلك الرواية منظورًا معياريًّا على هذا الهجوم فتصفُه بالهجوم الإرهابي الوحشي غير المبرَّر، وتغْفل الحديث عن الاحتلال وجرائمه وأثره على الفلسطينيِّين. ومن ثم، تصبح صواريخ حماس هي الفعل المحرِّض الذي أوْجب رَدَّ الفعل الإسرائيلي دفاعًا عن نفسها. ومن ثم، تقترح الحلَّ والمخرج من هذا الصراع والذي يُتيح لها التدخُّل لدواعٍ إنسانية أو لبناء الدولة أو لحفظ الأمن فتتحدَّث جميعُ الخطابات عن حلِّ الدولتين، ومنع حماس من تولِّي إدارة قطاع غزة، ومن ثم اقتراح بدائل تتعلَّق بالجهة التي ستُدير القطاع في فترة انتقالية حتى تكون جاهزةً لإدارةٍ فلسطينيةٍ دائمةٍ، وهنا تعطي تلك الرؤية الاستعلائية الدول الغربية الحق في فرض حلٍّ للصراع تختفي بموجبه المقاومة -ليس فقط كحركة بل وكفكرة وأيديولوجية وفقًا لتصريحات مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل- من المشهد وتغيب بالكلية فكرة حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه ومشروعية مقاومة الاحتلال[35].
  • ومن ناحية ثالثة، تم تصوير الصراع بين إسرائيل وحماس باعتباره صراعًا ثقافيًّا حضاريًّا بين العالم المتحضِّر وبين قوى التطرُّف والإرهاب، أو كما وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بالحرب بين أبناء النور والظلام[36]، وذلك من خلال ربط أحداث السابع من أكتوبر بالهولوكوست، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر وعمليات داعش، ومن ثم الربط بين حماس والقاعدة وداعش. ظهر ذلك من خلال تصريحات تتعامل مع صدمة هجوم السابع من أكتوبر باعتبارها صدمة مماثلة لما تعرَّضت له الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر، واستدعاء المحرقة اليهودية لمقارنة دمويَّتها ووحشيَّتها بهجوم حماس (تصريحات الرئيس بايدن عن كون السابع من أكتوبر هو اليوم الأكثر دموية بالنسبة للشعب اليهودي منذ الهولوكوست)، وكذلك مقارنة حماس بداعش (اقتراح الرئيس ماكرون توسيع التحالف الدولي ضد داعش من أجل محاربة حماس – تصريحات نتنياهو في لقائين مشتركين مع كل من المستشار الألماني ورئيس الوزراء البريطاني عد دعوة العالم المتحضر لمحاربة حماس التي هي النازية الجديدة وأسوأ من داعش).

ومن ثم، تمرير الحرب الانتقامية ضد غزة وتبرير الدعم الأمريكي والغربي لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، والوقوف ضد مطالب وقف إطلاق النار، وكذلك تجريد الفلسطينيين من إنسانيَّتهم (وصف وزير الدفاع الإسرائيلي لهم بالحيوانات البشرية) والتعامل مع قطاع غزة باعتباره ساحة عمل عناصر إرهابية وتبرير ما هو غير مبرَّر في سياق الحروب. في هذا الإطار، تبرِّر تلك الرؤية توحيد الجهود الغربية ضدَّ العدو المشترك (الإرهاب الذي تمثِّله حركة حماس)، ويصبح جوهر الصراع مشكلة وطنية: مشكلة شعبين لهما نفس الحق في الوجود على نفس الأرض -وفقًا لتصريح جوزيف بوريل- يمنعهما عن ذلك قوى التطرف من الجانبين (حماس والمستوطنين المتطرفين)[37].

ختامًا، تطرح المواقف الأمريكية والأوروبية تجاه الحرب على غزة ودلالات تلك المواقف أسئلة عدَّة تتعلَّق بمستقبل الأمة وتفاعلات النظام العالمي. فمن ناحية، يثور تساؤل حول مستقبل النظام العالمي في ظلِّ الانكشاف الكبير لمنظومة القيم الغربية التي تَمَّ الترويجُ لها طويلًا باعتبارها قيمًا عالمية، فهل سيؤدِّي هذا الانكشاف الكبير المتجدِّد وليس الجديد إلى ظهور نظام عالمي بلا غطاء قيمي أو معياري، أم ستعود الهيمنة الغربية لالتقاط رداء القيم والالتحاف به مجدَّدًا. ومن ناحية ثانية، وفي إطار تصعيد الاستقطاب وشراسة اليمين المتطرف والتحريض على الإسلاموفوبيا، هل ستشكِّل صراعاتُ الهُوية مستقبلَ النظام العالمي؟ وما هو الأثر على الأمة وبشكل خاص الوجود المسلم في أوروبا والذي وإن مثل جزءًا هامًّا من الضغط الشعبي الغربي على الحكومات المتحالفة مع إسرائيل، فهل يترك بين مطرقة اليمين المتطرف وسندان الحكومات الأوروبية الداعمة لإسرائيل؟ ولأي مدى يمكن أن تتفاعل المقاومة واستمرارها وربما توسُّعها في جسد الأمة مع نظام عالمي يُعاني من أزمات عدَّة تتعلَّق بأُسس هيمنته لِيُؤَدِّيَ ذلك إلى بداية تحوُّل حقيقي في هذا النظام العالمي؟ ومن ناحية أخيرة، وفي إطار ظهور حجم التباين والتنوع داخل الغرب عبر مستوياته الشعبية والرسمية والمدنية، هل تبني الأمة على منجزات هذه اللحظة التاريخية وتحقِّق تواصُلًا فعَّالًا مع قطاعات واسعة في الغرب تضامنتْ مع الفلسطينيِّين بدوافع إنسانية وأبْدت استعدادها لتغيير صورتها النمطية عن الإسلام والمسلمين؟

 

يمكن تحميل الدراسة من خلال الرابط التالي

________

هوامش

*  أشكر الباحث الأستاذ أحمد عبد الرحمن خليفة على المساعدة في توفير مادة مهمة كبيرة ومنظمة لهذه الورقة.

[1]  للمزيد بشأن تحليل تطورات المواقف الأمريكية في الشهر الأول من العملية، وما أعقبها من عدوان على قطاع غزة، راجع:

– أحمد عبد الرحمن خليفة، حصاد شهر من المواقف الغربية والأوروبية تجاه الحرب على غزة (7 أكتوبر – 7 نوفمبر)، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 15 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/o7hgdcu

[2] Ken Thomas, Biden Says Civilians in Gaza Are ‘Being Used as Human Shields’, Wall Street Journal, 16 October 2023, available at: https://archive.is/nVJJG

[3] واشنطن تعمل على استراتيجية لمحاربة الإسلاموفوبيا وسط تراجع شعبية بايدن بين الأمريكيين المسلمين، فرنسا 24، 23 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/omldi

[4] Israel and Hamas 2023 Conflict In Brief: Overview, U.S. Policy, and Options for Congress, Congressional Research Service (CRS), 30 November 2023, p. 6.

[5] Daniel E. Mouton, The post-October 7 US strategy in the Middle East is coming into focus, The Atlantic Council, 21 November 2023, Accessed: 2 December 2023, available at: https://rebrand.ly/e013e4

[6] بلينكن: ما تزال “هناك فجوة” بشأن حماية المدنيين في غزة، سكاي نيوز العربية، 8 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 8 ديسمبر 2023، الساعة: 11:48، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/q0m3hja

[7] Patrick Wintour, Tensions build behind the scenes between US and Israel over Gaza, The Guardian, 16 November 2023, Accessed: 2 December 2023, 9: 12, available at: https://rebrand.ly/9awwg37

[8] Daniel E. Mouton, The post-October 7 US strategy in the Middle East is coming into focus, Op. cit.

[9] Stephen Collinson, Biden administration makes a significant move attempting to reshape Israel’s war on Hamas, CNN, 1 December 2023, Accessed: 3 December 2023, 12:10, available at: https://rebrand.ly/9bd824

[10] Karmoun Demirjian, As Congress Weighs Aid to Israel, Some Democrats Want Strings Attached, The New York Times, 29 November 2023, Accessed: 1 December 2023, 11:30, available: https://archive.is/QX8My

[11] Stephen Collinson, Wartime unity between the US and Israel will soon face its toughest test, CNN, 30 November 2023, Accessed: 3 December 2023, 12:10, available at: https://rebrand.ly/24lhzcb

[12] Michael Crowley and Edward Wong, State Department employees send Blinken ʻdissentʼ cables over Gaza policy, The New York Times, 13 November 2023, Accessed: 1 December 2023, 12:30, available: https://archive.is/ylI5Z

[13] Andrea Salcedo and John Hudson, USAID staffers urge Biden to push Israel toward ‘immediate cease-fire’, The Washington Post, 4 November 2023, 1 December 2023, 9:30, available at: https://archive.is/eNp6e

[14] Stephen Collinson, Biden administration makes a significant move attempting to reshape Israel’s war on Hamas, Op. cit.

[15] فرنسا: ليس من حق إسرائيل أن تقرر من سيحكم غزة مستقبلا، سكاي نيوز العربية، 16 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 3 ديسمبر 2023، الساعة: 11:48، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/nqrbc5r

[16] برنامج “المقابلة” ولقاء خاص مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قناة بي بي سي عربي على اليوتيويب، 13 نوفمبر 2023، تاريخ المشاهدة: 1 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/yRjJCMx

[17] إسبانيا تلوح بقرار خاص للاعتراف بدولة فلسطين، الجزيرة، 24 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2023، الساعة 12:15، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/4k1qg1x

[18] برلمان النرويج يتبنى بالأغلبية مقترحا للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، يورونيوز، 16 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 2 ديسمبر 2023، الساعة 11:30، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/udtv4mk

[19] Amy Kazmin, Italy presses Israel to consider aftermath of Gaza offensive, Finincial Times, 22 November 2023, Accessed: 2 December 2023, 11:00, available at: https://archive.is/W9e61

– رئيس الوزراء البريطاني يأسف لانهيار الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، الأهرام، 1 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 3 ديسمبر 2023، الساعة 9:30، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/72708b

[20] Josep Borrell: The EU’s undiplomatic top diplomat, The Guardian, 13 November 2023, Accessed: 30 November 2023, 10:32, available at: https://rebrand.ly/d47vzkr

[21] Josep Borrell, What the EU stands for on Gaza and the Israeli-Palestinian conflict, European External News (EEAS), 15 November 2023, Accessed: 2 December 2023, 11:30, available at: https://rebrand.ly/fqqksmu

[22] مبادرة غير مسبوقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية.. سفراء فرنسيون يعارضون موقف باريس من الحرب على غزة، مونت كارلو الدولية، 14 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 3 ديسمبر 2023، الساعة 11:30، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/powptpp

[23] The Guardian view on Labour’s ceasefire vote: a big revolt on a big issue, The Guardian, 28 November 2023, Accessed: 29 November 2023, 5:10, available at: https://2u.pw/dWF67ls

[24] Patrick Wintour, Suella Braverman calls for ‘further action’ against pro-Palestine marches, The Guardian, 12 November 2023, Accessed: 29 November 2023, 10:32, available at: https://2u.pw/E3hU4zo

[25] Italy opposition leader Conte asks gov’t to stop arm supplies to Israel, Anadolu Agency, 16 November 2023, Accessed: 30 November 2023, 10:45, available at: https://rebrand.ly/17d0cf

[26] نائب أيرلندي: هناك مطلب شعبي كبير لطرد السفير الإسرائيلي من أيرلندا وتوقيع عقوبات على إسرائيل، قناة القاهرة نيوز، 11 نوفمبر 2023، تاريخ المشاهدة: 30 نوفمبر 2023، الساعة 2:30، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/df26b6

[27] Emanuelle Dalla Torre, Academia in Italy is targeting Israel – opinion, The Jerusalem Post, 30 November 2023, Accessed: 1 December 2023, 9:22, available at: https://rebrand.ly/fe60bb

[28] استراتيجية ألمانيا للأمن القومي.. مواجهة شاملة للتهديدات، دويتشه فيلا، 15 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 30 نوفمبر 2023، الساعة 12:24، متاح على الرابط التالي: https://rebrand.ly/7d84b0

[29] “تطور دبلوماسي في سياق معقد”.. ما أسباب تغير موقف باريس إزاء حرب إسرائيل في غزة؟، مونت كارلو الدولية، 17 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 30 نوفمبر 2023، الساعة 11:30، متاح عبر الرابط التالي: https://rebrand.ly/kvifps9

[30] Michele Barbero, Macron Breaks Ranks With the West on Israel-Hamas War, Foreign Policy, 17 November 2023, Accessed: 30 November 2023, 11:33, available at: https://archive.is/ouaqs

[31] بوريل يحذر أوروبا من عداء متزايد في العالم الإسلامي بسبب غزة، دويتشه فيلا، 21 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 30 نوفمبر 2023، الساعة 1:24، متاح على الرابط التالي: http://surl.li/olcpc

[32] غيرت فيلدرز زعيم “حزب الحرية” اليميني المتطرف يدعو “لطرد الفلسطينيين إلى الأردن”، مونت كارلو الدولية، 28 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 1 ديسمبر 2023، الساعة 11:20، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/olcpt

[33] حرب إسرائيل وحماس.. أين يقف اليمين المتطرف في أوروبا؟، دويتشه فيلا، 22 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 30 نوفمبر 2023، الساعة 12:55، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/olcqf

[34] أمتي في العالم، غزة بين الحصار والعدوان: قراءة في الدلالات الحضارية، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2010)، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/omley

[35] دعوات لحل الدولتين بمنتدى برشلونة وبوريل: حماس فكرة لا يمكن قتلها، الجزيرة نت، 27 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/omlfe

[36] نبوءة إشعياء التي بشر بها نتنياهو.. الخراب لمصر والظلام لفلسطين والنور لإسرائيل، الجزيرة، 4 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 20 ديسمبر 2023، الساعة 12:02، متاح عبر الرابط التالي: http://surl.li/olcsq

[37] Josep Borrell, What the EU stands for on Gaza and the Israeli-Palestinian conflict, European External News (EEAS), 15 November 2023, Op. Cit.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى